نظام القضاآ و الشهاده فی الشریعه الاسلامیه الغراآ

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : نظام القضاآ و الشهاده فی الشریعه الاسلامیه الغراآ/ تالیف جعفر السبحانی

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع)، 1418ق. = 1376.

مشخصات ظاهری : ج 2

شابک : 1964-6243-14-2بها:12000ریال(هرجلد) ؛ 1964-6243-14-2بها:12000ریال(هرجلد) ؛ 1964-6243-14-2بها:12000ریال(هرجلد) ؛ 1964-6243-14-2بها:12000ریال(هرجلد) ؛ 2964-6243-15-0

یادداشت : کتابنامه

موضوع : قضاوت (فقه)

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندی کنگره : BP195/س 2ن 6 1376

رده بندی دیویی : 297/375

شماره کتابشناسی ملی : م 77-5893

الجزء الأول

اشارة

نظام

القضاء و الشهادة

في الشريعة الاسلامية الغراء

تأليف: العلامة الفقيه الشيخ جعفر السبحاني

الجزء الأوّل

نشر: مؤسسة الإمام الصادق (ع) إيران قم

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 2

هوية الكتاب

اسم الكتاب: نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الاسلامية الغرّاء

المؤلف: جعفر السبحاني

الجزء: الأول

الطبعة: الأولى

المطبعة: اعتماد قم

التاريخ: 1418 ه ق/ 1376 هش

الكمية: 2000 نخسة

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السَّلام

السعر: 2500 تومان

الصفّ و الإخراج باللاينوترون: مؤسسة الامام الصادق عليه السَّلام

2- 964624314: شابك

توزيع

مكتبة التوحيد

قم ساحة الشهداء 7743151

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 3

[المقدمة]

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

القضاء و دوره في استتباب الأمن و استقرار العدل

تقوم الحكومة الإسلامية على دعائم ثلاث
اشارة

، يلعب كلّ منها دوراً هاماً في تشييد معالمها و هي عبارة عن:

1-. السلطة التشريعيّة.

2-. السلطة التنفيذيّة.

3-. السلطة القضائيّة.

فللسلطة التشريعية مراحل نشير إليها على وجه الإيجاز:
أ. مرحلة التشريع

: أي سنّ القوانين و جعلها: و هو مختص بالله سبحانه، و ليس لأحد حقّ التقنين و التشريع، و هذا ما يعبر عنه بالتوحيد في التقنين.

ب. مرحلة الاستنباط

: أي استنباط ما شرّعه الله سبحانه في الكتاب و السنّة و غيرهما من مصادر التشريع، و يقوم بتلك المهمة الفقهاء العظام.

ج. مرحلة التخطيط

: و هي وظيفة المجلس النيابي الذي يضم نواب الأُمّة من ذوي الاختصاص، و تطرح فيه البرامج المختلفة في مجالات شتى على ضوء القوانين

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 4

الإسلامية.

هذا كلّه حول السلطة التشريعية.

و أمّا السلطة التنفيذية

فهي التي تأخذ على عاتقها إدارة البلاد بصورة مباشرة دون أن يكون هناك التزام بأُسلوب و صورة خاصة لإدارتها غير كونه موافقاً للشرع، و لأجل ذلك تتبع كلّ ما تجده صالحاً حسب مقتضيات الزمان. فإنّ المطلوب من صاحب الشريعة هو التركيز على لزوم السلطة و مواصفات القائمين عليها، و أمّا أساليب التنفيذ فإنّما تتبع متطلبات الزمان شريطة أن لا تكون مخالفة لما سنّه الإسلام.

و أمّا السلطة القضائية

التي هي موضوع بحثنا في هذا التقديم، فتمثل مكان الصدارة في استتباب الأمن و النظام، و استقرار العدل، و صيانة الحقوق و الحرّيات من التعسّف و التعدي، و بذلك يسود التوازن و القسط و العدل ربوع ذلك المجتمع.

و يكفي في الإشارة إلى منزلة القضاء الرفيعة انّه من شئون الأنبياء، كما نلاحظه في قوله سبحانه: (يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ) (ص/ 26).

و كان الأنبياء يصدرون في فصل الخصومات عن الكتب السماوية دون أن يتعدوها قيد شعرة، قال سبحانه: (إِنّٰا أَنْزَلْنَا التَّوْرٰاةَ فِيهٰا هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هٰادُوا) (المائدة/ 44).

و يخاطب الله سبحانه نبيّه الخاتم بقوله: (وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ) (المائدة/ 49).

هذه هي مكانة القضاء و هؤلاء هم القضاة (الأنبياء) و هذه برامجهم، فليس للقاضي القضاء طبقاً للقوانين الوضعية التي لا تمتُّ إلى أحكام السماء بصلة، و لا القضاء بالهوى، و قد نوّه سبحانه إلى ذينك الأمرين بقوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة/ 48).

نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 5

وحدة السلطة التنفيذية و القضائية و فصلهما

إنّ الرائج في العصور المتأخرة فصل السلطتين القضائية و التنفيذية لمصالح تقتضيه، و لكلّ سلطة حدودها و مجال نفوذها، لئلّا تتداخل إحداهما في شئون الأُخرى.

و لا نرى في الإسلام أصلًا لهذا الفصل، لا بمعنى انّ الإسلام ينهى عنه و يمنع منه، بل ترك فصل السلطتين أو وحدتهما إلى مقتضيات الزمان، فالنبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أوّل من مارس القضاء في الشريعة الإسلامية كما مارس في الوقت نفسه السلطة التنفيذية، فكان بشخصه يُمثِّل السلطتين، و قد بلغ عناية القرآن بلزوم التسليم أمام قضائه حدّاً، عدّ التسليم لقضائه من مقدمات الإيمان، قال سبحانه: (فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء/ 65)، فكان حاكماً و قاضياً و في الوقت نفسه كان ينصب القضاة، فقد بعث صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عليّاً إلى اليمن للقضاء و دعا في حقّه قائلًا: «اللّهمّ اهد قلبه و ثبّت لسانه» «1». كما بعث معاذاً إلى اليمن لهذه المهمة أيضاً، و سار على هذا النهج، الخلفاء الذين أخذوا بزمام الأُمور بعد رحيل النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فكانوا ولاة و قضاة في آن واحد.

و لما غادر الإمام عليه السلام البصرة إلى الكوفة و جعلها دار الخلافة، فقد مارس القضاء و هو وال إضافة إلى أنّه عليه السلام نصب شريحاً لمهمة القضاء و شرط عليه أن لا ينفذ ما قضاه حتى يعرضه عليه. «2»

فالفصل بين السلطتين أو وحدتهما أمر متروك إلى المصالح.

و هنا نكتة جديرة بالبحث و هي انّ الحافز من وراء فصل السلطتين في

الأوساط الغربية هو عدم اشتراطهم شيئاً من المواصفات في السلطة التنفيذية سوى الدهاء و

______________________________

(1) الجزري: جامع الأُصول: 1/ 549 أخرجه أبو داود و الترمذي.

(2) الوسائل: 18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 6

العقل و الكفاءة الذاتية من دون اشتراط عنصر الإيمان و العدالة و الزهد على خلاف ما اشترط الإسلام، و قال سبحانه: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج/ 41).

فلو مارس الحاكم بهذه المواصفات مهمّة القضاء لا يهمه سوى اجراء العدالة دون أن يستغل مقامه السامي في إحقاق الباطل و إبطال الحق. بخلاف الحاكم في الأنظمة الغربية فلا يبعد أن يستغل مقامه في صالح المبطل و ضدّ المحق.

إنّ على عاتق الجمهورية الإسلامية رفع المستوى الفقهي للقضاة، فلا تنصب لتولي مديرية هذه المهمّة إلّا من له أهليّة الاستنباط في باب القضاء و الشهادات و الحدود و الديات التي يجمعها لفظ عنوان الأحكام و السياسات.

كما أنّ على عاتق مديرية الحوزة العلمية أن تجعل القضاء إحدى مواد مناهجها الدراسية يتخصص بها، لفيف من الفضلاء و هذه أمنيّة كسائر الأماني التي لم أزل أنادي بها منذ زمن بعيد.

و في الختام أتقدّم بالشكر الجزيل إلى ولدي الروحي الفاضل حجّة الإسلام و المسلمين الشيخ «محمد الهادي به» حيث حضر هذه البحوث بوعي و دقة كما حضر سائرها و أشرف على هذا الكتاب الماثل بين يدي القارئ إشرافاً علمياً منذ تدوينه إلى إخراجه بهذه الحلة الرائعة، فشكر الله مساعيه و جعله من العلماء العاملين و نفع الله به الإسلام و المسلمين، آمين ربّ

العالمين.

قم. مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام للأبحاث و الدراسات الإسلامية جعفر السبحاني في 15 من شهر ربيع الأوّل من شهور عام 1418 ه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 7

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أمر عباده بالقضاء بالعدل و الحقِّ، و نهاهم عن الحكم بالجور و العسف. و الصلاة و السلام على رسوله الذي بعثَه بالحُجج و البيّنات، و رافقه بالصحف و الكتاب، و على وصيّه الحاكمِ بالقسط، و أقضى الأمّة، و عترته الطاهرين، أئمّة العدل و خلفاء الله على الأرض، صلاة لا نهاية لها.

أمّا بعد: فقد طلب منّي لفيف من الفضلاء الأكارم، و جمع من العلماء الأماثل، إلقاءَ محاضرات حول القضاء في الإسلام، الذي اشتدّت الحاجة إليه بعد قيام الثورة الإسلاميّة في ايران و زادت الرغبة إلى فهم أصوله و دقائقه بين طلّاب الفقه و بغاة الفضيلة فنزلت عند رغبتهم، سائلًا من اللّه سبحانه العصمة من الخطاء في القول، و الزلل في العمل، إنّه خير معين و مجيب.

فنقول: مقاصد القضاء أربعة:

الأوّل: القاضي و صفاته.

الثّاني: في آداب القاضي.

الثالث: في كيفيّة الحكم.

الرابع: في أحكام الدعاوي.

و قبل الخوض في المقصود نقدّم اموراً:

اشارة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 8

الأمر الأوّل: في أن القضاء أحد الدعائم الثلاث لسعادة المجتمع

اشارة

من سَبر الكتب الفقهيّة و أمعن النظر في المصادر الإسلاميّة، يقف على أنّ الشريعة الإسلاميّة اعتمدت في إدارة المجتمع على أركان ثلاثة، لكل شأنه و موقفُه و لا يستغني عنها اهل الدّين في زمان من الأزمنة، و أنّ رحى الحياة في جميع الأدوار تدور عليها، و هي:

1 السائس و الحاكم

هذا هو الركن الأوّل لإدارة المجتمع، و المقصود منه وجود قوّة تنفيذيّة، تنفّذ و تطبّق ما جاء به صاحب الشريعة في مجالات مختلفة، و في ظلّ هذه القوّة المتمثّلة في الحاكم الإسلامي، يسود الأمنُ على البلاد، و يُجْبى الصدقاتُ و الزكاة، و تُجرى الحدودُ و الأحكام على العصاة و الطغاة، و تُحفظُ ثغور البلاد من دخول الأعداء و تسلّل الكفّار إلى أراضيها و أجوائها ليفسدوا الأمر عليهم. إلى غير ذلك من وظائفَ لِسائس القوم و حاكمهم و منظِّم أمورهم في مجال ترويج الاقتصاد و التّجارة، و بسط العدل و القسط، و صيانة الأمّة من الظلم و التعدّي و ما شابهها، و تختلف وظائف السائس قلّة و كثرة حسب إختلاف الحضارات و البيئات الّتي تحيط به.

قال سبحانه (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج/ 41)

و قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إنّا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل، بقوا و عاشوا إلّا بقيّم و رئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أنْ يتركَ الخلقَ ممّا يعلم أنّه لا بدّ لهم منه و لا قوامَ لهم إلّا به،

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 9

فيقاتلون به

عدوّهم، و يقسمون فيئهم و يقيمون به جمعتهم و جماعتهم، و يمنع ظالمهم فيه مظلومهم». «1» و عُبّر عن السائس في الروايات، بالحاكم و السلطان و الإمام إلى غير ذلك.

2 القاضي و الفاصل للخصومات

و هذا هو الركن الثاني لإدارة المجتمع الإسلامي بل مطلق المجتمع البشري لأنّ الحياة الفردية، لا تثير أي اختلاف و نزاع بخلاف الحياة الجماعيّة فإنّ الاختلاف فيها وافر نابع من جهات عديدة فتثير التزاحم و التصادم في الحقوق و الأموال، إمّا طمعاً في حقوق الآخرين و أموالهم أو جهلًا بالحكم و الوظيفة و اعتقاداً بملكيّة ما ليس يملكه أو بحقّ ليس يستحقّه، فلا مناص من وجود قوة قضائية و سلطة نافذة فاصلة للخصومات، محلّة للعُقَد، ببنان العدل و الانصاف و في ضوء القانون النازل من الله سبحانه و إلى ذلك تشير الآيات الواردة في سورة المائدة من الآية الثانية و الأربعين إلى الآية الخمسين.

3 المفتي و المجتهد

إنّ الإسلام ليس مجرّد أوراد و طقوس جافّة لا تتجاوز عدّة آداب و مراسيم، يُلْقيها القُسُّ «2» في الكنائس بل هو ذو تشريع مسهب فيه حياة الفرد و المجتمع في عاجلهما و آجلهما، يغنيهم عن الاستعانة بأيّة قوّة تشريعية أجنبية، غربية و شرقية في مجال العبادات و المعاملات و الأحوال الشخصية و السياسات، و القضاء و الشهادات.

إنّ التشريع الإسلامي بما يتمتّع من السعة و الاسهاب، يعدُّ من معاجز النبي الأكرم، و آيةُ صلته بقدرة غير متناهية، استطاع على إغناء المجتمع عن أيّ نظام

______________________________

(1) علل الشرائع: 253. و للحديث ذيل فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.

(2) القس: كفلس، رئيس رؤساء النصارى في الدين و العلم، و كذلك القسيس.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 10

تشريعي في كلّ ما يمت إلى الحياة الفرديّة الاجتماعية و السياسية و الخُلقية و البيئيّة بصلة.

إنّ هذه الأركان الثلاثة قد تجتمع في شخص واحد كما في الرسول الأكرم و أوصيائه و قد لا تجتمع

كلها في شخص لضرورات اجتماعية توجب تقسيم الوظائف و المناصب، و مثل هذا لا يعني فصل الدين عن السياسة.

و يكفي في أهميّة مقام القضاء أنّه سبحانه اختار أنبياءه للقيام به و قد خاطب نبيّه داود بقوله: (يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ) (ص/ 26).

و قال مخاطباً نبيه (وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة/ 42) و قال سبحانه: (وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة/ 48) و قال سبحانه: (وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ) (المائدة/ 49)

و ليس المراد من الحكم في الآيات هو الحكم فيما يرجع إلى الأُصول و العقائد، بل المراد هو الحكم في مجال الفروع و ذلك بوجهين:

1-- قوله سبحانه: (وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْرٰاةُ فِيهٰا حُكْمُ اللّٰهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ مٰا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (المائدة/ 43) فإنّه بحكم قوله: «يحكّمونك و عندهم التوراة فيها حكم اللّه» صريح في كون مجال الحكم هو الفروع.

2- ما روي في شأن نزول الآيات عن الإمام الباقر عليه السلام و جماعة من المفسّرين: إنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم و هما محصنان فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعاً

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 11

في أن يأتي لهم برخصة ....

«1»

و الآيات و إن كان خطاباً للنبي الأكرم، لكنّه من قبيل: «إياك أعني و اسمعي يا جارة» فهي تدلّ بوضوح على أنّ القاضي في مظنّة اتّباع الهوى، معرضاً عن الحقّ، و أنّ المترافعين ربّما يفتنونه عن القضاء بما أنزل الله و عليه فلا يتصدّى لذلك المقام إلّا من امتحن الله قلبه، للتقوى، و امتلأ جوانحه بالخوف و الخشية.

و يكفي من السنّة، ما روي أنّ لسان القاضي بين جمرتين من نار «2» حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنة و إمّا إلى النار. «3»

و روى المفيد مرسلًا عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: فإنّ من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين. «4»

إلى غير ذلك من الآيات و الروايات النّاصة على خطورة الموقف و عظمة المسئولية للقاضي.

الأمر الثاني: القضاء لغة و اصطلاحاً

اشارة

ذكر اللغويون للقضاء معاني مختلفة، ففي القاموس: القضاء: الحكم، و الصنع و الحتم، و البيان، و قضى: مات، و قضى عليه: قتله، و قضى وطرَه: أتمّه و أدامه، و قضى عليه عهداً: أوصاه و أنفذه، و قضى إليه: أنهاه، قضى غريمه دينَه: أدّاه.

و لكن الظاهر أنّ الجميع من طوارئ المعنى الواحد، الذي نصّ عليه ابن

______________________________

(1) الطبرسي: مجمع البيان 2/ 193 ط صيدا.

(2) الجمرة: النار المتقدة.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب آداب القاضي، الحديث 3.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 12

فارس في مقاييسه الذي ألّفه لبيان أُصول معاني الألفاظ و جذورها و قال: له أصل صحيح يدلّ على إحكام أمر و إتقانه و إنفاذه قال سبحانه: (فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) «1» أي: احكم خلقهنّ، و القضاء: الحكم، قال

سبحانه: (فَاقْضِ مٰا أَنْتَ قٰاضٍ) «2» أي: اصنع و احكم، وسمي القاضي قاضياً لأنّه يحكم الأحكام و ينفذها، و سمّيت المنيّة قضاء، لأنّه أمر ينفذ في بنى آدم و غيره في الخلق. «3»

فكل فعل يصدر عن فاعله بإحكام و إتقان، و تنفيذ، فهو قضاء و الموارد المذكورة في عبارة القاموس من مصاديق هذا المعنى الواحد. و إن شئت قلت: المادّة وضعت للفعل، الصادر عن الفاعل بإتقان و استحكام و أمّا خصوصيّة الفعل من الصنع، و الحكم و الموت، و الأداء، و قضاء الحاجة فإنّما تعلم من القرائن و المتعلّقات فإذا تعلّق بالسماوات، يكون قرينة على أنّ الصادر بإتقان، هو الخلق، و إذا تعلق بالدّين، يكون دليلًا على أنّ الصادر، الأداء، و إذا تعلّق بحكم تشريعي، يكون المراد هو الحكم مثل قوله: (وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلّٰا إِيّٰاهُ) (الاسراء/ 117)

تعاريف أربعة للقضاء

هذا كلّه حول معنى القضاء لغة و أمّا اصطلاحاً فقد عرّف بوجوه:

1- عرّفه الشهيد بقوله: «ولاية شرعية على الحكم في المصالح العامّة من قبل الإمام». «4»

2- عرّفه الشهيد الثاني بقوله: «ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعيّة على أشخاص معيّنة من البرية بإثبات الحقوق

______________________________

(1) فصلت: 12.

(2) طه: 72.

(3) ابن فارس: المقاييس، مادة «قضاء».

(4) الشهيد: الدروس: 168.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 13

و استيفائها للمستحق». «1»

و الأوّل أعمّ من الثاني، لعدم شمول الأخير، لمثل إثبات الهلال، لأنّه ليس من قبيل إثبات الحقوق و استيفاؤها للمستحق.

و يرد على التعريفين أمران:

أ إنّ الولاية ليست نفس القضاء و إنّما هي المصحّحة له، لأنّ نفوذ الفصل بين المتخاصمين يتوقّف على كون القاضي ذا ولاية تجعل حكمه نافذاً في حقّ المولّى عليه،

أشبه بنفوذ تصرّف الأب و الجدّ في حقّ الصغير، فتكون الولاية من مؤهلات القضاء و مصححاته، لا نفسه.

و ما ربّما يقال إنّ الغرض من ذكر الولاية بيان أنّ القضاء الصحيح من المراتب و المناصب كالإمارة و هو غصن من شجرة الرئاسة العامّة للنبي «2» غير تام لأنّه صحيح ثبوتاً و لا يكون مصحِّحاً لأخذها في التعريف المبين لماهيّة القضاء.

ب إنّ التعريفين لا يشملان قضاء النبي و الإمام، لتقييد الولاية في الأوّل بكونها من قبل الإمام، و بمن له أهليّة الفتوى في الثاني، و النبيّ ليس بمفت و كذا الإمام، و كون الولاية شاملة لما يكون من قبل الله، و إن كان يدخل فيها قضاء الإمام فيهما، لكن تقييدها بكونها من قبل الإمام في التعريف الأوّل و بمن له أهليّة الفتوى في التعريف الثاني، يخرج قضاء النبي و الإمام عن التعريف.

إلّا أن يقال: المقصود هو تعريف القضاء الرائج و هو قضاء غير النبي و الإمام.

3- القضاء: فصل الأمر قولًا أو فعلًا. «3»

______________________________

(1) المسالك: 2/ 388، الطبعة الحجرية عام 1268.

(2) النجفي، الجواهر: 40/ 9.

(3) كشف اللثام، و فيه: فصل الأمر مكان الخصومة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 14

يلاحظ عليه مع عدم شموله لمثل الحكم في مورد الهلال و النسب و النكاح إذا لم يكن مورداً للخصومة بل كان الأمر مبهماً تمام الإبهام للطرفين: أنّ فصل الخصومة ليس نفس القضاء بل من آثاره أولًا و أنّ للقاضي شئوناً وراء الفصل. كإجراء الحدود و التعزيرات، و إصدار القرار الذي هو حكم مؤقّت حتى يستمرّ التحقيق و يتميّز المحقّ عن المبطل و يصدر الحكم النهائي ثانياً، الّا أن يقال إنّ إجراء الحدود بعد ثبوته وظيفة

شرعيّة و ليس من شئون القضاء.

4- القضاء: هو الحكم بين الناس. «1»

و هو أحسن التعاريف و يكمل بإضافة ما يعدّ من شئون القاضي سواء كان غاية للحكم، كإثبات حقّ أو نفيه أو إجراء الحدود و التعزيرات، أو لغرض مصالح المسلمين كالحكم بالهلال و النسب، أو مقدّمة له كالحكم على تعقيب المجرم، و جلبه إلى المحاكم، و توقيف الأموال، أو الحكم بجمع القرائن و الشواهد.

ثمّ إنّ الفرق بين الفتوى و حكم القاضي واضح و هو أنّ الفتوى إخبار عن الحكم الكلي و ليس لها أثر إلّا تنجّز الواقع، و أمّا القضاء فهو إنشاء حكم جزئي مطابق للحكم الكلي الصادر من الله.

و إن شئت قلت: إنّه حكم جزئي في مورد شخصيّ و يفترق عن حكم الحاكم باشتراط سبق النزاع في القضاء دون حكم الحاكم في الأمور العامّة.

و الحكم الصادر من القاضي له أحكام مثل عدم جواز نقضه إلّا في موارد جزئية، و يجب على الآخرين تنفيذ حكمه و إن خالف اجتهاده ما لم يخالف دليلًا قطعياً، و عدم ضمانه إذا لم يكن مقصّراً، و كون الضرر على بيت المال، و له ولاية على كل مولّى عليه إذا لم يكن له وليّ إلى غير ذلك من الشئون.

***

______________________________

(1) الروضة 3/ 161.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 15

الأمر الثالث: القضاء منصب يتقوّم بالولاية

اشارة

القاضي في كلمات فقهائنا على أقسام ثلاثة:

1- القاضي المنصوب من قبل النبي و الإمام في زمان الحضور.

2- قاضي التحكيم و هو ما يتراضى المترافعان على قضائه و حكمه إذا كان عارفاً بالأحكام.

3- القاضي المأذون بالإذن العام في زمان الغيبة كما هو الحال بالنسبة إلى الفقهاء في زمان الحضور و الغيبة حيث أمر المعصوم بالرجوع إليهم، صيانة لهم

عن الرجوع إلى حكّام الجور و فقهائهم حسب ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة. «1»

لا شكّ أنّ القضاء في القسم الأوّل منصب إلهي، لا يتمتّع به الإنسان إلّا في ظلّ التنصيب و التعيين و هو يلازم الولاية فيما عُيِّنَ له و يكون القضاء عندئذ غصناً من دوحة الرئاسة العامّة الثابتة للنبي و الأئمّة كما أنّه في القسم الثاني ليس منصباً و ليس للمتصدّي ولاية لما يلي، لكن لمّا رضي المترافعان بقضائه و تعهّدا على تطبيق العمل على حكمه، صار قضاؤه نافذاً.

إنّما الكلام في القسم الثالث أي القاضي المأذون فهل القضاء فيه منصب و ولاية على المولّى عليهم، أو هو أشبه بقاضي التحكيم؟ المشهور، هو الأوّل و صار البعض إلى القول الثاني.

استدل للثاني بأنّ لسان أدلّة القاضي المأذون، أشبه بلسان قاضي التحكيم حيث ورد في المقبولة قوله: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا فارضوا به حكماً» «2» فأمرهم بالتراضي بحكم

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 16

ذلك القاضي كما هو شأن قاضي التحكيم، و مثله خبر أبي خديجة حيث قال: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه» «1» فإنّ قوله: «فاجعلوه بينكم» أي اختاروه لأن يحكم بينكم و لا يخرج هذا عن شأن قاضي التحكيم و على ضوء ذلك فماهية القضاء لا تلازم كونه منصباً و أن يكون فيه ولاية بشهادة صدقه على القسم الثاني و لا نصب

فيه و لا ولاية و القاضي المأذون أشبه به، نعم يصدق قولهم في القاضي المنصوب بأنّ فيه ولاية، و لكن ذلك ليس باعتبار القضاء بل باعتبار النصب، و هو لا يختصّ بالقاضي، بل كل من له صلة بالدولة و يكون منصوباً مِنْ قِبَلِها و يكون له ولاية على العمل الذي عيِّن لأجله.

يلاحظ عليه:

أوّلًا: أنّه إذا كان القاضي المأذون في زمان الغيبة أشبه بقاضي التحكيم، بشهادة وحدة اللسان، فلما ذا عقّبه الإمام بقوله: «قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه». فإنّ الجعل فيه بمعنى النصب، فيكون أشبه بالقاضي المنصوب، غاية الأمر، أنّ الثاني منصوب بشخصه و عينه و هذا منصوب بوصفه و رسمه.

و ثانياً: أنّ الاستدلال على أنّ ماهية القضاء لا تلازم كونه منصباً و أن تكون فيه ولاية، بقاضي التحكيم، فإنّه فاقد للمنصب و الولاية مع كونه قاضياً، غير تام.

لأنّ القضاء الحقيقي، هو القضاء المؤيد بالقوّة و القدرة مادّية كانت أم معنوية كما هو الحال في قضاء النبي و الإمام و الفقهاء عند عدم بسط اليد، و أمّا الفاقد لها كقاضي التحكيم، فإنّه أشبه بحلّ العقدة بالرجوع إلى القرعة، أو المصالحة، أو قانون العدل و الانصاف أو ما أشبه ذلك كما كان الحال عند اختلاف

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 17

قريش في من يتولّى وضع الحجر الأسود في مكانه، عند ما عمدوا إلى بناء الكعبة من جديد، فرضوا أن يكون أوّل من يدخل من باب المسجد قاضياً بينهم، فكان أوّل من دخل من قريش محمّد الأمين صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فلمّا رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، فقال

صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «هلمّوا إليّ ثوباً» فأخذ الحجر و وضعه فيه ثمّ قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثمّ ارفعوه جميعاً ... «1» و على هذا الاحتمال ليس قاضي التحكيم من مصاديق القضاء، و إنّما هو محاولة من المترافعين لحلّ الخلاف.

و إن أبيت إلّا عن كونه من مصاديقه فنقول إنّ قاضي التحكيم يتمتّع بالنصب و الولاية، أمّا الأوّل فمن جانب المترافعين، و أمّا الولاية فرضاهما على التصرّف في مورد القضاء تصرفاً محدوداً، و قد سلم القائل انّ النصب يلازم الولاية.

و الحاصل: أنّ قاضي التحكيم لا يخلو عن نصب مؤقّت من جانب المترافعين، و ولاية معطاة من ناحيتهما.

دليل القول المشهور

يمكن الاستدلال على مختار المشهور بوجهين:

الأوّل: إنّ القضاء يتوقّف على النصب و هو دليل الولاية

توضيحه: الأصل المسلّم عدم نفوذ حكم أحد، على أحد، إلّا حكمه سبحانه فلو قلنا بنفوذ رأي قاض في مورد، فلا بدّ أن يكون داخلًا في المستثنى بنحو من الأنحاء و يكون حكمه، حكمه و لا يتحقق ذلك إلّا بالنصب من جانبه سبحانه إمّا بالاسم و الشخص كما في القاضي المنصوب، أو بالوصف و الخصوصية كما في القاضي المأذون و لو لا النصب بوجه من الوجوه، لا يدخل تحت المستثنى.

ثمّ إنّ النصب لا ينفكّ عن الولاية إلّا إذا كان النصب صورياً كما هو الحال

______________________________

(1) ابن هشام، السيرة النبوية: 12/ 199192.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 18

في مورد شريح. «1» فإذا كان النصب جدّياً، لغاية نفوذ رأيه و قضائه فهذا عبارة أُخرى عن وجود الولاية له فيما يتولّاه، و لولاها، لما كان لنفوذ قضائه وجه.

و الحاصل: أنّه لو لا النصب، لما دخل في المستثنى،

و هو آية الولاية و أنّه لولاها فيما يتولّاه لما كان لنفوذ رأيه وجه، إذ يكون مثل الأجنبي لا صلة له بمورد القضاء.

حتى لو قطعنا النظر عن كون القضاء قائماً بالنصب، قلنا بولايته مع قطع النظر عنه، و ذلك بالإمعان في ماهية القضاء و آثاره، فإنّ القضاء لا ينفكّ عن التصرّف في الأنفس و الأعراض و الأموال و الحقوق، و كيف يصحّ التصرف فيها بلا ولاية له؟

الثاني: إنّ الإمعان في الآيات و الروايات يعطي أنّ القضاء حسب الطبع الأوّلي أمر يتوقف على المنصب فمن الآيات قوله سبحانه: (يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ) (ص/ 26) حيث رتّب الحكم، على جعله خليفة فيها و هو المنصب و من الروايات قول أمير المؤمنين عليه السلام لشريح: يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» «2» أي مجلس القضاء مجلس من نصبه الله سبحانه للقضاء مثل النبي داود عليه السلام أو وصيه الذي هو أيضاً منصوب من جانبه سبحانه بالواسطة، و قول أبي عبد الله عليه السلام لسليمان بن خالد: «اتقوا الحكومة فانّ الحكومة إنّما هي للإمام، العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبي (كنبيّ) أو وصيّ نبيّ»، و التقريب كما سبق. 3

كلام المحقق الآشتياني

قال قدَّس سرَّه في وجه دلالة الآية على كون القضاء منصباً بأنّه سبحانه عزّ و جلّ

______________________________

(1) حيث اشترط الإمام عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه (الوسائل: ج 18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2- 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 19

فرّع

جواز الحكومة على كونه خليفة أي منصوباً من الله، فينتفي بانتفائها. ثمّ أورد عليه بوجوه:

1- إنّ المتفرّع على الخلافة وجوب الحكم لا جوازه، فلا يدلّ على انتفاء الجواز لغير الخليفة.

2- إنّ المتفرّع على الخلافة وجوب الحكم بالحقّ أعني القيد فيكون المتفرع وجوب الحكومة باعتبار القيد فلا دلالة للآية على أصل وجوبها على الخليفة لكونها واردة في مقام بيان آخر.

3- نعم لو قلنا بأنّ الأصل في الحكم، الحرمة و الآية وردت لرفع الحظر في حقّ الخليفة تدلّ على بقاء الحظر في حقّ غير الخليفة.

يلاحظ عليه «1»: أنّ المتبادر من الاحتمالات هو المعنى الأوّل، و أمّا ما أورد عليه، من أنّ المعلَّق على الخلافة، القضاء الواجب، دون المستحب و غيره فغير ظاهر لأنّ أمر القضاء يدور بين الواجب و المحظور، و أمّا الأقسام الأُخر، فلا تتصور فيه، لكونه واجباً كفائياً حسب ما يأتي. و معه كيف يمكن أن يكون حسب الطبع راجحاً أو مباحاً أو مرجوحاً؟ و أمّا كونه مستحباً حسب الطوارئ فهو خارج عن موضوع البحث، و عليه ينتج أنّ القضاء الجائز مقابل المحظور لا ينفكّ عن كونه متفرّعاً على جعل الخلافة له.

و أمّا الاحتمال الثاني أعني كون المتفرع هو القيد دون المقيّد مع القيد، فهو كما ترى فإنّ التفكيك لا يصار إليه بلا دليل.

و أمّا الثالث فهو فرع وجود فكرة الحظر في أذهان الصحابة حين نزول الآية، حتّى تكون رادعة لذلك الوهم أو الحظر المحقق. و إن كانت دلالتها على

______________________________

(1) القضاء/ 3، ترى ذلك الإشكال بشقوقه الثلاثة في القضاء للمحقق الرشتي ص 27، و لعلّ العلمين أخذاه عن استاذهما الشيخ الأنصاري رحمه الله.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 20

المطلوب

تامّة على هذا الوجه، لكن المفروض غير واضح.

***

الأمر الرابع: القضاء في زمان الغيبة ربّما يتوقف على النصب

إذا كان القضاء من المناصب، و متوقفاً على النصب المستلزم للولاية، فهل تكفي الإجازات العامّة الواردة في المقبولة و غيرها و عليه يكون كل فقيه جامع للشرائط، قاضياً منصوباً بالنصب العام، أو يتوقف على النصب إذا كان في قمّة الحكومة فقيه مؤثر في شئون الحكومة و صلاح الأُمّة.

الظاهر هو الثاني، لأنّ القدر المتيقّن من الإجازات العامة هو الظروف التي يكون زمام السلطة بيد الطغاة و الظالمين، فعندئذ يكون الملجأ للشيعة المؤمنين هو الفقيه الجامع للشرائط، و أمّا إذا تبدّلت الظروف و قامت الثورة الإسلامية و كان في قمّة الحكومة، فقيه ذو شئون مشرف على الأمور، فاللازم هو عدم تصدّي الفقيه، القضاء إلّا بنصبه و إجازته و ذلك لا لقصور في المقتضي، بل لأجل إيصاد باب الفوضى في وجه المجتمع، لئلا يحصل الاصطكاك، و يدبَّ الفساد.

نعم لا يتم الاستدلال على لزوم النصب في تلك الظروف «بقياس القضاء على سائر المناصب للولاة و العمّال فكما أنّ قيادة الجيش، و الولاية للمدينة، و المديرية لدائرة خاصّة تتوقف على النصب و لا تكفي الإجازات العامّة فهكذا القضاء». و ذلك، لعدم وجود الإجازات العامّة في منصب سوى القضاء، ففيه المقتضي تام غير أنّه مقرون بالمانع، بخلاف سائر المناصب، فالمقتضي فيه غير موجود حتى يبحث عن وجود المانع.

***

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 21

الأمر الخامس: في أنّ القضاء واجب كفائي

اشارة

إنّ الحياة الاجتماعية للإنسان، لا تخلو عن تنازع في الأملاك و الحقوق، و الأعراض و النفوس، و هذا ما فرض على العقلاء إرساء عماد القضاء في البلاد، و قد صرّح لفيف من الفقهاء بكونه واجباً كفائياً.

1- قال المحقق: تولّي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه و ربّما وجب و وجوبه

على الكفاية.

2- قال العلّامة في القواعد: و تجب (تولية القضاء) على الكفاية. «1»

3- و قال في التحرير: إنّ القضاء من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين و إن أخلّوا به أجمع، استحقُّوا بأسرهم العقاب لما فيه من القيام بنظام العالم و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الانتصاف للمظلوم قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: إنّ الله لا يقدّس أُمّة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه. «2»

4- و قال الأردبيلي في شرح قول العلامة في الإرشاد: «القضاء واجب على الكفاية»: دليل وجوب قبول الولاية من الإمام حال حضوره، إن لم يفهم وجوبه منه حينئذ بخصوصه، و وجوب الحكم و ارتكابه حال الغيبة مع عدم المانع كفاية، كأنّه الإجماع و الاعتبار من وجوب ردّ الظالم عن ظلمه، و انتصاف المظلوم منه، و دفع المفاسد و غلبة بعضهم على بعض و إيصال حقوق الناس إليهم، و إقرار الحقّ مقرّه، بل انتظام النوع و المعيشة، و ذلك دليل وجوبه للنبي و الإمام «3».

5- و قال السيد علي في الرياض: «و هو من فروض الكفاية بلا خلاف أجد

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 10/ 5، قسم المتن.

(2) التحرير: 2/ 179.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 19.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 22

فيه بينهم لتوقّف نظام النوع الإنساني عليه، و لأنّ الظلم من شيم النفوس فلا بدّ من حاكم ينتصف من الظالم للمظلوم و لما يترتّب عليه من النهي عن المنكر، و الأمر بالمعروف. «1»

6- و قال في الجواهر: و ربّما وجب تولّي القضاء مقدّمة للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و للقيام منه بالقسط، و لكن يكون وجوبه حينئذ

على الكفاية لعموم الخطابات المعلومة إرادة حصوله من مجموعهم لا من مباشر بعينه و لو جميعهم نعم قد يتعيّن فرد للانحصار أو لمصلحة اقتضت تعيين الإمام «2».

هذه هي الكلمات الواردة في المقام و قبل الخوض في تحليل أدلّتهم، نقول: سيوافيك معنى ما ذكره المحقق من استحباب القضاء لمن يثق من نفسه، فإنّ الاستحباب، حكم طارئ على القضاء لا صلة له، بحكمه الذاتي من الوجوب الكفائي.

و قد اشير في هذه الكلمات إلى وجوه من الأدلّة على كونه واجباً كفائياً:
1 الإجماع

الذي جاء في كلام المحقق الأردبيلي، و الإجماع مستند إلى الأدلّة الواردة في كلامهم و مثله لا يعدّ حجّة.

2 الخطابات العامّة

التي تمسّك بها صاحب الجواهر و لكن ليس من تلك الخطابات في الكتاب و السنّة أثر و الوارد في القرآن، خطاب مشروط قال سبحانه: (وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/ 58) و مثله ما ورد في سورة المائدة من وصف من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر و الظلم و الفسق. (المائدة/ 44، 45، 47).

و لا يستفاد من مثل هذه الآيات وجوب القضاء و إنّما تدلّ على أنّ الإنسان

______________________________

(1) السيّد علي، رياض المسائل 2/ 330.

(2) النجفي، الجواهر 40/ 38.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 23

إذا مارس القضاء يجب عليه أن يحكم بالعدل، و أمّا أنّ الحكم واجب فلا تدلّ عليه.

3 إنّه من فروع القيام بالقسط الذي أمر به سبحانه

، قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ) (النساء/ 135) و قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ) (المائدة/ 8).

و الاستدلال قابل للمناقشة، إذ فرق بين أن يقول: «أقيموا القسط» و يقول: «قوّامين بالقسط»، فالتعبير الأوّل يجرّ الإنسان إلى قبول القضاء لإقامة القسط، دون الثاني لكن الآيتين تدلان على لزوم كون الإنسان قائماً بالقسط لا مقيماً القسطَ، و صيغة المبالغة تدل على كثرته و وفرته و على ذلك فيكون مرجعهما إلى العمل بالقسط في مجال الحياة الشخصية فلو كان عنده مال اليتيم مثلًا فلا يمسّه إلّا بالقسط قال سبحانه: (وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتٰامىٰ بِالْقِسْطِ) (النساء/ 127) و لو تصدى للقضاء فلا يحكم إلّا بالقسط لقوله: (وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة/ 42) و لو تصدى للتوزين فيوزن به قال سبحانه: (وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ) (الرحمن/ 9).

و الحاصل فرق بين

إقامة القسط و القيام به، و الآيات تدل على الثاني دون الأوّل، و المفيد في المقام هو الأوّل و لعلّ هذين القسمين من الآيات هو مراد صاحب الجواهر من قوله للعمومات و قد عرفت أنّها قابلة للمناقشة.

4 كون القضاء مقدّمة للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

، بل هو مصداق له و هذا أيضاً استدل به صاحب الجواهر و هو قابل للمناقشة لأنّ القدر المتيقّن من وجوبه هو ما إذا كان هناك معروف مشهود، و منكر معلوم، فيجب الأمر بالأوّل و الزجر عن الثاني، لاما إذا كان محتملهما كما في مورد القضاء لأنّ القاضي غير واقف على صحّة دعوى المدّعي، و عدمها فلم يتبين المعروف و لا المنكر عنده.

و أمّا أنّه يجب عليه تبيين المعروف و المنكر بتصدّي القضاء فلا دلالة لأدلّتهما

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 24

عليه، و من المعلوم أنّ الحكم لا يثبت الموضوع.

5 توقف نظام النوع الإنساني عليه

كما في عبارة الرياض و الدليل لا يخلو من إبهام.

فإن أُريد بقاء الحياة الإنسانية في هذا الكوكب، فإنّه لا يتوقّف على القضاء إذ ما زال البشر موجوداً في الغابات و المناطق البعيدة، و لم يكن عندهم قضاء فكان الحاكم مكان القضاء و منطق العدل، منطق القوّة و الزور.

و إن أُريد النظام الاجتماعي و الحضارة الإنسانية فهو واجب على من بيده القوّة و القدرة، و يجب عليه، نصب القضاء لحفظ النظام فالوجوب يتوجّه إلى أصحاب القدرة و يجب على القاضي قبوله للملازمة بين وجوب النصب و وجوب القبول و إلّا يكون وجوب النصب لغواً و أين هذا من كون القضاء واجباً كفائياً ابتداءً.

و لو قلنا بأنّ مرادهم من الوجوب الكفائي هو هذا النوع من الوجوب، يقيّد وجوبه بما إذا كان ترك القضاء، مستلزماً للإخلال بالنظام لا مطلقاً، مع أنّ المفروض في كلامهم كونه واجباً مطلقاً.

و الحاصل: أنّ هذه الأدلّة غير وافية لإثبات المقصود، قابلة للمناقشة. و هناك وجوه أُخر ربّما تكون خالية عن المناقشة، نأتي بها بالعنوان الخاص.

6 القضاء مبدأ لتطبيق الأحكام

إنّ من رجع إلى الكتاب و السنّة يقف على أنّ الشارع الأقدس، لا يرضى بتعطيل الأحكام بل الغاية من التشريع، هو تطبيق العمل عليها، من غير فرق بين الأحكام الفردية أو الاجتماعية، فالمطلوب من التشريع هو العمل و هو غاية الخلقة قال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك/ 2) فإذا كان تطبيق العمل على الأحكام الشرعية هو الغاية من التشريع،

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 25

فكيف لا يجب القضاء مع أنّ كثيراً من الأحكام يتجسّد في ظل القضاء؟ و إليك بيانه:

إذا كان الإمام المعصوم حاضراً و باسط اليد،

فيجب عليه نصب القاضي لتلك الغاية و يجب على المنصوب قبوله إطاعة لأمر الإمام المعصوم. إنّما الكلام إذا كان غائباً، فيجب على القاضي أيضاً التصدي. و ذلك بالبيان التالي:

1- إنّ السبب الوثيق لإجراء الأحكام و لو في مجالات مخصوصة، هو القضاء و الشارع لا يرضى بتركها في زمان الغيبة و الحضور، فإذا علمنا ذلك، و كان تصدي القضاء من أسباب إجرائها، يجب التصدي و إلّا يلزم حذف الأحكام الإسلاميّة من الساحة و هو مما لا يرضى به الشارع.

فإن قلت: إنّ من المحتمل أن يكون الأحكام الجزائية مشروطة بحضور الإمام المعصوم، و لولاه، لما جاز العمل بها، فما روي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين ليلة و أيّامها». «1» و إن كان يعرب عن لزوم اجراء الحدود لكنّها مخصوصة بزمان الحضور لأنّ اجرائها من شئون الإمام المعصوم، فعلى هذا لا يجب التصدي للقضاء لتلك الغاية.

قلت: مضافاً إلى عدم صحّة ذلك كما أوضحنا حاله في الحدود، إنّ هذا الاحتمال لو صحّ فإنّما يصح في الأحكام الجزائية دون سائر الأحكام مما يتعلّق بالحقوق و الأموال.

7 القضاء سبب لحفظ الحقوق

إنّ الشارع حرّم المراجعة إلى محاكم الجور، و أرجع الشيعة إلى الفقهاء فإذا جاز لهم الرجوع إلى الفقيه لأجل القضاء وجب عليه التصدي، و إلّا لزم تفويت الحقوق على المؤمن و هو قبيح، إذ كيف يصحّ للشارع أن يترك القضاء في هذه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 26

الظروف، مع إمكان إحياء الحقوق و لو بالرجوع إلى الفقيه، و هو القائل لن تقدّس أُمّة لا يؤخذ للضعيف

فيها حقّه من القوي «1».

8 إقامة العدل من وظائف الفقيه المقتدر.

إذا كان الفقيه في البلد ذا قوة و قدرة تجب عليه إقامة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، عن غير طريق البيان و اللسان، فإنّ الإرشاد بهما، وظيفة من لا يملك العدة و العدد، كما في رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام يقول: و سئل عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أ واجب هو على الأُمة جميعاً؟ فقال: «لا فقيل له: و لم؟ قال: «إنّما هو على القويّ المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبلًا ...». «2»

و من وظائف القويّ المطاع ردّ المظالم، و الانتصاف من الأعداء كما عن أبي جعفر قال: «إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، و تأمن المذاهب و تحلّ المكاسب و تردّ المظالم و تعمر الأرض، و ينتصف من الأعداء و يستقيم الأمر». «3»

إنّ وظيفة القويّ المطاع فوق الفرد العادي، فلا يصحّ له أن يعتذر بما أوردناه على الاستدلال بأدلّة الأمر بالمعروف من عدم العلم التفصيلي بالمعروف قبل التصدّي إذ العلم الإجمالي في حقّه منجّز و العلم القطعي حاصل للقويّ المطاع بأنّ هناك حقوقاً مهضومة و أموالًا مغصوبة و دماء مسفوكة بغير الحقّ، فتجب عليه معالجتها بعد التبيين، و مفتاحه ممارسة القضاء، فيجب عليه القيام به.

و من أراد أن يستدل على وجوب القضاء بأدلة الأمر بالمعروف فعليه التقرير

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسائل/ 53؛ الوسائل: الجزء 11، الباب 12 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 9.

(2) الوسائل: الجزء 11، الباب 2 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 1.

(3) الوسائل الجزء 11، الباب 1 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 27

بهذا النحو الذي عرفت.

الأمر السادس: استحباب تولّي القضاء لمن يثق من نفسه

اشارة

يظهر من غير واحد من الأكابر استحباب تولي القضاء لمن يثق من نفسه و المقصود استحبابه العيني، مع وجوبه الكفائي و إليك بعض الكلمات:

1- قال المحقق: تولي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه. «1»

2- قال العلّامة في القواعد: و يستحب التولية لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطها على الأعيان. «2»

3- قال الشهيد الثاني: و في استحبابه مع التعدد عيناً (مع كونه واجباً كفائياً) قولان أجودهما ذلك مع الوثوق من نفسه بالقيام به. «3»

4- و قال أيضاً في شرح قول المحقّق: «تولي القضاء مستحب ...»: فحكم المصنف باستحبابه لمن يثق بنفسه محمول على طلبه من الإمام ممن لم يأمره به إذا كان من أهله، أو على فعله لأهله في حال الغيبة حيث لا يتوقّف على إذن خاصّ إلى أن قال: و خالف في استحبابه أو وجوبه بعض العامّة فحكم بكراهته نظراً إلى الأحاديث المحذِّرة عنه و من ثمّ امتنع جماعة من أكابر التابعين و غيرهم. «4»

5- و قال الفاضل الهندي: و يستحب التولية على الأعيان إلّا من وجبت عليه عيناً لأنّه أمر مرغوب عقلًا و شرعاً «5».

______________________________

(1) الشرائع: 4/ 861.

(2) مفتاح الكرامة: 10/ 5 قسم المتن.

(3) الروضة البهية: 3/ 62.

(4) المسالك: 2/ 390 و في هامش المطبوع عن الميرزا محمد الشيرواني: هنا احتمال ثالث هو قبول من كلّفه الإمام على سبيل التخيير.

(5) كشف اللثام: 2/ 141.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 28

6 و قال العاملي: و قد أجمعت الأُمّة كما في المبسوط (ما عدا أبا قلابة لأنّه كان يحتمل أنّه غير فقيه) على أنّه طاعة و مرغوب عقلًا و

نقلًا و الاستحباب العيني لا ينافي الوجوب الكفائي فلا ريب في رجحانه على الاكتساب بالمباح و في الوسيلة: قسّمه إلى واجب و مكروه و مندوب و محظور «1» إلى غير ذلك من الكلمات.

أقول:

يقع الكلام في مقامين:
اشارة

الأوّل: ما هو الدليل على استحبابه؟

الثاني: ما هو الموضوع للاستحباب و كيف يجتمع الاستحباب العيني مع الوجوب الكفائي؟

أمّا الأوّل [ما هو الدليل على استحبابه؟]

فالقول باستحبابه إنّما هو فيما إذا كان القاضي متعدداً كما عرفت من الشهيد في الروضة، فيقع الكلام في استحبابه عيناً، مع كونه واجباً كفائياً و أمّا إذا اتحد يكون واجباً عينياً و معه لا ملاك للاستحباب. و أمّا الدليل على الاستحباب فهناك وجوه مذكورة في كلمات القوم نشير إليها:

1- الإجماع الوارد في كلام الشيخ في المبسوط «2» الذي نقله في مفتاح الكرامة، و لكن الظاهر أنّ معقده، هو كونه القضاء طاعة، و أمراً مرغوباً عقلًا و نقلًا في مقابل ما نقل عن بعض أهل السنّة من الكراهة للأحاديث الذامة، و هو غير كونه مستحباً، إذ يكفي في كونه طاعة و أمراً مرغوباً، كونه واجباً كفائياً، و لا يتوقّف على كونه مستحباً وراء وجوبه الكفائي.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 10/ 5.

(2) قال الشيخ في المبسوط: القضاء جائز بين المسلمين و ربّما كان واجباً فإن لم يكن واجباً كان مستحباً ... إلى أن قال: و عليه إجماع الأمة إلّا أبا قلابة فإنّه طلب القضاء فلحق بالشام و أقام زماناً ثمّ جاء ... إلى أن قال: إنّ أبا قلابة رجل من التابعين لا يقدح خلافه في إجماع الصحابة (المبسوط 8/ 82)، و الإمعان في العبارة يعطي أنّ معقد الإجماع هو جواز القضاء أو وجوبه الكفائي لا استحبابه، و لأجل ذلك يقول، لا يعبأ بخلاف أبي قلابة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 29

2 عظم الفوائد المترتّبة عليه، المعلوم رجحانها عقلًا و نقلًا. «1» و هو موافق لما نقلناه عن كشف اللثام.

يلاحظ عليه: بأنّها لا تلازم الاستحباب العيني، بل

يكفي كونه واجباً كفائياً، فلأجل هذه الفوائد المترتبة، ما أهمله الشارع بل أوجبه عيناً فيما إذا لم يكن هناك إلّا قاض واحد، و كفائيّاً فيما إذا تعدد.

و لو أُريد من الفوائد العظيمة ترتّب الأجر، و هو أيضاً لا تلازم الاستحباب لكفاية الوجوب الكفائي في ترتّبه إذا كان هناك إخلاص.

3- عمومات باب القضاء، و لكنّها مثل الأجر لا تلازم الاستحباب.

و بالجملة لم نجد دليلًا صالحاً للاستحباب مع التحفظ على كونه واجباً كفائياً هذا كلّه حول المقام الأوّل.

الثاني: ما هو الموضوع للاستحباب على فرض ثبوته؟

هناك احتمالات:

1-- كون تولّي القضاء مستحباً و هو الظاهر من المحقّق و العلّامة، و الشهيد في الروضة و الفاضل في كشف اللثام.

2-- طلبه من الإمام إذا لم يأمره كما في المسالك.

3-- قبول من كلّفه الإمام على سبيل التخيير كما من الشيرواني في هامش المسالك.

4-- استحباب المبادرة و التسابق ليتقدّم إليه على الغير كما صرح الفقيه الطباطبائي في ملحقات العروة «2» و لنأخذ كل واحد بالبحث.

أمّا الأوّل فهو المتبادر من كلماتهم إلّا من صرّح بالخلاف لكنّه يستلزم اجتماع الوجوب و الاستحباب في شي ء واحد.

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 37 و قد تبع في ذلك كشف اللثام فلاحظ.

(2) السيد الطباطبائي: ملحقات العروة: 2/ 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 30

و ما ذكره في المفتاح «1» و الرياض «2» من أنّ الاستحباب العيني لا ينافي الوجوب الكفائي غير تام لأنّ مفاد الأوّل جواز ترك المتعلّق مطلقاً، سواء قام به الآخرون أو لا و لكن مفاد الثاني، جواز تركه إذا قام به الآخرون و ربّما يتصور إمكان الجمع من باب تجويز اجتماع الأمر و النهي في شي ء واحد، بسبب عنوانين، و لكنّه غير مفيد في المقام. لأنّ البحث هناك فيما

إذا كان بين العنوانين عموم و خصوص من وجه لا مثل المقام فإنّ النسبة بين القضاء، و قضاء من يثق من نفسه عموم و خصوص مطلق، و من قال بجواز الجمع فإنّما قال به فيما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه، لا عموم مطلق.

فلا محيص من حمل الأمر الاستحبابي على فرض ثبوته على الإرشاد إلى أفضل الأفراد كما في الأمر بإقامة الصلاة جماعة أو في المسجد، و عندئذ يخرج الأمر عن كونه مولويّاً و هو خلاف المفروض.

و أمّا الثاني، فإنّ الطلب يكون مقدّمة للقضاء و مع فرض كونه واجباً كفائياً، تكون مقدّمتة كذلك، لا مستحباً نفسيّاً إلّا إذا كانت المقدّمة بوصف كونها مستحبّة مقدّمة كما في الطهارات الثلاث، و ليس المقام كذلك. و ذلك لوجود ملاك الاستحباب النفسي في الطهارات لأجل أنّ لها شأناً وراء المقدميّة لكونها نوراً في حدّ نفسها فالكون على الطهارة مستحبّ في ذاته و لا مانع من أن تقع بهذا الوصف مقدّمة للصلاة، بخلاف الطلب، إذ ليس له شأن وراء المقدميّة للقضاء و ليس نفس الطلب بما هو هو مطلوباً سواء انجرّ إلى التصدي أم لا فتدبّر.

و منه يظهر حال الثالث أي قبوله من الإمام عليه السلام إذا أمر بالتخيير فإنّ حال القبول لا يزيد على الطلب، و كلاهما مقدّمتان للقضاء فيكون حكمه حكمه.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 10/ 5.

(2) الرياض: 2/ 333.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 31

و أمّا الرابع الذي احتمله السيد الطباطبائي، فقد أشكل عليه هو نفسه بأنّه كيف يُعْقل استحباب المبادرة من كل أحد عيناً، مع كون الفعل واحداً لا يقبل التكرار بل لا يتصوّر استحباب مثله عيناً و إن لم يكن وجوب.

«1»

اقول: ما ذكره قدّس سرَّه أظهر الوجوه و لا يرد عليه ما أوردناه على الوجه الثاني و الثالث و ذلك لأنّ الواجب الكفائي هو أصل القضاء، و قبوله أو طلبه مقدّمة، و هي أيضاً واجبة مثله، بخلاف المبادرة و الاستباق إلى القبول فهو ليس مقدمة بل هو مستحبّ مثل قوله سبحانه (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرٰاتِ*) (المائدة/ 48) فالإتيان بالخير واجب، و مقدّمته مثله، لكن المبادرة اليه مستحب.

و ما أورده قدّس سرَّه على هذا الوجه و هو أنّه كيف يعقل استحباب المبادرة من كلّ أحد عيناً مع كون الفعل واحداً لا يقبل التكرار ... غير تامّ إذ لو صحّ لتوجّه على جميع الواجبات الكفائيّة، لأنّه كيف يطلب الفعل الواحد من الجميع مع عدم إمكان قيام الجميع به؟ و الحلّ في جميع الموارد واحد و على ضوء ذلك فالاستباق مطلوب من الجميع لكنّه لو بادر أحد قبل الجميع سقط عن الباقين.

و في الختام نقول: إنّ الاختلاف في موضوع الاستحباب، دليل واضح على عدم وجود دليل صالح على أصل الاستحباب، إذ لو كان، لكان الموضوع متبيّناً.

تمّ الكلام في المقدّمات، و لندخل في النظر الأوّل من النظرات الأربع.

______________________________

(1) السيد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 32

النظر الأوّل في صفات القاضي

اشارة

قد عرفت أنّ المحاور الأصليّة في القضاء ثلاثة، فالأوّل منها هو البحث عن صفات القاضي و مؤهّلاته لذلك الأمر الخطير، فنقول: ذكر الفقهاء هنا صفات نذكرها بعد بيان النكتة التالية:

القضاء من الأُمور الخطيرة المهمّة التي يطلب لنفسه شروطاً تعطي للإنسان صلاحية القيام بها و القضاء من أخطرها و أهمها، و قد ذكر الفقهاء في كتبهم أُموراً بعنوان صفات القاضي و هي بين ما هو بيّن الثبوت

لا يشكّ في لزومها اثنان، و ما ليس كذلك بل يحتاج القول بالاشتراط و عدمه إلى دراسة علميّة.

و الصفات المذكورة في كلام المحقق و غيره عبارة عن الأُمور التالية:

اشارة

1- البلوغ، 2 كمال العقل، 3 الإسلام، 4 الإيمان، 5 العدالة، 6 طهارة المولد، 7 الذكورة، 8 الاجتهاد 9 الضبط، 10 الكتابة، 11 البصر، 12 النطق، 13 السمع 14 الحريّة. و أضاف المحقّق بعد اشتراط العدالة: الأمانةَ و المحافظةَ على الواجبات. و لكنّهما مستدركان باعتبار دخولهما في العدالة. إلّا أن يكون التخصيص بالذكر لأجل العناية ببعض المصاديق و لنأخذ بالبحث واحداً بعد الآخر:

الشرط الأوّل و الثاني: البلوغ و كمال العقل

البلوغ و كمال العقل من الشروط القطعية التي لم يختلف فيهما اثنان لا من

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 33

العقلاء و لا من الفقهاء و طبيعة الموضوع تقتضي شرطيتهما، فلم يُرَ صبيّ و لا سفيه على منصّة القضاء، و كيف يمكن للصبي أن يدير دفّة القضاء مع أنّه رفع عنه القلم «1» و عمده و خطؤه سيّان «2»؟! أضف اليه أنه هو مولّى عليه، فكيف يكون وليّاً للمتحاكمين؟! على أنّ شرطية العدالة تلازم اشتراطهما لأنّ العدالة أو الفسق فرع التكليف و أمّا قوله سبحانه: (وَ آتَيْنٰاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم/ 12) حيث نصب يحيى على القضاء و الحكم و هو صبيّ، فإنّما هو من باب الكرامة على سبيل خرق العادة فلا يقاس عليه و لا على أئمّة أهل البيت، آحاد الناس. و قد قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا يقاس بآل محمّد من هذه الأمّة أحد». «3»

غير أنّ المحقق عبّر عن الشرط الثاني بكمال العقل و الظاهر أنّ مراده هو أن لا يكون سفيهاً بحيث يقال إنّه ناقص العقل و أمّا الذكاء و التوقد الفكري، أو الفطنة فلا يطلبه أصل القضاء.

غير أنّ هنا نكتة نلفت نظر القاضي إليها و هو أنّ الموضوع إذا كان ملتوياً و معقداً،

بحيث لا يطمئنّ القاضي بتمحيصه و تشخيصه، يلزم عليه أن لا يمارسه، بل يستعين فيه بالخبراء الذين لهم ذكاء خاص في حلّ الأُمور المعقّدة و المعضلات من المسائل القضائية، لأجل الممارسة الممتدّة.

و ذلك لأنّ المسائل القضائية مع اشتراك الجميع في جهة، تختلف في البساطة و التعقيد، و ليس كل موضوع منهلًا لكل وارد و شارد، و عليه في الأُمور المعقدة، التي تطلب لنفسها مهارة و ذكاء و توقداً خاصاً أن يجب لا يمارسها القاضي إلّا بعد توفّر الشروط التي تطلب لنفسها إمّا بجعلها شورى بين القضاة، أو الاستعانة بمن توفرت فيه الشروط كما لا يخفى.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 2.

(2) الوسائل: الجزء 19، الباب 11 من أبواب العاقلة، الحديث 2، 3، 5.

(3) نهج البلاغة: الخطبة 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 34

الشرط الثالث: الإسلام

لم يشكّ في اعتبار الإسلام أو مانعية الكفر اثنان، و لم يُرَ في تاريخ القضاء كافر يشغل منصَّة القضاء قال المحقّق: لأنّه ليس أهلًا للأمانة و يمكن الاستدلال عليه بوجوه:

1- القضاء منصب يستتبع ولاية، و العصمة بين المسلم و الكافر مقطوعة فكيف يكون وليّاً للمسلم، و هو سبحانه ينهى عن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء و من يتولهم فهو منهم «1»؟! أ فيصح بعد ذلك أن يُضفِيَ لهم ولاية في مقام القضاء.؟!

2- إنّه سبحانه ينهى عن التحاكم إلى الطاغوت، و يأمر بالكفر به، و يقول: (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً) (النساء/ 60). و التحاكم

لدى الكافر من مصاديق التحاكم إلى الطاغوت، روى المفسرون أنّه كان بين رجل من اليهود و رجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أُحاكم إلى محمّد لأنّه عَلِم أنّه لا يقبل الرشوة و لا يجور في الحكم فقال المنافق: لا!، بل بيني و بينك كعب الأشرف (اليهودي) لأنّه عَلِم أنّه يأخذ الرشوة فنزلت الآية.

3- إنّه من قبيل السبيل للكافر على المسلم حيث إنّ القضاء لا ينفكّ غالباً عن الجلب و إصدار القرار و الحبس، و القضاء في مورد الجزاء، لا ينفك عن الإعدام و إجراء الحدّ و التعزير، و قد قال سبحانه: (وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (النساء/ 141). و ما ربّما يقال إنّه من قبيل إجراء الحكم الحقّ في حقّ المحكوم و ليس بسبيل مدفوع بأنّ مالكية الكافر للمسلم أيضاً تمسك بالحكم المشروع مع أنّه يعدّ سبيلًا، و للقاضي سيادة على المحكوم في أنظار الناس

______________________________

(1) النساء/ 144، المائدة/ 51.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 35

و هو لا ينفك عن جعل السبيل.

4- إنّ اشتراط العدالة تلازم شرطية الإسلام و ليس المراد منها المعنى النسبي أي العادل في دينه بل المعنى المطلق كما سيوافيك.

5- طبيعة الموضوع تقتضي الاشتراط، إذ كيف يمكن تسليط الكافر على دماء المسلمين و أعراضهم و أموالهم و حقوقهم مع أنّه ليس أهلًا للأمانة.

نعم الانظمة الإلحاديّة غير معترفة بهذا الشرط حتى الإيمان بالله، و قائلة بأنّ حرمان طائفة من القضاء لأجل العقيدة مخالف للعدل الاجتماعي، و مشاركة الناس في الحقوق من دون تبعيض.

يلاحظ عليه: أنّه ليس تبعيضاً و إنّما هو أخذ لصالح القضاء و المتحاكمين فإنّ من لا يؤمن بالقضاء الإسلامي و مصادر أحكامه، كيف

يتحرّى الحقيقة في إجرائه؟ و لكن الجنس إلى الجنس يميل «و كلّ اناء بالّذي فيه ينضح» نعم نقل الشهيد الثاني جواز قضاء الكافر لأهل نحلته و وصفه بأنّه شاذ. «1»

الشرط الرابع: الإيمان
اشارة

إن الايمان له استعمالات:

1- ربما يستعمل و يراد منه نفس ما يراد من الإسلام من غير فرق بينهما (فَأَخْرَجْنٰا مَنْ كٰانَ فِيهٰا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَمٰا وَجَدْنٰا فِيهٰا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الذاريات/ 3635). و المراد منهما الاعتقاد الجازم بالله و رسالة نبيّه و ما جاء به.

2- ربما يطلق الإسلام و يراد منه التظاهر به من دون نفوذ إلى القلب و يقابل الإيمان و هو التسليم النافذ من الظاهر إلى الباطن و على ذلك قوله سبحانه:

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 389.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 36

(قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات/ 14).

3- و ربما يطلق و يراد منه الإيمان بالمعنى الخاص و هو كونه إمامياً و هذا هو المراد هنا بعد اشتراط الإسلام و لنذكر شيئاً من كلمات الفقهاء.

اشتراط الإيمان في كلمات الفقهاء

1- قال المفيد: و لا ينبغي لأحد أن يتعرّض له حتى يثق من نفسه بالقيام به و ليس يثق أحد بذلك من نفسه حتى يكون عاقلًا، كاملًا، عالماً بالكتاب و ناسخه و منسوخه ... «1» و لم يصرح باشتراط الإيمان.

2- قال الشيخ: و قد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكّنون فيه مِنْ تولّيه بنفوسهم، فمن تمكَّن من إنفاذ حكم أو إصلاح بين الناس، أو فصل بين المختلفين فليفعل ذلك و له بذلك الأجر و الثواب. «2»

3- قال الشيخ في الخلاف: لا يجوز أن يتولّى القضاء إلّا من كان عارفاً بجميع ما وليه و لا يجوز أن يشذ عنه شي ء من ذلك، و لا يجوز أن يقلّد غيره ثمّ يقضي به و قال الشافعي: ينبغي أن يكون

من أهل الاجتهاد ... و لا تجوز أن تكون المرأة قاضية في شي ء من الأحكام .... «3» و ليس فيه تصريح باشتراط الإيمان.

4- و قال في المبسوط: و أمّا من يحرم عليه أن يلي القضاء فإن يكون جاهلًا ثقة كان أو غير ثقة، أو يكون فاسقاً من أهل العلم. «4» و لعلّه اكتفى بالإشارة عن

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 721.

(2) الطوسي: النهاية، كتاب الجهاد: 301.

(3) الطوسي: الخلاف، ج 3/ كتاب القضاء، المسألة 61.

(4) الطوسي: المبسوط: 8/ 83.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 37

التصريح.

5- قال ابن إدريس: فأمّا من تحرم عليه فإن كان جاهلًا، ثقة كان أو غير ثقة أو فاسقاً من أهل العلم. «1» و لعلّه اكتفى بالإشارة عن التصريح.

6- و قال المحقق: «و يشترط الإيمان و العدالة» غير أنّه أراد به الإسلام بشهادة قوله: فلا يعقد للكافر لأنّه ليس أهلًا للأمانة و كذا الفاسق.

7- و قال «2» العلّامة: و يشترط الإيمان و العدالة فلا ينفذ قضاء الكافر و الفاسق، «3» و لأجل خلوّ عبارة القواعد عن هذا الشرط حاول السيّد العاملي إدخال غير الإمامي، تحت الفاسق تارة، و الكافر أُخرى لاشتراكه معه في القضاء بأُصول لا نعترف بها فلا يجوز نصبه للقضاء.

8- و قال ابن سعيد: إذا كان الرجل عاقلًا، بصيراً، كاملًا، كاتباً، عالماً بالقضاء ديّناً، و ورعاً فهو أهل لولاية القضاء. «4» و ليس فيه تصريح بهذا الشرط.

9- قال العلّامة في الإرشاد: و في حال الغيبة ينفذ قضاء الفقيه من علماء الإمامية الجامع لشرائط الفتوى. «5»

10 و نسب التردد إلى المحقّق الأردبيلي و لم يظهر لي من كلامه نعم جوّز قضاء العامي إذا اقتضت المصلحة نصبه. 6

1- 1 و

قال في الجواهر: تواترت النصوص في النهي عن المرافعة إلى قضائهم بل هو من ضروريات مذهبنا. 7

______________________________

(1) ابن إدريس، السرائر: 3/ 153.

(2) نجم الدين: الشرائع: 4/ 67.

(3) العاملي، مفتاح الكرامة، قسم المتن: 10/ 9.

(4) ابن سعيد الحلي، الجامع: 522.

(5) 5 و 6 مجمع الفائدة: 12/ 18 و 22.

(6) 7 النجفي: الجواهر 40/ 13.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 38

12 و قال السيد الأُستاذ: يشترط في القاضي: البلوغ و العقل، و الإيمان، و العدالة، و الاجتهاد المطلق، و الذكورة و طهارة المولد، و الأعلميّة ممن في البلد أو ما يقربه على الأحوط «1».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأصل هو عدم نفوذ رأي أحد على أحد إلّا الله سبحانه أو من عيّنه و أنفذ رأيه و القدر المسلّم من هذا الاستثناء هو رأي النبي و الوصيّ و الفقيه الإمامي الجامع للشرائط حسب مقبولة عمر بن حنظلة. «2»، و أبي خديجة. «3» و أمّا غيرهم سواء أ كان شيعياً غير إمامي كالزيدي و الاسماعيلي، أم غير شيعيّ فليس هناك إطلاق يتمسّك به فعدم الدليل على نفوذ قضائه كاف في المقام و لا نحتاج إلى الدليل على عدم الصحّة.

الاستدلال على عدم الاشتراط

و يمكن الاستدلال على عدم الاشتراط بنصب علي عليه السلام شريحاً على مقام القضاء أو إبقائه عليه، و طبع الحال يقتضي أنّه أبقى سائر القضاة المنصوبين قبله على مناصبهم حتّى أنّ الإمام ربّما كان يرفع الشكوى إليه روى عبد الرحمن بن الحجّاج أنّ عليّاً كان قاعداً في مسجد الكوفة فمرّ به عبد الله بن قفل التميمي و معه درع طلحة فقال علي عليه السلام: «هذه درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة» فقال له عبد الله

بن قفل: اجعل بيني و بينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين فجعل بينه و بينه شريحاً .... «4»

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالفعل إنّما يصح إذا علمت جهته إذ من

______________________________

(1) الإمام الخميني: تحرير الوسيلة: 2/ 407.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 39

المحتمل أنّ الإبقاء كان لضرورة اجتماعية دعت الإمام إلى إبقاء شريح مقامه و لأجل ذلك أفهمه تلويحاً بأنّه ليس لائقاً لهذا المنصب و قال: «جلست مجلساً لا يجلس فيه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ». «1» و في مورد آخر شرط عليه أن لا ينفذ قضاءه حتى يعرضه 2 عليه. و عندئذ لا يبقى اطمئنان بأنّ وجه النصب هو صلاحيته في نفسه مع قطع النظر عن الضرورة الاجتماعية.

إكمال

لا شكّ في استفاضة الروايات في أنّه لا يجوز الرجوع إلى غير فقهاء الشيعة، و هي مبثوثة في أبواب صفات القاضي لكن يقع الكلام فيما هو المانع و هو مردّد بين الأمور التالية:

1- العقيدة المخالفة للحق.

2- اعتماده على أُصول لا نقول بحجّيتها.

3- كونه منصوباً من جانب حكّام الجور.

و تختلف النتيجة حسب اختلاف الموضوع، فلو كان المانع، هو الأوّل، يلزم حرمان كل فقيه غير إمامي و لو كان الثاني، يتحدّد الحرمان بما إذا قضى بأُصول غير مرضية، بخلاف ما إذا التزم بأُصول صحيحة و رفض القياس و الاستحسان، و قول الصحابي بما هو صحابي من دون ثبوت صدوره عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و غير

ذلك، و على الثالث يختص الحرمان بما إذا كان منصوباً من جانبهم، و إلّا فلو كان قاضياً حرّاً و إن قضى بأُصول باطلة، لما أخل.

و لكن لم نجد ما بأيدينا من الروايات ما يعتمد على الوجه الأوّل، و إنّما السبب في النهي عن الرجوع إليهم يدور بين الأُمور التالية:

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 40

1- الإفتاء بغير علم و القضاء بلا وعي و قد عقد صاحب الوسائل باباً بهذا العنوان و قال: باب عدم جواز القضاء و الإفتاء بغير علم بورود الحكم عن المعصومين «1».

2- الإفتاء بغير الكتاب و السنّة و قد عقد صاحب الوسائل باباً له. «2»

3- القضاء بالمقاييس و الاستنباطات الظنّيّة و قد عقد أيضاً باباً له. «3»

و هذه الجهات الثلاث يرجع إلى الملاك الثاني و هناك بعض الروايات ما يؤيد كون الملاك هو الثالث و قد عقد صاحب الوسائل باباً لذلك. «4»

روى أبو بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام قول الله عزّ و جلّ في كتابه: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ) «5» فقال: «يا أبا بصير إنّ الله عزّ و جلّ قد علم أنّ في الأُمّة حكّاماً يجورون أما إنّه لم يعن حكّام أهل العدل و لكنّه عنى حكّام أهل الجور». «6»

و على كل تقدير فلو كانت الروايات الناهية قاصرة الدلالة على المنع المطلق، فلا يخلّ بالمقصود لما عرفت من أنّ الجواز يحتاج إلى الدليل و عدمه كاف و لا يحتاج عدم الجواز إلى الدليل.

نحن نفترض أنّ هذه الروايات الناهية واردة في الملاكين الأخيرين غاية

الأمر تكون النتيجة عدم دلالتها على المنع المطلق، و لكنّه غير كاف في إثبات جواز التصدي، لأنّ الجواز يطلب الدليل و عدمه كاف في كون الأصل الأوّلي محكّماً.

و على فرض المنع، فهل لا يجوز نصبه حتى على أهل نحلته أو يختصّ

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب صفات القاضي.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي.

(5) البقرة: 188.

(6) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 41

التحريم، بما إذا نصب على غيرهم من الشيعة؟ وجهان. و قد تقدّم نظيره في قضاء الكافر على أهل نحلته. و هاتان المسألتان تطلبان بحثاً واسعاً تستمدان من قوله سبحانه: (فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة/ 42).

الشرط الخامس: العدالة

و قد اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا الشرط:

منهم من جعل الفسق مانعاً كما عليه الشيخ في المبسوط و ابن إدريس في السرائر.

و منهم من جعل العدالة شرطاً، كالمحقق في الشرائع و العلّامة في القواعد، و السيد الأُستاذ في التحرير.

و منهم من عبّر بالموصوف مكان الوصف و قال ديّناً و ورعاً كابن سعيد في الجامع «1» و منهم من عبّر بالورع. «2»

و الظاهر أنّ التعابير من قبيل التفنّن في العبارة و الكل يشير إلى أنّه يلزم أن تكون للقاضي حالة نفسانية تصدّه عن ارتكاب المحرّمات و اقتراف المعاصي خوفاً من الله و خشية منه أو ما يقرب من ذلك

و لم يختلف فيه اثنان و لأجله أرسله صاحب المفتاح إرسال المسلّم بلا إيعاز إلى مخالف و قال: و أمّا الفاسق فيشمل المؤمن و غيره، من غير فِرَق المسلمين، أمّا المؤمن الفاسق فلعدم ثقته و صلاحيته في الصلاة و الشهادة و الإفتاء فالقضاء أولى. «3»

______________________________

(1) تقدّمت مصادر كلماتهم عند البحث عن شرطية الإيمان.

(2) أبو الصلاح: الكافي: 423.

(3) العاملي: مفتاح الكرامة: 10/ 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 42

و قد أدى حقّ المقال في هذا التعبير الموجز و إليك التفصيل:

يدلّ على الاشتراط أُمور:

1- التصريح بالاشتراط في رواية سليمان بن خالد «1» و أخذه أمراً مسلّماً في مقبولة ابن حنظلة «2»، حيث قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما» و قد جعل التفاضل فيها مرجحاً.

2- كونه شرطاً في المفتي و الشاهد، و إمام الجماعة و في الولاية على القُصَّر و الغيّب و التقسيم «3» يقتضي اشتراطه في القضاء بوجه أولى، لأنّ القاضي بيده الدماء و الأعراض، و الأموال و الحقوق و أين هو من إمام يصلّي و يترك كل شي ء للمأموم.

3- طبع الموضوع يقتضي الاشتراط لخطورته و عظمته كما مرّ مراراً.

و ظاهر الأدلّة، كونه عادلًا على وجه الإطلاق، لا أن يكون أميناً و محترزاً عن الحكم بالباطل فقط و مع ذلك ربّما يقترف المعاصي إذ مع كونه خلاف المتبادر انّ الأصل هو عدم نفوذ القضاء إلّا من دلّ على نفوذه دليل قطعي و هو العادل المطلق.

و ذكر المحقّق وراء العدالة اشتراط الأمانة و المحافظة على فعل الواجبات و قد عرفت كونهما داخلين ضمن العدالة.

الشرط السادس: طهارة المولد

قال المحقّق: لا ينعقد القضاء لولد الزنا مع تحقّق حاله كما لا تصحّ إمامته

______________________________

(1) الوسائل: الجزء

18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 12، الباب 16 من أبواب عقد البيع، الحديث 1، حديث اسماعيل بن سعد الأشعري و الجزء 13، الباب 88 من أبواب الوصايا، الحديث 2 حديث سماعة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 43

و لا شهادته في الأشياء الجليلة. «1» و ادّعى في الروضة عليه الإجماع قال في شرح قول الشهيد: «الفقيه الجامع للشرائط» و هي: البلوغ و العقل و الذكورة و الإيمان و العدالة و طهارة المولد إجماعاً «2» و قال في المسالك: أمّا طهارة المولد فلقصور ولد الزنا عن تولّي هذه المرتبة حتى أنّ إمامته و شهادته ممنوعتان فالقضاء أولى. «3»

إنّ مقتضى العمومات هو جوازه، إذا كان إماميّاً و المنع يتوقّف على الدليل على خلاف المسألة السابقة، و قد استدل على المنع بأُمور ثلاثة:

1- الإجماع: و قد حكاه في الروضة و لم يتعرّض العاملي في المفتاح لأيّ خلاف، و هو كما ترى، لعدم ذكر لفيف من الفقهاء هذا الشرط كالشيخ في المبسوط. «4» و ابن سعيد في الجامع. «5»

2- الأولوية: لأنّه إذا لم يجز له التولية لإمامة الصلاة على ما استفاضت الروايات عليه و لم تقبل شهادته، فالقضاء أولى ففي صحيح زرارة: لا يصلين أحدكم خلف المجنون و ولد الزنا «6»، و في صحيح ابن مسلم قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «لا تجوز شهادة ولد الزنا». «7»

3- نفور طباع الناس منه و لكنّه فرع علم الناس به. و المسألة قليلة الفائدة. و هناك نكتة نفيسة لا بدّ من الإشارة إليها: و هي إنّ وليد الزنا تنعقد

نطفته في حال يعلم والده أو أُمّه أو كلاهما أنَّهما ينقضان القانون، و يكسران عهداً من عهود الله، و هو إحساس ينتقل عن طريق النطفة إلى الوليد طبقاً لقانون التوارث الطبيعي، فيخرج المولود من الزناء مختمراً بحس نقض العهد و اختراق القانون و ينشأ و يشبّ

______________________________

(1) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 67.

(2) الروضة: 3/ 62.

(3) المسالك: 2/ 389.

(4) المبسوط: 8/ 99.

(5) الجامع: 529.

(6) الوسائل: الجزء 5، الباب 14 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2 و لاحظ 1، 4، 5، 6.

(7) الوسائل: الجزء 18، الباب 31، من أبواب الشهادات الحديث 3 و لاحظ أيضاً الحديث 1، 4، 5، 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 44

عليها و إلى ذلك يشير الإمام الصادق عند التحدث عن ولد الزنا: «إنّه يحنّ إلى الحرام، و الاستخفاف بالدين و سوء المحضر». «1»

فإذا كانت هذه نفسيته و حالته التي يحملها، فكيف يجوز أن تفوّض إليه مقاليد القضاء ليحكم في النفوس و الأعراض و الأموال و الحقوق؟!

نعم هذه الحالة أرضية مناسبة للانحراف و الشذوذ، و مقتض للفساد و الإفساد و ليست بعلّة تامّة إذ في وسعه تطهير نفسه من الشوائب العالقة بطبيعته فلا يوجب ذلك جبراً في حياته و شقائه.

و لأجل هذا نرى أمير المؤمنين يؤكّد على مالك أن يختار للحكم أفضل رعيته و يقول: «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور». «2»

و يوصي له في جميع عمّاله بانتخاب ذوي الأحساب و يقول: «ثمّ ألصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة، ثمّ أهل النجدة و الشجاعة، و السخاء و السماحة، فإنّهم جماع من الكرم، و شعب من

العرف. 3

نعم يبقى هنا شي ء و هو أنّ هذا التسالم بين فقهائنا، كيف يجتمع مع ما روي عن علي عليه السلام أنّه نصب زياد بن أبيه على ولاية فارس؟ و ليس القضاء بأعظم من الولاية و ربّما كان الوالي قاضياً. و المعروف أنّه وليد الزنا.

روى علي بن محمد المدائني قال: لمّا ولّى علي عليه السلام زياداً فارس أو لبعض أعمال فارس ضبطها ضبطاً صالحاً وجبى خراجها و حماها. 4

و قد كتب الإمام إليه رسالة عند ما كان زياد خليفة ابن عباس في البصرة

______________________________

(1) القمي: السفينة: 1/ 560.

(2) 2 و 3 نهج البلاغة: قسم الرسائل: 1. برقم 53.

(3) 4 ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: 16/ 181.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 45

و كان عبد الله بن عباس عامله عليها و على كور الأهواز و فارس و كرمان. «1»

و كتب رسالة أُخرى إليه عند ما بلغه أنَّ معاوية كاتبه ليستلحقه بأبيه أبي سفيان. 2

و يشهد على ذلك أنّه كان يدعى زياد بن عبيد و هو زوج أُمّه (سميّة) و لماّ استلحقه معاوية قيل ابن سميّة و كانت أُمّه تحت عبيد و ربّما قيل إنّ نسبة زياد لغير أبيه لخمول أبيه. 3

أمّا أنّه كان غير طيب المولد فقد روى البلاذري قال: تكلّم زياد و هو غلام حدث بحضرة عمر كلاماً أعجب الحاضرين فقال عمرو بن العاص: لله أبوه لو كان قرشياً لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: أما و الله انّه لقرشي و لو عرفته لعرفت أنّه خير من أهلك فقال: و من أبوه؟ أنا و الله وضعته في رحم أُمّه فقال: فهلا تستلحقه قال: أخاف هذا العير الجالس أن يخرق

عليَّ إهابي. 4

و يمكن استظهار كون زياد وليد الزنا من قول الإمام الطاهر أبي الشهداء الحسين بن علي عليهما السَّلام: «و قد ركزني الدعيّ بن الدعيّ بين الاثنتين: السلّة و الذلّة و هيهات منّا الذلّة». 5 و المراد منهما هو عبيد الله بن زياد.

و يمكن أن يقال: إنّ الدعيّ ليس مرادفاً لابن الزنا بل هو كما يقول الطريحي: الدعيّ من تبنّيتَه، و الأدعياء جمع «دعي» و هو من يدّعي في نسب كاذباً. 6 و في أقرب الموارد: الدعيّ من تبنيته أي جعلته ابناً لك، و المتّهم في نسبته، و الذي يدعي (يدعيه) غير أبيه و الجمع أدعياء 7 و أُمّه و إن كانت زانية و قد زنى بها أبو سفيان لكن لما لم يثبت كونه متخلّقا من مائه، صار محكوماً بكونه ابن أبيه

______________________________

(1) 1 و 2 نهج البلاغة: برقم 20 و 44.

(2) 3 ابن أبي الحديد: شرح النهج 16/ 180.

(3) 4 ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: 16/ 181.

(4) 5 القمي، نفس المهموم: 132، الطبعة الأُولى.

(5) 6 الطريحي، مجمع البحرين: 1/ 144.

(6) 7 الخوري الشرتوتى: اقرب الموارد 13/ 337.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 46

(عبيد) شرعاً بحكم الولد للفراش و لأجل ذلك كتب الإمام رسالة إليه ينهاه عن قبوله قول معاوية كما عرفت. فكان مجهول النسب لا وليد الزنا قطعاً، فلا يكون نصبه دليلًا في المسألة.

و ممّا يدل على أنّه كان مجهول النسب و لكن محكوماً شرعاً بالانتساب إلى الأب ما روي عن الحسن البصريّ: انّه ثلاث كنّ في معاوية لو لم تكن فيه إلّا واحدة منهن لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأُمّة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها. و استلحاقه

زياداً مراغمة لقول رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «الولد للفراش و للعاهر الحجر». و قتله حجر بن عدي فيا ويله من حُجر و أصحاب حُجر «1».

و قد كتب الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية رسالةً يندد فيها بأعمال معاوية و ممّا جاء فيها قوله: «أ و لست المدّعي زياداً في الإسلام فزعمت أنّه ابن أبي سفيان؟! و قد قضى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّ الولد للفراش و للعاهر الحجر» «2».

و على ذلك كان زياد مجهول النسب، و لمّا لم يعلم كونه وليد الزنا قطعاً، فصار محكوماً بكونه وليد الفراش أعني زوج أُمّه «عبيد» فلا يكون مورداً للنقض.

الشرط السابع: الذكورة
اشارة

اشتهر القول باشتراط الذكورة في القاضي و يظهر من الشيخ أنّ المسألة خلافية بين الفقهاء. قال: لا تجوز أن تكون امرأة قاضية في شي ء من الأحكام و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية في كل ما يجوز أن تكون شاهدة فيه و هو جميع الأحكام إلّا الحدود و القصاص، و قال ابن جرير: يجوز أن تكون قاضية في كل ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه لأنّها من أهل

______________________________

(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: 16/ 193.

(2) ابن قتيبة: الإمامة و السياسة: 1/ 165.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 47

الاجتهاد. «1»

و قال ابن قدامة: إنّ المرأة لا تصلح للإمامة العظمى، و لا لتولية البلدان و لهذا لم يولِّ النبيّ و لا أحد من خلفائه و لا من بعدهم امرأة للقضاء و لا ولاية بلد فيما بلغنا، و لو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً. «2»

و لما

كانت المسألة مما أثارت جدالًا و نقاشاً بين الجامعيين و الجدد من الناس، لا بأس بالبحث عنها في إطار الأدلّة الشرعيّة و قد أجمل الأصحاب فيها الكلام و ما قاموا بحقّها كما هو حالهم أنار الله برهانهم في سائر المسائل:

و لنذكر بعض الكلمات في المقام:

قال الشيخ في المبسوط: الشرط الثالث في القاضي أن يكون كاملًا في الأمرين: كمال الخلقة و الإحكام ... و أمّا كمال الاحكام فإن يكون بالغاً عاقلًا حرّاً ذكراً فإنّ المرأة لا ينعقد لها القضاء بحال. و قال بعضهم: يجوز أن تكون المرأة قاضية و الأوّل أصحّ، و من أجاز قضاءها، قال يجوز في كلّ ما تقبل شهادتها فيه و شهادتها تقبل في كل شي ء إلّا في الحدود و القصاص.

و مع ذلك لم يذكره المفيد في المقنعة، «3» و لا الشيخ في النهاية 4، و لا الحلبي في الكافي 5 و لا ابن إدريس في السرائر 6 و لا العلامة في المختلف. 7

نعم ذكره لفيف من المتأخرين و إليك نصوصَهم:

قال المحقّق في الشرائع: و يشترط فيه البلوغ و ... و الذكورة. 8

و قال العلّامة في التحرير: و يشترط فيه البلوغ ... و الذكورة، و لا ينعقد القضاء

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: كتاب القضاء المسألة 6.

(2) المغني: 10/ 127.

(3) 3، 4، 5، 6، 7 لاحظ المقنعة: 721، و النهاية: 337، و الكافي: 420، و المهذب: 2/ 597، المختلف 4/ 76.

(4) 8 نجم الدين: الشرائع: 4/ 67.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 48

للمرأة في الحدود و غيرها. «1»

و قال في القواعد: و يشترط فيه البلوغ و العقل و الذكورة. «2»

و أنت إذا لاحظت الكتب المؤلفة في هذه العصور أو بعدها ترى أنّها متّفقة على

اشتراطها إمّا بالتصريح أو بأخذ الرجل في التعريف، مثلًا، قال ابن سعيد: إذا كان الرجل عاقلًا بصيراً كاملًا كاتباً عالماً بالقضاء، ديّناً ورعاً فهو أهل لولاية القضاء. «3»

و قال الشهيد في المسالك: و لا ينعقد القضاء للمرأة و إن استكملت الشرائط أي الشرائط المعتبرة في القضاء غير الذكورية و هو موضع وفاق، و خالف فيه بعض العامة فجوّز قضاءها فيما تقبل شهادتها فيه. «4»

و قال في مفتاح الكرامة: أمّا المرأة فلما ورد في خبر جابر عن الباقر عليه السلام و لا تولّى القضاءَ المرأةُ و قد أنكر الدليل المقدّس الأردبيلي إن لم يكن إجماع و هذا خبر منجبر بالشهرة العظيمة إن أنكر الإجماع. «5»

إلى غير ذلك من هذه الكلمات ممّا لا نطيل المقام بنقلها، و الظاهر أنّ الشهيد الثاني استثنى الذكورة عن موضع الوفاق بين الفريقين لمخالفة أبي حنيفة في المسألة لا أنّه موضع خلاف بين الإمامية، و المحقّق الأردبيلي إن أنكر فإنّما أنكر صحّة الخبر لا الإجماع قال: و أمّا اشتراط الذكورة فذلك ظاهر فيما لم يجز للمرأة فيه أمر و أمّا في غير ذلك فلا نعلم دليلًا واضحاً نعم ذلك هو المشهور فلو كان إجماعاً فلا بحث. «6»

______________________________

(1) العلّامة الحلّي، التحرير، ص 179.

(2) العاملي، مفتاح الكرامة، ج 10، ص 9، قسم المتن.

(3) ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع، ص 522.

(4) المسالك، ج 2، ص 283.

(5) السيد جواد العاملي، مفتاح الكرامة، ج 10، ص 9.

(6) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 49

نعم الإجماع في هذه المسألة مستند إلى الآيات و الروايات و السيرة الموجودة بين المسلمين حيث لم تُرَ قاضية بين المسلمين على منصَّة القضاء، و

إلى سائر الجهات التي تدعم عدم صلاحيتها للقضاء فيصبح الإجماع مدركياً لا تعبدياً، و لا محيص للفقيه عن دراسة الأدلّة.

هذا و أنّ الأصل الأوّلي في المقام هو عدم الجواز فعلى المجوّز إقامة الدليل، إذ العمومات الواردة في القاضي المنصوب منصرفة إلى الرجال و هي بينما ورد فيه لفظ «منكم» كما في مقبولة ابن حنظلة «1» أو «رجل» كما في رواية أبي خديجة «2» فهذان التعبيران، لو لم يدلا على اختصاص القضاء بالرجل فلا أقلّ أنّها منصرفة عن المرأة، و يؤيد الانصراف عدم التعارف، إذا لم تر في زمن الخلفاء و لا بعدهم امرأة تتولى مهمّة القضاء و ما قيل من أنّ مدار الانصراف، كثرة الاستعمال و ندرته، لا كثرة الوجود و قلّته، لو تمّ، فالمقام من موارد عدم الوجود لا قلّته. فلو كان هذا المقدار كافياً في عدم الجواز فالفقيه في فسحة من الاستدلال بالآيات و الروايات، و إلّا فإن استشكل في انصراف العمومات فلا محيص من دراسة سائر الأدلّة و لنذكر ما يمكن الاستدلال به على المنع

و لنقدّم البحث عن الآيات:
الآية الأُولى: (الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ)
اشارة

إنّ الحياة الإنسانية في المجتمع لا تدوم إلّا على منهج سيادة الرجال على النساء بما أودع الله في فطرة كل منهما ما هو الأحسن و الأصلح بنظام التكامل في الوجود، و يدل عليه قوله سبحانه: (الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ فَالصّٰالِحٰاتُ قٰانِتٰاتٌ حٰافِظٰاتٌ لِلْغَيْبِ بِمٰا حَفِظَ اللّٰهُ وَ اللّٰاتِي تَخٰافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضٰاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلٰا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيًّا كَبِيراً)

______________________________

(1) الوسائل، الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(2) الوسائل، الجزء 18، الباب 1 من

أبواب صفات القاضي، الحديث 5 و 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 50

(النساء/ 34) و الاستدلال رهن دراسة المواضع التالية:

المواضع الهامة الثلاثة في تفسير الآية
اشارة

1- ما هو المراد من كون الرجال قوّامين على النساء فهل هو بمعنى القيمومة لهنّ؟

2- ما هو ملاك القيمومة؟

3- إذا تبيّن ملاك القيمومة، فما هو إطار تلك الولاية فهل تختصّ بما يمت بالشئون الاجتماعية في حياة الزوجين و لا تتجاوز عن ذلك الإطار، أو يعمّ مطلق الشئون الاجتماعية من غير فرق بين الزوجين و غيرهما فالرجال على الإطلاق قوّامون على النساء في الحياة الاجتماعية من غير فرق بين الزوج و غيره؟

و إليك دراسة تلك المواضع، بشرح مفرداتها و جملها:

1- ما هو المراد من قوله سبحانه: الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ؟

«قوّامون» جمع «القوام» و هو و «قيّم» و قيّام بمعنى واحد، و المراد أنّ الرجال قائمون بشئون النساء قيام الولاة على الرعيّة في مجال التدبير و التأديب و الذبّ عن التعدي إليهن. يقال: قام الرجل على المرأة: قام بشأنها و ليس المراد من قيامهم بشأنهنّ هو انفاقهم عليهن لأنّه سبب الولاء لا مورده كما يشير إليه فيما بعد بقوله: «و بما انفقوا من أموالهم» بل المراد هو القيام بسائر الشئون ممّا تقوم عليه الحياة الاجتماعية التي تتوقف على العقل و التدبير، و القوّة و الاستطاعة و قد فسرت الآية بنحو ما ذكرنا و إليك بعض الكلمات:

1- قال الطبرسي: إنّ الرجال قيّمون على النساء، مسلّطون عليهنّ في التدبير و التأديب. «1»

______________________________

(1) الطبرسي: مجمع البيان 2/ 43.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 51

2 و قال ابن كثير في تفسير قوله سبحانه: (الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ) أي الرجل قيّم المرأة أي هو رئيسها و كبيرها و الحاكم عليها و مؤدبها إذا أعرجت. «1»

3- و قال الفيض في تفسيره: أي يقومون عليهنّ قيام الولاة على الرعيّة. «2»

إلى غير ذلك من الكلمات المترادفة.

إنّ مرجع القيمومة هاهنا،

ليس إلى تصويرهن كالمجانين و السفهاء و الأطفال، و تكون قيمومة الرجال عليهن، كقيمومة الأب و الجدّ إليهم بل مرجعها إلى قيمومة الوالي على الرعية، و الدولة على الشعب و ليس هنا من يتلقى ولاية الوالي عليه، نقصاً و تحقيراً، لأنّ الشعب المتفرق في البلد يحتاج إلى من يدبّر أمره و يؤدب خاطئه و يذبّ عن كيانه و شرفه و ماله. و مثله العائلة فالبيت مجتمع صغير في مقابل البلد الذي هو مجتمع كبير و الولاية عليه، كالولاية على الجماعة الكبيرة.

إذا عرفت مفاد القيمومة فلنرجع إلى الأمر الثاني من الأُمور الثلاثة.

2- ما هو ملاك القيمومة و السيطرة؟
اشارة

إذا دلّت الآية على قيمومة الرجال على النساء فلا بدّ لها من ملاك يبرّر تلك السلطة و إلّا فهما فردان من طبيعة واحدة، مصداقان لهما و قد ذكر الكتاب العزيز، لها ملاكين أشار إليهما بقوله: (بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ).

فهذان الملاكان يختلفان في أنّ الأوّل موهوبيّ و الثاني اكتسابي، بمعنى انّه سبحانه خصّهم بلا اختيار بفضيلة ثمّ هؤلاء قاموا بكسب فضيلة أُخرى.

الملاك الموهوبي

أمّا الملاك الخارج عن الاختيار فهو أنّه سبحانه فضّل الرجال على النساء في

______________________________

(1) ابن كثير: التفسير: 2/ 275.

(2) الفيض، تفسير الصافي: 1/ 353.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 52

مجالي التكوين و الخليقة، و التشريع و التقنين.

و مع أنّ المراد هو تفضيلهم على النساء يقول سبحانه (بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ)، و المقصود من البعض الأوّل هو الرجال و من الثاني هو النساء، و التنوين في «بعض» عوض عن الضمير. و إنّما عبّر بهذا دون أن يصرّح مثل ما قلناه، لأجل إفادة أنّ الطائفتين داخلتين تحت نوع أو جنس واحد، مشاركتين في الإنسانية و البشرية و لكن فُضِّلَ بعض أفراده على البعض الآخر منه، و بذلك استطاعت الآية أن تحفظ شأن المرأة و مقامها و تفيد أنّ تفضيل الرجال عليها لا يوجب دخولهما تحت طبيعتين أو جنسين متغايرين بل هما مع الوحدة في النوع و الجنس يختلفان في العوارض و الخصوصيات و هذا النوع من التعبير شائع في القرآن الكريم.

قال سبحانه: (أَنِّي لٰا أُضِيعُ عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). (آل عمران/ 195).

ثمّ إنّ مجرى هذا التفضيل الذي يخبر عنه سبحانه إمّا التكوين أو التشريع، أمّا التكوين

فيرجع إلى أمرين بهما فُضِّلَ الرجال على النساء، و هو العقل و الإدراك، و القدرة و الاستطاعة إذ لا شكّ أنّ عقول الرجال أكثر، كما أنّ قدرتهم على الأعمال الشاقّة أوفر، و ليس هذا شي ء ينكر و لو وجدنا هناك لفيفاً من النساء يفضلن على لفيف من الرجال في العقل و التدبّر أو وقفنا على نساء لهنّ المقدرة و الاستطاعة البالغة على أعمال شاقّة فلا يكون ذلك ملاكاً لتفضيل النساء على الرجال فإنّ الملاك في القضاء هو الغلبة الساحقة و الغالب على الرجال في مجال العقل و التدبير هو الزيادة على النساء فيهما، و لأجل ذلك فيهم من العقلاء ما ليس فيهنّ كما أنّ مقدرتهم على الأعمال الشاقّة أكثر، و بالجملة: الملاك المتوسطات من النساء و المتوسطون من الرجال.

1- قال الشيخ الطوسي: «و المعنى الرجال قوّامون على النساء بالتدبير

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 53

و التأديب لما فضّل الله الرجال على النساء في العقل و الرأي».

2- و قال الطبرسي «1» في تفسير قوله: (بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ) هذا بيان سبب تولية الرجال عليهنّ أي إنّما ولّاهم الله أمرهنّ لما لهم من زيادة الفضل عليهنّ بالعلم و العقل و حسن الرأي و العزم. «2»

3- و قال الزمخشري: إنّ الرجال يفضلون على النساء بالعقل و الحزم و العزم و القوّة و الفروسية، و الرمي و أنّ منهم الأنبياء و العلماء و فيهم الإمامة الكبرى و الصغرى. «3»

هذا كلّه هو التفضيل في التكوين. و أمّا التفضيل في التشريع فالراجع إلى الفقه الإسلامي يجد هناك تفوقاً للرجال على النساء نشير إلى لفيف منه:

أوضع عنهنّ الصلاة و الصوم في أيام خاصة لطروء

الضعف عليهنّ في ميدان العمل.

ب جعل شهادة امرأتين بمثابة شهادة رجل واحد و قال: (فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ) (البقرة/ 282).

ج خاطب الرجال بالنفر و الخروج، و قال: (انْفِرُوا خِفٰافاً وَ ثِقٰالًا وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ) (التوبة/ 41).

و خاطب النساء بقوله: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (الأحزاب/ 33).

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 1، ص: 53

د جعل الطلاق بيد الزوج و قال: «الطلاق بيد من أخذ بالساق» و العدّة بيد النساء.

ه جعل ميراث الذكر مثل حظّ الأُنثيين.

______________________________

(1) الطوسي: التبيان 3/ و الغاية من نقل عبارته، هو آخرها لا أوّلها لما مرّ الكلام فيه و الغرض بيان ملاك التفضيل.

(2) الطبرسي: مجمع البيان: 2/ 13.

(3) الزمخشري: الكشاف: 1/ 206.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 54

و جعل دية المرأة نصف دية الرجل.

ز رفع عنهنّ الجمعة و الجماعة.

ح خصّ الرجال بالنبوة و الخلافة.

إلى غير ذلك من التشريع المختلف الحاكي عن تفضيل بعضهم على بعض.

الملاك الاكتسابي

هذا كلّه يرجع إلى التفضيل بالملاك الأوّل و أمّا التفضيل بالملاك الثاني أي الملاك الاكتسابي فإليه أشار بقوله: (وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ) فالانفاق بالأموال في الحياة اليومية و في مجال المهر و من المعلوم مزية المنفِق على المنفَق عليه.

إلى هنا تمّ بيان ملاك القيمومة، و علمت أنّ أحدهما وهبيّ و الآخر اكتسابي و أنّ مرجع الأوّل تارة هو التكوين و أمر الخلقة و أُخرى إلى التشريع الإسلامي المبني على مصالح واقعية و إنّما المهم هو بيان مجال الولاية و إطارها و

أنّ قيمومة الرجل إلى أيّ مدى؟

و هنا نكتتان نلفت إليهما نظر القارئ قبل بيان حدِّها:

الأُولى: إنّ التشريع الإسلامي في مجال الرجل و المرأة يبتني على رعاية فطرتهما أوّلًا و المصالح الاجتماعية ثانياً، فلو رفع بعض التكاليف عنها فإنّما هو لأجل رعاية حالها أوّلًا أو المصالح الاجتماعية ثانياً، فهذا النوع من التشريع لا يعني الإطاحة بمقام المرأة فلو رفع الجهاد عنه فلأجل أنّ طبيعة المرأة طبيعة عاطفية حساسة لا يناسب الأعمال الشاقة البالغة الصعوبة، فلو جعل ميراثها نصف ميراث الرجل فلأجل مصلحة ملزمة في ميدان المعيشة فإنّ الرجل هو المتكفل في حياة العائلة و هو الباذل لكل ما يحتاجون إليه دون المرأة.

الثانية: إنّ رفع بعض التكاليف و إن كان يوجب حرمانها من الثواب و الأجر

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 55

الأُخروي لكن الإسلام تداركه بوضع وظائف أُخرى على عاتقها لو قامت بها لأدركت الثواب الفائت من الجهاد مثلًا و هناك حوار، بين وافدة النساء و النبي الأكرم حيث عرّفت نفسها بأنّها وافدة النساء و قالت: بأبي أنت و أُمي إنّي وافدة النساء إليك و اعلم نفسي لك الفداء أنّه ما من امرأة كائنة في شرق و لا غرب سمعت بمخرجي هذا إلّا و هي على مثل رأيي.

إنّ الله بعثك بالحقّ إلى الرجال و النساء فآمنّا بك و بإلهك الذي أرسلك، و إنّا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، و مقضي شهواتكم، و حاملات أولادكم، و أنّكم معاشر الرجال فُضِّلتم علينا بالجمعة و الجماعات و عيادة المرضى و شهود الجنائز و الحجّ بعد الحجّ و أفضل من ذلك، الجهاد في سبيل الله و أنّ الرجل منكم إذا خرج حاجّاً أو معتمراً

أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم و غزلنا أثوابكم و ربّينا لكم أموالكم فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟

فالتفت النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلى أصحابه بوجهه كله، ثمّ قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟

فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا أنّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا.

فالتفت النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إليها، ثمّ قال لها: انصرفي أيتها المرأة، و اعلمي من خلفكِ من النساء أنّ حسن تبعل إحداكنّ لزوجها و طلبها مرضاته و اتباعها موافقته، تعدل ذلك كلّه، فأدبرت المرأة و هي تهلّل و تكبّر استبشاراً. «1»

و لأجل ذلك التدارك يصفهنَّ سبحانه بقوله: (فَالصّٰالِحٰاتُ قٰانِتٰاتٌ حٰافِظٰاتٌ لِلْغَيْبِ بِمٰا حَفِظَ اللّٰهُ) (النساء/ 34).

فالصالحة عبارة عن القانتة، و المطيعة لزوجها إطاعة دائمة مهما أرادوا منهنّ ممّا له مساس بالتمتّع و سائر الجهات المرتبطة بشئون الحياة الزوجية و هي في مقابل

______________________________

(1) الدر المنثور: 2/ 153.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 56

قوله سبحانه: (وَ اللّٰاتِي تَخٰافُونَ نُشُوزَهُنَّ) (النساء/ 34).

(حٰافِظٰاتٌ لِلْغَيْبِ) أي يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه من النفس و المال. و إخراج الحكم و الأمر بصورة الوصف آكد في الوجوب.

قوله: (بِمٰا حَفِظَ اللّٰهُ) الباء للمقابلة، أي يقمن بما ذكر في مقابل ما حفظ الله لهم من الحقّ فأوجب عليهنّ الإطاعة و حفظ الغيب لهم.

3- سعة القيمومة و ضيقها

إلى هنا فرغنا من الأمرين المهمين: إثبات القيمومة، و ملاكها.

بقي الكلام في إطارها وسعتها و ضيقها فنقول:

إنّ ملاك القيمومة بعد الإمعان في الآية يتلخّص في مجموع أمرين:

1- بما فضل الله الرجال على النساء في مجال الإدارة و التدبير، و القدرة و الاستطاعة الجسمية.

2-

بما يقومون من عمل الانفاق على النساء.

فالملاك مجموع الأمرين فلأجلهما للرجال قيمومة على النساء.

و على ذلك تتحدد القيمومة بالحياة الاجتماعية للعائلة. فلو كان أمراً فردياً، كالغزل و الخياطة فلا ولاية له عليها، إذا لم يكن مانعاً عن تمكينها للاستمتاع. أو كان أمراً اجتماعياً و لكن خارجاً عن العلاقات الزوجية، كما إذا تصدى للوكالة عن الغير، و القضاء بين المتخاصمين الأجنبيين فهو خارج عن مفاد الآية لعدم ملاك للقيمومة في الغير، و لا في المتخاصمين على المرأة، حتى لا تصلح للوكالة و القضاء.

و بعد ثبوت اختصاص ملاك القيمومة بالأُمور الاجتماعية العائليّة. فهل تعمّ كل الأُمور و لو كان خارجاً عن إطار الزوجية أو تختص بهذا الإطار و هذا هو المهم؟

و بعبارة أُخرى: هل تختص الولاية بالعلاقات الزوجية و نظام العائلة؟ ففي كل أمر له صلة بهذا النظام، فالرأي هو رأي الزوج و له التسلط و السيطرة إلّا إذا

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 57

خالف الكتاب و السنة، و أمّا الخارج عن هذا الإطار فلا، سواء كان راجعاً إلى الحياة الفردية لكل من الزوجين، أو راجعاً لكل من الرجال و النساء و إن لم تكن بينهما علاقة الزوجية سواء أ كان من الأمور الفرديّة أم الاجتماعيّة ففيها الرجل و المرأة سواء.

أو أنّها تعمّ لجميع المجالات الاجتماعية و لا تختصّ بالحياة العائلية ففي الجهات العامة الاجتماعية التي لها صلة بما فضل الله به الرجال على النساء، لهم قيمومة عليهنّ؟ وجهان:

يؤيد الوجه الأوّل: مضافاً إلى مسألة الانفاق سياق الآية، فإنّه بصدد بيان وظائف الزوجين و شئونهما و إن كانت تستعين بلفظ الرجال و النساء لكن المقصود هو الزوجان يقول سبحانه: (وَ لِكُلٍّ جَعَلْنٰا

مَوٰالِيَ «1» مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ...) (النساء/ 33) أي لكل من الزوجين، فتأمل.

(الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ ... وَ اللّٰاتِي تَخٰافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ...) (النساء/ 34).

(وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا) (النساء/ 35).

فالموضوع في الآيات، هو الزوجان، و اعطاء القيمومة لواحد منهما، لا يعني كونه قيّماً في خارج هذا الإطار.

و يؤيده أيضاً شأن نزولها الذي نقله المفسّرون: نزلت في امرأة نشزت على زوجها فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي فقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لتقتصّ من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه فقال النبي: ارجعوا فهذا جبرائيل أتاني و أنزل الله هذه الآية فقال: أردنا أمراً و أراد الله أمراً و الذي أراد

______________________________

(1) الموالي: أي الأولى بالميراث.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 58

خير و رفع القصاص. «1»

و يؤيد الوجه الثاني: أنّ مورد الآية و إن كان خاصاً لكن الملاك الذي فضّل به الرجال على النساء عام يعم كل جهة اجتماعية ترتبط بحياة الرجال و النساء فعموم العلّة يعطي أنّ الحكم المبنيّ عليها أعني قوله: (الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ) (النساء/ 34) غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلتين جميعاً فالجهات العامة الاجتماعية الّتي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة و القضاء مثلًا إنّما تقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء و كذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدّة و قوة التعقّل. كل ذلك ما يقوّم الرجال على النساء.

و على هذا فقوله: (الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ

عَلَى النِّسٰاءِ) ذو إطلاق عام و أمّا قوله بعد: (فَالصّٰالِحٰاتُ قٰانِتٰاتٌ ...) الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل و زوجته فهو فرع من فروع هذا الحكم المطلق و جزئي من جزئياته، مستخرج منه من غير أن يتقيد به إطلاقه.

و مع ذلك «2» ففي النفس من عمومية الحكم أو إطلاقه شي ء و هو أنّ وقوع الحكم أعني: كون الرجال قوّامون على النساء في ثنايا الأحكام المربوطة بالزوجين، و كون الملاك الثاني للتفضيل و القيمومة هو الانفاق، المختصّ بالزوج، يصدّنا عن الحكم القاطع بإطلاقه.

و بعبارة واضحة: لو كان سبب القيمومة هو الوجه الأوّل أعني الرجاحة في العقل، و القوة في التدبير، و القدرة في الدفاع لكان كافياً في ثبوتها لهم مطلقاً و لكنّها ليست هي السبب الوحيد، بل منضمّة إلى الانفاق و القيام بتجهيز وسائل الحياة،

______________________________

(1) مجمع البيان: 2/ 43 ط صيدا. نقله غيره أيضاً.

(2) الطباطبائي: الميزان: 4/ 365 و 366.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 59

و هو مختصّ بالزوجين. نعم لو كان كل سبباً مستقلًا لها، لعمت مطلق الرجال و النساء فلاحظ.

الآية الثانية: وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ

قال سبحانه: (وَ الْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلٰاثَةَ قُرُوءٍ وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ إِنْ أَرٰادُوا إِصْلٰاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/ 228).

الآية متضمنة لبيان أحكام الطلاق الرجعيّ و تذكر الأُمور التالية.

1- المطلّقة تتربّص ثلاثة أطهار و لا تتزوّج فيها لئلا يلزم اختلاط المياه و يفسد النسل، و القُرء في الآية بمعنى الطهر، لا الحيض خلافاً للعامّة و ذلك لأنّه من

القرء بمعنى الجمع، و الدم يجتمع أيام الطهر شيئاً فشيئاً حتى يقذفه الرحم أيام الحيض و الذي يدل على أنّه بمعنى الجمع، قوله سبحانه: (لٰا تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة/ 1816). و قال أيضاً: (وَ قُرْآناً فَرَقْنٰاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّٰاسِ عَلىٰ مُكْثٍ) (الأسراء/ 106). وجه الاستدلال أنّه سبحانه عبّر بالقرآن، و لم يعبّر بالكتاب أو الفرقان أو ما شابهما، للتناسب الموجود بين الجمع و القرآن في الآية الأُولى، و القرآن و التفريق في الآية الثانية.

2- تحرم عليهنّ كتمان الولد في الرحم استعجالًا في خروج العدّة أو اضراراً بالزوج في رجوعه.

3- للزوج الرجوع ما دامت هي في العدّة، و ليكن الرجوع لغاية الإصلاح لا للإضرار.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 60

4 و لهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف أي أنّ الحقوق بينهما متبادلة و لو استحق الزوج شيئاً عليها، فهي تستحق شيئاً آخر عليه. قال الطبرسي: و هذا من الكلمات العجيبة الجامعة للفوائد الجمّة و إنّما أراد بذلك ما يرجع إلى حسن العشرة و ترك المضارة و التسوية في القَسم و النفقة و الكسوة كما أنّ للزوج حقوقاً مثل الطاعة التي أوجبها الله عليها له و أن لا تَدخل فراشَ غيره، و أن تحفظ ماءه فلا تحتال في إسقاطه.

5- و «1» للرجال عليهن درجة: أي منزلة فضيلة عليهنّ مع كون الحقوق بينهما متبادلة، و لمّا كان ذلك موهماً، لتساوي منزلتهما، دفع ذلك الوهم بأنّ للرجال عليهنّ منزلة و فضيلة و كون الحقوق متبادلة لا يقتضي تساويها في جميع المراحل الاجتماعية و لأجل ذلك صار سهم الذكر ضعف الأُنثى في الميراث، و حقّ

الطلاق بيد الزوج، و الرجعة موكولة إليه و لم يكتب الجهاد على المرأة لعدم تلائمه مع فطرتها إلى غير ذلك من الأُمور التي تثبت، تقدّم الرجل عليها في مجالات خاصة.

هذا كلّه يرجع إلى توضيح جمل الآية إنّما الكلام في عمومية قوله: «و للرجال عليهنّ درجة» بالنسبة إلى القضاء و فصل الخصومة و يمكن منعه لأنّها قضية موجبة جزئية، تصدق بوجود المنزلة للرجال في موارد خاصة كالميراث و الطلاق، و الجهاد و غيرها ممّا عرفت و لا يتوقف صدقها على حرمانها من القضاء فيكون التمسك بها في مورد المنع عن القضاء تمسّكاً بالدليل في الشبهة المصداقية.

نعم هناك وجه آخر للتمسّك ربّما يظهر من كلام العلّامة الطباطبائي قدَّس سرَّه و يمكن تقريره بالنحو التالي:

إنّه سبحانه يقول قبل هذه الجملة: (وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فلو قلنا إنّ المعروف هو العمل المطابق بالفطرة تكون الخلقة ميزاناً لتمييز مالها عمّا

______________________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 1/ 327.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 61

عليها، و لمّا كان أمر القضاء مما يطلب لنفسه العقل و الدراية الكثيرة بخلاف الحضانة و أمثالها فيكون للرجل في القضاء عليهن درجة دون الحضانة.

و لكن تفسير المعروف بما ذكره، غير واضح لأنّه كما يقول الراغب «1»: كل فعل يعرف حسنه بالعقل أو الشرع و المنكر ما ينكر بهما. و كون القضاء أمراً معروفاً بالنسبة إلى الرجل دون المرأة أوّل الكلام.

***

الآية الثالثة: قوله: وَ هُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ

قال سبحانه: (أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف/ 18).

لما ذكر قول المشركين بأنّ الله سبحانه اتخذ ممّا يخلق بنات و أصفاهم بالبنين ردّه سبحانه بوجهين:

1- كيف تصفونه بأنّه سبحانه اتخذ لنفسه بنات، مع

أنّ أحدكم إذا بشر بها ظلّ وجهه مسودّاً و هو كظيم؟ فإذا كان اتخاذ البنات أمراً حسناً، فَلِما ذا تتسوّد وجوهكم عند التبشير بها؟ و لو كان الاتخاذ قبيحاً فلِمَ تنسبونه إلى الله؟

2- كيف تصفونه سبحانه باتخاذ البنات، مع أنّ الأُنثى تنشأ و تشب في الحلية و في الوقت نفسه فهي في مقام المخاصمة و الاحتجاج ضعيفة التقرير، و التعلّق الشديد بها آية كونها موجودة حساسة عاطفية، ضعيفة التعقّل و مع ذلك فكيف تصفون الله باتخاذهم بنات؟

وجه الاستدلال: إنّ قوام القضاء بالاحتجاج و الجدال و تحقيق الحقّ و هو رهن منطق قوي و عقل واع، و المرأة فاقدة لذلك. لأنّ المتوسطين من الرجال أعقل من

______________________________

(1) الراغب: 331 مادة «عرف».

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 62

متوسطات النساء و أبين حجّة و أوضح بياناً فلا تصلح الثانية لها.

لكن كون القضاء رهن الاحتجاج و الجدال غير واضح خصوصاً إنّ القضاء في المحاكم يتوقف على الدقة في كلمات المترافعين و ما حول القضية من الأمارات و القرائن التي تثبت صدق دعوى المدعي أو كذبها و لا حاجة إلى جدال و لا يقوم على المناظرة.

هذا كلّه حول الآيات، و اتضح عدم دلالتها القطعية على المراد و إليك البحث في الروايات الواردة في المقام.

الاستدلال بالروايات

1- ما رواه الصدوق في الفقيه بإسناده عن حمّاد بن عمرو، و أنس بن محمد عن أبيه عن جعفر عن أبيه عن آبائه في وصية النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لعلي عليه السلام قال: يا علي! أُوصيك بوصية فاحفظها فلا تزال بخير ما حفظتَ وصيّتي إلى أن قال: ليس على المرأة جمعة و لا جماعة، و لا أذان

و لا إقامة و لا عيادة مريض و لا اتّباع جنازة و لا هرولة بين الصفا و المروة و لا استلام الحجر و لا حلق و لا تولي القضاء و لا تستشار «1» ببيان أنّه بصدد بيان نفي التشريع بقرينة بعض ما جاء فيها كالحلق.

لكنّها ضعيفة سنداً و دلالة أمّا الأوّل فلأنّ حمّاد بن عمرو سواء كان الصنعائي أو الكوفي مجهول. و مثله أنس بن محمد، و ليس له رواية في الكتب الأربعة إلّا هذه الرواية «2» على أنّ في سند الصدوق إليهما مجاهيل يظهر من الرجوع إلى المشيخة فانّ فيها: «و ما كان فيه عن حمّاد بن عمرو و أنس بن محمّد في وصية النبي لأمير المؤمنين عليه السلام فقد رويته عن محمّد بن علي الشاه بمروالرود، قال: حدّثنا أبو حامد أحمد بن محمّد بن أحمد بن الحسين، قال: حدثنا أبو يزيد أحمد بن

______________________________

(1) تنقيح المقال: 1/ 155.

(2) الوسائل، الجزء 18، الباب 2 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 63

خالد الخالدي، قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن صالح التميمي قال: أخبر محمّد بن حاتم القطّان، عن حمّاد بن عمرو عن جعفر بن محمّد الخ.

قال: و رويته أيضاً عن محمد بن علي الشاه، قال: حدّثنا أبو حامد، قال: أخبرنا أبو يزيد، قال: أخبرنا محمّد بن صالح التميمي قال: حدّثنا أبي قال: حدّثني أنس بن محمد أبو مالك عن أبيه عن جعفر بن محمّد. «1»

و أمّا الثاني فلأنّ الظاهر أنّ المرفوع هو الوجوب بقرينة أكثر ما جاء فيه من الأذان و الإقامة و اتباع الجنازة و عيادة المريض، إلّا الحلق فإنّه محرّم عليها.

2- ما رواه

جابر عن الباقر عليه السلام: «و لا تولّى المرأة القضاء و لا تولّى الإمارة «2» و هي مرسلة لا تصلح للاحتجاج.

3- ما في نهج البلاغة في الوصية التي كتبها الإمام لولده الحسن عند منصرفه من صفين بحاضرين: «و لا تملك المرأة ما جاوز نفسَها فإنّ المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة» و المراد الأُمور الخارجة عن قدرتها. و كون القضاء من مصاديقه أمر مشكوك فلا يمكن التمسّك به.

نعم قال صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قُبيل تلك الجملة: «و إيّاك و مشاورة النساء فإنّ رأيهن إلى أفن «3» و عزمهنّ إلى وهن». «4» و لكن النهي عن المشاورة بمعنى أن تقع طرف المشاورة، و القضاء يجرها إلى المشاورة، لا أن تكون طرف المشاورة.

4- ما رواه البخاري مسنداً و احتجّ به الأصحاب في الكتب الاستدلالية عن أبي بكرة قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله أيام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأُقاتل معهم قال: لمّا بلغ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّ أهل فارس قد

______________________________

(1) الفقيه، ج 4، قسم المشيخة، ص 134.

(2) المجلسي: البحار: 103/ 254، الحديث 1.

(3) الأفن بسكون الفاء: النقص و بالتحريك ضعف الرأي.

(4) نهج البلاغة، قسم الرسائل: الرسالة 33

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 64

ملّكوا عليهم بنت كسرى قال: لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة. «1»

و الرواية على فرض القبول لأجل استناد الأصحاب إليها في الكتب الاستدلالية، تنهى عن الحكومة العامة و الولاية المطلقة على البلد و المدينة و أين ذلك من مراجعة النساء لحلّ العقد، إلى امرأة في قرية أو مدينة و من المعلوم أنّ ثبوت الحكم

في القوي لا يلازم ثبوته في الضعيف.

إذا عرفت ذلك فلنا أن نقول بعد هذا البحث الضافي:

1- إنّ كل واحد من هذه الأدلّة و إن كان غير واف بالمراد، و غير صالح للاستدلال، لكن حكم المجموع غير حكم كل فرد، و لعلّ المجموع من حيث هو، كاف في إفادة الاطمئنان على عدم صلاحيتها للقضاء و هذه هي السيرة المستمرة بين الفقهاء في أمثال المقام إذ ربما لا تكون الأدلّة إذا لوحظت بانفرادها مفيدة للاطمئنان لعدم خلوّها عن المناقشة لكن إذا لوحظت بصورة المجموع، ربّما تكون قوة دلالة البعض جابرة لضعف دلالة الآخر و بالعكس، أي قوّة سند البعض جابرة لضعف سند الآخر فيتفاعلان و يؤثران.

2- التمسّك بالسيرة المستمرة بين المسلمين عبر القرون، فإنّ السيرة و إن كانت على الإيجاب في جانب الرجل، و هي بوحدتها لا تسلب الصلاحية عن المرأة لكن استمرارها على نصب الرجال دون النساء، ربّما تحمل بياناً سلبياً بالنسبة إلى المورد الآخر.

3- إنّ الأصل الأوّلي في باب القضاء هو عدم الجواز، فعلى القائل بالجواز إقامة الدليل، لا على النافي لما عرفت من أنّ الأدلّة الواردة في زمان عدم بسط اليد، واردة في مورد الرجل أو منصرفة إليها.

أضف إلى ذلك أنّ ممارسة القضاء للمرأة لا تخلو في زماننا هذا عن

______________________________

(1) البخاري: الصحيح، ج 6؛ كتاب المغازي/ 10 و غيره.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 65

مضاعفات تحطّ من منزلتها و كرامتها و تقواها و تجعلها في مقربة ممّا لا تحمد عاقبته كما لا يخفى إلّا إذا حدَّدت أعمالها بتخصيص رجوع النساء إليها. و لذلك يلزم عليهنّ الاشتغال في مراكز تحفظ كرامتهن.

الشرط الثامن: الاجتهاد
اشارة

هذا الشرط يعبّر عنه تارة بالاجتهاد المطلق و

أُخرى «بالعلم بجميع ما وليه» و سيوافيك أنّ الشرط الواقعي هو صدور القاضي عن الكتاب و السنة مباشرة و هو لا ينطبق في الأعصار المتأخرة إلّا على المجتهد دون المقلِّد و ما يبدو منّا من كون الشرط هو الاجتهاد فهو من باب المجاراة للقوم في الاصطلاح و إلّا فالشرط الواقعي هو ما ذكرناه.

و معنى الشرط عدم صلاحية المقلِّد لتصدي القضاء و لا المتجزي، و هو معروف بين الأصحاب لم يخالف فيه إلّا المحقّق القمي عند الاضطرار على ما حكاه المحقق الرشتي في قضائه «1» و يظهر من صاحب الجواهر جواز تصدّي المقلّد في موضع من كلامه «2» و قبل الخوض في الأدلّة نذكر كلمات الأصحاب:

1- قال الشيخ في الخلاف: لا يجوز أن يتولّى القضاء إلّا من كان عارفاً بجميع ما ولي و لا يجوز أن يشذ عنه شي ء من ذلك، و لا يجوز أن يقلّد غيره ثمّ يقضي به. و قال الشافعي: ينبغي أن يكون من أهل الاجتهاد و لا يكون عامياً و لا يجب أن يكون عالماً بجميع ما وليه و قال في القديم مثل ما قلناه. و قال أبو حنيفة: يجوز أن يكون جاهلًا بجميع ما وليه إذا كان ثقة و يستفتي الفقهاء و يحكم به، و وافقنا في العامي انّه لا يجوز أن يفتى به. «3»

______________________________

(1) الرشتي: كتاب القضاء: 29.

(2) النجفي: جواهر الكلام: 40/ 18.

(3) الطوسي: الخلاف، ج 3، كتاب القضاء، المسألة 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 66

2- و قال في النهاية: و ليس يثق أحد بذلك من نفسه حتّى يكون عاقلًا، كاملًا، عالماً بالكتاب و ناسخه و منسوخه، و عامِه و خاصِّه و إيجابه، و

محكمِه و متشابِهه، عارفاً بالسنّة و ناسخها و منسوخها، عالماً باللغة مضطلعاً بمعاني كلام العرب، بصيراً بوجوه الإعراب. «1»

3- و قال أبو الصلاح الحلبي في بيان شروط القاضي: العلم بالحقّ في الحكم المردود إليه، و التمكّن من إمضائه على وجهه، ثمّ قال: و اعتبرنا العلم بالحكم لما بيّناه من وقوف صحّة الحكم على العلم، لكون الحاكم مخبراً، بالحكم عن الله سبحانه، نائباً في إلزامه عن رسول الله. «2»

4- و قال ابن البراج: و القضاء لا ينعقد للقاضي إلّا بأن يكون من أهل العلم و العدالة و الكمال، و كونه عالماً بأن يكون عارفاً بالكتاب و السنّة و الإجماع و الاختلاف و لسان العرب. «3»

5- و قال ابن إدريس: و ليس يثق أحد بذلك من نفسه حتّى يكون عاقلًا، عالماً بالكتاب و ناسخه و منسوخه إلى آخر ما ذكره الشيخ في النهاية بلفظها. «4»

6- و قال المحقّق: و كذا لا ينعقد لغير العالم المستقل بأهلية الفتوى و لا يكفيه فتوى العلماء و لا بدّ أن يكون عالماً بجميع ما وليه و فسّره في الجواهر بقوله: أي مجتهداً مطلقاً كما فسره به في المسالك فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزي الاجتهاد.

7- و قال «5» العلامة في القواعد: و لا المرأة إن أجمعت باقي الشرائط و لا ولد الزنا و لا الجاهل بالأحكام و لا غير المستقل بشرائط الفتوى و لا يكتفي بفتوى العلماء

______________________________

(1) الطوسي: النهاية، كتاب القضايا و الأحكام: 337.

(2) الحلبي: الكافي: 422421.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 597.

(4) ابن إدريس: السرائر: 2/ 154.

(5) النجفي: الجواهر، 40، قسم المتن: 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 67

و يجب

أن يكون عالماً بجميع ما وليه. «1»

8- و قال الشهيد في المسالك عند قول المحقّق: «و كذا لا ينعقد لغير العالم» المراد بالعالم هنا المجتهد في الأحكام الشرعية و على اشتراط ذلك إجماع علمائنا و لا فرق بين حالة الاختيار و الاضطرار ثمّ قال و المراد بكونه عالماً بجميع ما وليه كونه مجتهداً مطلقاً فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزي الاجتهاد. «2»

9- و قال العاملي في مفتاح الكرامة عند شرح قول العلّامة: «و يجب أن يكون عالماً بجميع ما وليه» فالاجتهاد دون التقليد قوة قريبة أو فعلًا فلا يكفي التجزي إجماعاً كما هو ظاهر المسالك و الكفاية. «3»

10 و قال في الجواهر عند شرح قول المحقّق: «و كذا لا ينعقد لغير العالم المستقل بأهلية الفتوى» بلا خلاف أجده «4» إلى غير ذلك من الكلمات الحاكية عن اتّفاقهم على شرطية الاجتهاد المطلق في القضاء و سيوافيك من بعضهم ما يخالفه.

و قد اكتفى العلّامة في المختلف بنقل كلام الشيخ في المبسوط على تفصيله و لم يزد شيئاً عليه. «5»

أدلّة القول بشرطيّة الاجتهاد
اشارة

استدل القائل بشرطية الاجتهاد بأُمور:

الأوّل: الشهرة الفتوائية المحقّقة

لو لم نقل بوجود الإجماع من فقهائنا عليها

______________________________

(1) العاملي: مفتاح الكرامة، ج 10، قسم المتن: 9.

(2) الشهيد الثاني: المسالك: 2/ 389.

(3) العاملي: مفتاح الكرامة: 10/ 9.

(4) النجفي: الجواهر: 40/ 15.

(5) العلّامة: المختلف، كتاب القضاء، المسألة 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 68

و قد ذكرنا شيئاً من عبائرهم. لكن الاعتماد عليه مشكل لاحتمال استناد المجمعين على ما سيوافيك من الأدلّة النقلية.

الثاني: إنّ الأصل في القضاء هو المنع و لم يخرج منه إلّا العالم بالحكم لا الحاكي عن الغير
و تمامية الدليل يتوقف على دراسة ما ورد من الأدلّة في المقام و هي روايات معدودة
اشارة

و نأتي بالمهمّة منها:

الأُولى: مقبولة عمر بن حنظلة:

روى الكليني عن محمّد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحُصين عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان و إلى القضاة أ يحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً، و إن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، و ما أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) «1».

قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران (إلى) من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فانّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخف بحكم الله، و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على الله، و هو على حدّ الشرك بالله».

قلت: فإن كان كل واحد اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، و اختلفا فيما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

______________________________

(1) النساء/ 60.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 69

إلى أن قال:

قلت: جعلت فداك أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنّة، و وجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة و الآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال: «ما خالف العامّة ففيه الرشاد». «1»

أمّا من

جاء في السند فالكل غير الأخير أجلّاء ثقات و إليك ترجمتهم إجمالًا:

1- محمّد بن يحيى: هو العطار القمي شيخ الكليني و قد أكثر الرواية عنه.

2- محمّد بن الحسين هو ابن أبي الخطاب أبو جعفر الزيات الهمْداني جليل من أصحابنا عظيم القدر، و كثير الرواية ثقة عين حسن التصانيف مسكون إلى روايته «2» المتوفى عام (262) الثقة.

3- محمّد بن عيسى العبيدي اليقطيني الذي وثقه النجاشي و إن راب في حقّه استاذ الصدوق ابن الوليد و لا يعبأ به بعد توثيق النجاشي إيّاه و غيره.

4- صفوان بن يحيى، ثقة جليل توفي عام (210) غني عن الترجمة.

5- داود بن الحصين الأسدي هو أسدي الولاء كوفي المولد، قال النجاشي: ثقة روى عن أبي عبد الله و أبي الحسن و هو زوج خالة علي بن الحسن الفضال «3» و إن وصفه الشيخ بكونه واقفياً، إلّا أنّ النجاشي لم يتعرّض لوقفه و هو أضبط، فلم يبق في السند إلّا عمر بن حنظلة و هو لم يوثق و حاول الشهيد الثاني توثيقه بوجوه مذكورة في معجم رجال الحديث «4» و لكنّا في المقام في غنى عن توثيقه فقد تلقّى المشهور هذه الرواية بالقبول و لأجل ذلك سمّيت مقبولة، و عليها المدار في كتاب القضاء «5» و إتقان الرواية يكشف عن صدورها عن الإمام عليه السلام، و قد

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 و 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(2) رجال النجاشي 220: 2، برقم 898.

(3) رجال النجاشي 367: 1، برقم 419.

(4) الخوئي: معجم رجال الحديث 13/ 27، برقم 8720 فقد أتى بها و ضعّفها كلّها، فلاحظ.

(5) و لعلّ ما رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث

20 عن داود بن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 70

قلنا في محلّه إنّ الملاك هو الوثوق بالصدور، لا الوثوق بالراوي.

هذا هو حال السند و إليك دراسة المتن فنقول:

و المستفاد منه أنّ القاضي لا بدّ أن يتمتّع بشروط يجب الأخذ بجميعها:

1- يجب أن يكون شيعياً إماميّاً لقوله عليه السلام: «إلى من كان منكم» و بما أنّ الزيدية كانت منفصلة عن الإمام الصادق يوم صدور الرواية فلا تعمّهم الرواية و لا أضرابهم كالإسماعيلية و يكون المراد الفقيه الإمامي.

2- أن يحكم بحكمهم لقوله عليه السلام: «فإذا حكم بحكمنا» فلو كان موالياً لهم و لكن حكم بحكم فقهاء العامة، فلا ينفذ حكمه.

3- أن يكون راوياً لحديثهم لقوله عليه السلام: «روى حديثنا» و المتبادر كونه ممارساً لأحاديثهم، لا أنّه روى حديثهم مرّة أو مرّات، و نقل الحديث مقدّمة للشرط الآتي.

4- أن يكون صاحب النظر و الفكر في الحلال و الحرام لقوله عليه السلام: «نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا» و ليس المراد من النظر، الالتفات إليهما سطحياً، بل النظر في الحلال و الحرام و الحكم الشرعي المروي عنهم بإمعان و دقّة قال سبحانه: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ*) (آل عمران/ 137) و ممّا يؤيّد ذلك، استعمال لفظ «عرف» فانّه لا يستعمل إلّا في المورد الذي سبقه الاشتباه و الاختلاط و كل ذلك يخصّ المقبولة، بصاحب النظر المعبّر عنه بالمجتهد.

5- و بما أنّ الجمع المضاف يفيد العموم، فلا يكفي العلم بواحد أو اثنين من أحكامهم، بل يجب أن يكون على حدّ يقال إنّه عارف بأحكامهم و هو الفقيه العارف باستنباط جميع ما يبتلى به، و عند ذاك تكون المقبولة ظاهرة في

المجتهد

______________________________

الحصين عن أبي عبد الله بلا وساطة عمر بن حنظلة جزء من هذه الرواية، و ليس حديثاً مستقلًا سقطت الواسطة فيها.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 71

المطلق و قسم من المتجزئ.

6- و يؤيد ذلك الظهور قوله: كلاهما اختلفا في حديثكم فلو أُريد الاختلاف في مضمون الحديث فهو شأن الفقيه و إن أُريد الاختلاف في نقل الحديث فهو أيضاً لا ينفك عن الاجتهاد غالباً و إن لم يكن دائماً كذلك.

7- و يؤيد أيضاً قوله: «فالحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما».

8- و قوله: أ رأيت الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنّة.

و الناظر في جميع القيود الواردة في المقبولة يقف على أنّ الإمام عليه السلام نصب الفقيه الإمامي الذي يمارس الأحاديث و ينظر في الحلال و الحرام و يعرف الأحكام الصادرة عن الأئمة و يصدر في فتياه عن الكتاب و السنّة، قاضياً. و هذا لا ينطبق إلّا على الفقيه المستنبط لجميع الأحكام الشرعية او ما يقاربه فيما تبتلي به الأُمّة في فترات مختلفة.

الثانية: مشهورة أبي خديجة الأُولى

روى الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن أبي الجهم، عن أبي خديجة. قال: بعثني أبو عبد اللّه عليه السلام إلى أصحابنا فقال قل لهم: «إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شي ء من الأخذ و العطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، و إيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر». «1»

و الحديث لا غبار عليه من حيث السند فإنّ محمّد بن علي بن محبوب الأشعري ثقة عين فقيه كما قاله

النجاشي و أمّا الباقون أعني أحمد بن محمّد،

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 72

و الحسين بن سعيد فلم يشكّ في وثاقتهما أحد و أمّا أبو الجهم فهو أخو زرارة و اسمه بكير بن أعين من أصحاب الصادق عليه السلام و لما بلغه موته قال في حقّه: أما و الله لقد أنزله الله بين رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و أمير المؤمنين عليه السلام «1» و من أحفاده حسن بن الجهم.

ربما يقال: السند بظاهره مخدوش بوجهين:

1- كيف يصحّ أن يروي حسين بن سعيد الأهوازي عن أبي الجهم المتوفى في عصر الصادق عليه السلام فإنّ الحسين بن سعيد من أصحاب الإمام الرضا و الجواد و الهادي عليهم السَّلام و توفي الإمام الرضا عام 203، و الإمام الجواد عام 220 و الهادي عام 254 فكيف تصحّ روايته عمّن توفي في عصر الإمام الصادق عليه السلام الذي توفي عام 148 ففي السند سقط.

و لكن يمكن أن تستظهر الواسطة من سائر الروايات التي نقل فيها الحسين ابن سعيد عن بكير بواسطة أو بوسائط و إليك أسماءهم:

ا حريز بن عبد الله عن بكير. «2»

ب ابن أبي عمير عن عمر بن أُذينة عن بكير. «3»

ج حمّاد بن عيسى عن حريز عن عبد الله عن بكير. «4»

د صفوان عن عبد الله بن بكير عن أبيه بكير بن أعين. «5»

ه حمّاد بن عيسى عن عمر بن أُذينة عن بكير. «6»

و هؤلاء كلّهم ثقات

______________________________

(1) الكشي: 181.

(2) التهذيب، ج 2، ص 255، رقم 1012.

(3) الاستبصار، ج 1، ص 61، رقم 182.

(4) الاستبصار، ج 1، ص

248، رقم 892 و يحتمل أن يكون لفظ «عن» مصحف «بن» فالمراد حريز ابن عبد الله كما يحتمل أن يكون المراد عبد الله بن بكير.

(5) الاستبصار، ج 1، ص 430، رقم 1660.

(6) الاستبصار، ج 2، ص 270، رقم 960.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 73

و ربّما يتخيّل أنّ المكنّى بأبي الجهم غير «بكير» و أنّ المراد هو «ثوير بن أبي فاختة» و لكنّه لا يذب الإشكال لأنّه من أصحاب السجّاد و الباقر و الصادق و أبوه يروي عن علي. و لا طريق للتعيين إلّا التميز عن طريق الراوي عنه، و لو مع الواسطة، و ليس لحسين بن سعيد رواية عن أبي الجهم باسم ثوير بن فاختة، فتعين كون المروي عنه بكيراً.

2- إنّ سالم بن مكرم (بالفتح و إن كان المعروف على الألسن هو الكسر)، الذي يكنّى بأبي خديجة تارة و أبي سلمة أُخرى و قد كنّاه به أبو عبد الله عليه، اختلفت فيه كلمة الرجاليين.

قال النجاشي بعد ذكر كنيتيه: إنّه ثقة، ثقة روى عن أبي عبد الله و أبي الحسن عليهما السَّلام. «1»

و قال الكشي: سألت أبا الحسن علي بن الحسن عن اسم أبي خديجة قال: سالم بن مكرم فقلت له: ثقة؟ فقال: صالح، ثمّ ذكر أنّ أبا عبد الله قال له: لا تكنى بأبي خديجة. قلت: فبم أكتني؟ قال: بأبي سلمة. «2»

و عدّه البرقي من أصحاب الصادق عليه السلام قائلًا: أبو خديجة و يكنى أبا سلمة ابن مكرم.

هؤلاء الأقطاب الثلاثة من علماء الرجال اتفقوا على أمر و هو:

اتفق الكشي و النجاشي على أنّه ثقة و صالح.

إنّ أبا سلمة كنية نفس أبي خديجة أي سالم، و ليس كنية لأبيه (مكرم)

بل الإمام الصادق عليه السلام كنّاه بأبي سلمة. و على رأي هؤلاء فهو مقبول الرواية.

و أمّا التضعيف فقد نقله العلّامة عن الشيخ فقال: قال الشيخ إنّه ضعيف

______________________________

(1) النجاشي: الرجال 1/ 422421، برقم 499.

(2) الكشي: الرجال/ 301، برقم 201.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 74

و قال في موضوع آخر: إنّه ثقة ثمّ قال: الوجه عندي التوقف. «1»

و الظاهر أنّ الذي ضعّفه الشيخ غير الذي وثّقه الكشي و النجاشي و يعلم بالمراجعة إلى عبارته في كتابي الرجال و الفهرست.

قال في الأوّل: سالم بن مكرم أبو خديجة الجمّال الكوفي مولى بني أسد. «2»

و قال في الفهرست: سالم بن مكرم يكنى أبا خديجة، و مكرم يكنى أبا سلمة ضعيف إلى أن قال في بيان طريقه إلى كتابه ... عن عبد الرحمن بن أبي هاشم البزاز عن سالم بن أبي سلمة و هو أبو خديجة. «3»

ترى أنّ الشيخ جعل أبا سلمة كنية أبيه (مكرم) مع أنّ الأقطاب الثلاثة اتّفقوا على كونه كنية لنفس سالم فتخيّل الشيخ أنّ أبا خديجة، هو سالم بن أبي سلمة الذي ضعّفه ابن الغضائري و النجاشي، قال الأوّل: روى عنه ابنه، لا يعرف روى عنه غيره ضعيف جداً. «4»

و قال النجاشي: سالم بن أبي سلمة الكندي السجستاني حديثه ليس بنقي و إن كنّا لا نعرف منه إلّا خيراً له كتاب، ثمّ ذكر سنده إلى الكتاب و انتهى إلى قوله: «حدّثنا محمّد بن سالم بن أبي سلمة عن أبيه بكتابه». «5»

و الذي دفع الشيخ إلى تضعيفه تصوره اتحادهما، و أنّ سالم بن مكرم هو سالم ابن أبي سلمة الذي اتفقوا على ضعفه.

فأصبحت الرواية بحمد الله صالحة للاستناد.

______________________________

(1) الخلاصة: القسم الثاني: 227.

سيوافيك تنصيص الشيخ في الفهرست على الضعف.

(2) الطوسي: الرجال/ 209. باب السين، برقم 116.

(3) الفهرست: 105، برقم 339.

(4) العلّامة: الخلاصة، القسم الثاني: 228، برقم 4 في باب سالم.

(5) النجاشي: 1/ 427، برقم 507.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 75

هذا كله حول السند

و أمّا دراسة المتن فالظاهر من قوله: «عرف» هو المعرفة الفعلية لكون مبادي الأفعال ظاهرة فيها، و قوله: «حلالنا و حرامنا» ظاهر في العموم و لو لم يصح حمله على الاستغراق العقلي لأجل عدم كون الرواة في ذلك الزمان عارفين بجميع الأحكام، فلا محيص عن حمله على الاستغراق العرفي فيكون الموضوع هو العارف بالحلال و الحرام فعلًا، على حدّ يقال في حقّه قد عرف حلالنا و حرامنا، و بما أنّ مادّة العرفان تستعمل في الموارد التي تشتبه في أوّل الأمر ثمّ يقف الإنسان على الصحيح، فالمراد منه من له قوّة عرفان الحقّ عن الباطل و من يعرف من بين المشتبهات، الحقّ عن الباطل، و الحلال عن الحرام و هو يعادل صاحب النظر فلا يعم المقلّد.

و أمّا شموله للمجتهد المتجزئ فسيوافيك الكلام فيه.

الثالثة: مشهورة أبي خديجة الأخرى

روى الصدوق في الفقيه بإسناده عن أحمد بن عائذ أبي حبيب الأحمسي البجلي الثقة، عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليمها السَّلام: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً فتحاكموا إليه». «1» و رواه في الكافي غير أنّه قال: مكان (قضايانا) قضائنا. 2

و الرواية صحيحة و سند الصدوق إلى أحمد بن عائذ في الفقيه بالشكل التالي: عن أبي،

عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 76

الوشّاء، عن أحمد بن عائد. «1» و الكل غير أحمد من أجلاء الأصحاب و عيونهم و أمّا أحمد فيكفي في وثاقته قول النجاشي في حقّه: «مولى ثقة كان صحب أبا خديجة سالم بن مكرم و أخذ عنه و عرف به». «2» و لا يشك في وثاقة الحسن بن علي الوشاء إلّا غير العارف بأساليب التوثيق في علم الرجال فإنّه و إن لم يصرّح بوثاقته و لكن جاء في ترجمته ما يفيد أنّه كان في الدرجة العالية منها و هذا النجاشي يعرفه: «بأنّه من وجوه هذه الطائفة». و قد قلنا في كتابنا «كليّات في علم الرجال» أنّ هذا النوع من التعابير، يفيد أنّه في الدرجة العالية من الوثاقة.

ثمّ إنّه يستدلّ بها تارة على شرطية الاجتهاد، و أُخرى على كفاية التجزي في الاجتهاد.

أمّا الأوّل فهو مبني على كون المقلِّد جاهلًا لا عالماً و لو لا كونه كذلك لما وجب عليه الرجوع إلى العالم، أو تفسير العلم بالاعتقاد الجازم و المقلّد يفقده.

و كلا الوجهين غير تامّين، أمّا الأوّل فلأنّا نمنع كونه جاهلًا بعد الرجوع إلى العالم، و أمّا الثاني، فلأنّه مبني على تفسير العلم بالاعتقاد الجازم مع أنّه في لسان الأئمّة بمعنى الحجّة و المقلّد بعد الرجوع إلى العالم واجد له و الحاصل أنّ استظهار شرطية الاجتهاد من الرواية مشكل.

نعم صدور هذا المتن بعد احتمال اتحاد الروايتين مشكوك، فلا يمكن الاستناد إليه بعد اختلافهما في شرطيّة الاجتهاد و

عدمها و الحاصل: لمّا كان المتن مشكوك الصدور فهي غير صالحة للاحتجاج لا في المقام (شرطية الاجتهاد و عدم كفاية التقليد) و لا في المقام الآتي اعني كفاية الاجتهاد غير المطلق، و أمّا الثاني فسيوافيك في محلّه.

______________________________

(1) الفقيه: 4، قسم المشيخة، ص 125.

(2) النجاشي: الرجال 1/ 249 برقم 264.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 77

الرابعة: التوقيع الرفيع

التوقيع الرفيع الذي رواه الصدوق في كمال الدين، عن محمّد بن محمّد بن عصام، عن محمّد بن يعقوب، عن اسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السلام: «أمّا ما سألت عنه أرشدك الله و ثبّتك إلى أن قال: و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجتي عليكم و أنا حجّة الله». «1»

و الاحتجاج رهن دراسة الحديث سنداً و متناً.

أمّا محمّد بن محمّد بن عصام، فهو أيضاً «كليني» و من مشايخ الصدوق كما هو ظاهره في كتاب كمال الدين، و قال في مشيخة الفقيه: و ما كان فيه عن محمّد بن يعقوب الكليني فقد رويته عن محمّد بن محمّد بن عصام الكليني، و علي بن أحمد ابن موسى، و محمد بن أحمد الشيباني رضي الله عنهم «2» و اعتماد الصدوق و الترضية عليه لعلّه يعرب عن كونه ثقة عنده. و ليس له في كتب الرجال عنوان سوى هذا.

و أمّا إسحاق بن يعقوب، فهو أخو الكليني و قد ورد السلام عليه في التوقيع بلفظ «و السلام عليك يا إسحاق بن يعقوب الكليني» «3» و التسليم و إن كان لا يدل على شي ء لأنّ الراوي

هو نفسه لكن القرائن تشهد على الاعتماد عليه و التوقيع الذي يرويه.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

(2) الفقيه: 4، قسم المشيخة، ص 116 ط دار الكتب الاسلامية و فيه «السنائي» مكان الشيباني.

(3) الطوسي: الغيبة 176، كمال الدين: 2/ 482.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 78

و أمّا المضمون ففيه احتمالات:

1- المراد من الحوادث، ما يرجع فيه إلى الحكّام و القضاة كأموال الغُيَّب و القُصَّر.

2- ما يتفق من المسائل التي لا يعلمون حكمها حيث كانوا يرجعون إلى الأئمّة فنص الإمام بلزوم الرجوع إلى الرواة.

3- حوادث خارجية معيّنة اتّفقت في تلك الأيام لا تعلم خصوصياتها.

و الثالث ضعيف فيدور الأمر بين الأوّلين و الاستدلال متوقّف على كون المراد ما يرجع فيه إلى الحكّام و القضاة نعم على فرض الثبوت لم تكن الرواة يوم ذاك أشخاصاً عاديين بل كانوا ممارسين للأحاديث و بالتالي كانوا علماء و لأجل ذلك استأهلوا أن يكونوا حجج الإمام عليه السلام.

الخامسة: مرسلة الحرّاني

روى أبو محمّد الحسن بن شعبة الحرّاني في كتابه «تحف العقول عن آل الرسول» عن الإمام السبط الشهيد الحسين بن علي عليهما السَّلام قال: و يروى عن أمير المؤمنين و مضمون الخطبة بأجمعها يدل على أنّها ألقيت في عصر السبط و ممّا جاء فيها قوله: «... و قد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، و أنتم لبعض ذمم آباءكم تفزعون، و ذمة رسول الله محقورة، و العُمْي و البُكْم و الزمنى في المدائن مهملة لا تُرحمون، و لا في منزلتكم تعلمون، و لا من عمل فيها تعينون، و بالادّهانِ و المصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمركم الله به من النَّهي و التناهي

و أنتم عنه غافلون.

و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غُلِبْتُم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون، ذلك بأنّ مجاري الأُمور و الأحكام على أيدي العلماء بالله، الأُمناء على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 79

حلاله و حرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة و ما سُلِبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحق، و اختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة». «1»

و ملاحظة مجموع الكلام من أوّله إلى آخره يثبت أنّ المراد من الأُمور، في قوله: «مجاري الأُمور» هو ما كان يقوم به الخلفاء بعد رسول الله في قيادة الأُمّة و أنّ الإمام يُندِّد بهم و بأعمالهم و يقول: إنّ هذه الأُمور شأن طبقة خاصة و هم: العلماء بالله، الأُمناء على حلاله و حرامه، و المراد من العالم بالله، من درس التوحيد: الذاتي و الصفاتي و الأفعالي حتى صار عالماً به، و شرب من منهل العلم و أملأت قلبه الخشية و الخوف قال سبحانه: (إِنَّمٰا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ) (فاطر/ 28) فصار أميناً على حلاله و حرامه، و لا ينطبق ذلك إلّا على الأقل من الطبقة من العلماء فضلًا عن المقلّد.

سؤال و إجابة

إنّ دلالة هذه الروايات على لزوم اتصاف القاضي بكونه حاكماً بالكتاب و السنّة، و قاضياً بما يفهمه من الأدلّة، واضحة فلا يشمل العناوين الواردة فيها المقلِّد، لكن هنا سؤال و هو عدم وجود الاجتهاد الرائج، في عصر الأئمّة و أقصى ما يدلّ عليه ما سبق من الأدلّة، كون القاضي صادراً عن الكتاب و السنّة، و أمّا كونه مستنبطاً فلا و عندئذ يصبح نفوذ قضاء المجتهد بالمعنى الاصطلاحي بلا دليل.

و الإجابة عنه واضحة، لأنّ ما هو الشرط هو الصدور عن الأدلّة الشرعية، و

القضاة في ذلك العصر، و المجتهدون في أعصارنا كلهم يصدرون عنهما، غير أنّ فهم المصدرين الرئيسيين و الصدور عنهما كان في ذلك الزمان قليل المؤنة لكنّه أصبح في عصرنا كثيرها و ليس بين العملين فرق جوهري إلّا ببذل الجهد القليل،

______________________________

(1) الحرّاني: تحف العقول: 238. ط النشر الإسلامي.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 80

و الكثير و قد أوضحنا حاله في رسالتنا في الاجتهاد و التقليد، و أمّا المقلّد فليس يصدر عن الكتاب و السنّة و إن كان ينتهي إليهما نهاية لكنّ المراد الصدور عنهما بالمباشرة و ستوافيك زيادة توضيح لهذا الجواب عند البحث عن تصدّي المقلّد مهمّة القضاء، فانتظر.

و ربّما يظهر من بعضهم التفرقة بين ما يصدر القاضي في قضائه عن الكتاب و السنّة، و ما يصدر عن الأُصول العقلية كالبراءة العقلية أو التخيير العقلي بين المحذورين أو المتزاحمين و الإجماعات المنقولة و الشهرات المحكيّة فإنّه لا يصدق فيها الحكم بحكمهم ...

يلاحظ عليه: أنّ المراد الصدور عن حجّة شرعية و الكل من مصاديقها و ذكر الكتاب و السنّة لأجل أنّهما من الحجج الشرعية.

في صلاحية المتجزئ لممارسة القضاء

قد عرفت أنّ لسان الأكثر ناظر إلى شرطية الاجتهاد المطلق أي وجود القدرة على استخراج الحكم من الكتاب و السنّة في كل ما يرجع إليه و شمول ذلك للمتجزي بعيد جدّاً. نعم لو بلغ المتجزي مرتبة يستطيع معها، على استنباط أحكام كثيرة و إن كان لا يستطيع استنباط جميعها، فلا يبعد صدق العناوين الماضية عليه أعني:

1- «نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا» في مقبولة عمر بن حنظلة.

2- «قد عرف حلالنا و حرامنا ...» في المشهورة الأُولى لأبي خديجة.

3- «فارجعوا إلى رواة أحاديثنا» في التوقيع الرفيع عن

صاحب الزمان عليه السلام.

4- «مجاري الأُمور بيد العلماء بالله، الأُمناء على حلاله و حرامه» في الكلام المنسوب إلى السبط الشهيد.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 81

فإنّ هذه العناوين صادقة لمرتبة خاصة من التجزي فلا يشترط الاجتهاد المطلق، و يؤيد ذلك أُمور:

1- إنّ القضاة التي كانت الشيعة تفزع إليهم في تلك الأيام، لم يكونوا إلّا في هذه الدرجة من العلم و العرفان، و لم يكن لهم معرفة فعلية لجميع الأحكام، لتفرّق الروايات بين الرواة، و عدم وجود جامع بين الحكّام حتى يكونوا متدرعين بالعلم بجميع الأحكام.

2- كان الأمر في عصر النبيّ و الوصيّ عليهما السَّلام أيضاً كذلك فقد بعث النبي معاذاً، إلى الجبل و قال له: «كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله قال: «فإن لم تجد في كتاب؟»، قال: بسنّة رسول الله ... «1» أ تظن أنّ معاذاً كان مسلّطاً على جميع الأحكام المشرّعة إلى يوم ذاك.

3- كتب الإمام إلى واليه مالك الأشتر في عهده و قال: «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممن لا تضيق به الأُمور و لا تمحكه الخصوم إلى أن قال: و أوقفهم في الشبهات و آخذهم بالحجج». «2» و هل كانت مصر في ذلك اليوم تطفح بفقهاء و مجتهدين عارفين جميع الأحكام الشرعية، و إنّما كانوا يحفظون من الكتاب و السنّة و عمل الصحابة أشياء يقضون به و لو كان الاجتهاد المطلق شرطاً، لعطّل باب القضاء في مصر.

نعم كلّما تقدّمت الحضارة الإسلامية، و تفتحت العقول و ازداد العلماء علماً و فهماً، تسنَّم منصَّة القضاء من له خبروية كاملة في الفقه، و علم بحدود الشريعة علماً محيطاً، و لم يكن

ذلك بوازع ديني، بل كان نتيجة سير العلم و تقدّم الثقافة.

نعم قد أخذ القضاء في عصرنا لوناً فنِّياً، و صار عملًا يحتاج إلى التدريب و التمرين فلا مناص عن إشراف قاض مدرّب و مجرّب على عمل القضاة المتجزءين

______________________________

(1) الجزري: جامع الأُصول: 10/ 551.

(2) نهج البلاغة، قسم الرسائل، برقم 53.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 82

في الاجتهاد، حتى يحصل لهم قدم راسخ في مجال القضاء.

الاستدلال على كفاية التجزي برواية أبي خديجة الثانية

و ربّما يستدل على كفاية التجزي، بمشهورة أبي خديجة الثانية الماضية حيث قال: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً». «1»

و لكن خطورة الموقف و معضلة بعض المسائل كتعيين المدّعي و المنكر في بعض الموارد و صحّة القضاء بالنكول أو بعد ردّ اليمين أو غير ذلك من المسائل المهمّة تدفعنا إلى تفسير الحديث بالمتجزي الممارس للفقه مدّة لا يستهان بها و إن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد المطلق.

على أنّه يحتمل اتحاد الحديثين المختلفين في اللسان، إذ أحد اللسانين (عرف أحكامنا) يطلب للقضاء مرتبة عليا من التجزي بخلاف اللسان الآخر (يعلم شيئاً من قضايانا) و بما أنّ الصادر مردّد بين الأمرين نأخذ بالقدر المتيقّن و هو المرتبة العليا من التجزي و تبقى المرتبة الدانية تحت الأصل الأوّلي و هو المنع، و لو لا هذا الأصل لانقلب الأمر إلى العكس، أي نأخذ بالأقل في مقام الشرطية دون الأكثر، بإجراء البراءة من شرطية المرتبة العلياء فتدبّر.

ثمّ إنّه ربّما استشكل على الاستدلال بها على كفاية المتجزئ بالنحو التالي:

1- إنّ القلّة المستفادة في قوله: «شيئاً» إنّما هو بالنسبة إلى علومهم و إن كان كثيراً في حدّ نفسه. «2»

يلاحظ عليه: أنّه خلاف المتبادر، فإنّها

وردت في مجال ردع الشيعة عن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2) مباني تكملة المنهاج: 1، ص 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 83

الرجوع إلى غيرهم و عندئذ يخاطب الإمام شيعته بأنّه يكفيهم أن يرجعوا إلى من يعلم شيئاً من قضاياهم. و عند ذلك يناسب جعل الملاك هو نفس علم الراوي قلّة و كثرة، لا علم الإمام كما لو قال إنسان ناصح مشفق لأخيه: إذا لم تستطع على العمل الكبير فعليك بما في وسعك، فكأنّ الإمام عليه السلام يقول: إذا فاتكم الرجوع إلى هؤلاء الحكّام لأخذ الحقوق، فلا يفوتنّكم الرجوع إلى عالم شيعي يعلم شيئاً من قضايانا.

2- إنّ الرواية ناظرة إلى القاضي الذي اختاره الطرفان لفصل الخصومة، فلو دلّت على كفاية التجزي فإنّما تدل في مورد قاضي التحكيم لا المنصوب ابتداء و ذلك لأنّه فرّع قوله: «فإنّي قد جعلته قاضياً إلى قوله فاجعلوه بينكم» فتكون النتيجة كفاية التجزي في قاضي التحكيم لا المنصوب. «1»

يلاحظ عليه: بأنّه ليس الهدف من قوله عليه السلام: «فاجعلوه بينكم» كونه قاضياً مجعولًا من قبل المتخاصمين حتى تختصّ الرواية به بل هو يهدف إلى معنى آخر. و ذلك لأنّ القاضي المنصوب من قبل السلطة و الدولة ينفذ حكمه مطلقاً سواء أرضي الطرفان بحكمه أم لا، بخلاف القاضي الذي يرجع إليه المتخاصمان من الشيعة، فلا يمكن نفوذ حكمه إلّا بتحقق رضا الطرفين به، لا أنّ لرضائهما به مدخلية في الحكم و الجعل بل لأنّ التنفيذ فرع الرضا و بعبارة أُخرى؛ إنّ الإمام نصب كل من يعلم شيئاً من قضاياهم للحكم و القضاء و لكن تحقق الغاية رهن رضا الطرفين بحكمه و

خضوعهما له. بعد عدم قوّة تقهر المتخاصمين على القبول. و لأجل ذلك قدّم قوله: «فاجعلوه بينكم» و هو لازم الظروف التي وردت فيها الرواية.

***

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: 1/ 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 84

المقلِّد و منصَّة القضاء
اشارة

تمّ الكلام في نفوذ قضاء المجتهد، مطلقاً كان اجتهاده، أو غير مطلق و حان حينُ البحث عن قضاء المقلِّد فنقول:

تصدي المقلِّد لمهمة القضاء يتصوّر على وجوه أربعة:

1- أن يستقلّ بالحكم و القضاء.

2- أن يكون منصوباً من جانب المجتهد و عندئذ يقع الكلام في جواز نصبه للقضاء و عدمه.

3- أن يكون وكيلًا عن المجتهد، و الفرق بين النصب و الوكالة واضح، فإنّ النصب مستند إلى سعة ولاية المجتهد حتى بالنسبة إلى نصب العامي للقضاء و أمّا التوكيل، فليس التوكيل في المقام إلّا كالتوكيل في سائر الأُمور.

و بعبارة أُخرى: انّ عمل العامي مع النصب، عمل نفسه، لا عمل الناصب، بخلاف الوكيل فإنّ عمله، عمل الموكّل.

4- أن يتصدى للقضاء عند الاضطرار و عدم التمكّن من الرجوع إلى المجتهد.

و إليك الكلام في هذه الوجوه واحداً تلو الآخر:

أ- استقلال المقلّد في القضاء
اشارة

مقتضى الأصل الأوّلي هو المنع و لم يخرج منه إلّا المجتهد بكلا قسميه، و القول بجواز استقلاله يحتاج إلى دليل خصوصاً إذا كانت هناك شبهة حكمية و لا يدري أنّ مجراها أصل البراءة أو الاحتياط أو مقتضى الاستصحاب أو إذا كان تشخيص المدّعي عن المنكر أمراً عويصاً متوقفاً على إعمال قواعد حسب ما

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 85

قالوا، فإنّ القيام بحلّ هذه الأُمور العويصة خارج عن طاقة المقلّد، إلّا إذا تربّى تحت يد قاض مدّة لا يستهان بها، و شاهد القضايا و وقف على حكمها من كتب و عرف حكم الأمثال و الأضداد و هو قليل جدّاً و مع ذلك، فقد استدل على جواز استقلاله بالقضاء بالوجوه التالية:

1- إطلاق أدلّة الأمر بالمعروف

إذا كان القضاء من شعب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فتكفي في جواز تصديه، إطلاقات أدلّتهما نظير قوله: (وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة/ 71).

يلاحظ عليه: أنّ مورد أدلّتهما، هو الدعوة إلى التكليف الثابت للمكلّف مع قطع النظر عن قضاء القاضي، كما إذا رأى إنساناً يغتاب أو يكذب أو يظلم و هذا هو الذي يجب على المؤمن و المؤمنة تحت شرائط، و أمّا التكليف الذي يقتضيه حكم القاضي بحيث لولاه، لما كان هناك تكليف، فلا تشمله الأدلّة العامّة للأمر بالمعروف مثلًا إذا اختلف العامل و المالك فقال الأوّل: رددت رأس المال، و أنكره المالك فليس هنا أي تكليف متوجه إلى العامل بعد ادعاء ردّ المال و إنّما يتوجه إليه التكليف بالردّ، بعد قضائه بأنّ القول قول المالك مع حلفه، فعندئذ يتوجّه عليه تكليف بالرّد، بعد ما لم يكن أيّ تكليف قبل

القضاء فمثل هذا ليس مشمولًا لأدلّتهما.

و إن شئت قلت: إنّ مورد أدلّتهما ما إذا اتفقا الآمر و المأمور على وجود التكليف فيقوم أحدهما بالدعوة لاما إذا أنكر أحدهما أصل التكليف، كما هو الحال قبل القضاء.

2- إطلاق الحكم بالحقّ و العدل
اشارة

إنّ المستفاد من الكتاب و السنّة صحّة الحكم بالحقّ و العدل و القسط من

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 86

كل المكلّفين، قال الله تعالى: (إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/ 58).

(يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا) (المائدة/ 8).

(يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْلىٰ بِهِمٰا فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء/ 135).

و مفهوم قوله تعالى: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ) (المائدة/ 47) و في أُخرى (... هُمُ الْكٰافِرُونَ) (المائدة/ 44) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و قال الصادق عليه السلام: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنّة: رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم، فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة». «1»

و قال: «الحكم حكمان: حكم الله و حكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية». 2

3- و قال أبو جعفر عليه السلام: «الحكم حكمان: حكم الله عزّ

و جلّ و حكم أهل الجاهلية، و قد قال الله عزّ و جلّ: (وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/ 50) و أشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية». 3

إلى غير ذلك من النصوص البالغة بالتعاضد أعلى مراتب القطع الدالّة على

______________________________

(1) 1 و 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6، 7، 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 87

أنّ المدار الحكم بالحقّ الذي هو عند محمّد و أهل بيته صلوات الله عليهم و أنّه لا ريب في اندراج من سمع منهم عليهم السَّلام أحكاماً خاصّة مثلًا و حكم بها بين الناس فيها و إن لم تكن له مرتبة الاجتهاد.

يلاحظ على الجميع:

أنّ الآيات و الروايات ليست بصدد بيان شرائط الحاكم و خصوصياته حتى يتمسّك بإطلاقها و إنّما هي بصدد بيان أمر آخر.

فالآية الأُولى و الثانية بصدد بيان خصوصيات الحكم و أنّه يجب أن يكون حكماً بالعدل و قضاءً بالقسط و أن لا يخاف الحاكم من شنئان قوم فيحكم على خلافهما و أين هما من بيان خصوصيات الحاكم حتى يتمسّك بإطلاقهما؟!

و منه يظهر الجواب عن الاستدلال بالآية الثالثة فإنّها بصدد النهي عن القضاء بغير ما أنزل الله، لا بصدد بيان خصوصيات الحاكم.

و مثل الآيات، تقسيم القضاة إلى أربعة، أو تقسيم الحكم إلى حكمين، فإنّ الجميع بصدد سوق المجتمع إلى القضاء بحكم الله لا بحكم الجاهلية و ليس بصدد بيان شرائط الحاكم من كونه رجلًا أو امرأة، مسلماً أو كافراً، سميعاً و بصيراً و الاستدلال بالجميع غفلة عن شرائط انعقاد الإطلاق فإنَّ التمسك به في المقام نظير تمسّك بعضهم بإطلاق قوله

سبحانه: (فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (المائدة/ 4) على أنّه يجوز الأكل ممّا أمسك الجوارح بالأنياب بلا لزوم غسل مواضعها، مع أنّ الآية بصدد بيان شي ء آخر و هو حلّية ما أمسكته و أنّه من الطيّبات لا من المحرّمات و أمّا أنّه هل يؤكل مطلقاً أو بعد الغَسْل فليس بصدد بيانه حتّى يتمسّك بإطلاقه.

و هناك وجه آخر و هو أنّ الآيات و الروايات بمعزل عن باب القضاء، لأنّ المراد من الحقّ، هو الحقّ في الشبهات الحكمية، و الحقّ في باب القضاء يرجع إلى

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 88

الحقّ في الشبهات الموضوعية غالباً كما لا يخفى.

3- الاستدلال بإطلاق حديث الحلبي

قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيه فيتراضيان برجل منّا فقال: ليس هو ذاك إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط. «1»

و الاستدلال موهون جدّاً لعدم كون الإمام بصدد بيان شرائط القاضي حتى يتمسّك بإطلاق لفظ «رجل» و إنّما هو بصدد الفصل بين القاضيين و أنّه لا يجوز الرجوع إلى قضاة العامّة بل يجب الرجوع إلى قضاة الشيعة و أمّا ما هو صفاتهم و خصوصياتهم فليس الصحيح بصدد بيانه.

4- صحيح أبي خديجة

قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد عليه السلام إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم .... «2»

و قد أُجيب عن الاستدلال بهذه الرواية على قضاء المقلِّد بوجوه نأتي بها:

أ انّ الوارد فيها لفظ العلم و هو لا يشمل المقلّد لأنّ العلم عبارة عن الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، و المقلِّد فاقد له.

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين العلم المصطلح عليه في علم المنطق، و العلم الوارد في الكتاب و السنّة و المراد من الأوّل ما ذكر في كلامه، و المراد به في الحديث من هو ما قامت عليه الحجّة و إلّا لزم عدم صحّة قضاء المجتهد لعدم علمه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 89

بالواقع، و العلم بالحكم الظاهري مشترك بين المجتهد و المقلِّد.

ب انّ الرواية محمولة على صورة الاضطرار و عدم التمكّن ممن يعرف الأحكام عن أدلّتها التفصيلية، و بما أنّ الشيعة

كانت متفرقة آنذاك في بلاد نائية، و لم يكن في كل بلد و كورة، من يعرفها بالدليل، اكتفى صاحب الشريعة بمن يعلم شيئاً من الأقضية حتّى يصدّ بذلك باب الرجوع إلى أبواب الطواغيت.

يلاحظ عليه: بأنّه حمل تبرعي لا دليل عليه و ليس في الرواية ما يحكى عن كونها واردة في صورة الاضطرار، نعم هو احتمال في الحديث.

ج إنّ العلم بشي ء من قضاياهم مختصّ بالفقيه أو منصرف إليه، لأنّ العامي إمّا أن يتّكل إلى فتوى الفقيه في القضاء فلا يصدق أنّه يعلم شيئاً من قضاياهم بل هو يعلم فتوى الفقيه و هو طريق إلى حكم الله. و إمّا أن يتّكل بإخبار الفقيه بقضاياهم و هذا غير جائز لأنّه لا يزيد عن رواية مرسلة غير جائزة العمل، إلّا بعد الفحص عن الجهات الأربعة: الصدور، و الدلالة، وجهة الصدور، و عدم المعارض و أنّى للمقلّد هذا.

يلاحظ عليه: أنّا نختار الشقّ الأوّل، و هو الأخذ بإفتاء الفقيه لكنّه عند المقلّد هو حكم الإمام و قضائه، خصوصاً إذا كان الإفتاء بلفظ الحديث، كما في الفقيه و النهاية، و الإفتاء و إن كان غير التحديث، و الأوّل مشتمل على إعمال النظر، دون الثاني لكنّه لدى العرف، يعكس حكم الكتاب و السنّة و حلال الأئمّة و حرامهم.

و الحق في الإجابة أن يقال: إنّ الصادر من الإمام مردّد بين ما نقل و بين ما جاء في روايته الأُخرى التي جاء فيها: «اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً» «1» و قد عرفت أنّ لفظ «العرفان» لا يستعمل

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1،

ص: 90

إلّا إذا كان هناك اشتباه يعقّبه التميز و هو لا يصدق إلّا في حقّ الفقيه لا المقلّد المحض. و لمّا تردّد لفظ النص بين ما يصح الاستدلال به و ما لا يصح، يسقط الاستدلال بها.

و بعبارة أُخرى لمّا تردّد بين كون الخارج عن تحت الأصل خصوص المجتهد و لو كان متجزئاً أو مطلق من يعلم شيئاً، فيؤخذ بالقدر المتيقن في مقام الخروج. و هو الأوّل و قد مرّ توضيحه أيضاً.

5- الاستدلال بخبر محمّد بن حفص

قد يستدل بخبر محمّد بن حفص «1» عن عبد الله بن طلحة «2» عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل سارق دخل على امرأة ليسرق متاعها فلمّا جمع الثّياب تابعته نفسه فكابرها على نفسها فواقعها [فتحرّك ابنها فقام فقتله بفاس كان معه] فلما فرغ حمل الثياب و ذهب ليخرج، حملت عليه بالفاس فقتلته. فجاء أهله يطلبون بدمه من الغد. فقال أبو عبد الله عليه السلام: «اقض على هذا كما وصفتُ لك فقال: يضمن مواليه الذين طلبوا بدمه، دية الغلام، و يضمن السارق فيما ترك أربعة آلاف درهم بمكابرتها على فرجها إنّه زان و هو في ماله عزيمة و ليس عليها في قتلها إيّاه شي ء [لأنّه سارق] قال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: من كابر امرأة ليفجر بها فقتلته فلا دية له و لا «3» قود».

يلاحظ عليه: أوّلا: أنّ ضمان الموالي، دية الغلام على خلاف القاعدة و على فرض كونهم عاقلة، إنما تضمن الدية في مورد الخطأ لا في مورد العمد.

و ثانياً: أنّه من المحتمل أن يكون كلامه هذا: «اقض على هذا كما وصفت»

______________________________

(1) محمد بن حفص بن خارجة مجهول لم يعنون في كتب الرجال غير

التنقيح.

(2) هو الهندي الكوفي لم يذكر في حقّه توثيق و لا مدح.

(3) الوسائل: الجزء 19، الباب 23، من أبواب قصاص النفس، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 91

أشبه بالمشاكلة لا الحقيقة و أنّ المراد بيان الحكم الشرعي للمسألة.

و ثالثاً: يحتمل كون ابن طلحة ممن كان ينطبق عليه المقياس الوارد في المقبولة.

رابعاً: أنّه يصح الاستدلال بها على صورة النصب أو الوكالة و الثانية أظهر من النصب، لا على التصدي على وجه الاستقلال.

6- الاستدلال بالسيرة

إنّ الموجودين في زمن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ممن أمر بالترافع إليهم كانوا قاصرين عن مرتبة الاجتهاد و كانوا يقضون بين الناس بما سمعوه من النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فدعوى قصور من علم جملة من الأحكام مشافهة أو بتقليد لمجتهد، عن منصب القضاء بما علمه، خالية عن الدليل. «1»

و أجاب عنه المحقّق الآشتياني بأنّ الشرط الواقعي هو العلم بالأحكام لا الاجتهاد فالمنصوبون من قبل الأئمّة كانوا يعلمون الأحكام و إن كانوا غير مجتهدين و أمّا زماننا هذا فالعلم فيه لا يحصل إلّا بالاجتهاد فليس للاجتهاد موضوعية إلّا كونه طريقاً إلى العلم بالأحكام و هو كان حاصلا للمنصوبين يوم ذاك دون مقلدي أعصارنا «2» و حاصله: أنّ الميزان، هو العلم بالأحكام، لا الاجتهاد، و العامي في السابق كان عالماً بالأحكام بخلاف العامي في أعصارنا.

يلاحظ عليه: أنّه إن أراد، من العلم، العلم بالأحكام الواقعية فهو لم يكن حاصلًا يوم ذاك للمنصوبين و لا للمجتهدين في الأعصار المتأخرة ضرورة أنّ أصحاب الأئمّة ربّما كانوا يأخذون الأحكام عن أصحابهم، و قد كانوا مبتلين بالأخبار المتعارضة و الصادرة عنهم تقية إلى غير ذلك ممّا لا

يوجب العلم بالحكم الواقعي، و مثله المجتهد، فإنّ ما يحصله أحكام قامت عليها الحجّة لا أنّها أحكام

______________________________

(1) الجواهر الجزء 40/ 1615.

(2) الآشتياني: كتاب القضاء، ص 9

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 92

واقعية.

و إن أراد الأعمّ من الحكم الواقعي، فهو حاصل لمقلدي عصرنا.

و الأولى أن يقال: إنّه لو كان الموضوع لنفوذ القضاء هو المجتهد أو من له قوّة الاستنباط فيتّجه الإشكال و أمّا لو قلنا بأنّ الموضوع له هو من روى حديثهم، و نظر في حلالهم و حرامهم و عرف أحكامهم. فهو كان صادقاً على قضاة عصر الرسول و من بعده. كما كان صادقاً على المتربّين على أيدي الأئمة من المحدّثين و الفقهاء لاتصالهم بالمعصومين، و سماعهم منهم أو عمّن سمع منهم، و أمّا في عصرنا هذا فلا يصدق إلّا على من له قوّة الاستنباط حتّى يبذل الجهد بالتتبع في الروايات و ينظر في حلالهم و حرامهم و يعرف نهاية أحكامهم فالموضوع لنفوذ القضاء واحد في جميع الأعصار، غير أنّ بُعد العهد و اختلاط الصحيح بالسقيم من الروايات، و الصادر تقية بالصادر لبيان الواقع، صار سبباً لعدم صدقه إلّا على لفيف قليل أي المجتهدين لأنّهم هم الممارسون بأحاديثهم و الناظرون في حلالهم و حرامهم و العارفون بأحكامهم و لا يصدق ذلك على المقلّد المحض الذي لا يعرف شيئاً منها سوى ما جاء في رسالة مقلَّده.

ثمّ إنّ الفرق بين الجوابين واضح فإنّ جواب المحقّق الآشتياني مبنيّ على أنّ الميزان هو العلم بالأحكام لا الاجتهاد، غير أنّ العلم بالأحكام كان ميسوراً للقضاة الموجودين في زمن النبي مطلقاً، و أمّا في عصرنا، فليس ميسوراً إلّا على من له ملكة الاجتهاد.

و أمّا جوابنا فهو

مبنيّ على أنّ الميزان في صحّة التصدّي هو ما جاء في لسان الرواية أعني قوله: «روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا» و هو كان صادقاً للقضاة الموجودين في زمن النبي مطلقاً (مجتهداً كان أو لا) و لكنّه في عصرنا هذا لا يصدق إلّا على المجتهد فليس الاجتهاد شرطاً و انمّا هو طريق لتحصيل موضوع الدليل.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 93

ب: في نصب المجتهد، المقلِّد للقضاء

فرغنا عن البحث في تصدي المقلّد منصب القضاء استقلالًا و قد عرفت عدم الدليل على جوازه و نفوذ قضائه إنّما الكلام في تصديه له بعد نصب المجتهد إيّاه للنظر في المرافعات، و القضاء فيها على وفق رأيه.

إنّ جواز النصب للمجتهد رهن أمرين:

1- أن يكون النصب جائزاً في نفسه بأن لا تكون الفقاهة شرطاً شرعياً للقضاء و نفوذ الرأي كالذكورة و الإيمان و إلّا فلا، لأنّها لو كانت شرطاً لا يجوز للإمام فكيف يجوز للمجتهد الذي هو نائبه؟!

2- إنّ كل حكم يجوز للإمام يجوز للفقيه الجامع للشرائط.

فالدعوى الأُولى بمنزلة الصغرى للثانية و هي كبرى للأُولى أمّا الأُولى فيمكن أن يقال إنّها غير ثابتة أي لا نعلم أنّه يجوز للإمام نصب العامي للقضاء أو لا، و الشكّ فيه كاف في الحكم بالمنع بالنسبة إلى المجتهد.

و مع قطع النظر عن ذلك نقول: إذا دلّت المقبولة و المشهورة على أنّ المأذون للقضاء من ينطبق عليه عنوان الناظر في الحلال و الحرام و العارف بالأحكام، و فرضنا عدم انطباقه على المقلّد، يصير قضاء المقلّد، كقضاء المرأة فكما لا يصح نصبها للقضاء، فهكذا العامي العارف بمسائل القضاء.

هذا كلّه على القول بدلالتهما على شرطية الاجتهاد في القضاء، و أمّا لو قلنا

بعدم دلالتهما على شرطية الاجتهاد فنفس الشك في جواز نصبه المقلّد كاف في الحكم بعدم الجواز و النفوذ لما قلنا إنّ الأصل عدم حجية رأي أحد في حقّ أحد إلّا إذا قام عليه الدليل و بذلك ظهر أنّ لتبيين حكم المسألة مراحل ثلاث:

1- الشكّ في جواز نصب العامي للقضاء، لنفس الإمام و عدمه و مع الشكّ

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 94

فيه، لا تفيد أدلّة ولاية الفقيه إذ لا يتجاوز عن كونه منزّلًا منزلته. مع وجود الشكّ في المنزّل عليه.

2- مع قطع النظر عنه، إذا قلنا بدلالة المقبولة و غيرها على شرطية الاجتهاد، و معه كيف يجوز للفقيه، نصبه للقضاء؟

3- إذا كانت دلالتها قاصرة فنفس الشكّ يكفي في الحكم بالعدم أخذاً بحكم الأصل الأوّلي.

و بذلك يعلم عدم تمامية ما أفاده سيّدنا الأُستاذ قدّس اللّه سره في ردّ الاستدلال حيث قال: إنّ المقبولة لا تدل إلّا على نصب الإمام الفقيه للقضاء و أمّا كون ذلك بإلزام شرعي بحيث يستفاد منها أنّ الفقاهة من الشرائط الشرعية فلا.

يلاحظ عليه: بما عرفت من أنّه لو افترضنا أنّ المقبولة و المشهورة ليستا بصدد بيان شرائط من له حقّ القضاء لكن نفس الشكّ في مشروعية قضاء العامي العارف بمسائل القضاء عن تقليد، كاف في الحكم بعدم الجواز و النفوذ و ذلك مثل الشك في جواز التعبّد بالظن، فإنّ نفس الشك كاف في الحكم بحرمة التعبد و لا يحتاج إلى دليل آخر.

و يمكن أن يستدل على عدم مشروعية قضاء العامي بصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «اتقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبي أو وصيّ

نبيّ». «1»

فإنّها صريحة في أنّ القضاء شرّع للأنبياء و أوصيائهم و لا ينافيه ما دلّ على جوازه للفقهاء، لأنّهم أوصياء الأنبياء. «2» بوجه فتكون المقبولة حاكمة عليها

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 3، من أبواب صفات القاضي، الحديث 3 ص 7؛ المستدرك: الجزء 17، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 و 48.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 95

بالتصرّف في الموضوع و توسيعه و إدخال ما لا يدلّ عليه ظاهرها (الصحيحة) و العامي ليس وصياً لنبي. فلم يدل دليل على مشروعية قضائه.

ج: في توكيل المقلّد للقضاء
اشارة

قد عرفت عدم جواز استقلال المقلّد للقضاء و لا نصب المجتهد إيّاه للتصدّي، بقي الكلام في توكيله حتّى يقوم العامي المقلّد، بفعل المجتهد و يعمل عمله، لا عمل نفسه كما هو الحال في صورة النصب على ما عرفت الفرق بينهم.

و القول بالجواز مبني على ثبوت أحد أمرين على نحو مانعة الخلو:

1- أن يكون هنا دليل خاص من العرف و غيره على أنّ القضاء أمر قابل للتوكيل و النيابة و مع ثبوته بالخصوص، لا يشترط في الوكيل سوى ما يشترط في غيره.

2- إذا لم يدلّ دليل خاص على أنّ القضاء أمر قابل للتوكيل و صارت النيابة فيه مشكوكة، و لكن كان في باب الوكالة دليل يدلّ على أنّ كلّ أمر قابل للنيابة إلّا ما خرج بالدليل و معه لا يبقى شك في كونه قابلًا للنيابة و تعمه أدلّة الوكالة و عموماتها.

و بذلك ظهر أنّ المراد من الأمر الثاني، ليس مطلق عمومات باب الوكالة كعمومات باب البيع و العقود، التي لا تفيد عند الشك في كون شي ء قابلًا

للبيع أو العقد عليه، بل الدليل الخاص الدال على أنّ كل أمر قابل للنيابة إلّا ما خرج و هذا غير عمومات باب الوكالة الناظرة إلى الحكم، دون قابلية الموضوع كسائر العمومات.

إذا عرفت ذلك فالمسألة غير معنونة في كلمات القدماء فلنكتف بكلمات المتأخرين فقد قال المحقّق الرشتي: «الحقّ عدم الجواز وفاقاً للكل أو الجلّ لأنّ

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 96

التوكيل مشروط بعدم اشتراط المباشرة في تأثير الحكم و إلّا لم يعقل فيه التوكيل و اشتراطها هنا معلوم أو مشكوك و التمسّك بأدلّة الوكالة غير مجد في المقام. «1»

أمّا الأمر الأوّل أي الدليل الخاص فتوضيح المقام:
اشارة

إنّ الموضوعات من جهة ترتّب الأثر عليها مختلفة و هي:

1- ما يترتّب عليه الأثر بملاحظة كونه قائماً بفاعل خاص كالمضاجعة فهي محكومة بالحلّية إذا كان المباشر لها هو الزوج لا غير.

2- ما يترتّب عليه الأثر بملاحظة أصل وجوده في الخارج من غير خصوصية للفاعل و ذلك كتطهر الثوب بالماء فهو يطهر سواء كان المباشر للغَسل إنساناً بالغاً أو صغيراً أو غير إنسان بل حيواناً أو ريحاً. فالموضوع هو تحقّق الغسل بالماء كيفما كان.

3- ما يترتّب عليه الأثر المقصود بملاحظة قيامه بإنسان عاقل بالغ مباشرة أو تسبيباً كالبيع و الإجارة، و النكاح و الطلاق.

4- ما يشك في أنّه من أيّ قسم من هذه الأقسام، كالقضاء كما سيأتي.

فالأوّلان لا يقبلان الوكالة، لاعتبار الفاعل الخاص في ترتّب الأثر في الأوّل و مثله لا ينفك عن اعتبار المباشرة، و عدم لحاظ الفاعل في الثاني حتى يكون هناك نائب و منوب عنه، و الثالث يقبلها بلا شك.

و أمّا الرابع: فيمكن أن يقال: إنّه مع الشك يحكم بأنّه غير قابل للنيابة كنظائره و الضابطة الكلية: إنّ كل

عمل يتوقف على إعمال النظر و الدقّة و العلم و اليقين بالموضوع، و بالتالي اتخاذ عقيدة خاصة فيه فهو يقوم بالفاعل المباشر، و لا تصح نسبته إلى الغير الفاقد لهذه الأُمور، و بالجملة: إنّ تشخيص كل واحد ينسب إلى نفسه و لا تقبل النسبة إلى غيره بالتسبيب.

______________________________

(1) المحقّق الرشتي: كتاب القضاء 1/ 52.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 97

و على ذلك يترتّب عدم جواز الوكالة في الأُمور التالية:

1- الطبابة: فإنّ الطبيب بعد المعاينة و الدقّة في أحوال المريض و أوصافه، يتبنّى عقيدة و نظراً في حقّ المريض، فيأخذ بكتابة نسخة العلاج و يأمره بالاتباع فهذا أمر قائم بالطبيب و لا تصح نسبته إلى الشخص الآخر و إن أمر بالمعالجة و ذلك لعدم وجود شي ء من هذه الأُمور فيه حسب الفرض.

2- الحلف 3 الإقرار 4 الشهادة. فإنّ الجميع إخبار عن واقع بعلم جازم قاطع أخذاً بماهية هذه الأُمور، فلو تحقق في الوكيل دون الموكّل، لا تصح له نسبة هذه الأُمور إلى الموكّل لافتقاره مقوِّمها و إن تحقّق في الموكّل دون الوكيل، لا يصح من الوكيل الإقرار و الشهادة و الحلف لتقوّمها بالعلم و الاطلاع القاطع، و هو فاقد له و إن تحقق في كليهما، كلّ يقوم بعمل نفسه.

5- و منه يظهر حال القضاء فإنّ مورده إمّا شبهة حكمية أو موضوعية، فالقضاء في الصورة الأُولى بنفس الإفتاء و هو قائم بالمجتهد دون العامي، كما أنّه في الثانية يتضمّن الإفتاء في مورد جزئي، و الإفتاء لا يقبل النيابة لأنّه فرع العلم بالحكم و العامي فاقد له.

و بذلك يعلم أنّ القضاء لا يقبل الوكالة و إن كان الوكيل مجتهداً. سواء وكّله بالقضاء على رأي الموكّل أو رأي الوكيل، و إن كان يظهر

من السيّد الطباطبائي جوازه حيث قال: «قد تكون هناك ما يوجب الحاجة إلى التوكيل كما إذا لم يرض المترافعان إلّا بالرجوع إلى مجتهد و كان معذوراً في المباشرة فحينئذ يوكل مجتهداً آخر مع فرض عدم رضاهما بالإرشاد إلى ذلك الآخر و قالا إنّا نريد أن تكون أنت الفاصل بيننا بالمباشرة أو التسبيب ثمّ قال: و هل على النائب حينئذ أن يقضي في المسائل الخلافية بمقتضى رأيه أو برأي المستنيب يظهر من المسالك الأوّل و انّه لا يجوز أن يقضي إلّا برأيه و الظاهر جواز الأمرين و كونه تابعاً لكيفية التوكيل فإن وكّله في أصل القضاء فيعمل برأيه و إن وكّله في القضاء بينهما بمقتضى رأي

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 98

الموكّل فيعمل برأيه. «1»

يلاحظ عليه: أنّ القضاء يتضمّن الإفتاء و هو لا يقبل الوكالة، لأنّه إن قضى برأي نفسه، فقد قضى مباشرة لا وكالة و إن قضى برأي الموكّل، فهو فرع جواز الوكالة في الفتوى.

و لو رفضنا تلك الضابطة و افترضنا الشكّ في قابلية القضاء للوكالة فلا يمكن التمسك في إثبات القابلية له بالعمومات الواردة فيه لعدم كونها بصدد بيان تلك الجهة.

و أمّا الكلام في الأمر الثاني أي وجود دليل في باب الوكالة

يدلّ على أنّ كل موضوع قابل للنيابة إلّا ما دلّ على اعتبار المباشرة فيه، فربّما يوهمه بعض الروايات التالية:

1- ما رواه الصدوق في الفقيه بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: من وكّل رجلًا على إمضاء أمر من الأُمور فالوكالة ثابتة أبداً حتى يُعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها. «2»

و الإمعان فيها يعطى أنّه ليس بصدد بيان قابلية كل «أمر من الأُمور» للوكالة بل بصدد بيان أنّ عمل الوكيل نافذ إلى أن يبلغه

العزل.

2- صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الأُمور و أشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر فقال: اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبلَ العزل فإنّ الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل. كره الموكّل أم رضي. قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يَعْلَمَ العزل أو يبلغه أنّه قد

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي: ملحقات العروة 2/ 12.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 1 من أبواب الوكالة، الحديث 1، ص 285.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 99

عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟! قال: نعم قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضى الأمر ثمّ ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشي ء؟! قال: نعم، إنّ الوكيل إذا وكّل ثمّ قام عن المجلس فأمره ماض أبداً و الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافهه بالعزل عن الوكالة. «1»

و هذه الرواية كسابقتها ليست بصدد بيان انّ الوكالة في كل أمر ماض، و إنّما هي بصدد بيان مضيّ و نفوذ الوكالة في كل ما تصحّ الوكالة فيه، ما لم يبلغه العزل بثقة، كما هو واضح. فإذا شككنا في انّ القضاء يقبل الوكالة أو لا فليس هنا دليل على صحّة التوكيل فيه.

ثمّ إنّ السيّد الطباطبائي نقل عن المسالك دليلًا على عدم الجواز و لم نعثر عليه فيها حاصله: أنّه يشترط في القاضي أن يكون مجتهداً و معه لا فرق بين النائب و المستنيب في ثبوت ولاية القضاء له فلا معنى لكون أحدهما وكيلًا عن الآخر فهو نظير

توكيل أحد الوليين أو الوكيلين أو الوصيين للآخر فكما أنّه لغو فهكذا في المقام. «2»

يلاحظ عليه: أنّ ذلك خلط بين النصب و الوكالة، فبما أنّ المنصوب مستقل في عمله يشترط فيه ما يشترط في الناصب، و هذا بخلاف الوكالة فإنّ الوكيل يقوم بنفس عمل الموكّل كأنّ المجتهد، يقضي بواسطة وكيله. فيكفي وجود الشرط فيه من دون لزوم وجود شرط خاص في الوكيل سوى الشروط العامة في مطلق الوكالة.

فالحقّ في عدم جواز الوكالة منه، لعدم ثبوت كون القضاء ممّا يقبل الوكالة، و لم يدل دليل عليه، لا من العرف و لا غيره.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 2 من أبواب الوكالة، الحديث 1.

(2) الطباطبائي اليزدي: ملحقات العروة، كتاب القضاء، ج 2/ 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 100

د: نصب المقلّد للقضاء عند الاضطرار

ما تلوناه عليك من الأدلّة على عدم جواز تصدّي العامي للقضاء استقلالًا أو نصباً إنّما كان راجعاً إلى حال الاختيار و إنّما الكلام في حال الاضطرار، قال المحقق: «إذا اقتضت المصلحة تولية من لم يستكمل الشرائط انعقدت ولايته مراعاة للمصلحة في نظر الإمام عليه السلام كما اتّفق لبعض القضاة في زمن علي عليه السلام و ربّما منع من ذلك. «1»

و قال في المسالك: إذا اقتضت المصلحة عند الإمام تولية من لم يستكمل شرائط القضاء بأن كان قاصراً في العلم أو العدالة ففي جواز توليته عندنا وجهان: أحدهما المنع لفقد الشرط، المقتضي لفقد المشروط إلى أن قال: الثاني، الجواز نظراً إلى وجود المصلحة الكلية التي هي الأصل في شرع الأحكام و لوقوع مثله في زمن عليّ عليه السلام فقد كان ولّى شريحاً القضاء مع ظهور مخالفته له في الأحكام المنافية للعدالة التي هي أحد الشرائط.

«2»

يلاحظ عليه: أنّ التمسك بسيرة الإمام غير واضح، لعدم وضوح وجهة عمله و لعلّ القاضي كان صالحاً يوم ذاك!!، أو كان الإمام مضطراً في إبقائه في منصبه، لاشتغاله بالقضاء من عصر الخليفة الثاني إلى زمان الإمام و لا يعني ذلك أنّ الإمام كان يعمل بالتقية، حتى يقال إنّه ما كان يعمل بالتقية، بل المصالح اقتضت الإبقاء و تصوّر أنّ المصالح كانت تقتضي إبقاء معاوية فلما ذا رفضها؟ مردود بأنّ المبايعين الذين صدّروا عليّاً منصَّة الخلافة و بايعوه، كانوا هم المضطهدون المطالبون عزل ولاة عثمان الذين امتصوا دماء الأُمة، فعزل معاوية مضافاً إلى أنّه كان واجباً شرعياً على الإمام كان واجباً اجتماعياً و على كل تقدير يمكن تقرير الجواز بالوجه التالي:

______________________________

(1) نجم الدين: الشرائع: 4/ 863.

(2) زين الدين العاملي: المسالك، ج 2/ 395.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 101

إنّ حفظ الحقوق رهن فصل الخصومات و رفع المنازعات فإذا لم يتمكّن من الرجوع إلى المجتهد: و لم يجز نصب العامي للقضاء تقليداً لزم بعد ذلك ارتكاب أحد محاذير ثلاثة:

1- فإمّا أن يُرفع الشكوى إلى ديوان الظالمين و هو حرام.

2- أو يمنع من الترافع إلى الأبد و فيه إبطال للحقوق و رفع للأمان عن الدماء و الأعراض و الأموال.

3- أو يلزم الصبر إلى أن يتمكّن من الرجوع إلى الفقيه و هو موجب للعسر و الحرج و ربّما لا يتمكّن المدّعي من إقامة الشاهد عند ذاك.

و على ضوء ذلك: لا مناص للفقيه من نصب (العامي) للقضاء تقليداً في الشبهات الموضوعية و الحكمية حفظاً للحقوق، إذا كان له المقدرة على التمييز و التشخيص في تطبيق الأحكام و الكلّيات على مصاديقها.

فإن قلت: إنّ الرجوع إلى المحاكم

العادية التي لا تحكم على وفق الكتاب و السنّة يحفظ الحقوق كما كانت الحال على ذلك قبل الثورة الإسلامية في إيران.

قلت: إذا دار الأمر في حفظ الحقوق بين الرجوع إلى المحاكم العادية، و النزول عند حكم المقلّد العارف بالأحكام الإسلامية عن تقليد، فالثاني هو المتعيّن، لأنّ حرمة الأُولى مطلقة متأكدة قال سبحانه: (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً) (النساء/ 60). و لأجل ذلك لا مناص في حفظ الحقوق من اختيار قضاء المقلّد و تقديمه عليها.

و على ذلك فوجود المحاكم العادية و عدمها سواء فيتعيّن على الفقيه نصب العامي العارف بالقضاء لرفع الخصومات بين الناس، من غير فرق بين كون المورد من قبيل الشبهات الموضوعية أو الحكمية، و هو من القضايا التي قياساتها معها

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 102

لأنّ ترك المرافعة و القضاء، يؤدي إلى تضييع الحقوق و الأموال و إيقاف الأمر إلى التمكّن من المجتهد، لا ينفع إذا طال الزمان و ما زالت الشكاوى و الدعاوي تترى و تتزايد و شدّ الرحال إلى المجتهد النائي أمر مشكل و عندئذ فإذا كانت الشبهة موضوعية، يعمل بقواعد «المدّعي و المنكر» (التي مارسها مدّة على أيدي القضاة المهرة). و إذا كانت الشبهة حكمية مثل منجزات المريض و ثبوت الشفعة إذا كانت الشركاء أزيد من ثلاثة، و تحريم عشر رضعات فبما أنّ القضاء فيها لا يحتاج إلى إقامة بيّنة و جرحها و تعديلها يكفي العثور على رأي المجتهد و الحكم على وفقه.

و إن شئت

قلت: إنّ الشرط هو الصدور عن الكتاب و السنّة، فلا مانع من سقوط شرطيته عند الاضطرار و فقد القائم به.

فإن قلت: إنّ القضاء في الشبهات الحكمية و الموضوعية لا يخلو عن إفتاء بالحكم الكلي أو الإفتاء بالحكم الجزئي و ليس العامي أهلًا له.

قلت: يظهر حلّه بعد بيان ما تجب على العامي مراعاته من باب الاحتياط و الأخذ بالقدر المتيقّن و إليك بيانها:

الأوّل: إذا قلنا بسقوط شرطية الاجتهاد في حال الاضطرار لكن القدر المتيقّن للجواز هو العامي الذي ينصبه المجتهد لذلك المقام. و ذلك لا لوجود الدليل على الشرطية (لما عرفت من أنّه لا يجوز نصب العامي للقضاء في حال الاختيار) بل لاحتمال مدخلية نصب المجتهد في هذه الحالة، دفعاً للهرج و المرج و حفظاً لنظام القضاء على الحدّ الممكن.

الثاني: للتأكد من إصابة الحقّ، و التجنب من الاشتباه يلزم عليه التشاور في القضاء و السؤال عن سائر العارفين بالقضاء فإنّ الرأي الصادر عنده أقرب إلى الحقّ و ألصق بالواقع، و حقّ الرأي للمنصوب فقط.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 103

الثالث: إذا نصب المجتهد العامي العارفَ بالقضاء في زمان كان الرجوع إلى المجتهد موجباً للعسر و الحرج، فهل يختصّ قضاؤه بخصوص لو كان مناط الرجوع موجوداً، أو يعمّه و ما إذا كان الرجوع إليه سهلًا و يسراً؟ وجهان:

1- إنّ الحكم النابع عن العسر و الحرج يدور مدارهما فلو كان رفع الشكوى إلى المجتهد سهلًا، يلزم عليه إرجاع المتداعيين إلى المجتهد و إلّا فيباشر بنفسه خصوصاً إذا قلنا بأنّ العسر الرافع للحرج هو الشخصي منه لا النوعي.

2- إنّ تحديد القضاء بوجود العسر الشخصي و عدم كفاية العسر النوعي يوجد الغموض في أمر القضاء

و ربّما يزيد في العسر و الحرج، و الأوّل أحوط و الثاني أقوى، خصوصاً إذا كان هنا نظام في القضاء يشتغل فيه أشخاص كثيرون، لا يمكن تعليق عملهم يوماً دون يوم.

الرابع: إذا نصب المجتهد العامي للقضاء يجب عليه العمل بفتوى الأعلم و ليس له أيّ تدخل في ترجيح الآراء بعضها على بعض، و تقديم المشهور على الشاذ، إذا كان فتوى الأعلم مطابقاً للثاني، أو ترجيح ما يؤيّد بعض الظنون على الأُخر، لأنّ كل ذلك من وظائف أصحاب النظر فقط.

الخامس: إذا نصبه مجتهد للقضاء فهل له الصدور عن رأي الأعلم أو عن رأي المجتهد الناصب له، أو يتخيّر؟ فالأقوى هو الأوّل، كما عرفت لأنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير.

السادس: إذا كان هناك من هو أعرف بموازين القضاء تقليداً من غيره و إن كان له أيضاً عرفان بالقضاء فيقدم الأعرف فالأعرف في مقام النصب إلّا إذا لم يستعد الأعرف للقضاء فيتعيّن غيره.

السابع: إذا تعذّر النصب من جانب المجتهد، فعلى المسلمين أن يختاروا أعرفهم بموازين القضاء، و لو عن تقليد.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 104

الثامن: الذي يترتّب على قضاء العامي، هو لزوم طاعته و تنفيذ رأيه، و أمّا عدم جواز نقضه و عدم جواز تجديد المرافعة، لدى التمكّن من المجتهد فلا، لأنّ كلّ ذلك من آثار قضاء المجتهد، لا العامي العارف بالقضاء نعم لا يصحّ النقض إلّا من جانب المجتهد الناصب، لا غيره لأنّه يستلزم الهرج و المرج.

و بذلك اتضح جواب الإشكال السابق و ذلك لأنّ القضاء في المقام ليس قضاء حقيقياً حتى يعترض عليه بأنّ القضاء لا يخلو عن إفتاء و هو شأن المجتهد دون العامي، بل عمل

بالواجب بالقدر الممكن و إن كان مشوباً بالخلاف.

و على كل تقدير لو كان في هرم النظام مجتهد جامع الشرائط، فعليه أن يتكفّل بهذه الأُمور، و عليه النصب و العزل و النقض و ليس للآخرين التدخل و إلّا استلزم الفوضى في النظام. «1»

و بما ذكرنا يظهر أنّ المسوغ لنصب المقلّد العارف بالأحكام على القضاء ليس هو المصالح العامة الواردة في عبارة المحقّق و غيره حتى يقال: «إنّ الأحكام الشرعية لا تتغير بالمصالح المرسلة فلا يجوز رفع اليد عن بعض شرائط النكاح و الطلاق و المعاملات بمجرّد وجود مصلحة تقتضي خلافها، بل يلزم العمل بإطلاق أدلّة الشرائط فلا يجوز رفع اليد عن شرطية العدالة، أو الاجتهاد في القاضي بوجود مصلحة ملحوظة في قضاء الشخص الفاقد لذلك الشرط».

و ذلك لما عرفت من أنّ المسوّغ، هو أدلّة رفع الحرج في الشرع، أو كون الاضطرار مسقطاً لشرطية الشرط إذا كان في دليل المشروط إطلاق، و إلّا فالمصالح المرسلة ليست مناطاً للتشريع في فقه الإمامية.

ثمّ إنّ بعض المانعين عن ممارسة المقلّد مهمّة القضاء عند الاضطرار قال:

______________________________

(1) لاحظ رسالة القضاء للمحقّق ميرزا حبيب الله الرشتي (م 1312 ه) فقد صدرنا في المقام عن تلك الرسالة الجزء الأوّل: باب: ما يختص بأحكام المقلّد المنصوب للقضاء، ص: 60، 61، 62، 63.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 105

إنّ التخلّص من هذه المشكلة الاجتماعية لا ينحصر بذلك بل هنا طرق أُخرى تنحلّ معها عقدتها و إليك الطرق:

1- العمل بالبيّنة لو كانت، و إلّا فيخلي سبيل المنكر، كما هو الحال بين الأُمم غير الدينية، من دون حاجة إلى الحلف.

2- العمل ببيّنة المدّعي أو أيّ دليل يقيمه بحيث يحصل العلم منه و إلّا

فيتوجّه الحلف على المنكر بناءً على عدم اختصاص الحلف بصورة وجود القاضي، و لمّا كان المفروض قبول المتنازعين الحقّ و الحكمَ الشرعي فيمكن لهما العمل بذلك من دون حاجة إلى وجود شخص ثالث.

3- الرجوع إلى قاعدة العدل و الانصاف و ليس مصداق العدالة أمراً خفيّاً.

4- العمل بالصلح القهري حيث يدور الحقّ بين شخصين.

5- العمل، بالقرعة في الشبهات الموضوعية لا الحكمية.

يلاحظ عليه: أنّ صاحب النظرية افترض المترافعين رجلين عادلين يريدانِ العمل بالحقّ المرّ، فعند ذلك يصحّ بعض ما افترضه رافعاً للمشكلة و لكن قلّما يتّفق ذلك و تصوّر أنّ موضوع البحث هو ما إذا لم يكن للإمام قدرة ظاهرية و الدافع الى العمل بالحكم إيمانهما، ليس بمعنى أنّه ليس لقضائه في نفوذ الحقّ أيّ تأثير، إذ ربّما يكون لقضائه تأثير في العمل بالحقّ و إن كانا يعرفانه قبل القضاء أيضاً بحيث لو لا القضاء لما كان دافع تامّ للعمل بالحقِّ، مضافاً إلى أنّ موضوع البحث أعمّ من ذلك و يعمّ ما إذا قامت دولة إسلامية قاهرة و لكن كانت القضاة الجامعة للشرائط أقلّ ممّا تحتاج إليه الأُمّة فيقع البحث في نصب المقلّد العارف على القضاء فتكون للقاضي قدرة التنفيذ.

و على ذلك فالفرضان الأوّلان، لا يتمشيان إلّا في مجتمع أشبه بالمدينة الفاضلة التي صوّرها أفلاطون و لا ينفعان في مجتمعنا، و الرجوع إلى قاعدة العدل

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 106

و الانصاف لا تفيد في الشبهات الحكمية و ليس بأقرب إلى الواقع من العمل بقول المقلّد العارف، و الطريق الرابع منحصر فيما إذا كان الحقّ بين شخصين خاضعين للصلح. و بالجملة اقتراح هذه الطرق، يعرب عن كون المقترح بعيداً عن المشاكل

الاجتماعية، و أمّا العمل بالقرعة فلا يتمّ إلّا في مورد وجود حقّ مردد بين الشخصين لا فيما إذا تردد الأمر بين وجود الحقّ و عدمه و هو الأكثر و لم ترد القرعة في المورد الأخير فلاحظ. و على أيّ تقدير فشكر الله مساعي كلّ من فكّر في رفع مشاكل الأُمّة الإسلامية.

الشرط التاسع: كونه ضابطاً

لا شكّ في شرطية الضبط في القضاء كاشتراطه في الإفتاء و الشهادة و نقل الرواية، غير أنّ المهم تقديره، فاكتفى المحقِّق بعدم غلبة النسيان عليه، فلو غلبه النسيان لم يجز نصبه. «1»

يلاحظ عليه: أنّ لازمه جواز نصب المساوي مع أنّه لا تجوز توليته. و لأجل ذلك عطف العلّامة عليه في القواعد، مساواتهما و قال: «و لو غلب النسيان أو ساوى ذُكره، لم تجز توليته». «2»

و الظاهر عدم كفاية مجرّد غلبة الذُكر على النسيان و إن كان قليلًا كما إذا زاد ذُكره على نسيانه بواحد بل لا بدّ مع ذلك أن يعدّ إنساناً ضابطاً، لا ناسياً و يكون نسيانه أمراً عاديّاً لا على خلاف العادة، و الدليل على اعتباره مضافاً إلى خطورة الموقف، و بناء العقلاء في المورد و نظائره انصراف النصوص إلى الإنسان المتعارف، و من غلب نسيانه ذُكره، أو ساواه، أو غلب ذُكره عليه بمقدار قليل، لا يعدّ إنساناً عادياً.

______________________________

(1) نجم الدين: الشرائع: 67.

(2) مفتاح الكرامة: 10/ 100، قسم المتن.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 107

الشرط العاشر: العلم بالكتابة

اختلفت كلمة الفقهاء في شرطية العلم بالكتابة و إن كان الاجتهاد، لا ينفكّ عن العلم بها غالباً. و قلّما يتّفق لإنسان، بلغ قمّة الاجتهاد، و مع ذلك يقرأ و لا يكتب.

قال الشيخ في المبسوط: فإن كان يحسن الكتابة انعقد له القضاء و إن كان لا يحسن الكتابة قال قوم: انعقد له القضاء لأنّه ثقة من أهل الاجتهاد و كونه لا يكتب لا يقدح منه لأنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إمام الأئمّة، ما كان يكتب و لم يُؤثَر ذلك منه و قال آخرون: الكتابة شرط لأنّه يحتاج أن يكتب إلى

غيره و أن يكتب غيره إليه .... «1»

و علّله في المسالك بقوله: بأنّه ربّما يضطر إلى معرفة الوقائع و الأحكام التي لا يتيسر ضبطها غالباً إلّا بها و هذا اختيار الشيخ و المصنف (المحقق) و أكثر الأصحاب و التمسّك بأُمّيّة النبيّ و أنّه كان لا يكتب مدفوع بأنّه كان مصوناً بالعصمة المانع من السهو و الغلط. «2»

و قد عرفت أنّ المسألة قليلة الجدوى جدّاً لعدم التفكيك بين الاجتهاد و الكتابة و مع ذلك فليست الكتابة شرطاً لجواز التصدّي كالبلوغ و العدالة فلو نصب للقضاء في أُمور لا تتوقف على الكتابة و الضبط صحّ نصبه و قضاؤه و إن لم يعرف الكتابة، غير أنّ القضاء في اليوم خصوصاً القضاء العام، لا ينفكّ عن الحاجة إلى الضبط بالكتابة و لا يكون القاضي مصوناً من الاشتباه و غدر المترافعين، حتّى أنّهم قالوا: ينبغي للقاضي أن يتّخذ كاتباً بين يديه يكتب عنده الإقرار و الإنكار. «3»

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 10/ 119.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 389.

(3) الطوسي: المبسوط: 8/ 112.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 108

الشرط الحادي عشر: البصر

قال الشيخ أمّا كمال الخلقة فيشترط أن يكون بصيراً فإن كان أعمى لم ينعقد له القضاء لأنّه يحتاج إلى معرفة المقرّ من المنكر، و المدّعي من المدّعى عليه و ما يكتبه كاتب بين يديه، و إذا كان ضريراً لم يعرف شيئاً من ذلك. «1»

و قال المحقّق: و في قضاء الأعمى تردّد أظهره أنّه لا ينعقد لافتقاره إلى التمييز بين الخصوم و تعذر ذلك مع العمى إلّا فيما يقلّ «2» و قد علم حاله ممّا ذكرناه في الكتابة، و أنّه ليس كسائر الشروط من البلوغ و العدالة فيجوز نصبه

لأُمور، لا يتوقّف القضاء فيها على البصر لكنّه قليل جدّاً. و الاضطرار إليه في أغلب الموارد، يجرنا إلى القول بعدم جواز نصبه.

الشرط الثاني و الثالث عشر: السلامة من الصمم و الخرس

قالوا باشتراط السلامة من الصمم و الخرس، لكن وزانهما وزان ما سبق من اشتراط الكتابة و البصر. فلا نطيل.

الشرط الرابع عشر: الحرية

و أمّا الحرّية فلا دليل على الاشتراط أوّلًا و أنّ عدم الابتلاء به أغنانا عن البحث عنه ثانياً.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 109.

(2) نجم الدين: الشرائع: 4/ 861.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 109

مسائل إحدى عشرة

الأُولى: في قاضي التحكيم و المأذون
اشارة

قد تعرّفت انقسام القضاء بالنسبة إلى الإذن الخاص و العام إلى المنصوب و المأذون، فالأوّل هو المختصّ بزمان الحضور إذا بعث المعصوم، شخصاً معيّناً للقضاء، روي عن علي عليه السلام أنّه قال: بعثني رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلى اليمن قاضياً. و بعث عليّ، عبد الله بن عباس قاضياً إلى البصرة. «1» و أمّا المأذون فهو من أذن له الإمام على الوجه الكلّي كما هو الحال في الفقيه الجامع للشرائط و لا يختصّ بزمان الغيبة بل يعمّها و الحضور، و الفقيه الإمامي في البلاد النائية في عصر الأئمّة كانوا قضاة مأذونين حسب المقبولة و غيرها. فسيوافيك الكلام فيه بعد الفراغ عن البحث إنّما الكلام في قاضي التحكيم. فيقع البحث فيه من جهات:

الجهة الأُولى: في تفسيره و تبيين مفهومه

إنّ الهدف من القضاء هو تبيين الوظيفة للمتخاصمين من حيث الواقع إذا كانت الشبهة حكمية، أو من حيث التنازع إذا كانت موضوعية أوّلًا، و إلزامهما على الاعتناق بما حكم في ظلّ القوّة ثانياً و على ذلك فقاضي التحكيم لا يفتقد إلّا الأمر الثاني، و يُتدارك باعتناق الطرفين و رضاهما بقضائه و إجرائهما حكمه و قد كانت القضاة في عصر الأُمويين و العباسيين منقسمين إلى رسميين و غير رسميين، فكانت الدولة و الحكومة وراء الرسميين دون غيرهم، نعم كان وراءهم رضا الطرفين و طيب نفسهما بحكمهم. و بما أنّ القضاء من شئون النبيّ أو وصيّه، «2»

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 82

(2) الوسائل 18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 110

قالوا: يشترط في ثبوت الولاية إذن الإمام عليه السلام و لو استقضى أهل البلد قاضياً لم تثبت ولايته. ثمّ استثنوا

منه صورة قاضي التحكيم و قالوا: نعم لو تراضى الخصمان بواحد من الرعيّة فترافعا إليه فحكم لزمهما حكمه و إن كان هناك قاض منصوب بل و إن كان إمام. «1» و سيوافيك وجهه.

الجهة الثانية: في تصويره في زمان الغيبة

ربّما يقال انّ قاضي التحكيم مختصّ بزمان الحضور قال الشهيد: و اعلم أنّ الاتّفاق واقع على أنّ قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب من الشرائط، التي من جملتها كونه مجتهداً و على هذا فقاضي التحكيم مختصّ بحال حضور الإمام ليفرّق بينه و بين غيره من القضاة فيكون القاضي منصوباً و هذا غير منصوب إلّا من جانب المترافعين و أمّا في حال الغيبة فسيأتي أنّ المجتهد يَنفُذ قضاؤه لعموم الإذن، و غيره لا يصحّ حكمه مطلقاً فلا يتصوّر في زمان الغيبة. قاضي التحكيم. «2»

يلاحظ عليه: أنّ الفقيه مأذون في القضاء بالإذن العام في زمان الحضور و الغيبة مطلقاً، كما هو مقتضى المقبولة و غيرها و عليه فلا يتصوّر المنصوب إلّا في حال الحضور مع بسط اليد، كعصر الإمام علي عليه السلام، و أمّا مع عدم البسط فزمان الحضور و عصر الغيبة سيّان في كون الفقيه مأذوناً و نافذاً حكمه من دون حاجة إلى التحكيم.

و مع ذلك يمكن تصويره في عصر الغيبة عند ما قامت دولة إسلامية و كان على رأسها فقيه جامع للشرائط، كما في عصر الدولة الصفوية حيث كان يرأسها

______________________________

(1) نجم الدين الحلي، الشرائع: 4/ 68.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 390، و قريب منه كلام المحقّق الأردبيلي في شرح الارشاد، لاحظ ج 2/ 184 و سيوافيك نصه في الجهة الثالثة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 111

فقيه جامع للشرائط كالمحقّق الكركي و غيره

و هكذا الأمر في الثورة الإسلامية المباركة في إيران فعند ذاك يمكن أن يقال إنّ كل فقيه و إن كان قاضياً حسب المقتضي لكن لأجل إيصاد باب الفوضى، يُمْنع الفقيه عن التدخل في القضاء إلّا بنصب من جانب الحكومة الإسلامية. و عند ذاك يصبح تلك الظروف كعصر الحضور مع بسط اليد، فينقسم القاضي إلى منصوب و غير منصوب، فليس لغيره القضاء و إن كان واجداً للولاية بنحو الاقتضاء لكن تمنعه رعاية المصالح العامّة إلّا بنحو التحكيم.

نعم هنا وجهان آخران لتصوّر قاضي التحكيم في زمان الغيبة و إليك بيانهما:

1- ما أفاده المحقّق الأردبيلي بقوله: إلّا أن يكون أعلم منه موجوداً و يتمكّن من الوصول إليه و إنفاذ حكمه و حينئذ يتعيّن ذلك بناءً على القول المشهور من تعيين الأعلم و حينئذ يتصوّر تراضي الخصمين بواحد من الرعيّة فتأمّل. «1»

و سيوافيك عدم وجوب كون القاضي أعلم في البلد بل يكفي الصدور عن الكتاب و السنّة فعندئذ تنتفي الفائدة.

2- ما سيجي ء من المحقّق الخوئي تبعاً لصاحب الجواهر من عدم اشتراط الاجتهاد في قاضي التحكيم فتظهر الثمرة في غير المجتهد، فيصحّ حكمه بعنوان التحكيم دون المجاز و سيوافيك الدليل على شرطية الاجتهاد مطلقاً من غير فرق بين المأذون و قاضي التحكيم.

الجهة الثالثة: قاضي التحكيم في كلمات الأصحاب

قال الشيخ: إذا تراضى نفسان برجل من الرعيّة يحكم بينهما و سألاه الحكم

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 1، ص: 111

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 184

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 112

بينهما كان جائزاً بلا

خلاف فإذا حكم بينهما لزم الحكم و ليس لهما بعد ذلك خيار. «1»

و قال في المبسوط: إذا ترافع نفسان إلى رجل من الرعيّة فرضيا به حكماً و سألاه أن يحكم لهما بينهما، جاز و إنّما يجوز أن يرضيا بمن يصلح أن يلي القضاء و هو أن يكون من أهل العدالة و الكمال و الاجتهاد على ما شرحناه من صفة القاضي لأنّه رضي به قاضياً فأشبه قاضي الإمام. «2»

و قال المحقق: و لو تراضى الخصمان بحكم بعض الرعيّة فحكم لزمهما حكمه في كل الأحكام. «3»

و قال ابن سعيد الحلي: و إن اختار الخصمان رجلًا يحكم بينهما و له شروط القضاء لزمه حكمه. «4»

و قال العلامة: و لو تراضى الخصمان بحكم بعض الرعيّة و حكم بينهما لزمهما حكمه. «5»

و قال الأردبيلي: نعم لو تراضى الخصمان بواحد من الرعيّة أن يحكم بينهما بحكم الله و لم يكن مأذوناً و منصوباً بخصوصه من الإمام و نائبه للحكم و القضاء، و حكم بحكم موافق للحق و نفس الأمر، بشرط اتصافه بشرائط الحكم غير الإذن من الاجتهاد و العدالة، صحّ ذلك الحكم و مضى حكمه فيهما و ليس لهما نقضه بعده و لا يشترط الرضاء بعد الحكم على المشهور و لا يجوز لهما خلاف ذلك و هذا إنّما يتصوّر في زمان الحضور و إمكان الاستئذان. لا حال الغيبة التي لا يمكن

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف، كتاب القضاء، المسألة 40.

(2) المبسوط: 8/ 164.

(3) النجفي: الجواهر، ج 40، قسم المتن 23.

(4) ابن سعيد الحلّي: الجامع للشرائع، 530.

(5) العلّامة الحلّي: إرشاد الأذهان: 2/ 138، ط النشر الإسلامي.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 113

الاستئذان، إذ حينئذ كل من اتصف بما تقدّم

من الشرائط فهو قاض و حاكم و لم يحتج إلى شي ء آخر غير ذلك كما تقرّر عندهم. «1»

الجهة الرابعة: ما هو الدليل على مشروعيّته؟
اشارة

استدل الأصحاب على نفوذ قضائه بوجوه قاصرة نشير إليها:

1- استدل الشيخ في الخلاف بما روي عن النبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال: من حكم بين اثنين فتراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة الله تعالى. «2»

يلاحظ عليه: أنّه على فرض صحّة الاحتجاج به يدلّ على أنّه يجب عليه الحكم بالعدل، و أنّه لو انحرف فعليه لعنة الله و أمّا أنّه ينفذ حكمه و يحرم خلافه فلا إذ من المحتمل أن يكون للمتخاصمين خيار بعد الحكم أيضاً.

فإن قلت: إذا افترضنا أنّه حكم بالحق، فلا معنى للخيار بعد الحكم به.

قلت: ذلك إذا حكم بالحق الواقعي لا الظاهري، و حكم القاضي، حكم ظاهري لا واقعي، و لزوم الأخذ به مختصّ بالثاني دون الأعم منه و من الأوّل و أمّا لزوم الأخذ بحكم القاضي لا لأجل كونه حكماً حقّاً، بل لأجل الروايات التي منها المقبولة.

2- ما مرّ من العمومات في الآيات و الروايات من لزوم الحكم بالحق و القسط و ما أنزل الله دون غيرها، و هو مطلق يعمّ كلا الصنفين، و قد دلّت الأدلّة على نفوذ حكمه إذا حاز ذلك الشرط.

يلاحظ عليه: عدم الإطلاق في العمومات من هذه الناحية فإنّها بصدد بيان لزوم كون الحكم على وفق ما أنزل الله، لا على وفق الحكم الجاهلي، و أمّا من هو

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 184.

(2) الطوسي: الخلاف: 3/ 322.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 114

الحاكم و ما شرائطه فليست بصدد بيانه حتى يتمسّك بإطلاقها.

3- إنّ الصحابة قاموا بعمل التحكيم، و لم

ينكره الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

يلاحظ عليه: أنّه لم يدلّ دليل على أنّه كان بمرأى و منظر منه. نعم لو كان و سكت كان دليلًا على السعة.

لكن الظاهر أنّا لا نحتاج في إثبات نفوذ حكمه إلى دليل خاص وراء العمومات الدالّة على نفوذ قضاء الفقيه الجامع للشرائط، و ذلك لأنّ المستفاد منها، هو نفوذ حكم الفقيه مطلقاً، في زمان الحضور و الغيبة، و توهم اختصاصها بزمانها، غير تام، لأنّ المقبولة تضمّنت حجية قول الفقيه في عصر الصادق و بعده فكيف تكون مختصّة بعصر الغيبة؟

غير أنّه إذا كانت للإمام المعصوم قدرة ظاهرية، أو كان هناك حكومة إسلامية يرأسها الفقيه النائب عن الإمام المعصوم، يتوقف جواز القضاء على النصب، لا لعدم المقتضي و عدم الصلاحية بل لأجل وجود المانع و هو تسرّب الفوضى إلى المجتمع الإسلامي، و ليس المقيّد دليلًا شرعياً حتى يؤخذ بإطلاقه و إنّما حكم عقليّ لغاية صدّ تسرّب الفساد في وجه الأُمة فلأجل ذلك يشتغل الفقيه المنصوب بالقضاء دون غيره حفظاً للمصالح و لكن الفساد رهن اشتغال غير المنصوب كالمنصوب، لاما إذا اشتغل به في واقعة أو واقعتين بصورة استثنائية، لأجل رضا الطرفين، فلا يتسرّب الفساد و عند ذاك تكون العمومات شاملة له كالمنصوب، لوجود المقتضي و عدم وجود المانع.

الاستئناس بالآيات و الروايات

و يمكن الاستئناس ببعض الآيات و الروايات في إثبات مشروعيّته و إنّما عبّرنا به دون الاستدلال لعدم الوثوق بكونها واردة في قاضي التحكيم:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 115

1 ما ورد في شقاق الزوجين من بعث الحكمين من جانبهما لينظرا في شقاقهما قال سبحانه: (وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا

إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً خَبِيراً) (النساء/ 35) و كأنّ الطرفين اتّفقا على أن يبعث كل حكماً حتى يتشاورا ثمّ يحكما، فالحكم بالتالي لكل من الطرفين، هو مجموعهما. و لو اتّفقا على رأي يكون نافذاً.

و الذي يبعِّد أن يكون مفاد الآية من قبيل قاضي التحكيم، أنّه لو كان من ذاك لزم تواجد جميع شروط القاضي في الحكمين من الإيمان و العدالة و الاجتهاد، و هو كما ترى إذ لو وجبت الرعاية لانسدّ باب التحاكم في أُمور الأُسرة.

2- ما ورد في تشاجر قبائل قريش عند بنيان الكعبة حيثما انتهى أمرهم في نصب الحجر الأسود في موضعه، فكل قبيلة أرادت أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى حتى أُعِدّوا للقتال إلى أن اتّفقوا على قضاء «محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم» و هو ابن خمس و ثلاثين سنة. «1»

3- لما انسحب جيش قريش و يهود خيبر عن المدينة و تركوا حليفهم «بني قريظة» في المدينة و هم قد نقضوا عهدهم مع المسلمين في غزوة الأحزاب، حاصرهم رسول الله خمساً و عشرين ليلة حتّى جهدتهم الحصارة و قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، و قبله الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فحكم في حقّهم بما هو المعروف في تاريخ السيرة. «2»

4- و لعلّ نزول الإمام علي عليه السلام و معاوية على حكم الحكمين مشروطاً بشروط، من هذا القبيل.

إنّ هذا المقدار من الشواهد التاريخية يثبت جوازها، أضف إليه، أنّ الرجوع

______________________________

(1) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 197.

(2) ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 239.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 116

إلى الحكم الحرّ أمر رائج

بين الأُمم و من البعيد أن يكون غير مشروع في الإسلام.

نعم هناك روايات ربّما تحمل على قاضي التحكيم:

1- روى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال في رجل كان بينه و بين أخ له مماراة في حقّه فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه و بينه، فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء: كان بمنزلة الذين قال الله عزّ و جلّ: (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) «1»، «2»

2- روى أبو بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله عزّ و جلّ في كتابه: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ) «3» فقال: «يا أبا بصير إنّ الله عزّ و جلّ قد علم أنّ في الأُمّة حكّاماً يجورون أمّا أنّه لم يعن حكّامَ العدل و لكنّه عنى حكّام أهل الجور يا أبا محمد! انّه لو كان لك على رجل حقّ فدعوته إلى حكّام العدل فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن حاكم إلى الطاغوت ...». 4

3- روى الحلبي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ربّما كان بين الرّجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منّا فقال: «ليس هو ذاك إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط». 5

أقول: الروايات تحتمل وجهين:

1- إنّها واردة في قاضي التحكيم فإنّ مقوّمه عبارة عن أُمور ثلاثة: أكونه غير منصوب. ب كونه جامعاً للشرائط. ج تراضي المتخاصمين على قضائه. و الموارد فيها جامع لها.

______________________________

(1) النساء: 60.

(2) 2 و 4 الوسائل: الجزء 18،

الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2 و 3.

(3) البقرة: 188.

(4) 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 117

2- إنّها واردة في القاضي المأذون و هو يتقوّم بالشرطين الأوّلين و لا يتوقف على التراضي، غير أنّ أخذ الثالث فيها لأجل أنّه لولاه لما يثمر الرجوع إليه إلّا إذا كانا متدينين معتنقين و هو قليل.

و الظاهر أنّها واردة في القاضي المأذون و أنّ وزانها وزان المقبولة و روايتي أبي خديجة حيث جاء فيها أيضاً، قيد التراضي و ما هذا إلّا لأجل أن يكون الرجوع مفيداً و مثمراً و إلّا سواء تراضيا أم لا فإنّ العمل بقولهم من واجبهم.

المقبولة و قاضي التحكيم

و لمّا بلغ الكلام إلى المقبولة و روايتي أبي خديجة فَلْندرسها فإنّ بعض الأعاظم، حاول تطبيق ما ورد في باب القضاء من إرجاع الناس إلى الفقيه الجامع للشرائط على قاضي التحكيم فلنبحث في المقبولة و غيرها.

أمّا المقبولة فالذي يوهم كون موردها من قبيل قاضي التحكيم أمران:

1- قوله عليه السلام: «فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً». «1» فإنّ رأي القاضي المنصوب و المأذون نافذ شرعاً رضيا به أم لا.

2- فرض تعدّد القاضي حيث قال: فإن كان كل واحد، اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما و اختلفا فيما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم.

فقال: «الحكم ما حكم به أعدلهما، و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر». «2»

وجه الدلالة: إنّ اختيار كل من الطرفين رجلًا لا يصحّ في القاضي المنصوب

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي،

الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 118

بل يجب عليهما فيه الرجوع إلى قاض واحد، فالقاضي المنصوب و إن كان يتعدّد وجوداً لكن لا يتعدّد رجوعاً.

يلاحظ على الوجه الأوّل: أنّ المراد هو القاضي المأذون و بما أنّ قضاءه نافذ شرعاً، لا عرفاً و قانوناً و ليست الدولة وراءه، أمر الإمام المتخاصمين بالتراضي حتى يكون جابراً لما يفوته من القدرة الظاهرية.

يلاحظ على الوجه الثاني: أنّه لو كان المختلفان في الرأي من قبيل قاضي التحكيم، لما وجب على أحد المتخاصمين الأخذ بالقول الأرجح، لأنّه رضي بالراجح لا بالأرجح. و بعبارة أُخرى رضي بقضاء العادل الفقيه الصادق الورع لا بقضاء الأعدل الأفقه الأصدق الأورع، فإلزامه بالأخذ لا يتفق مع كونه قاضي التحكيم، فلا مناص من إرجاعه إلى القاضي المأذون.

روايتا أبي خديجة و قاضي التحكيم

قد ورد في إحدى روايتيه: «فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه» «1» و في الأُخرى: «اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً». «2»

وجه الدلالة أنّه أمرهما بجعله قاضياً فإنّ القاضي المنصوب و المأذون، لا يحتاج إلى جعل المتخاصمين.

يلاحظ عليه: أنّ الدعوة إلى الجعل، ليس لأجل مدخليته في مشروعية القضاء كما هو الحال في مورد التحكيم، و إنّما هي لأجل تدارك ما يفوت المأذون من القوّة المجرية، حتى يقوم إقدامهما بالجعل مقامها.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 119

3 رواية داود بن الحصين و قاضي التحكيم

روى داود بن الحصين عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضى الحكم؟ قال: «ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه و لا يلتفت إلى الآخر». «1»

و ليس الموهم إلّا قوله: فرضيا و قد عرفت وجهه.

أضف إليه أنّه جزء من رواية المقبولة، لأنّ الراوي لها عن عمر بن حنظلة هو داود بن الحصين، فنقل جزء منها، بحذف آخر السند، أو سقوطه من قلم النساخ، فيأتي فيها ما قلناه في المقبولة.

و بذلك يعلم حال رواية موسى بن اكيل «2» فلا نطيل الكلام.

فاتّضحت أنّه لا وجه لحمل تلك الروايات الواردة في القاضي المأذون على قاضي التحكيم و ليس القاضي منحصراً بالمنصوب و التحكيم حتى يدور الأمر بينهما كما ربّما يبدو من بعضهم فهناك قسم ثالث و هو القاضي المأذون و الروايات وردت

في حقّه.

الجهة الخامسة: في بيان ما هو الشرط في قاضي التحكيم

هل يشترط في قاضي التحكيم، كل ما يشترط في القاضي المنصوب، سوى كون الثاني منصوباً دون الأوّل، أو لا يشترط فيه سوى الأمور العامّة من العقل و البلوغ و الإسلام و الإيمان؟

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 120

صريح المحقّق هو الأوّل، قال: يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب عن الإمام عليه السلام «1» و قال الشهيد في المسالك: «و اعلم أنّ الاتّفاق واقع على أنّ قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب من الشرائط التي من جملتها كونه مجتهداً». «2»

و الحق هو الاشتراط و الدليل حسب ما استظهرنا من عمومات نفوذ قضاء الفقيه، واضح، لما مرّ من أنّ الموضوع لنفوذ القضاء هو الصادر عن الكتاب و السنّة الذي يعبّر عنه اليوم بالفقيه الجامع للشرائط أو المجتهد، من غير فرق بين زمان الحضور (من عصر الصادق بل قبله أيضاً لوحدة الحكم في جميع الأزمنة) و زمان الغيبة، غير أنّ الظروف الخاصة كبسط اليد، أو قيام الدولة الحقّة قسّمه إلى منصوب و غير منصوب، و إلّا فالجميع داخل تحت عنوان الفقيه و لا يمنع عن قضاء غير المنصوب، شي ء سوى إيصاد باب الفوضى، و عند ذلك، يكون دليل الشروط في الجميع واحداً، فلو كان شي ء شرطاً في المنصوب يكون شرطاً في غيره لكونه شرطاً لنفوذ قضائه لا للنصب.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر استظهر من روايتي أبي بصير و الحلبي الماضية، عدمَ اشتراط أي شي ء خاص في قاض التحكيم سوى الشروط العامة من البلوغ و العقل و

الإسلام و الإيمان، قائلًا بأنّ الموضوع في الرواية الأُولى لأبي بصير هو الدعوة إلى قضاء الأخ فقط حيث قال: «فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه و بينه» «3» كما أنّ الموضوع في الرواية الثانية له هو كونه حاكماً بالعدل كما قال: «لو كان لك على رجل حقّ فدعوته إلى حكام أهل العدل ...». 4 و الموضوع في الثالث هو «رجل من الشيعة» كما قال: «فيتراضيان برجل منّا» 5 فإنّ مفاد هذه الروايات

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 40/ 28 قسم المتن.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 390.

(3) 3 و 4 و 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2، 3، 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 121

أنّهم أذنوا لشيعتهم أجمع، الحكم به و أنّ المدار هو القضاء بأحكامهم لا «1» بغيرها.

يلاحظ عليه أوّلًا: ما عرفت من عدم ثبوت ورود هذه الروايات في مورد قاضي التحكيم، بل هو أحد الاحتمالين، و الاحتمال الآخر كونها واردة في حقّ القاضي المأذون و أخذ قيد «الدعوة إلى الأخ»، و «حكّام العدل» أو «برجل منّا»، لتدارك ما يفوت المأذون من القوّة و القدرة، على ما تقدّم.

و ثانياً: أنّ الروايات بصدد بيان أصناف القضاة و أنّه لا يجوز الرجوع إلى حكّام الجور، بل يجب الرجوع إلى حكّام العدل، و أمّا ما هو شرائط أُولئك الحكّام؟ فليست الروايات بصدد بيانها، بل يمكن الاستئناس من عطف أحد الحكّام على الآخر، وحدة حكمهما، لأنّ حكّام الجور يوم ذاك كانوا من فقهاء العامة و من الذين كانوا يصدرون عن الكتاب و السنّة فليكن حكّام العدل أيضاً مثلهم.

إنّ المحقّق الخوئي ممن ذهب إلى عدم شرطية الاجتهاد في قاضي

التحكيم، اعتماداً برواية أبي خديجة الّتي جاء فيها قوله: «و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم» «2» حيث حملها على قاضي التحكيم، و قد مرّ الكلام فيها و أنّه لا يصح الاحتجاج بها، لأجل احتمال وحدة الروايتين و تردّد اللفظ الصادر عن أئمة أهل البيت بين دال على شرطية الاجتهاد و عدمه.

الجهة السادسة: في اشتراط الرضا بعد القضاء و عدمه

المشهور، عدم اشتراط الرضا بعد القضاء قال الشيخ في المبسوط: إذا ترافع نفسان إلى رجل من الرعيّة فرضيا به حكماً بينهما و سألاه أن يحكم لهما بينهما جاز و إنّما يجوز أن يرضيا بمن يصلح أن يلي القضاء و هو أن يكون من أهل العدالة

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 40/ 30.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 122

و الكمال و الاجتهاد، على ما شرحناه من صفة القاضي، لأنّه رُضي به قاضياً فأشبه قاضي الإمام، و لا فصل بين أن يرضيا به في بلد فيه حاكم سواه أو لا حاكم فيه، الباب واحد لأنّه إذا كان ذلك إليهما في بلد لا قاضي به، كذلك في بلد به قاض.

فإذا ثبت أنّه جائز فإذا نظر بينهما فمتى يلزم حكمه في حقّهما؟ قال قوم: بالرضا بما حكم به بعد حكمه. و قال آخرون: يلزم حكمه بما يلزم به حكم الحاكم و هو إذا أمضاه هو عليهما لما روي عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال: «من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله» فلولا أنّ حكمه بينهما يلزم، ما تواعده باللّعن عند الجور. «1»

و قال في الخلاف: إذا تراضى نفسان

برجل من الرعيّة يحكم بينهما و سألاه الحكم بينهما، كان جائزاً بلا خلاف فإذا حكم بينهما لزم الحكم و ليس لهما بعد ذلك خيار و للشافعي فيه قولان: أحدهما أنّه يلزم بنفس الحكم كما قلناه و الثاني: يقف بعد إنفاذ حكمه على تراضيهما، فإذا تراضيا بعد الحكم لزم. «2»

و قال المحقّق: و لا يشترط رضاهما بعد الحكم. «3»

و قال العلّامة في القواعد: و لا يجوز نقض ما حكم به ممّا لا ينتقض فيه الأحكام و إن لم يرضيا بعده إذا كان بشرائط القاضي المنصوب في الإمام. «4»

و قال الشهيد: قضاء التحكيم و هو سائغ و إن كان في البلد قاض و يلزم الخصمين المتراضيين به حكمه حتّى في العقوبة و هل يشترط رضاهما بعد الحكم؟ الأقرب لا. «5»

و قال الأردبيلي: مضى حكمه بينهما و ليس لهما نقضه بعده و لا يشترط الرضا

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط 8/ 164.

(2) الطوسي: الخلاف 3، كتاب القضاء، المسألة 40.

(3) النجفي: الجواهر 40/ 23، قسم المتن.

(4) العاملي: مفتاح الكرامة 10/ 3، قسم المتن.

(5) الشهيد: الدروس 2/ 1817.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 123

بعد الحكم على المشهور و لا يجوز لهما خلاف ذلك. «1»

و قال الشهيد الثاني في الروضة: و هل يلزم حكمه بنفس الحكم، كحكم القاضي أو لا يلزم إلّا بتراضيهما بعد الحكم؟ فيه قولان و يقال وجهان: أظهرهما الأوّل. «2»

نعم قال العلّامة في التحرير: و لو تراضى خصمان بواحد من الرعيّة و ترافعا إليه فحكم لم يلزمهما الحكم و إن كان غائباً. «3»

و مع ذلك فالحقّ هو عدم الحاجة إلى التراضي، و ذلك لوجهين:

1- إنّ قاضي التحكيم، ليس موضوعاً جديداً بل هو و القاضي المنصوب

من أقسام القاضي المأذون في عصر الغيبة، غير أنّ حفظ النظم، ألجأ غير المنصوب الى الانسحاب من ساحة القضاء مع أنّ له أهليّة القضاء و صلاحيته فإذا قضى في مورد لا تشمله أدلّة المنع، تعمّه أدلّة نفوذ القضاء و أنّه: «إذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخف بحكم الله و علينا ردّ و الرادّ علينا الرادّ على الله». «4»

2- إذا كان نفوذ الحكم منوطاً بتراضي الطرفين، تلزم لغوية القضاء لأنّه لا يخلو إمّا أن يحصل التراضي أو لا. فعلى الأوّل، يكون الفاصل، هو التراضي دون القضاء و يكون القضاء بمنزلة الإفتاء، و على الثاني، يطرح و يكون بلا أثر.

و إلى ما ذكرنا يشير الشيخ في الخلاف و يقول: و أيضاً لو كان الحكم لا يلزم بنفس الالتزام و الانقياد، لما كان للترافع إليه معنى فإن اعتبر التراضي كان ذلك موجوداً قبل الترافع إليه. «5»

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة 2/ 182.

(2) زين الدين: الروضة 3/ 71.

(3) التحرير: كتاب القضاء 180.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(5) الطوسي: الخلاف، كتاب القضاء، المسألة 40.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 124

فإن قلت: إنّ قوله عليه السلام في صحيح الحلبي: «ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط» «1» إذا كان وارداً في قاضي التحكيم يكون مفاده شرطية النفوذ بالتراضي.

قلت: مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الحديث يحتمل أمرين، أنّ الفقرة عنوان مشير إلى السلطات الجائرة، الذين كانوا يجبرون الناس على أحكامهم الباطلة بالسيف و السوط، و إلّا فهل يمكن لأحد أن ينكر لزوم القوّة و القدرة في إجراء الأحكام الحقّة؟ قال رسول الله صلَّى

الله عليه و آله و سلَّم: «الخير كلّه في السيف و تحت ظلّ السيف و لا يقيم الناس إلّا السيف». «2»

الجهة السابعة: نفوذ حكمه بحقوق الناس و عدمه
اشارة

الظاهر من كلمات الأصحاب نفوذ حكمه مطلقاً. قال المحقّق يعمّ الجواز كل الأحكام. «3»

و قال العلّامة في القواعد: «لزمهما حكمه في كل الأحكام حتّى العقوبات». «4» و قال شارح القواعد: «و المراد بالعقوبة في كلام المصنف، الحبس و إقامة الحدود و التعزير و النفوذ نفساً و طرفاً» و قال (المصنّف) فيما بعد: «و هل له الحبس و استيفاء العقوبة إشكال» فلا أراه إلّا رجوعاً. 5

و قال في الدروس: «و يلزم الخصمين المترافعين به حكمه حتى في العقوبات». 6

و قال في المسالك: «و ظاهر الأصحاب و صريح بعضهم ثبوت هذا الحكم في

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

(2) الوسائل: الجزء 11 الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(3) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 68.

(4) 4 و 5 العاملي: مفتاح الكرامة: 10/ 30 متناً و شرحاً.

(5) 6 مكي العاملي: الدروس: 2/ 68.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 125

جميع ما يقع فيه التداعي من المال و النكاح و القصاص و الحدود و غيرها لوجود المقتضي في الجميع و عموم الخبر، و استشكل العلّامة ثبوته في الحبس و استيفاء العقوبة من حيث إنّه ولاية شرعية و أمر خطير فلا يصلح أن يكون لغير الحاكم الشرعي و هو قول لبعض الشافعية نعم يختصّ بحقّ الآدمي حيث إنّه يتوقّف على نصب المتخاصمين فلا يحكم في حقوق الله تعالى إذ ليس لها خصم معيّن، و يختصّ حكمه بمن رضى فلا يضرب دية القتل خطأ على العاقلة إذا لم يرضوا

بحكمه و لا يكفي رضى القاتل. «1»

و يظهر نظرنا في المقام ممّا ذكرناه في الجهات السابقة و هو نفوذ رأيه و قضائه في جميع الموارد، إلّا فيما إذا لم يكن في المورد مشتك، و ذلك لأنّه لا يقصر عن القاضي المنصوب قدر شعرة و ربّما يترجّح عليه و إنّما عاقه عن التصدي صيانة النظام عن تسرّب الفوضى إليه، فإذا كان المانع مفقوداً، فيكون قضاؤه نافذاً.

نعم فيما إذا لم يكن هنا أيّ مشتك، فلا موضوع للتحكيم كما لا يخفى.

في نفوذ قضاء الفقيه الإمامي: القاضي المأذون
اشارة

قد عرفت أنّ القاضي ينقسم إلى قاض منصوب يختصّ بزمان الحضور مع بسط اليد، و قاضي التحكيم يتوقّف نفوذ قضائه على رضاء الطرفين و هو يختصّ عند الأصحاب بزمان الحضور، مع عدم بسطها و قد عرفت إمكان تصويره في زمان الغيبة أيضاً كما تقدّم و قاض مأذون من جانبهم و منصوب عنهم بالنصب العام، لا الخاص و لأجل التفريق بين القسمين نسمّيه بالمأذون لا بالمنصوب و إلّا فالنصب ممّا لا بدّ منه عموماً أو خصوصاً و ما في المسالك: «و أمّا مع عدم تمكّن ذلك إمّا لغيبته أو لعدم بسط يده، فيسقط هذا الشرط من جملة الشرائط و هو نصب الإمام له» محمول على سقوط النصب الخاص لا العام و إلّا فيفقد الولاية

______________________________

(1) زين الدين: المسالك 2/ 390389.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 126

كما سيوافيك توضيحه. و على كل تقدير يقع الكلام في جهات:

الجهة الأُولى: في نقل كلمات الأصحاب في نفوذ قضاء الفقيه

اتّفق الأصحاب على أنّه ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت عليهم السَّلام الجامع للصفات المشروطة في الفتوى:

1- قال المحقّق: فمع عدم حضور الإمام عليه السلام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت الجامع للصفات المشترطة في الفتوى. «1»

2- قال ابن سعيد: فإن تنازع المؤمنون حال انقباض يد الإمام عليه السلام فالحاكم من روى حديثهم و عرف أحكامهم و الرادّ عليه كالرادّ عليهم. «2»

3- قال العلّامة في الإرشاد: و في حال الغيبة ينفذ قضاء الفقيه من علماء الإمامية الجامع لشرائط الفتوى. «3»

4- قال في القواعد: و في حال الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء. «4»

5- قال الشهيد في الدروس: و في غيبة الإمام ينفذ قضاء الفقيه الجامع للشرائط. «5»

6- قال الشهيد الثاني: و ينفذ

عندنا قضاء الفقيه العدل الإمامي الجامع لباقي الشرائط و إن لم يتراض الخصمان. «6»

7- قال المحقّق الأردبيلي معلِّقاً على قول العلّامة في الإرشاد: دليله كأنّه الإجماع و الأخبار المتقدّمة الدالّة على جعله العالم بالأحكام قاضياً و حاكماً و أنّ

______________________________

(1) نجم الدين الحلّي: الشرائع 4/ 68.

(2) ابن سعيد الحلّي: الجامع للشرائع 531.

(3) العلّامة: إرشاد الأذهان.: 2/ 138.

(4) مفتاح الكرامة، قسم المتن ج 10/ 3.

(5) مكي العاملي: الدروس 2/ 67.

(6) زين الدين العاملي: المسالك 2/ 390.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 127

خلافه لا يجوز بل الرادّ عليه هو الرادّ على الله و هو على حدّ الشرك بالله و إن لم يكن سندها معتبراً على ما عرفت إلّا أنّ مضمونها موافق للعقل و كلامهم و قواعدهم المقرّرة. «1»

الجهة الثانية: في إغناء الإذن عن النصب

التصفح في كلمات الأصحاب يعرب عن اتّفاقهم على إغناء الإذن العام عن النصب قال الشهيد الثاني: أمّا مع عدم ذلك (التمكّن من الإمام) إمّا لغيبته أو لعدم بسط يده فيسقط هذا الشرط من جملة الشرائط و هو نصب الإمام له. «2»

و قال المحقق الأردبيلي عند البحث في روايات المقام: لعلّهم خصّوا بحال الغيبة و عدم إمكان النصب و الإذن للإجماع و نحوه. «3»

أقول: مرادهم من الغناء عن النصب، نصب الإمام المعصوم و ذلك لعدم التمكّن و لكن لا يستلزم ذلك، الغنى عن النصب مطلقاً و لو عن جانب الحاكم الأعلى إذا قامت دولة حقّ للإسلام يرأسها فقيه جامع للشرائط، فإنّ صيانة النظام عن تسرّب الفوضى يقتضي توقف النفوذ على نصب الحاكم الأعلى و ذلك لا لعدم المقتضي، بل لرعاية المصالح الملزمة.

الجهة الثالثة: في سعة نفوذ قضائه

لا شكّ في نفوذ قضاء الفقيه في الجملة، و إنّما الكلام في سعة نفوذه فيظهر منهم أنّه نافذ حتى في الموارد التالية:

1- ينفذ حكمه على مجتهد آخر يخالفه في الرأي.

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة 12/ 18.

(2) زين الدين العاملي: المسالك 2/ 390.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة 12/ 18.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 128

2 ينفذ حكمه على مقلد مجتهد آخر يخالفه في الرأي.

3- لا يجوز نقض حكمه بحكم آخر إلّا إذا علم علماً قطعياً بمخالفته للواقع بأن كان مخالفاً للإجماع المحقّق أو الخبر المتواتر أو تبيّن تقصيره في الاجتهاد، ففي غير هاتين الصورتين لا يجوز نقضه و إن كان مخالفاً لدليل قطعي نظري كإجماع استنباطي أو خبر محفوف بقرائن و أمارات قد توجب القطع مع احتمال عدم حصوله للحاكم الأوّل أخذاً بإطلاق عدم جواز ردّ حكم الحاكم الذي منه نقضه إلّا

إذا حصل القطع بكونه على خلاف الواقع فلا يكفي في جواز النقض كون الدليل علمياً لبعض دون بعض. «1»

4- لا يجوز نقض الحكم بالفتوى المخالف.

5- يجوز نقض الفتوى بالحكم في مورد ذلك الحكم مثلًا إذا ترافع شخصان على بيع شي ء من المائعات و قد لاقى عرق الجنب من حرام مثلًا عند من يرى طهارته فحكم بذلك كان محكوماً بالطهارة للمحكوم عليه و إن كان مجتهداً يرى نجاسته أو مقلّد مجتهد كذلك، لإطلاق دليل ما دلّ على وجوب قبول حكمه و أنّه حكمه و الرادّ عليه كالرادّ عليهم و يخرج حينئذ هذا الجزئي من كل الفتوى بأنّ المائع الملاقي عرق الجنب عن حرام، نجس في حقّ ذلك المجتهد و مقلّدته و كذا البيوع و الأنكحة و الطلاق و الوقوف و غيرها و هذا معنى وجوب تنفيذ الحاكم الثاني ما حكم به الأوّل و إن خالف رأيه ما لم يعلم بطلانه. «2»

و بما أنّ المحقّق و شرّاح الشرائع بحثوا عن هذه الأحكام بعد الفراغ عن صفات القاضي و آدابه، في ضمن المسألة الثالثة، فنحن أيضاً نقتفي أثرهم فانتظر.

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 26.

(2) النجفي: الجواهر 40/ 98 و وافقه السيّد الطباطبائي في ملحقات العروة: 2/ 27، المسألة 35، و لاحظ العروة الوثقى قسم التقليد، المسألة 55، فقد أفتى فيها السيد بفساد المعاملة من رأس، و هو ينافي مع ما ذكره في المقام و سيوافيك تفصيله في محلّه.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 129

الجهة الرابعة: في حرمة الترافع إلى حكّام الجور
اشارة

يحرم الرجوع إلى حكّام الجور إجمالًا و إليك كلمات الفقهاء:

1- قال المحقّق: و لو عدل إلى قضاة الجور و الحال هذه كان مخطئاً. «1»

2- قال أبو سعيد: و

لا يجوز الترافع إلّا إلى الإمام أو نائبه، و من أذن له. «2»

3- قال العلّامة: و من عدل عنه إلى قضاة الجور كان عاصياً. «3»

4- قال الشهيد الثاني بعد نقل رواية أبي خديجة و المقبولة: و قد ظهر منها الحكم بتخطئة التحاكم إلى أهل الجور. «4»

5- قال المحقّق الرشتي: لا يجوز الترافع و التحاكم إلى حكّام الجور في حال الاختيار أي مع إمكان الرجوع إلى حكّامنا بالأدلّة الأربعة. «5»

6- قال السيّد الطباطبائي: لا يجوز الترافع إلى قضاة الجور اختياراً و لا يحلّ ما أخذه بحكمهم إذا لم يعلم بكونه محقّاً إلّا من طرف حكمهم. «6»

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في الكتب الفقهية في عنوان المسألة و يدل على التحريم: الكتاب و السنّة و العقل.

أمّا الكتاب فقوله سبحانه: (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً). (النساء/ 60). و روى المفسّرون أنّه كان بين رجل من اليهود و رجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: أُحاكم إلى

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 68.

(2) أبو سعيد الحلي: الجامع للشرائع 530.

(3) العلّامة: الايضاح 4/ 294، قسم المتن.

(4) زين الدين العاملي: المسالك 2/ 390.

(5) الرشتي: القضاء: 14.

(6) السيد الطباطبائي: ملحقات العروة 2/ 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 130

محمّد لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة و لا يجور في الحكم فقال المنافق: لا! بل بيني و بينك كعب بن الأشرف لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة. «1» و مورد الآية و إن كان هو اليهود لكن المتفاهم هو

كل من يحكم بغير الحقّ. قال الطبرسي: و الطاغوت يوصف به أيضاً كل من طغى بأن حكم بخلاف حكم الله، و صريح الآية أنّه لا يجتمع الإيمان بما أنزل الله إلى نبيّه و الأنبياء السالفين، مع التحاكم إلى الطاغوت، بل لا يجتمع زعم الإيمان بالله مع إرادة التحاكم إليه، فإذا لم يجتمع زعم الإيمان معه، فكيف يجتمع الإيمان مع الرجوع، و ذكر زعم الإيمان دون الإيمان نفسه لأجل الإيعاز إلى نفاقه.

و أمّا من السنّة فيكفي في ذلك، ما في المقبولة: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى طاغوت و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً و إن كان حقّه ثابتاً لأنّه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر الله أن يكفر به». «2» أضف إلى ذلك رواية أبي خديجة 3 و صحيح الحلبي 4 و روايتي أبي بصير 5 و 6 و داود بن الحصين 7 و خبر موسى بن أكيل النميري 8 التي تقدمت و غير ذلك من الروايات الواردة في المقام.

و أمّا من العقل، فإنّ حكم الجائر بينهما حرام و الترافع إليه يقتضي ذلك فيكون اعانة على الإثم و هي منهيّ عنها.

و أورد عليه في الجواهر: بمنع الصغرى أوّلًا و منع حرمة الكبرى ثانياً 9

أقول: إنّ المستدل تارة يستدلّ بحكم العقل على حرمة مقدّمة الحرام، و أُخرى بما دلّ على حرمة التعاون على الإثم و العدوان و إن كان ظاهر كلامه هو الثاني، فعلى الأوّل لا وجه للشك في كونه مقدّمة للحرام، و أمّا الكبرى فلو قلنا

______________________________

(1) الطبرسي: مجمع البيان 2/ 66.

(2) 2 و 3 و 4 و 5 و 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي،

الحديث 4، 5، 8، 2، 3.

(3) 7 و 8 الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20، 45.

(4) 9 الاستدلال من المحقق السبزواري نقله في الجواهر 40/ 35 و أورد عليه بما عرفت.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 131

بحرمة مطلق المقدّمة أو الجزء الأخير منها فهو حرام أيضاً لأنّ المقصود من الترافع ليس مجرّد الرجوع إلى محكمته، بل طرح الدعوى بالإتيان بالشاهد أو تحليف المنكر و لا شكّ أنّه الجزء الأخير من مقدّمات الأمر المحرّم أعني: حكم الجائر.

و على الثاني فلمنع كل من الصغرى و الكبرى وجه و إن كان غير مرضيّ عندنا أمّا منع الصغرى فلأنّ المحرم حسب ظاهر الآية، هو المعاونة القائمة بالطرفين، لا الإعانة القائمة بالطرف الواحد كما في المقام أمّا منع الكبرى فلاحتمال كون النهي تنزيهياً، كالأمر الوارد في عدله أعني: (وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ) (المائدة/ 2).

يلاحظ على الأوّل: أنّ التعاون كما يصدق في مورد الاجتماع على الإتيان بالإثم و العدوان كأن يجتمعوا على قتل النفوس و نهب الأموال كذلك يصدق إذا قام واحد بالعمل مستقلًا و أعان آخرون عليه و الحاصل أنّه يصدق فيما اشتركوا في الإتيان بالمحرّم و فيما إذا اشتغل واحد، و أعان الآخر عليه، قال في اللسان: «تعاونا: أعان بعض بعضاً» «1»

و الذي يدلّ على ذلك أنّ أمين الإسلام فسّره بنحو عام و قال: أمر الله عباده بأن يعيّن بعضهم بعضاً، على البرّ و التقوى أو هو العمل بما أمرهم الله تعالى به، و اتقاء ما نهاهم عنه، و نهاهم أن يعين بعضهم بعضاً على الإثم و هو ترك ما أمرهم به و ارتكاب ما نهاهم عنه

من العدوان و هو تجاوز ما حد الله لعباده في دينهم و فرض لهم في أنفسهم. «2»

و يلاحظ على الثاني: بأنّ الموضوع لا يناسب كون النهي تنزيهياً و هو التعاون على الإثم و العدوان و عندئذ لا يكون الصدر قرينة على الذيل.

إلى هنا تمّ بيان ما دلّ على حرمة الترافع إلى قضاة الجور، غير أنّ للمسألة صوراً فيقع الكلام في كون الحكم عاماً لجميع الصور أمكن الرجوع إلى الفقيه

______________________________

(1) ابن منظور: لسان العرب: 13/ 299.

(2) الطبرسي: مجمع البيان: 2/ 155 ط صيدا.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 132

الإمامي أو لا. و أيضاً إذا ترافع إليهم، هل يكون ما يأخذه بحكمه حراماً و سحتاً من غير فرق بين الدين أو عين ماله. أو يفرق بينها؟ و لأجل إيضاح الحال نقول:

إنّه تارة يتمكّن من استيفاء حقّه من الرجوع إلى الفقيه الإمامي و أُخرى لا يتمكّن من ذلك، و على كل تقدير تارة يكون محقّاً قبل الترافع و أُخرى يكون محقّاً بالترافع، و على جميع التقادير، فتارة يكون المأخوذ بحكمهم، هو عين ماله الذي كان استولى عليه الطرف، و أُخرى يكون دينه الذي كان عليه و يتشخص بالترافع و القضاء عليه. هذه هي الصور المطروحة

و نبحث عن الجميع في ضمن صور أربع:
الأُولى: إذا تمكّن من استيفاء حقّه بالرجوع إلى الفقيه الإمامي و كان محقّاً قبل الترافع،

عالماً بأنّ العين الفلاني الذي في يد المدّعى عليه ماله، أو أنّ له مالًا في ذمّته فلا شكّ أنّ الرجوع إليهم حرام للأدلة السابقة، و المأخوذ بحكمه حرام أيضاً، كيف و قد أسماه الإمام سحتاً؟ فقال: و ما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً و إن كان حقّه ثابتاً لأنّه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر الله أن يكفر به. «1»

و احتمال اختصاص الرواية بما إذا ثبت

كونه محقّاً بالترافع، لا من كان محقّاً قبله يردّه ظهور الرواية في كونه محقاً قبله قال: «و إن كان حقّه ثابتا لأنّه أخذه بحكم الطاغوت» أضف إليه عموم التعليل أعني قوله: «لأنّه أخذه بحكم الطاغوت» من غير فرق بين كونه محقّاً قبله أو بعده.

هذا مما لا ينبغي الشكّ فيه إنّما الكلام في سعة الحكم للعين و الدين فهل الحكم عام أو يختصّ بالثاني؟ قولان مبنيّان على أنّ السحت هل هو مطلق الحرام، سواء كان مال الغير أو لا، أو هو مال الغير الحرام، بحيث يعدُّ كونه مال الغير مقوّماً له؟ و قد اختار المحقّق الرشتي القول الثاني و لم يذكر له دليلًا «2»، و يمكن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.

(2) كتاب القضاء: 65.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 133

استظهاره من الكتاب و كلمات اللغويين أمّا الكتاب فقد استعمله في خصوص الرشوة. قال سبحانه: (سَمّٰاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ) (المائدة/ 42)، و قال تعالى: (لَوْ لٰا يَنْهٰاهُمُ الرَّبّٰانِيُّونَ وَ الْأَحْبٰارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ) (المائدة/ 63) و فسر في كلا الموردين بالرشوة «1» و أمّا اللغة فقد فسّروه بثمن الكلب و الخمر و الخنزير و الرشوة و في حديث ابن رواحة أنّ اليهود لما أرادوا أن يرشوه قال: أ تطعموني السحت أي الحرام سمّي الرشوة في الحكم سحتاً و في الحديث: يأتي زمان يستحلّ فيه كذا و كذا، و السحت: الهدية أي الرشوة في الحكم و الشهادة و نحوهما. «2»

و يؤيده أنّ حرمة مال الإنسان لمالكه على خلاف الأصل لا يصار إليه إلّا لوجه، ككونه رهناً، أو كون المالك قاصراً كالسفيه أو مفلَّساً

متعلّقاً ماله لحقوق الغرماء و أمّا المقام فليس هنا قصور لا في العين و لا في المالك، فلا وجه لكون التصرّف فيه حراماً و سحتاً و إن كان أصل الترافع أمراً محظوراً و لا يقاس بالدين، لأنّ كون ماله عوضاً عن الدين، يتوقف على الولاية أو الرضا به، و القاضي لا ولاية له، و هو أيضاً غير راض، بخلاف العين فهي باقية على ملك المالك.

و يمكن أن يستظهر القول الأوّل بوجهين:

1- بما ورد في صدره من منازعة في دين أو ميراث، و الثاني يراد منه ما يقابل الدين.

2- الأخذ بعموم التعليل، و هو: لأنّه أخذه بحكم الطاغوت و قد امروا أن يكفروا به.

يلاحظ على الأوّل: أنّ الميراث، يكون مشاعاً غالباً، فاختصاص واحد من الورثة به، يتوقّف على الولاية أو الرضا و كلاهما مفقودان و يكون حكمه حكم

______________________________

(1) الطبرسي: مجمع البيان: 2/ 196 و 217 ط صيدا.

(2) لسان العرب، 2/ 41؛ النهاية 2/ 340؛ تاج العروس 550.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 134

الدين.

و على الثاني: أنّه لا يعدو عن كونه إشعاراً و لعلّ المراد أنّه تملّك بحكم الطاغوت، لا مطلق الأخذ، فيكون مختصّاً بالدين لا الأعم.

ثمّ إنّ المراد من ثبوت كونه محقّاً قبل الترافع، أعم من كون الحقّ معلوماً واقعاً، كما إذا استولى المنكر على ماله، أو استقرضه ثمّ انكر المديون، أو معلوماً في ظاهر الشرع كما إذا شهدت البيّنة بأنّ أباه، كان له على فلان كذا و كذا، أو كان مقتضى فتوى مقلّده كونه ذا حقّ و أمّا مع عدم العلم واقعاً و لا ظاهراً، و لكن لما رفع الترافع إلى حاكم الجور، فقد قضى له. و هذا، هو

الصورة التالية.

الصورة الثانية: إذا أمكن الترافع لدى حكّام العدل و كان هناك نزاع بينه و بين شخص من أبناء جلدته و لم يكن الحق متبيّناً قبل الترافع

و إنّما صار محقّاً بقضاء قاضي الجور، فالترافع إليه حرام أوّلًا، و هو الفرد الأجلى للروايات السابقة، و يحرم عليه الأخذ عيناً و ديناً. ثانياً، لعدم الاعتداد بقضاء أهل الجور، فلا يثبت به كونه مالكاً للعين، و الدين فضلًا عن تشخّصه بحكمه في مال معين.

الصورة الثالثة: إذا علم كونه محقّاً قبل الترافع و عالماً بأحد الأنحاء المذكورة أنّه مالك للعين أو الدين في ذمّته

غير أنّه توقف استيفاء حقّه المعلوم واقعاً على الترافع إلى غير الأهل من قضاة الجور إمّا لعدم رضى الطرف المقابل إلّا بالترافع إلى غير الأهل من قضاة الجور، أو لعدم وجود الحاكم الشرعي، أو لعدم إمكان إثبات الحقّ عنده أو لعدم نفاذ قضائه. فالظاهر جوازه لانصراف الأخبار عن هذه الصورة، بشهادة أنّها تأمر بالتراضي على الرجوع إلى من له شرائط القضاء من الشيعة و معناه إمكان الرجوع إلى الأهل فيحلّ ما يأخذه عيناً أو ديناً أمّا العين فقد علمت حالها و أمّا الدين فلسقوط شرطية رضائه بإبائه و عدم وجود طريق آخر للاستنقاذ.

و أقصى ما يمكن أن يقال: أنّه إعانة على الإثم، و لكن إطلاقها مخصّصة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 135

بنفي الضرر و الضرار و يمكن الاستدلال بصحيح علي بن مهزيار عن علي بن محمّد عليهما السَّلام سألته هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منّا في أحكامهم؟ فكتب عليه السلام: «يجوز ذلك إن شاء الله إذا كان مذهبكم فيه التقيّة منهم و المداراة لهم». «1»

إذ بناء على ما احتمله الفيض في الوافي من «أنّه يجوز لنا أن نأخذ حقوقنا منهم بحكم قضائهم كما يأخذون منّا بحكم قضائهم يعني إذا اضطرّ إليه كما إذا قدّمه الخصم إليهم» «2» يكون دليلًا على جواز الترافع عند الاضطرار.

و حمله في الجواهر على أنّ المراد المعاملة معهم

كمعاملتهم معنا في مثل الشفعة بالجوار، و توريث العصبة «3» و نحو ذلك و عندئذ يخرج عن مورد الترافع، و يكون من أدلّة قاعدة الإلزام، و لكن هذا المعنى لا يلائم مع ما في كتاب أبي الأسد «4» فتعيّن الأوّل.

و أمّا خبر عطاء بن السائب عن علي بن الحسين عليهما السَّلام قال: «إذا كنتم في أئمة جور فاقضوا في أحكامهم و لا تشهروا أنفسكم فتقتلوا و إن تعاملتم بأحكامنا كان خيراً لكم». و رواه في العلل إلّا أنّه قال: و إن تعاملتم بأحكامهم. «5»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11، من أبواب آداب القاضي، الحديث 1، و المراد من علي بن محمّد هو الإمام الهادي، فما في الجواهر من قوله: «خبر علي بن محمّد» ليس في محلّه، لإيهامه أنّ علي بن محمّد راو، أضف إليه أنّ الشيخ رواه في التهذيب عن أحمد بن محمّد بن عيسى و سنده إليه صحيح كما نصّ به الأردبيلي في جامع الرواة 2/ 469.

(2) الفيض: الوافي:

(3) النجفي: الجواهر 40/ 35.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب 11، من أبواب آداب القاضي، الحديث 2، و في الجواهر المطبوع: فامضوا مكان «فاقضوا»، الجواهر 40/ 36. و في السند صالح بن عقبة و عطاء و كلاهما لم يوثقا، نعم عمرو بن أبي المقدام ضعّفه الغضائري في أحد كتابيه و وثّقه في كتابه الآخر، كما نقله العلّامة في الخلاصة، و روى الكشي في رجاله مدحاً له.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 136

و لعلّه يهدف إلى جواز العمل بأحكامهم تقيّة كتعيين أوّل الشهر صياماً و إفطاراً و عند ذلك لا تكون له

صلة بباب القضاء خصوصاً على ما رواه في الجواهر «فامضوا» مكان «فاقضوا».

و أولى بالصّحة إذا كان الخصم من أهل الخلاف.

فإن قلت: جواز التصرّف في العين لا غبار عليه إنّما الكلام في جواز التصرّف في عوض الدين إذ كيف يتشخّص له مع عدم الولاية للقاضي، و الرضا للمنكر.

قلت: تسقط شرطية رضاءه في المقام لأجل إبائه و عدم طريق آخر للاستيفاء، فليس لحكم قاضي الجور دور سوى إعطاء القدرة الرسمية لإعادة عينه إلى سيطرته، و استيفاء دينه المسلّم.

الصورة الرابعة: نفس الصورة الثالثة، لكن لم يتبيّن كونه محقّاً إلّا بالترافع إليهم،

فالترافع إليهم و إن كان جائزاً لانصراف الأدلّة عن صورة الاضطرار لكن لا يصحّ الأخذ بحكمهم لعدم العلم بكونه مالكاً للعين أو الدين، و لا قيمة لقضاء قاضي الجور عندئذ فيصبح كالعدم إلّا إذا كان الخصم مخالفاً أخذاً بقاعدة الإلزام بشرط أن لا يعلم باستحقاقه و إلّا فيحرم كما هو مفاد رواية أبي الأسد.

الصورة الخامسة: إذا استعان بظالم من دون أن يكون حاكم جور أو قاضيه في استيفاء حقّه

فإن لم يتبيّن له كونه محقّاً، فيحرم الرجوع و لا يملك ما أخذه من العين و الدين لعدم ثبوت كونه مالكاً لها.

إنّما الكلام فيما إذا كان محقّاً، فإن أمكن استيفاء حقّه بالرجوع إلى حاكم العدل، فالرجوع إليه حرام لكونه ركوناً إلى الظالم و قد قال سبحانه: (وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ) (هود/ 113). فان استعان و الحال هذه يجوز له التصرّف في العين دون عوض الدين و إن لم يمكن الاستيفاء به، و انحصر الطريق بالاستمداد من الظالم فالظاهر جواز الرجوع، لقاعدة لا ضرر و جواز التصرّف في العين، و عوض الدين كما عرفت في الصورة الثالثة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 137

المسألة الثانية «1» و فيها فروع
1- تولي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه.
2- ربّما وجب و يكون واجباً على الكفاية.

و قد تقدّم الكلام في هذين الفرعين.

3- إذا علم الإمام عليه السلام أنّ بلداً خال من قاض لزمه أن يبعث له

و يأثم أهل البلد بالاتّفاق على منعه و يحلّ قتالهم طلباً للإجابة. «2»

و لا بدّ من تقييد اللزوم بوجود الحاجة إلى القاضي. و أمّا وجوب البعث فإنَّ نصب القاضي من شئون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فإنّ مفاده يختلف بالنسبة إلى العامي و الحاكم الإسلامي المقتدر فإنّ مفاده بالنسبة إلى الأوّل ليس إلّا دعوة الناس بما يقتضيه تكليفهم، كما إذا كذب إنسان أو اغتاب فيلزم نهيه عن ذلك لاعتراف الآمر و المأمور بحرمة الكذب و الغيبة، و لا يعمّ المعروف و المنكر الثابتين بالقضاء لأنّهما بالنسبة إلى أدلّة الأمر بالمعروف، من قبيل الموضوع الجديد، و الحكم لا يثبت موضوعه، و إنّما يتوجّه إلى الموضوع المحرز قبل الحكم.

هذا كلّه في العامي، و أمّا الحاكم الإسلامي، المقتدر، فلا يشترط في حقّه العلم التفصيلي بالموضوع قبل التمسّك بأدلّة الأمر بالمعروف بل يكفي العلم الإجمالي بوجود معروف متروك، و منكر معمول، فهذا المقدار من العلم الإجمالي، يكفيه في إحراز الموضوع، و يصحّ التمسك عندئذ بما دلّ على لزوم الأمر بالمعروف، و من توابعه، نصب القاضي لكونه من مبادئ الأمر بالمعروف أو نفسه بمعنى، و لأجل ذلك قال المحقق: «لزم أن يبعث له».

و أمّا حليّة قتال المخالفين عن دخول البلد، أو قضاءه فلأنّه قيام على ضدّ

______________________________

(1) مرّت المسألة الأُولى ص 109.

(2) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 68.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 138

الحكومة الإسلامية المحلّ للقتال إلى حدّ الاستسلام.

4- لزوم التصدي للقضاء و شقوقه

قد عرفت أنّ القضاء واجب كفائي و معناه وجوبه على الكل غير أنّه يسقط بقيام البعض. و إذا كان القادر بالإتيان واحداً يتعيّن الأمر عليه و هنا صور و شقوق و أقسام أشار إليها

الشيخ في الخلاف، و المحقّق في الشرائع، و فصّلها الشهيد الثاني في المسالك و تبعهم صاحب الجواهر و نحن نذكر أكثر الأقسام.

الف: إذا كان هناك جماعة يعلمون القضاء على حدّ واحد، فعيّن الإمام واحداً منهم فولّاه قال الشيخ في الخلاف: «لم يكن له الامتناع من قبوله، و للشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه. و الآخر يجوز له الامتناع لأنّه من فروض الكفاية ثمّ استدل الشيخ على فتواه بأنّ الإمام معصوم عندنا فإذا أمر بأمر لا يجوز خلافه لأنّ ذلك معصية و اثم يستحق فاعلها الإثم و العقاب». «1»

يلاحظ عليه: بأنّه لو تمّ الفرض، لا يختصّ الحكم بالإمام المعصوم، بل يعمّ الحاكم الإسلامي الأعلى الذي بيده رتق الأُمور و فتقها، و قد عرفت لزوم النصب عند قيام دولة إسلامية يرأسها فقيه جامع للشرائط فإذا نصب يكون لازماً على المنصوب امتثال أمره.

و أورد عليه المحقّق بنفي الصغرى و أنّ الإمام بعد تساوي الأفراد في القضاء لا يأمر بواحد معيّناً فإنّه من قبيل إلزام ما ليس بلازم. «2»

و لا يخفى أنّ تعدّد القابل للقضاء و صلاحية المتعدّد له، لا ينفي، تعيين فرد خاصّ على القضاء فإنّه ربّما يكون في بعض الأفراد مزية، غير ملزمة ككونه صاحب عشيرة في المنطقة أو عارفاً بلسان أهلها غير محتاج إلى المترجم أو غير

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف، كتاب القضاء، المسألة 2.

(2) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 6968.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 139

ذلك من المرجّحات غير الملزمة، و هذا و أمثاله، ربّما يبعث الإمام لأن يعين ذاك الفرد دون الآخر، و إن كان الجميع صالحين للقضاء و عارفين له.

ب: إذا كان العارف به واحداً فقط و عيّنه

الإمام، فيجب عليه و ينقلب الوجوب الكفائي إلى العيني. و دليل الحكمين في هذه الشق و ما قبله و ما يأتي إذا كان المعيّن معصوماً قوله سبحانه: (وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا مُبِيناً) (الأحزاب/ 36) و قال سبحانه: (أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء/ 59). و أمّا إذا كان فقيهاً جامعاً للشرائط، فدليل الحكمين هو وجوب نفاذ حكمه و عموم ولايته بالنسبة إلى هذه الموارد. ثمّ إنّ الفرد المعيّن بالامتناع عن الإجابة يفقد شرط القضاء و هو العدالة و لكن لا يسقط الحكم لتمكّنه من تحصيل الشرط (العدالة) بالتوبة كما لا يخفى.

ج: إذا انحصر العلم بالقضاء في واحد و لم يعلم به الإمام لو صحّ الفرض في الإمام المعصوم أو الحاكم الإسلامي، يجب على الواجد، إعلام الإمام نفسه و لكن إثباته بالموازين مشكل، لعدم وجوب القضاء عليه، إلّا بالنصب و المفروض أنّه غير منصوب، فكيف تجب مقدّمته أعني: التعريف بنفسه عند الإمام و لا محيص عن القول بوجود العلم بالملاك و إن لم يكن هناك علم بالخطاب، كما إذا غرق ابن المولى في الماء و كان المولى غافلًا و العبد ملتفتاً إليه فيكفي في الذم و العقاب العلم بالملاك، و قد صحح الأُصوليون موارد عن هذا الطريق منها: الإتيان بالمهمّ مع وجود الأهم بناء على بطلان الترتّب و عدم الأمر بالمهم كما هو واضح.

د: تلك الصورة و لكن تعدّد القابل و القائم بمهمّة القضاء، فيجب على الكل الإعلام كفاية، و يسقط بإعلام واحد منهم شأن كل واجب كفائي.

ه:

إذا تعدّد القابلون و طلب الإمام واحداً منهم لا على التعيين تجب التلبية على الكل، و تسقط بتلبية واحد منهم و إلّا أثم الجميع.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 140

إلى غير ذلك من الصور المذكورة في المسالك فلاحظ.

5- في بذل المال لتصدّي القضاء

إذا كان التصدّي للقضاء من جانب الجائر أمراً راجحاً، موجباً لرفع الظلم و إجراء العدل و الحقّ، يكون بذل المال جائزاً للنصب و البقاء بل لأجل عزل القاضي الجائر و إن كان الأخذ للظالم حراماً إنّما الكلام إذا كان التصدّي من جانب الحاكم العادل، فلا يجوز أخذ المال، و لا دفعه إلى بيت المال، و لأجل عدم الجدوى في المسألة، أعرض عن شرحها، صاحب الجواهر.

المسألة الثالثة: في تولية المفضول مع وجود الفاضل
اشارة

و هنا جهات من البحث:

الأُولى: في تعيين محلّ النزاع.

فنقول: إنّ لتولية المفضول مع وجود الفاضل مجالات:

تارة يبحث عنها في باب الإمامة الكبرى و النيابة عن الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم، فقد اتفقت كلمة الشيعة على قبحها و عدم صحّتها، و أُخرى في باب التقليد و أخذ الأحكام فالمشهور عندهم هو لزوم الرجوع إلى الفاضل دون المفضول مطلقاً، أو في موارد الاختلاف، و ثالثة في كتاب القضاء و أنّه هل يجوز تصدّي المفضول لمهمّة القضاء مع وجود الفاضل مع استكمال الشرائط المعتبرة فيها أو لا؟ و هو المقصود هنا. و له شقوق:

الف: هل يجوز للإمام المعصوم أن ينصب المفضول مع وجود الأفضل؟

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 141

قال المحقّق: الوجه الجواز لأنّ خلله ينجبر بنظر الإمام عليه السلام. و لا يخفى أنّ الإمام أعرف بواجبه، فلا جدوى للبحث، أضف إليه، أنّ خلله إنّما ينجبر إذا كان للإمام إشراف على قضائه، كما كان لعلى عليه السلام إشراف على قضاء شريح لاما إذا كان بعيداً عنه.

ب: إذا كان هنا علماء موصوفون بصفات المفتي و القاضي و فيهم من هو أعلم من غيره، فما هو وظيفة العامي في الرجوع إلى الترافع قبل أن يقلّد؟

إنّ وظيفة العامي في المقام نفس وظيفته في باب التقليد فيجب عليه قبل التقليد عقلًا، العمل بالاحتياط و تكون النتيجة هو تعيّن الرجوع إلى الأفضل، لدوران الأمر بين التعيين و التخيير، و أمّا إذا قلّد فيجب عليه أن يعمل بفتوى مقلَّده سواء قال بتعيّن الرجوع إلى الأفضل أو بالتخيير بينه و بين غيره.

ج: إذا كان علماء موصوفون بصفات الإفتاء و القضاء و فيهم من هو أعلم من غيره، و كانت مفاتيح

الأمور بيد قضاة الجور، فهل لغير الأفضل تصدّي القضاء في زمان الغيبة أو لا؟ و بعبارة أخرى: هل يجوز للعامي الرجوع إلى غير الأفضل حسب الأدلّة الاجتهاديّة أولا؟

د: إذا قامت دولة اسلامية في عصر الغيبة يرأسها فقيه جامع للشرائط، فهل يتعيّن عليه نصب الأفضل مع وجود الفاضل، أو يتخير؟ و هذا هو الصالح للبحث عنه في المقام و إن كانت كلمات الأصحاب غير واضحة.

الجهة الثانية: ما هو ملاك الأفضلية؟

ليس الملاك في المقام تفاضل أحد القاضيين على الآخر في الروحيات و الملكات كالأعدلية، و الأورعية، و الهاشمية، لأنّ المطلوب في باب القضاء هو عدم التهجّم على المحارم و يكفي في تحققه كونه ورعاً و عدلًا، بل الملاك في المقام كون رأي أحدهما أقرب إلى الواقع، و لا يتحقق ذلك إلّا بالأعلمية و الأفقهية و قد

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 142

نصّ بذلك صاحب الجواهر في آخر المسألة و قال: و الظاهر أنّ المدار على الفضيلة في الفقه و لو باعتبار الفضيلة في المقدّمات على وجه يعدّ كونه أفقه، أمّا ما لا مدخلية له فيه فلا عبرة به. «1»

نعم أفاد في صدر المسألة و قال: نعم مع تساويهما في العلم يقدّم الأعدل لكونه أرجح حينئذ فيكون الحاصل حينئذ ترجيح أعلم الورعين و أورع الورعين لقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح. 2

إنّ طبع المسألة يقتضي انحصار ملاك التفاضل بالعلم و الفقه فقط و لأجله لا يصح قوله في العبارة الثانية: «ترجيح أعلم الورعين» أمّا الترجيح بالأورعية مع التساوي في العلم فلم يدلّ عليه دليل و مسألة قبح ترجيح المرجوح على الراجح، ينتفي بوجود بعض المرجّحات في جانب المرجوح ككونه طليق اللسان، رحب الصدر، صحيح المزاج، عارفاً

باللسان صاحب العشيرة الذي يهاب منه فلا يتأمر على ضدّه، و بالجملة المرجّحات التي توجب اختيار الورع على الأورع، التي بها يدفع قبح الترجيح المذكور، كثيرة فلا تصل النوبة إلى ترجيح الأورع على الورع ترجيحاً واجباً لحفظ القاعدة العقلية.

الجهة الثالثة: في دراسة أدلّة الطرفين
اشارة

استدل القائل بالترجيح بالوجوه التالية:

1- إنّ الظنّ الحاصل من قول الأفضل، أقوى من الظن الحاصل من قول غيره و الأخذ بالظن الأرجح متعيّن.

يلاحظ عليه: بمنع الصغرى تارة و أنّه ربّما يكون الظن الحاصل من قول المفضول أقوى من غيره لمطابقته رأي من هو أعلم من ذلك الأفضل كما إذا طابق

______________________________

(1) 1 و 2 الجواهر: 40/ 46 و 43.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 143

قول الفاضل، رأي المحقق، أو الشيخ الأنصاري، و منع الكبرى أُخرى، إذ لا دليل على لزوم الترجيح بهذا المقدار، بعد إطلاق الدليل على حجّية كل من الرأيين.

2- نصوص الترجيح خصوصاً مقبولة ابن حنظلة الحاكمة بالترجيح بالأفقهية بل بغيرها أيضاً.

يلاحظ عليه: أنّها أجنبية عن المقام، لأنّه ورد الترجيح فيها فيما إذا ترافع كل إلى قاض خاصّ فحصل بينهما التعارض، و لم يكن حينئذ محيص من الرجوع إلى المرجح و أين هذا من لزوم الرجوع إلى المرجح ابتداءً؟

أضف إلى ذلك أنّ المنساق من المقبولة أنّه كان في وسع المترافعين الرجوع إلى كلّ واحد من المتفاضلين، من غير فرق بين العالم و الأعلم لكنّهما، ضيّقا الأمر على أنفسهما فرجع كل إلى قاض خاص، فلم يكن لهم حينئذ بدّ من إعمال المرجّحات فلزوم العمل بالمرجّح نشأ من عملهما و لم يكن هناك أيّ ملزِم له، و على ذلك فالرواية على عكس المقصود أدلّ.

3- قول الإمام في عهده إلى واليه في مصر

المعروف فقد جاء فيه: «ثمّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ أفْضَلَ رَعِيَّتِكَ في نَفْسِكَ، مِمّن لا تَضِيقُ بِهِ الامُورُ، و لا تُمَحِّكُهُ الخُصُومُ، و لا يَتَمادى في الزَّلَّةِ، و لا يَحْصَرُ مِنَ الفَيْ ءِ إلَى الحَقِّ إذا عَرَفَهُ، و لا تُشْرِفُ نَفْسُهُ على طَمَع، و لا يَكْتَفي بِأدْنى فَهْم دُونَ أقْصاهُ، وَ أَوْقَفَهُمْ في الشُّبَهاتِ، وَ آخَذَهُمْ بِالحُجَجِ، وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُراجَعَةِ الخَصْمِ، وَ أَصْبَرَهُمْ عَلى تَكَشُّفِ الأُمُورِ، وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لا يَزْدَهيهِ إطْراءٌ، و لا يَسْتَمِيلُهُ إغْراءٌ، و أولئِكَ قَلِيلٌ». «1»

يلاحظ عليه: أنّ ما ورد فيه بين ما تجب رعايته و بين ما لا تجب للإجماع على عدم اشتراطه كأوقفهم في الشبهات و آخذهم بالحجج، فلا يمكن الاستدلال به

______________________________

(1) نهج البلاغة، قسم الرسائل، رقم 53.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 144

على الوجوب.

4- ادعاء الإجماع على لزوم الترجيح نسب إلى المرتضى في الذريعة و المحقق الثاني في حواشيه على كتاب الجهاد من الشرائع.

قال المرتضى: و إن كان بعضهم عنده أعلم من بعض أو أورع و أدين فقد اختلفوا: فمنهم من جعله مخيّراً، و منهم من أوجب أن يستفتى المقدَّم في العلم و الدين، و هو أولى لأنّ التفقه هاهنا أقرب و أوكد. و الأُصول كلها بذلك شاهدة. «1»

و ليس في كلامه دعوى الإجماع و الاتّفاق سوى قوله في الذيل: «الأُصول كلّها بذلك شاهدة» و لذلك صحّت تسميته إجماعاً فإنّما هو إجماع استنباطي من الاتّفاق على الأُصول، التي مورد البحث من صغرياتها. أضف إليه انّ كلامه راجع إلى باب الاستفتاء لا القضاء.

و أمّا المحقّق الثاني فليس في تعليقته على قواعد العلامة المعروف بجامع المقاصد دعوى الإجماع بل لم يذكر

هذا الشرط لا في متن القواعد و لا في تعليقته و قد ذكر العلّامة صفات المفتي بالنحو التالي: الإيمان و العدالة و معرفة الأحكام بالدليل، و القدرة على استنباط المتجدّدات من الفروع من أُصولها. و ليس في تعليقته سوى توضيح قوله: «و معرفة الأحكام بالدليل» «2» و أمّا تعليقته على الشرائع فلم تحضرني حتى أُلاحظها.

استدل القائل بعدم الوجوب ببعض الوجوه أولاها جريان السيرة عليه، فقد نصب النبي الأكرم معاذاً للقضاء مع وجود عليّ عليه السلام و هو أقضى الأُمة إلّا أن يقال بلزوم الترافع إلى الأعلم إذا كانا في بلد واحد لا في بلدين و قد كان علي في المدينة، و نصب معاذاً للقضاء في اليمن و مع ذلك كلّه لا يمكن إنكار جريان السيرة على الرجوع إلى المجتهدين العظام في كل بلد، من دون أن يفرق بين الأعلم و العالم، و قد نصب الإمام الصادق أصحابه للقضاء حسب المقبولة. و فيهم زرارة و محمّد بن مسلم و غيرهم. مع أنّ الأولين من أفقه أصحابه عليه السلام.

إلى هنا تبيّن موقف الأصحاب في المسألة و لنا في المقام تفصيل نأتي به.

______________________________

(1) المرتضى: الذريعة 2/ 801.

(2) المحقّق الكركي: جامع المقاصد 3/ 490.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 145

التفصيل بين الشبهة الموضوعية و الحكمية

قد تعرّفت على دليل المثبت و النافي و لكن الحقّ التفصيل بين كون مورد القضاء شبهة موضوعية التي يدور عليها رحى القضاء في تسعين بالمائة. و كونه شبهة حكمية، أمّا الأُولى، فالأقوى هو التخيير بين الأفضل و الفاضل، إذ ليس للأفقهية تأثير فيها، فإنّ فصل الخصومة يتحقّق بالبيّنة و الإحلاف على تفاصيلها، فلو أتى المدّعي بها يحكم له، و إلّا حلف المنكر، و لو

نكل و قلنا بالقضاء به، يُقضى عليه، و إلّا يردّ اليمين على المدّعي، و هذه سنّة متّبعة في فصل الخصومات في الشبهات الموضوعية، و الأفضل و الفاضل في مقابلها سواء و ليس لكون أحدهما أقوى نظراً و أحسن استنباطاً تأثير في إصابة الواقع فعندئذ يسقط دليل القائل بلزوم الترجيح بكون الظنّ الحاصل من رأي الأفضل أقوى من غيره نعم لو علم الاختلاف بين الفاضل و المفضول و كان منشأ الاختلاف ناشئاً من اختلاف النظر كان للترجيح وجه و لكنّه قليل كالاختلاف بالقضاء بالنكول و عدمه و بالجملة: كلّ مورد لا يكون للاجتهاد فيه مدخل، يسقط الترجيح و يكفي كون القاضي مجتهداً و أمّا المقبولة الدالّة على الترجيح بالأفقهية فلا صلة لها بالمقام لأنّ موردها هو الشبهة الحكمية كما سيأتي.

و أمّا إذا كان مورده هو الشبهة الحكمية فلمّا كان القضاء فيها مسبوقاً بالإفتاء فيها. و لولاه لما كان للقضاء أساس، فلو لم يعلم الاختلاف بين رأيهما فيها، جاز الرجوع إلى كلّ واحد، حسب ما عرفت في باب الاجتهاد و التقليد من جواز الرجوع إلى الأفضل و الفاضل ما لم يعلم الخلاف بين رأيهما، و أمّا إذا علم الاختلاف و كان

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 146

الاختلاف في مورد القضاء ناشئاً من الاختلاف في استنباط الحكم الشرعي ككون الحبوة للولد الأكبر أو لجميع الورثة ففي مثله لمّا كان فتوى الأفضل حجّة قطعاً، يكون قضاؤه مثل فتواه و أمّا الفاضل فلمّا كان رأيه في المسألة مشكوك الحجّية يتسرّب الشكّ إلى قضائه أيضاً فلا يجوز الرجوع إليه ما دام الحال كذلك.

و يؤيّد ذلك، أنّ الإمام أمر بالأخذ بالمرجّح عند ظهور الاختلاف في مورد

الشكّ في الشبهة الحكمية حيث قال الراوي: «فإن كان كل واحد اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما و اختلفا فيما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما». «1» فإذا كان مبدأ الاختلاف هو الاختلاف في الحديث، يكون المورد من قبيل الشبهة الحكمية. هذا هو المختار و هو متين و قد حكاه المحقّق الآشتياني عن شيخه العلّامة الأنصاري قدّس سرّهما. «2»

ثمّ إنّ كون مصدر القضاء في الشبهات الحكمية مسبوقاً بالإفتاء و أنّ القاضي يفتي ثمّ يقضي به ربّما يفيد في المستقبل كنفوذ رأي القاضي في حقّ المجتهد الآخر و مقلّديه و عدمه إذا كانا مخالفين في تشخيص الحكم الشرعي. فانتظر.

المسألة الرابعة: في جواز الاستخلاف و عدمه

إنّ للمسألة صوراً أربع ذكرها المحقّق في الشرائع و إليك بيانها:

1- إذا أذن الإمام له في الاستخلاف جاز بلا إشكال.

2- لو منع عن الاستخلاف لم يجز لذلك.

3- لو ولّاه و أطلق التولية و كان هناك أمارة تدلّ على الإذن في الاستخلاف

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 9، من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(2) الآشتياني: القضاء: 23.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 147

مثل سعة الولاية التي لا تضبطها اليد الواحدة، جاز الاستنابة.

4- تلك الصورة و لم تكن فيها تلك الأمارة لم يجز.

هذا ما أفاده المحقّق و وجهه واضح و لكنّه إنّما يتمّ فيما إذا كان القضاء متوقّفاً على النصب كما في زمان الحضور مع بسط اليد أو زمان الغيبة مع قيام الدولة الإسلامية فبما أنّ القضاء في هذه الظروف فرع النصب فتأتي فيها تلك الصور الأربع.

و أمّا في غيرهما كزمان الحضور مع عدم البسط، أو

زمان الغيبة مع كون مفاتيح القضاء بيد الجائر، و كان في خارج دائرة القضاء الرسمية، رجال صالحون للقضاء لا صلة لهم به ففي هذين الطرفين كل مجتهد قاض مأذون، غير محتاج إلى النصب فالنائب إذا كان مجتهداً، فهو مثل المستنيب و ليس فرعاً له، و إن كان مقلّداً فلا يصلح للقضاء حتى بالوكالة، كما مرّ.

نعم يجوز أخذ النائب في مقدّمات القضاء و تدوين الأقارير و جمع القرائن و الشواهد ممّا يسهِّل الأمر على القاضي و ليس ممنوعاً كما يأتي التصريح به.

و هنا أمر آخر، و هو إذا ولّاه الإمام أو من بيده زمام الأمر في الدولة الإسلامية و صار ذا ولاية، كالجدّ و الأب، فلا يتوقّف استخلافه على وجود أمارة تدلّ على الإذن فيه، لأنّ المفروض أنّه صاحب ولاية على القضاء يعمل كيف شاء نعم يتوقّف استخلافه على أمر آخر، و هو إحراز أنّ القضاء قابل للنيابة أولا، أو قابل للوكالة أو لا، و قد عرفت الكلام فيهما فيما سبق فلا نعيد.

المسألة الخامسة: في ارتزاق القاضي من بيت المال
اشارة

لا شك أنّ القاضي كسائر الناس، يتوقف قضاؤه على حياته، و هي رهن وجود معيشة ماليّة يسدّ بها عيلته و لولاه لما توفّق للقضاء فتارة يرتزق من ماله

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 148

الشخصي، و أُخرى من بيت المال و ثالثة بأُجرة يدفعها أهل البلد للإقامة و القضاء فيه و رابعة بالجعل على المتحاكمين و خامسة بالجعل على المدّعي إلى غير ذلك ممّا تقضى به حاجته، و يدوم عيشه. و الذي نركز عليه في المقام هو أمران:

1- ارتزاقه من بيت المال.

2- ارتزاقه من طريق الجعل على المتحاكمين

و أمّا البحث عن الرشوة و الهدية فقد فرغنا عن

بيان حكمهما عند البحث في المكاسب المحرّمة لكن نعيد إليهما في المستقبل فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: الارتزاق من بيت المال
اشارة

هل يجوز له الارتزاق من بيت المال مطلقاً، أو لا يجوز مطلقاً، أو فيه التفصيل؟ وجوه: ذهب الشيخ الطوسي إلى القول بالجواز في النهاية، و يظهر أيضاً من الخلاف و نقل أبو قدامة القول بالمنع مطلقاً، عن بعض التابعين و الفقهاء و لعلّهم أرادوا الكراهة. و اختار القول الثالث، الشيخ في المبسوط، و المحقّق في الشرائع و العلّامة في القواعد. و إليك بعض نصوصهم في المقام.

1- قال الشيخ في النهاية: و متى تولّى شيئاً من أُمور السلطان من الإمارة، و الجباية و القضاء و غير ذلك من أنواع الولايات، فلا بأس أن يقبل على ذلك الارتزاق و الجوائز و الصلات، فإن كان ذلك من جهة سلطان عادل كان ذلك حلالًا له طلقاً، و إن كان من جهة سلطان الجور، فقد رخّص له في قبول ذلك من جهتهم لأنّ له حظّاً من بيت المال. «1»

2- و قال في الخلاف: ليس للحاكم أن يأخذ الأُجرة على الحكم من الخصمين و لا من أحدهما سواء كان له رزق من

______________________________

(1) الطوسي: النهاية، كتاب المكاسب: 357.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 149

بيت المال أو لم يكن و قال الشافعي: إن كان له رزق من بيت المال لم يجز كما قلناه و إن لم يكن له رزق من بيت المال جاز له أخذ الأُجرة على ذلك. «1»

3- و قال في المبسوط: و أمّا من يحلّ له أخذ الرزق عليه و من لا يحلّ فجملته: أنّ القاضي لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون ممّن تعيّن عليه القضاء أو

لم يتعيّن. فإن لم يتعيّن عليه، لا يخل من أحد أمرين: إمّا أن تكون له كفاية أو لا كفاية فإن لم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق و إن كانت له كفاية فالمستحب أن لا يأخذ فإن أخذ جاز. و لم يحرم عليه بل كان مباحاً، و جواز إعطاء الرزق للقضاء إجماع، و لأنّ بيت المال للمصالح و هذا منها بل أكثرها حاجة إليه. لما فيه من قطع الخصومات و استبقاء الحقوق و نصرة المظلوم و مع الظالم.

و إذا تعيّن عليه، فقد فصّل بين من له كفاية و من ليس له، فيحرم في الأوّل لأنّه يؤدي فرضاً تعيّن عليه، و من أدّى فرضا لم يحلّ له أخذ الرزق عليه مع الاستغناء عنه دون الثاني لأنّ عليه فرض النفقة على عياله و فرضاً آخر و هو القضاء و إذا أخذ الرزق جمع بين الفرضين. «2»

4- و قال المحقّق: إذا ولِّي من لا يتعيّن عليه القضاء، فإن كان له كفاية من ماله، فالأفضل أن لا يطلب الرزق من بيت المال و لو طلب جاز لأنّه من المصالح، و إن تعيّن للقضاء و لم يكن له كفاية، جاز له أخذ الرزق و إن كان له كفاية، قيل: لا يجوز له أخذ الرزق لأنّه يؤدي فرضاً. «3»

5- و قال العلامة في القواعد: و إذا ولي من لا يتعيّن عليه فالأفضل ترك الرزق له من بيت المال إن كان ذا كفاية و يسوغ له لأنّه من المصالح، و كذا يجوز له إذا تعيّن و لم يكن ذا كفاية، و لو كان ذا كفاية لم يجز له لأنّه يؤدي واجباً.

6- و قال السيّد العاملي في تعليقته على عبارة القواعد في

المقام أعني: «لم يجز

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف، كتاب القضاء، المسألة 31.

(2) الطوسي: المبسوط ج 8، 8584.

(3) المحقق: الشرائع 4/ 69.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 150

لأنّه يؤدي واجباً»: هذا هو الحق إذا كان وجوبه ذاتياً لا توصلياً لأنّه لا أُجرة على الواجب كذلك إجماعاً في باب المكاسب و ذهب الشيخ و شيخه المفيد إلى الجواز لأنّه من المصالح المهمّة قالا: و نمنع أن لا أُجرة على الواجب مطلقاً و إلّا لم يوجر المجاهدون، قلت: الأصل عدم الجواز خرج عنه جواز الاستئجار للجهاد بالإجماع عند الشيعة. «1»

6- و قال ابن قدامة: و يجوز للقاضي أخذ الرزق و رخص فيه شريح و ابن سيرين و الشافعي و أكثر أهل العلم.

و روي عن عمر أنّه استعمل زيد بن ثابت على القضاء و فرض له رزقاً و رزق شريحاً في كل شهر مائة درهم و بعث إلى الكوفة عمّاراً و عثمان بن حنيف و ابن مسعود و رزقهم كل يوم شاة نصفها لعمار و نصفها لابن مسعود و عثمان و كان ابن مسعود قاضيهم و معلّمهم، و كتب إلى معاذ بن جبل و أبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام أن انظرا رجالًا من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء و أوسعوا عليهم و ارزقوهم و اكفوهم من مال الله.

و قال أبو الخطاب: يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة فأمّا مع عدمها فعلى وجهين. و قال أحمد: ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجراً و إن كان فبقدر شغله مثل والي اليتيم. و كان ابن مسعود و الحسن يكرهان الأجر على القضاء و كان مسروق و عبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان

عليه أجراً و قالا: لا نأخذ أجراً على أن نعدل بين اثنين.

و قال أصحاب الشافعي: إن لم يكن متعيّناً جاز له أخذ الرزق عليه و إن تعيّن لم يجز إلّا مع الحاجة، و الصحيح جواز أخذ الرزق عليه بكل حال لأنّ أبا بكر لمّا ولي الخلافة فرضوا له الرزق كل يوم درهمين و لما ذكرناه من أنّ عمر رزق زيداً و شريحاً و ابن مسعود و أمر بفرض الرزق لمن تولى من القضاة و لأنّ بالناس حاجة إليه

______________________________

(1) العاملي: مفتاح الكرامة 10/ 14.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 151

و لو لم يجز فرض الرزق لتعطّل و ضاعت الحقوق، فأمّا الاستئجار عليه فلا يجوز قال عمر: لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجراً و هذا مذهب الشافعي و لا نعلم فيه خلافاً و ذلك لأنّه قربة يختصّ فاعله أن يكون في أهل القربة فأشبه الصلاة و لأنّه لا يعمله الإنسان عن غيره و إنّما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة و لأنّه عمل غير معلوم فإن لم يكن للقاضي رزق فقال للخصمين: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقاً عليه جاز و يحتمل أن لا يجوز. انتهى. «1»

هذه هي كلمات الفقهاء و هي تعرب عن اختلافهم إلى أقوال ثلاثة و المختار عندنا جواز الارتزاق من بيت المال مطلقاً و المقصود من بيت المال هو البيت الذي يجمع فيه ما يصرف في مصالح الإسلام و المسلمين و ليس له مصرف خاص كالأنفال و الجزية، و الخراج و المقاسمة، و المال الموصى مصرفه في مصارف البرّ و القسم الخاص من الزكاة الذي يصرف في سبيل الله.

و أمّا الزكاة و سهم السادات

من الخمس و المظالم و اللقطة ممّا لها مصارف خاصة فلا يطلق عليه بيت المال، و القاضي يرتزق من الأوّل دون الثاني و الحقّ الجواز مطلقاً بوجهين:

الأوّل: جريان السيرة بين المسلمين حيث إنّ القضاة كانوا يرتزقون من بيت المال، و قد عرفت كلام ابن قدامة في ارتزاق عدّة في زمن الخلفاء من بيت المال، و عليها سار الإمام علي عليه السلام في عهد خلافته، و كان شريح يرتزق من بيت المال و يأخذ في كل شهر شيئاً قليلًا و لمّا بلغ عليّاً أنّه ابتاع داراً بثمانين ديناراً، استدعاه و قال له: بلغني أنّك ابتعت داراً بثمانين ديناراً و كتبت لها كتاباً، و اشهدت فيه شهوداً ... ثمّ لامه و ذمّه. «2» و ما هذا إلّا لأنّ الإمام رأى أنّه ابتاع داراً فوق ما يرتزقه من الإمام فصار مظنّة دفع الثمن من حرام و حلال. و روي أنّ عليّاً ولّى شريحاً و

______________________________

(1) ابن قدامة: المغني 10/ 124.

(2) نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 152

جعل له في كلّ سنة خمسمائة درهم (كل شهر قرابة 41 ديناراً و نصف) و كان عمر قبله جعل له كلّ شهر مائة «1» درهم.

و الحاصل أنّ القضاة كانوا يرتزقون من بيت المال، من دون سؤال عن وجود الكفاية لهم و عدمه، أو فحص عن كون القضاء متعيّناً عليه و عدمه و هذه السيرة المستمرّة إلى يومنا هذا، تشهد على الجواز و لو كان هنا ذم في بعض الروايات، فإنّما هو لأجل كونهم قضاة الجور و أعوان الظلمة، و أين هو من قضاة العدل. كما سيوافيك؟

الثاني: ما دلّ عليه من الروايات و

نذكر ما يلي:

1- مرسلة حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح في حديث طويل في الخمس و الأنفال و الغنائم قال: «و الأرضون التي أخذت عنوة فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها و يحييها ثمّ ذكر الزكاة و حصّة العمال إلى أن قال: و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله، و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام، و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامة.

قال الشيخ الحرّ العاملي: يظهر منه جواز الرزق للقاضي من بيت المال «2»، لأنّ القضاء من أوضح مصاديق ما فيه مصلحة العامة.

2- ما كتبه الإمام إلى عامله في مصر: «و اعلم أنّ الرعيّة طبقات: منها جنود الله، و منها كُتّاب العامّة و الخاصّة، و منها قضاة العدل إلى أن قال: و كل قد سمّى الله له سهمه و وضعه على حدّه و فريضته، ثمّ قال: و لكلّ على الوالي حقّ بقدر ما يصلحه، ثمّ قال: و اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك و قال بعد ذكر صفات القاضي: و أكثِر تعاهد قضائه، و أفسح له في البذل ما يزيح علّته و تقلّ معه

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 178.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 153

حاجته إلى الناس» «1» و لم يكن في يد عامل الإمام ما يصرف في هذا المورد، سوى بيت المال.

3- روى في الدعائم عن علي عليه السلام أنّه قال: «لا بدّ من إمارة و رزق للأمير. و لا بدّ من عريف و رزق للعريف، و لا بدّ من حاسب و رزق للحاسب

و لا بدّ من قاض و رزق للقاضي و كره أن يكون رزق القاضي على الناس الذي يقضي لهم. «2»

ترى فيه الإطلاق من دون تقييد بما في كلام الأعلام من كونه كفائياً، أو عينياً؛ مع الحاجة، أو مع عدمها. و لم نقف على مورد، سئل الإمام القاضي المنصوب عن وجود كفاية له و عدمه، أو فصل بين الكفائي و العيني.

استدل على المنع بروايتين:

1- صحيحة عبد الله بن سنان، قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟ فقال: «ذلك السحت». «3» و لعلّ وصف رزقه بالسحت لأجل كونه قاضي سلطان الجور و من أعوانه، لا أنّ مجرّد الرزق من بيت المال سحت و إن كان على خلاف الظاهر.

2- خبر عمّار بن مروان عن أبي عبد الله قال: «و السحت أنواع كثيرة: منها: ما اصيب من أعمال الولاة. و منها: أُجور القضاة». «4» و يحمل على الأُجور المأخوذة من السلطان الجائر.

و على ضوء ذلك فالحقّ هو جواز الارتزاق من بيت المال سواء كان بصورة الارتزاق من دون تعيين حدّ، بمعنى أنّ الحاكم يقوم برفع حوائج القاضي قليلًا

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 9.

(2) المستدرك: الجزء 18، الباب 28، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(4) الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 154

كان أو كثيراً و هو يدير ذمّة القضاء، أو بتعيين حدّ معيّن كما هو اللائح من عهد الإمام الماضي و أمّا الإشكال بأنّ القضاء واجب فكيف يأخذ

الأُجرة على الواجب؟ فيدفع بأنّه فرق بين الأُجرة و الارتزاق، فإنّ عمل القاضي في الثاني تبرعي، غير انّ قيامه بهذا العمل التبرعي رهن سدّ عيلته، بدفع شي ء من بيت المال حتى يقيم صلبه، و يدفع عادية الفقر الكاسر مضافاً إلى ما سيوافيك تحليله في المقام الثاني و ما احتمل في الجواهر من اختصاص بيت المال بذوي الحاجات «1» غير تام لأنّه يصحّ في بعضه كالزكاة و الصدقات دون غيرهما.

المقام الثاني: في أخذ الجعل من المتحاكمين
اشارة

القاضي المنصوب إذا أخذ الرزق من بيت المال، يحرم عليه أخذ الجعل من المتحاكمين إذ لا يصحّ له أخذ أُجرتين لعمل واحد، فإنّ عمله هذا ملك للحكومة الإسلامية، و قد عُيِّن للقضاء بين المسلمين مقيّداً بعدم أخذ شي ء، فكيف يجوز له أخذ الأُجرة أو الجعل؟! و أمّا إذا لم يكن كذلك فالقول بحرمة الجعل و إن كان قولًا بين الأصحاب، قال المحقّق: أمّا لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف و الوجه التفصيل المذكور في الارتزاق من بيت المال. و قال في الجواهر: إنّه لا يجوز مطلقاً. «2» لكن ليس له دليل صالح سوى ما ذكره الشيخ في المبسوط و نقله المحقّق في الشرائع و هو أنّه يؤدّي فرضاً، فكيف يأخذ الأُجرة على الفرض؟ و إليك تحليل هذا الدليل فنقول:

إنّ مقتضى القاعدة صحّة الإجارة إذا تمّت أركانها من موجر عاقل بالغ منتفع بالإجارة، و أجير كذلك سواء كان باذل الأُجرة، أهل البلد، أو المتحاكمين أو المدّعي و على كل تقدير فالعمل محترم و الموجر ينتفع بعمله فلا وجه للبطلان مع

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 51.

(2) الجواهر: 40/ 5352، قسم المتن و الشرح.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 155

تمامية الأركان إنّما الكلام في

أنّ وجوب القضاء هل يصلح أن يكون مانعاً من صحّة الإجارة أو لا؟ فنقول:

إنّ المانع عن صحّتها أُمور ثلاثة

و هي:

1- أن لا ينتفع به الموجر، لأنّه يكون من قبيل أكل المال بالباطل و قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ) (النساء/ 29) بناء على أنّ حرف الجرّ في «بالباطل» بمعنى المقابلة أي في مقابل أمر باطل عند العقلاء فيصحّ به الاستدلال على البطلان إذا لم تكن للمبيع أو لمورد الإجارة منفعة عقلائية كبيع الحشرات و أمّا على القول بأنّه راجع إلى النهي عن الأسباب الفاسدة كالرشوة، و الربا، و القمار، فيكفي في عدم صحّته، عدم شموله مثل هذه الإجارة للعمومات الواردة في باب المعاوضات إذ موردها هو انتفاع الطرفين بالعمل و الأُجرة لعدم إقدام العقلاء على الإيجار في غير هذه الصورة فتحمل عليه.

2- أن يكون العمل عبادياً لا يترتّب عليه الأثر إلّا بالإتيان لله أو امتثال أمره و في مثله لا يصحّ الاستيجار لأنّ أثر العبادة مشروط بالقربة، بانحصار الداعي فيها و لكن الداعي بعد الإجارة، هو الأُجرة لا غير بحيث لولاها لما قام بالعمل و على ضوء ذلك يبطل أخذ الأُجرة على الواجبات التعبديّة لأنّ صحّة صلاة الظهر رهن كونه لله و ينافيه أخذ الأُجرة من غير فرق بين الفرائض كالصلوات اليومية، أو النوافل، كصلاة الليل و غسل الجمعة.

و أمّا صحّة النيابة عن الميّت في قضاء صلواته و صومه، و كذا النيابة عنه في تلاوة القرآن و زيارة الأئمّة، مع أخذ الأُجرة فالفرق واضح فإنّ الأُجرة في الأوّل على نفس العمل فيأخذ الأُجرة، ليصلّي فرائض نفسه أو يأتي بنوافلها، بخلاف الثاني، فإنّ الأُجرة فيها على النيابة و هي ليست من العبادات و التفصيل في

محلّه.

3- أن يكون العمل حقّاً للغير فلو كان كذلك كانت الأُجرة سحتاً و لأجل

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 156

ذلك تحرم الأُجرة في مقابل كفن المسلم و دفنه و الصلاة عليه فإنّ ظاهر الأدلّة كونها من حقوق الميّت على المسلم الحيّ فأخذ الأُجرة فيه كأخذ الأُجرة على عمل مستحقّ لآخر كما إذا نذر أن يبني مسجد لله، فلا يجوز له أخذ الأُجرة في مقابل العمل.

هذه هي الموانع الثلاثة عن صحّة الإجارة و أخذ الأُجرة و يمكن إرجاع الثاني إلى الأوّل، لأنّ الموجر لا ينتفع بعمل الأجير إذا كان المورد أمراً عبادياً قربيّاً، إذ تشترط في صحّته نيّة القربة غير الجامعة مع أخذ الأُجرة. و أمّا إرجاع الثالث إلى الثاني، كما عليه المحقّق الرشتي «1» فلا، لأنّ المفروض أنّ الميت أو وليّه ينتفع بعمل الأجير بدفن الميّت أو الصلاة عليه.

و أمّا المقام فليس القضاء ممّا لا ينتفع به أهل البلد أو المتحاكمان، بل هو قوام الحياة و المجتمع، و ليس عملًا عبادياً حتى لا يجتمع مع أخذ الأُجرة و ليس من حقوق الغير، و إلّا أصبح جميع الخدمات من هذا القبيل إذ أيّ فرق بين قضاء القاضي و مراقبة الحارس و مرابطة المجاهد في الحدود، و طبابة الطبيب حيث لا تخطر ببال أحد، حرمة أخذ الأُجرة على تلك الخدمات بل الجواز فيها بمكان من الوضوح إذ تحريم أخذ الأُجرة فيها يوجب اختلال النظام و تسرّب الفوضى إلى المجتمع.

و كونه واجباً لا يمنع عن الإيجار ما لم يكن حقّاً للغير أو لم تكن الأدلّة ظاهرة في كونه عملًا تبرعيّاً فإنّ الواجب على قسمين: واجب بقيد جواز أخذ الأُجرة، كما هو الحال

في الخدمات و الصناعات من غير فرق بين الكفائي و العيني و كون العامل فقيراً أو غنياً، فلا يمنع وجوب العمل فيها عن عقد الإيجار، و واجب بقيد كونه تبرعيّاً أو متعلّقاً لحقّ الغير. فمجرّد الوجوب لا يكشف عن كونه عملًا تبرعياً مستحقاً للغير، كما أنّ جواز الإجبار، لا يكشف عنه، فإنّ مناط الإجبار، كون العمل

______________________________

(1) القضاء: 87.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 157

معروفاً لا كونه حقّاً للغير فيأمره بالإتيان به لتلك الغاية.

إنّ من زعم أنّ الوجوب مطلقاً مانع من أخذ الأُجرة، من دون تفريق بين كونه حقّاً للغير و عدمه لما واجه الصناعات و الخدمات حيث إنّها واجبة مع جواز أخذ الأُجرة، حاول تصحيح أخذ الأُجرة بوجوه زائفة موجودة في المكاسب المحرّمة للشيخ الأنصاري و نقلها السيد الطباطبائي في المقام «1» و الحقّ أن يقال: إنّ الوجوب بما هو هو غير مانع عن الإيجار و أخذ الأُجرة، و المانع كونه حقّاً للغير و ليس القضاء كذلك.

و على ضوء ذلك يجوز جعله على المتحاكمين بالتشريك بينهما كما يجوز جعله على المدّعي، أو على المحكوم عليه فيتّبع على كيفية الاتفاق.

قال الشهيد في المسالك: ثمّ على تقدير جوازه بوجه ففي جواز تخصيص أحدهما به أو جعله على المدّعي أو التشريك بينهما أوجه، من الشكّ في أنّها تابع للعمل أو للمنفعة الحاصلة، فعلى الأوّل هو عليهما و على الثاني يجب على المحكوم له أو على المدّعي. «2»

أقول: الظاهر أنّه لو رفع المتحاكمان الشكوى إليه فالأُجرة عليهما، و إن رفع المدّعي فهو عليه، إلّا أن يكون هنا اتّفاق آخر.

ثمّ إنّ المحقق أجاز للمؤذّن و القاسم و كاتب القاضي و المترجم و صاحب الديوان

و والي بيت المال أن يأخذوا الرزق من بيت المال المعدّ للمصالح و كذا من يكيل للناس و يزن و من يعلم القرآن و الآداب. «3» من غير تفصيل بين كون العمل واجباً كفائياً أو عينياً أو كونهم من ذوي الكفايات أو من ذوي الحاجات. و لكنّه قدّس سرَّه استشكل في القاضي فيما إذا كان متعيّناً عليه و كان غنيّاً و الفرق عجيب.

______________________________

(1) السيد الطباطبائي: ملحقات العروة 2/ 20، المسألة 17.

(2) المسالك 2/ 393.

(3) نجم الدين: الشرائع: 4/ 69.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 158

نعم لو رفع المدّعي الشكوى إلى المجتهد و كان فقيراً، بذل الحاكم نفقة القضاء من بيت المال لئلا يتضرّر المسلم و لو تعذّر التوصل إليه، فيجب على القاضي القيام به على الأحوط، من باب صيانة حقّ المؤمن كنفسه.

المسألة السادسة: فيما تثبت به ولاية القاضي
اشارة

تثبت ولاية القاضي بالأُمور التالية:

1- العلم 2- البيّنة 3- سماع التولية 4- إقرار الإمام أو من نصبه بها 5 حكم الحاكم 6 الاستفاضة. و إليك بيانها:

أمّا العلم فهو أعلى الطرق و ليس وراءه شي ء.

و أمّا البيّنة، فثبوتها بها يتوقّف على وجود إطلاق في حجّية البيّنة و عدم اختصاصها بالمرافعات و الموارد الّتي وردت فيها بالخصوص و لعلّ الإمعان في رواية «مسعدة بن صدقة» «1» و غيرها يعطي سعة حجيّتها و التفصيل موكول إلى محلّه.

و أمّا سماع التولية فلأنّ ظواهر الكلام حجّة فإذا قال: نصبت زيداً للقضاء، يكون الظنّ الحاصل منها حجّة و على ما ذكرنا في علم الأُصول عند البحث في حجّية الظواهر من أنّ الظواهر مفيدة للعلم بالمراد الاستعمالي يدخل هذا، في القسم الأوّل و لمّا كانت الظواهر عند المشهور من الحجج الظنّية عدّوها سبباً مستقلًا.

و أمّا

إقرار الإمام أو من نصبه بها، فلحجّية إقرار كل فيما يرجع إليه و يملكه و قد ثبت في محلّه أنّ «من ملك شيئاً ملك الإقرار به».

و أمّا حكم الحاكم فالمقصود، هو حكم الحاكم في البلد أو القاضي غير

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 159

المعزول على كون شخص منصوباً للقضاء، و حجّيته موقوف على حجيّة حكم الحاكم في الموضوعات الخارجة عن حريم المرافعات و هو بعدُ غير ثابت لأنّ مقتضى الأدلّة حجّية رأيه في الأحكام و المرافعات، و أمّا حجيّة رأيه في الموضوعات التي لم ينسدّ باب العلم فيها فلا، لإمكان التوصل إليها بالطرق المقرّرة الشرعية.

نعم يمكن أن يقال: إنّ هناك موضوعات، لو لم نقل بحجّية حكم الحاكم فيها، لزم طرح الحكم المجعول لها و ذلك كالهلال مثلًا إذا كان حكم الحاكم حجّة في ثبوت الهلال تكون الدواعي مصروفة إلى إعلامه بالرؤية، فإذا استفاض يقطع بصحّته فيحكم برؤية الهلال بخلاف ما إذا قلنا بعدم حجّية حكمه فلا يكون هنا داع إلى الإعلام فيلزم ترك الحكم المجعول لها. و مثلها المقام إذ مقتضى طبع الحال أن يطّلع حاكم البلد، على القاضي المنصوب لوجود مراسلات بينه و بين الحاكم الأعلى، بخلاف سائر الناس، فلو ألغينا حكمه، لزم طرح الآثار المترتّبة على القاضي المنصوب.

أمّا السادس، أعني: الاستفاضة، فبما أنّها لم ترد في لسان الدليل، فلا ملزم للغور في تبيين مفهومها و البحث عن ثبوت الولاية بالشياع و عدمه، خال عن الفائدة في الظروف الحاضرة لأنّ ثبوتها من أسهل الأُمور فيها فاللازم البحث عن أدلّة حجيّة الشياع في الموضوعات من غير تقيّد

بالمقام، و لما للبحث من فوائد فقهية: فنقول

استدلّ على حجيّة الشياع بوجوه:
الأوّل: مرسلة يونس

عن بعض رجاله عن أبي عبد الله قال: سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ أ يحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة إذا لم يعرفهم من غير مسألة؟ فقال: «خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم: الولايات، و التناكح، و المواريث، و الذبائح، و الشهادات فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته و لا يُسأل عن باطنه». «1»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 22، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 160

و رواه الصدوق في الفقيه و ذكر مكان المواريث «الأنساب». «1»

و رواه في الخصال عن أبي جعفر المقري رفعه إلى أبي عبد الله عن آبائه عن علي عليهم السَّلام: خمسة يجب على القاضي. «2»

و رواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم إلّا أنّه قال مكان «بظاهر الحكم»: «بظاهر الحال». «3»

و لعلّ عناية المشايخ الثلاثة بنقلها، تورث الاطمئنان بصدورها و لا يضرّها الإرسال و الرفع. إنّما الكلام في فقه الرواية فندرسها نجوماً لإيضاح مفادها.

1- ما ذا يريد السائل من قوله: «أن يقضي بقول البيّنة إذا لم يعرفهم من غير مسألة» و كيف يقضي بشهادتهم مع عدم عرفانهم، و هل يجتمع ذلك مع لزوم إحراز عدالتهم؟

و الظاهر أنّ المراد لا يعرف مستند شهادتهم بشهادة قول السّائل: «من غير مسألة» و شهادة ما في جواب الإمام من قوله: جازت شهادته و لا يُسأل عن باطنه.

2- «خمسة أشياء، يجب على الناس أن يأخذوا بظاهر الحكم» إنّ لهذه الفقرة تفسيرين:

أ: المراد من قوله: «بظاهر الحكم» هو حكم الناس فتكون اللام للعهد الذكري لسبق لفظ الناس و لو صحّ ما

نقله الشيخ من «ظاهر الحال» مكان «ظاهر الحكم» يكون المراد حال الناس أي تلقّيهم هذه الأُمور صحيحاً. فيكون مفادهما واحداً، و الفقرة دليلًا على حجّية الشياع و حكم الناس فيها و الله سبحانه لأجل التسهيل على العباد جعل حكم الناس فيها حجّة على السائرين، فإذا

______________________________

(1) الصدوق: الفقيه، ج 3، ص 9، برقم 29.

(2) الصدوق: الخصال، باب الخمسة، الحديث 88.

(3) الطوسي: التهذيب، ج 6، ص 288، برقم 798.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 161

أشار الناس إلى واحد، بأنّه وال، و إلى آخر بأنّه زوج و إلى ثالث بأنّه وارث فلان، و إلى لحم بأنّه مذكّى، يقبل قولهم و يؤخذ به و لا يجب التجسّس. و هذا هو الذي فهمه المستدل بالرواية، على حجّية الشياع.

لكن هذا المعنى لا يلائم الموضوع الخامس (الشهادة) إذ لو أُريد منه أيضاً ذاك، كان على الإمام أن يقول: «و العدالة» أي إذا اشتهر بين الناس أنّ رجلًا عادل يقبل حكم الناس في حقّه. لا أنّه إذا اشتهر بين الناس بالشهادة تقبل شهادته إذ ليس له معنى معقول و قد نقل المحقق الآشتياني وجهاً له وصفه بالركاكة، فلاحظ «1».

إلّا أن يقال: الشهادة مصحف العدالة أو هو من قبيل ذكر المسبّب و إرادة السبب أي إذا قبل الناس شهادة رجل فعلى الشاكّ قبولها، لأنّه يكشف عن كونه عادلًا، فحكم الناس في الأربعة الأُول، يثبت نفسها و في الخامس يثبت منشأها و مستندها.

ب: أن يراد من ظاهر الحكم، حسن ظاهر الأفراد و المقصود أنّ حسن الظاهر حجّة في الموارد الخمسة، و عليه يكون المراد من ظاهر الحال في نقل الشيخ هو ذاك فإذا ادّعى الولاية، أو الزوجيّة أو الوراثة

أو الذبح أو الشهادة و كانوا في الظاهر مأمونين يقبل أقوالهم و لا يتفحّص عن مستند أقوالهم و هذا المعنى يلائم الموارد الخمسة و يؤيّده الفقرة التالية.

3- «فإن كان ظاهره مأموناً جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه» و إنّما خصّ الشاهدَ، بحسن الظاهر، مع كونه شرطاً في الجميع لأجل وجود السؤال في حقّه حيث قال: «أن يقضي بقول البيّنة إذا لم يعرفهم من غير مسألة» و عندئذ يكون الحديث أجنبياً عن الدلالة على حجيّة الشياع بل كان دليلًا على حجّية قول المدّعي في هذه الأمور بالشرط المذكور و لا دليل على اختصاص الولاية بالقضاء بل

______________________________

(1) الآشتياني: القضاء: 45

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 162

يعمّ الولاية في التصرّف كالمتصرّف في مال الغير.

الثاني: صحيحة حريز

قال: كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله عليه السلام دنانير و أراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبه إنّ فلاناً يريد الخروج إلى اليمن و عندي كذا و كذا دينار، أ فترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: «يا بنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر» فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس، فقال: «لا! يا بنيّ لا تفعل».

فعصى إسماعيل أباه و دفع إليه دنانيره، فاستهلكها و لم يأته بشي ء منها، فخرج إسماعيل، و قضى أنّ أبا عبد الله عليه السلام حجّ و حجّ إسماعيل تلك السنة، فجعل يطوف بالبيت و يقول: اللّهمّ اجرني و اخلف عليّ»، فلحقه أبو عبد اللّه عليه السلام فهمزه بيده من خلفه و قال له: «يا بنيّ فلا و الله ما لك على الله هذا، و لا لك أن يأجرك و

لا يخلف عليك، و قد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته».

فقال إسماعيل: يا أبه انّي لم أره يشرب الخمر إنّما سمعت الناس يقولون. فقال: «يا بني إنّ الله عزّ و جلّ يقول في كتابه: (يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) «1» يقول: يصدّق اللّه و يصدّق للمؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم، و لا تأتمن شارب الخمر انّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: (وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ) «2» فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر؟ إنّ شارب الخمر لا يُزوّج إذا خطب، و لا يُشفّع إذا شفع، و لا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على اللّه أن يأجره و لا يُخلف عليه» «3».

قال صاحب الجواهر: بعد نقل الرواية إذ هو كما ترى كالصريح في اعتبار الشياع الذي أعلى أفراده هو قول الناس و شهادة المؤمنين و نحوهما مما مذكور فيه و به أدرجه فيما دلّ على النهي عن ائتمان شارب الخمر. «4»

______________________________

(1) التوبة: 61.

(2) النساء/ 5.

(3) الوسائل: الجزء 13، الباب 6 من أبواب أحكام الوديعة، الحديث 1.

(4) الجواهر: 40/ 57.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 163

و بذلك يعلم عدم تمامية ما ذكره المحقق العراقي في ردّ الاستدلال بالحديث إنّ ظاهر الحديث هو أنّ الإمام عليه السلام يعلّم ولده آداب المعاشرة حيث ينبغي أن يسلك في مثل هذه الموارد طريق الاحتياط و أن يصدّق الناس في الظاهر تصديقاً صورياً. «1»

يلاحظ عليه: أنّ لسان الرواية لسان الإحراز و الحجّية حيث يقول: «و لا تأتمن شارب الخمر إنّ الله عزّ و جلّ يقول في كتابه: (وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ) و أيّ سفيه أسفه من شارب

الخمر» نعم لا يلزم من حجّية الشياع كونه حجّة في جميع الموارد فلا يُحدّ الإنسان و إن شاع أنّه سارق أو زان إذ لإجراء الحدّ شروط خاصة.

و مع ذلك كلّه فالإذعان بما ذكر مشكل جدّاً، إذ من المحتمل أن يكون المراد من التصديق الحذر و الاحتياط لا ترتيب الآثار الشرعية. و يؤيده ما في كلام الإمام الكاظم لمحمد بن الفضيل أيضاً: يا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك المؤمن و لو شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولًا فصدّقه و كذّبهم. «2»

فإنّ تكذيب خمسين قسامة، تكذيب لبيّنة شرعيّة، و لو كان المراد هو التكذيب الجدّي، لحفظ قول مؤمن واحد يلزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو أقبح من الترجيح بلا مرجح. و هذا يعرب عن كون تصديق المؤمنين و تكذيبهم، ليس بالمعنى الحقيقي بل الغاية هو الدعوة إلى الحذر و الاحتياط، فمقتضى الاحتياط في مورد الاتّهام بشرب الخمر هو عدم الائتمان، كما أنّ مقتضاه في المورد الثاني، عدم ترتّب الأثر في حقّ الأخ عند تكذيبه.

الثالث: ما ورد في متاع الرجل و المرأة

، إذا مات أحدهما فادّعاه ورثة الحيّ و ورثة الميّت أو طلّقها فادّعاه الرجل و ادّعته المرأة، فقد قضى الإمام بأنّ المتاع

______________________________

(1) المحقق العراقي: القضاء 20.

(2) تفسير نور الثقلين: ج 3، ص 582؛ ثواب الأعمال 295؛ البحار: 75، ص 255، الحديث 40.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 164

للمرأة مستدلًا بقوله: «أ رأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟» فقلت: شاهدين، فقال: «لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين و نحن يومئذ بمكّة لأخبروك أنّ الجهاز و المتاع يُهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها فهي التي جاءت به، و هذا

المدّعي (الرجل) إن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة». «1»

و ظاهر الحديث أنّ الاعتداد بشهادة من بين لابتين لأجل إفادته العلم و اليقين، فإنّ المتاع قد نقل على رءوس الأشهاد من بيت المرأة إلى بيت الزوج، فكيف يصحّ للزوج أن يدّعي أنّه له. فلا صلة له بالشياع بما هو هو.

الرابع: ما رواه في الوسائل عن تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام

من أنّ المدّعي إذا جاء بشهود إلى النبيّ الأكرم و هو لا يعرفهم بخير و لا شرّ، يرسل من خيار أصحابه من يسألهما عن قبائلهما و أسواقهما، و محالهما، و الربض الذي ينزلانه حتى يخبراه بحالهما .... «2»

و الحديث مع ضعف سنده و عدم صلاحيته للاحتجاج ينزل على حصول العلم، من الفحص من تلك المظان، و لا صلة له بالشياع.

الخامس: ما في صحيحة عبد الله بن أبي يعفور:

من بيان ما تعرف به العدالة: ... فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً .... «3»

يلاحظ عليه: انّه جعل قضاء الناس في حقهما، جزء السبب لا تمامه كما هو ظاهر لمن لاحظها و المدّعى كون الشياع تمامه.

إلى هنا كانت الأدلّة مسوقة لبيان حجّية الشياع على وجه الإطلاق بخلاف الوجهين التاليين فانّهما يختصّان بحجّيته في باب الولاية.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، و هو حديث مفصل.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 165

السادس: السيرة المستمرّة من زمن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم

حيث استقرّت على تعيين الولاة و إثباتها بالاستفاضة و لم يكن دأب النبي أو من نصبوه لنصب القاضي، إرسال البيّنة العادلة عند كل أحد، مع القاضي المنصوب حتى تشهد لولاته. «1»

يلاحظ عليه: أنّ إرسال القاضي كان مرفّقاً برسالة مأمونة من التزوير و كانت مفيدة للاطمئنان لوجوه أهل البلد الذين كانوا يقابلون القاضي قبل كل أحد، و كان تصديقهم مورثاً للعلم لغيرهم فلا يصحّ القول بأنّا نعلم بعدم حصول العلم.

السابع: عسر إقامة البيّنة فيجب سماع الاستفاضة فيها

أمّا الصغرى فواضحة حيث إنّ إقامة البيّنة العادلة عند كل من يحتاج للرجوع إليه مشكل جدّاً و أمّا الكبرى فلما يستفاد من النصوص أنّه كلّما تعسّرت إقامة البيّنة يقوم غيرها مقامها.

و أورد عليه أنّ عسر اقامة البيّنة لا يوجب الانتقال إلى غيرها بل ربّما يوجب سقوط وجوب الإقامة كما هو الحال فيما إذا لم يعلم إلّا من قبلها أو سقوط بعض شروطها كالذكورة في شهادة النساء على الحمل، أو سقوط العدالة، كما إذا حضر الموت و لم يكن عند المحتضر مسلم عادل فيجوز إشهاد غير المسلم لقوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ...) (المائدة/ 106). «2»

لقد تلخّص من هذا البحث الضافي حول الشياع عدم دليل صالح يعطي كون الشياع حجّة بنفسه و لو كان هناك دليل من إجماع أو غيره على حجيّته في موارد كالهلال «3» و النسب يكتفي به و إلّا فلو أفاد الاطمئنان فهو و إلّا فلا يعدّ دليلًا

______________________________

(1) الآشتياني: القضاء/ 43، هذا الوجه و ما بعده مختصّ بباب الولاية.

(2) الآشتياني: القضاء/ 43 مع تفصيل منّا.

(3) لاحظ الوسائل: الجزء

7، الباب 11 من أبواب شهر رمضان، الحديث 14.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 166

شرعيّاً.

و في ما أفاد الاطمئنان لا يصلح دليلًا للحكم في المرافعات و الحدود، لأنّ الاعتبار في المرافعات بالبيّنة، و في غيرها كالحدود بما ورد فيها من الخصوصيات.

بقي الكلام في أُمور:
الأوّل: هل حجّية الشياع على القول بحجّيته مشروطة بإفادته العلم، أو الاطمئنان المتاخم له، أو الظن المطلق أو هو حجّة مطلقاً؟

اختار الأخير صاحب الجواهر و قال: «المدار على تحققه» «1» و لا سبيل إلى الأوّل لأنّه يُلحقه بما لا شكّ في حجّيته، و يكون تعليق الحكم بالشياع عندئذ لغواً، و أمّا الأخير فهو بعيد عن مذاق العقلاء فإنّهم يعتبرون الشياع طريقاً إلى الواقع و لو أمضاه الشارع فإنّما أمضاه لأجل ذلك الملاك، و احتمال التعبدية في حجية الأمارات العقلائية بعيد عن لسان الآيات و الرواية، فدار الأمر بين المتاخم للعلم و الظن المطلق، و بما أنّ الموضوعات الواردة في مرسلة يونس بن عبد الرحمن على فرض دلالتها من مهامّ الأُمور، فمن البعيد حجّية الظن المطلق في الولايات التي تمارس الدماء و الأعراض و الأموال. فلم يبق إلّا الاطمئنان الذي هو علم عرفي.

و الذي يسهل الخطب أنّ الشياع الطبيعي لا يفارق الاطمئنان في ظرف من الظروف إلّا إذا كان للمورد خصوصية تورث سوء الظن بالخبر و هو خارج عن مصبّ البحث. و الحاصل أنّ كل مورد يكون خارجاً عن احتمال التوطئة، يكون الشياع مفيداً للاطمئنان.

الثاني: في العدد المحقِّق للشياع

و الظاهر أنّه لا يمكن تحديده كما لا يمكن تحديد العدد المحقق للتواتر لأنّ طبيعة الموضوعات مختلفة اذ الدواعي إلى الجعل و المؤامرة و التوطئة موجودة في بعضها دون بعض فإنّه إذا كان المناط هو الشياع

______________________________

(1) النجفي: الجواهر 40/ 57.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 167

المفيد للاطمئنان فتجب الاستفاضة إلى حدّ يفيده، و هذا يختلف حسب اختلاف الموضوعات في القرب من دواعي الجعل و عدمه، و حسب صلتها بالسياسة و الأهواء و الميول، و لذلك يجب التربّص حتى يحصل الاطمئنان.

الثالث: هل الشياع حجّة في خصوص الخمسة الواردة في مرسلة يونس أو يعمّها و غيرها؟

و قد استظهر صاحب الجواهر عموم اعتباره لغير المذكورات فيها، لأنّ صريح صحيحة حريز هو ثبوت الفسق لكن التعدّي إلى غيرها يحتاج إلى الدليل، و ذلك لأجل ورود العدد في المرسلة نعم بما أنّها ليست بحجّة لإرسالها و إجمال المراد منها يؤخذ بإطلاق ما دلّت الصحيحة عليه. كلّ ذلك على فرض ثبوت حجّية الشياع بما هو هو و إلّا فيكون أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

المسألة السابعة: في نصب قاضيين في البلد الواحد
اشارة

إذا كان البلد صغيراً أو كانت المرافعات قليلة، على وجه ترتفع الحاجة بممارسة الواحد، يكتفى بنصب قاض واحد و أمّا إذا كانت هناك حاجة إلى التعدد فيجوز نصب قاضيين في البلد الواحد و أمّا كيفية ممارستهما فلها وجوه بالنحو التالي:

1- تخصيص كلّ واحد بطرف في البلد كالشرق و الغرب.

2- تخصيص كلّ واحد بزمان خاص كالصباح و المساء.

3- تخصيص واحد، بالحقوق و الآخر بالجزاء.

و ليس ذلك، تضييقاً في ولايته و لا مخالفاً لاستقلال القاضي و إنّما هو من باب تقسيم المسئوليات بين القضاة حتى تجري الأُمور على أحسن الوجوه.

4- جعل كلّ واحد قاضياً في تمام البلد، و تمام الجهات في الحقوق و الجزاء و ذلك لكثرة المراجعات و الشكاوى، و لكل غرفة في دائرة القضاء.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 1، ص: 168

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 168

5 التشريك بينهما في الجهة الواحدة على جهة الاجتماع على الحكم الواحد، كان ينصبا، للقضاء في حادثة على وجه الاتفاق، و إصدار الحكم على وجه الاشتراك و لا يتحقّق إلّا بالتوافق قبل

إصداره.

6- تلك الصورة و يكون الاعتبار للرأي الحائز لأكثر الآراء.

7- تلك الصورة و يكون الاعتبار للرأي الحائز لنصاب خاصّ من الآراء لا مطلق الأكثرية كأربعة أخماس من خمسة آراء.

هذه هي الصور المتصوّرة في المقام و ليس في كلمات القوم أثر من السادس و السابع، مع كونهما رائجين بين العقلاء و المجامع القضائية العالمية.

فندرّس أحكام الصور، أمّا الثلاثة الأول فلا شبهة في صحّتها، إنّما الكلام في أحكام الصور الباقية و إليك دراستها:

الف: نصب قاضيين في البلد في جميع الجهات
اشارة

إنّ الداعي لهذا النوع من النصب صلاحية كلّ من القاضيين للقضاء في جميع الجهات، مع مسيس الحاجة إليهما، كما يجوز نصب وكيلين تامي الاختيار في الأموال بيعاً و إجارة و رهناً و غيرها، نعم إنّ هذا النوع من النصب ربّما يورث التنازع بين المترافعين إذ يمكن أن يختار كل رجلًا هذا بخلاف ما إذا كان القاضي واحداً و هذه الصورة هي الّتي أشار إليها صاحب الجواهر مع الإيعاز بما يترتّب عليه من التنازع و قال: و أولى من ذلك (القضاء على وجه الاتفاق الصورة الخامسة) التشريك بينهما على جهة الاستقلال كما في نصب الغيبة إلى أن قال: و التنازع يندفع بتقديم من سبق داعيه منهما و لو جاءا معاً حكم بالقرعة و لو ابتدأ المتنازعان بالذهاب إليهما من غير دعاء، قدّم من يختاره المدَّعي. «1»

و قال النراقي: إذا كان هناك مجتهدان أو أكثر يتخيّر فيهما الرعيّة، فالحكم

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 61.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 169

لمن اختاره المدّعي و هو المتّبع له إجماعاً له، و لأنّه المطالِب بالحقّ، و لا حقّ لغيره أوّلًا فمن طلب منه المدّعي استنقاذ حقّه يجب عليه الفحص فيجب اتّباعه و لا وجوب لغيره.

«1»

أقول: ما ذكره العلمان هو الحقّ إذ المدّعي له حقّ إقامة الدعوى، في تمام المحاكم الشرعية دون محكمة خاصّة، و من له هذا الشأن، يكون التعيين بيده.

غير أنّ السيّد الطباطبائي لم يرتض ذلك و قال ردّاً على المستند: إنّ كون الحقّ له غير معلوم، و إن أُريد حقّ الدعوى له حيث إنّ له أن يدّعي و له أن يترك، ففيه أنّ مجرد هذا لا يوجب تقديم مختاره إذ بعد الدعوى يكون للآخر أيضاً حقّ الجواب مع أنّه يمكن أن يسبق المدّعى عليه بعد الدعوى إلى حاكم و يطلب منه تخليصه من دعوى المدّعي فمقتضى القاعدة مع عدم أعلمية أحد الحاكمين هو القرعة إلّا إذا ثبت الإجماع على تقديم مختار المدّعي. «2»

يلاحظ عليه بأمرين:

1- لا شكّ أنّ للآخر حقّ الجواب، لكن هذا الحقّ إنّما يتولد، بعد إقامة الدعوى لدى الحاكم المختار للمدّعي، فلا يمكن أن يكون مانعاً من اختياره و يكون أشبه بمنازعة النتيجة مع المقدمة.

2- إنّ للآخر الرجوع إلى حاكم آخر يطلب منه تخليصه من دعوى المدّعي، لكنه إنّما يتحقق بعد صدور الحكم من الحاكم الأوّل إمّا لأجل وجود البيّنة للمدّعي، أو لنكول المنكر و ردّه اليمين إلى المدّعي، و أمّا قبله فلم يحكم عليه بشي ء حتى يكلف تخليصه من الحاكم الثاني.

ثمّ قال السيّد الطباطبائي: هذا إذا كان أحدهما مدّعياً و الآخر منكراً و أمّا

______________________________

(1) النراقي: المستند 2، كتاب القضاء/ 498.

(2) الطباطبائي: ملحقات العروة الوثقى: 2/ 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 170

مع تداعيهما بأن يكون كلّ مدعياً من وجه و اختار كلّ منهما غير ما اختاره الآخر مع فرض تساويهما فلا ينبغي الإشكال في القرعة كما إذا زوّجت الباكرة

الرشيدة نفسها من رجل، و زوّجها أبوها من آخر فتنازع الرجل في زوجيّتها أو تنازع الولد الأكبر مع سائر الورثة في كون الحبوة مجّانية أو بعوض الإرث أو تنازع اثنان فيما في يد ثالث أو فيما لا يد لأحد عليه، فمع اختيار كلّ من المتنازعين حاكماً للترافع و إصرارهما على ذلك يكون المرجع هو القرعة.

أقول: ما ذكره من أنّ المرجع هو القرعة إنّما يتمّ فيما إذا كان من قبيل الشبهات الموضوعية كما لو تنازعا في مال في يد ثالث و أمّا إذا كانت الشبهة موضوعية كما في مثال التزويج و الحبوة، فالمرجع هو القاضي الأعلم في البلدة، لوجوب تقليده و عدم حجّية فتوى غيره و قد عرفت أنّ القضاء فيها، إفتاء أوّلًا، ثمّ قضاء.

فتلخّص أنّ هناك صوراً:

1- إذا كان هناك ادّعاء من جانب و انكار من جانب آخر فتعيين القاضي بيد المدّعي.

2- إذا كان هناك تداع و كانت الشبهة موضوعية فتعيين القاضي بالقرعة بينهما.

3- إذا كانت حكمية فيرجع إلى أعلم القضاة في البلد.

ب: نصب قاضيين لممارسة القضاء على وجه الاتفاق
اشارة

هذه هي الصورة الخامسة و قد جاءت المسألة في كتب لفيف من الأصحاب كالمحقّق و من بعده و إليك نصوصهم:

1- قال المحقّق: و هل يجوز التشريك بينهما في الولاية الواحدة؟ و الوجه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 171

الجواز لأنّ القضاء نيابة تتبع اختيار المنوب. «1»

2- قال العلّامة في القواعد: و لو اشترط اتّفاقهما في حكم فالأقرب الجواز. «2»

3- و قال فخر المحققين في شرحه: وجه القرب أنّه أضبط و لجوازه في الشهادة و هي الأصل و أنّهما كالوليين و الوصيين و يحتمل عدمه لأنّ الخلاف في مواقع الاجتهاد كثير و هو يؤدي إلى تعطيل الحكم فيبقى

أكثر الخصومات غير مفصولة، و الأقرب عندي هو الأوّل. 3

4- و قال العلّامة في الإرشاد: و لو شرط اتّفاقهما في كلّ حكم لم يجز. 4

5- و قال الشهيد: و لو شرط اتّفاقهما في الأحكام ففيه نظر من تضييق موارد الاجتهاد، و من أنّه أوثق في الحكم عندنا لأنّ المصيب واحد. 5

6- و قال الشهيد الثاني: فإن شرط عليهما الاجتماع على الحكم الواحد ففي جوازه وجهان:

أحدهما: العدم لأنّ الخلاف في مواقع الاجتهاد ممّا يكثر فيبقى الخصومات غير مفصولة.

و الثاني: و هو الذي اختاره العلّامة و ولده، الجواز لأنّه أضبط و أوثق في الحكم خصوصاً عندنا من أنّ المصيب فيه واحد. و على هذا فإن اختلف اجتهادهما في المسألة وقف الحكم و إنّما ينفذان ما يتفق فيه اجتهادهما. 6

و قال السيّد العاملي: لا خلاف في جواز تعددهم بحسب اختلاف البلدان أو الأحكام أو الأزمان و إنّما الكلام فيما إذا اتّحد الحكم كأن يشترط اجتماعهما في حكم أي نوع من الأحكام أو الصنف أو كل حكم، و المصنف (العلّامة) هنا

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 70.

(2) 2 و 3 الإيضاح في شرح القواعد: 4/ 300.

(3) 4 العلّامة الحلّي: إرشاد الأذهان: 2/ 139.

(4) 5 مكي العاملي، الدروس الشرعيّة: 2/ 67.

(5) 6 زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 394.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 172

و الفخر ظاهراً و الشهيد الثاني على الجواز و استدل عليه بعضهم بأنّ القضاء نيابة فيتبع اختيار المنوب كالوكيلين و الوصيين و فيه أنّه كالمصادرة، و الأولى الاستدلال عليه بالأصل و عموم الأدلّة و كونه في معنى قصر ولايتهما بما يتفقان عليه فيكون أوثق و أضبط قالوا: فإن اختلف اجتهادهما في

المسألة وقف الحكم فيرجعان إليه عليه السلام.

و ذهب المصنف في الإرشاد و التحرير إلى عدم الجواز لأنّه يؤول إلى تعطيل الأحكام و بقاء المنازعة. قلت: الأولى الاستدلال عليه بأنّهما إن صلحا للقضاء فلا معنى لاشتراط اتّفاقهما مع ظهور اختلاف الاجتهاد كثيراً و إلّا فلا معنى لتوليتهما و إلّا فما استندوا إليه في المنع يندفع بأدنى ملاحظة فيما ذكرناه من أدلّة المجيزين، ثمّ اختار الجواز لأنّه قد تقضي المصلحة قصر ولايتهما على ما يتفقان فيه و إن كان كل منهما صالحاً للقضاء. «1»

أقول:

يقع الكلام في جهات:
الأُولى: التصوير الصحيح من هذا القسم

، فهل المراد منها، كون القاضي مجموعهما على وجه يكون كلّ واحد نصف قاض أو أنّ المراد أنّ كلّ واحد قاض تامّ و لكن الحكم لا ينفذ بدون الاتّفاق؟ و الظاهر هو الثاني، بدليل تشبيه المقام بالوصيين و الوكيلين فإنّ كلّ واحد وصيّ إلّا أنّه لا ينفذ تصرّفه إلّا برضا الآخر، و لأجل ذلك لو مات أحدهما يبقى الآخر وصيّاً تام الاختيار و لا يحتاج إلى ضمّ غيره إليه.

الثانية: في تلخيص أدلّة الطرفين

. إنّ المجيز و المانع استندا إلى وجوه مختلفة، فاستند المجيز إلى:

1- كونه أوثق و أضبط فيكون أوقع.

2- إنّهما كالوكيلين و الوصيين.

______________________________

(1) العاملي: مفتاح الكرامة 10/ 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 173

3 إذا جاز في الشهادة التي هي الأصل للقضاء يجوز في المقام.

4- إنّ الجواز مقتضى الأصل و العمومات.

و عليه لو اتّفقا ينفذ و إلّا يوقف.

استند المانع إلى:

1- أنّ الخلاف في مواقع الاجتهاد كثير و هو يؤدي إلى تعطيل الأحكام.

2- أنّه تضييق لموارد الاجتهاد و لعلّه يريد أنّه تضييق لولاية القاضي و مخالف لاستقلاله.

3- أنّهما إن صلحا للقضاء فلا معنى لاشتراط الاتّفاق و إلّا فلا معنى لتوليتهما.

الثالثة: في القضاء بين القولين

هو أنّ مورد النزاع غير منقح في كلامهم فإن كان النزاع في المنصوب الخاص كما هو الظاهر من كلام السيّد العاملي حيث قال: «فيرجعان إليه عليه السلام» فلا موضع للجدال، لأنّ ولاية القاضي ضوء من ولاية الإمام، فهي تتّبع كيفية الإفاضة فتارة يتولّى عنه على وجه الاستقلال و أُخرى على وجه التشريك و شرط الاتّفاق قال سبحانه: (هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ) (ص/ 39). و لعلّ المفروض في كلام المحقق أيضاً هو هذه الصورة حيث قال: «لأنّ القضاء نيابة تتّبع اختيار المنوب» و مع هذا لا حاجة للاستدلال بالأوثقية أو التشبيه بالوكيلين أو الوصيين أو الشهادة. و لم أتحقق وجه التمسك بالأصل في المقام في كلام السيّد العاملي، و أمّا العمومات فهي فرع وجود البيان من هذه الجهة.

كما أنّه لا يصلح للمنع قوله بأنّه يؤدي إلى تعطيل الأحكام ضرورة أنّه محدّد بما إذا لم يؤدّ إلى التعطيل، أو قوله: إنّه إن صلح للقضاء فلا معنى للاشتراط، لما عرفت من أنّها

مفاضة منه فتتّبع كيفية الإفاضة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 174

و لو كان هذا محطّ النزاع فالبحث عنه لغو في زماننا.

و أمّا إذا كان محطّ النزاع هو القاضي المأذون في عصر الغيبة و إن شئت قلت: المنصوب العام فإن لم تكن هناك دولة إسلامية يرأسها الفقيه، فلا موضوع للنصب حتّى يتحدّد بالاستقلال أو التشريك إنّما الكلام إذا كانت دولة إسلامية و صار التنفيذ محدّداً بالنصب لأجل حفظ النظام، و عدم تسرّب الفوضى إلى المجتمع، فيقع الكلام في جواز هذا التحديد و هو فرع جواز تضييق دائرة ولاية القاضي و استقلاله و المفروض أنّ للقاضي في عصر الغيبة الولاية التامّة و ليس للفقيه الرئيس تحديد الولاية و أمّا حديث النصب فهو شرط النفاذ، لا الولاية، و إلّا فله الولاية نُصب أم لا و معه كيف يمكن له أن تحدّد ولاية القاضي و استقلاله و يشترط الاتّفاق و هذا هو المهم في المسألة.

نعم لو اقتضت المصلحة فله أن يحكم عليهما حكماً حكومياً على أن لا يصدر إلّا عن الاتّفاق، و الإمساك عند الاختلاف في الرأي، و لو لم يكن هناك حكم بالإمساك، و اختلفا في الرأي و الحكم فإذا كانت الشبهة موضوعية يتساقطان و يرجع إلى ثالث يعيّنه المدّعي و إن كانت حكمية فيؤخذ بقضاء الأعلم كما لا يخفى و هذا يستفاد من رواية ابن حنظلة «1» و داود بن الحصين 2 و غيرهما كما لا يخفى.

و بذلك يعلم حال الصورتين الأخيرتين في المنصوب الخاص و العام، و المحاولة الأخيرة تجري فيهما أيضاً، فالتحديد لا بدّ أن يكون قيداً للتنفيذ، لا للولاية، و أن يكون هناك حكم حكوميّ لإمساك المخالف عن إصدار

الحكم. فلو تحقّق الموضوع من الأكثرية أو النصاب الخاص ينفذ و إلّا فلا. و لو صدر الحكم المخالف، يكون المرجّح في الشبهة الحكمية هو الأفقهية الواردة في الروايات، و إن كانت موضوعية يتساقطان فيرجع إلى قاض آخر.

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 9، من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 20.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 175

المسألة الثامنة: في انعزال القاضي و عزله

قد تعرّفت فيما مضى على الشرائط المعتبرة في عقد القضاء، ابتداءً، فيعتبر فيه العقل و البلوغ و العدالة، و الاجتهاد و الضبط العادي، و لو افترضنا أنّه افتقد في الأثناء بعض هذه الشرائط كما إذا جنّ أو فسق أو زال الاجتهاد و الضبط، يُعزل عن القضاء من غير فرق بين القاضي المنصوب و المأذون لأنّ المتبادر من الأدلّة كونها معتبرة ابتداءً و استدامة، لقبح تسليط المجنون و الفاسق و من لا يصلح للقضاء على النفوس و الأعراض و الأموال، و بعبارة أُخرى: مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي كونها شروطاً مطلقة.

و على ضوء ذلك لو حكم لم ينفذ واقعاً و لو جهل حاله و حكم، يكون نافذاً ظاهراً و لو بان الخلاف يكشف عن بطلانه من أوّل الأمر.

هذا من غير فرق بين القاضي المنصوب و القاضي المأذون، لأنّها شرائط واقعية على وجه لولاها، لما عقد له القضاء.

و لو افترضنا عود الوصف الزائل، كما لو صار عادلًا، أو ضابطاً يحتمل الفرق بين المنصوب، و المأذون، لأنّ الثاني بعد عود الوصف يدخل تحت العمومات الواردة في المقبولة و غيره، بخلاف المنصوب ففيما لو توقّف النفاذ على النصب، كما في زمان الحضور مع بسط اليد، أو الغيبة مع قيام الدولة الإسلامية، فعود الوصف و إن كان

يلازم عود الولاية، لكن المفروض، اشتراط النصب في النفاذ فلا ينفذ حكمه إلّا بعد النصب الجديد. هذا ما بنينا عليه في الدورة السابقة.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ أساس القضاء هو الولاية و المفروض عودها و هذا كما إذا قال الإمام: صلّ خلف العادل، و افترضنا أنّ عادلًا فسق ثمّ تاب فيدخل التائب تحت قوله: «صلّ خلف العادل» و لا يضرّ عدم انطباقه عليه في الأثناء فلو

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 176

كان لدليل النصب عموماً أزمانياً يُتمسّك به إلّا فيما دلّ الدليل على خروجه.

فهل ينعزل بمجرّد العزل أو بعد بلوغ الخبر، تظهر الثمرة في صحّة الأحكام الصادرة بين العزل و البلوغ، قال في المسالك: فيه قولان أظهرهما الثاني لمعظم الضرر في ردّ أقضيته بعد العزل و قبل بلوغ الخبر فيكون الحكم فيه أولى من الوكيل.

و السيرة الرائجة بين العقلاء هو العزل بعد بلوغ الخبر، و هو المتّبَع ما لم يردع عنه الشارع و هو الظاهر من سيرة الإمام علي عليه السلام كما في كتابه إلى أبي موسى الأشعري عند ما كان عامله على الكوفة و بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لمّا ندبهم لحرب الجمل و هو: «من عبد الله، علي أمير المؤمنين، إلى عبد الله بن قيس. أمّا بعد: فقد بلغني عنك قول هو لك و عليك فإذا قدم رسولي عليك، فارفع ذيلك، و اشدد مئزرك، و اخرج من جُحْرك». «1»

المسألة التاسعة: في انعزال القضاة بموت الإمام
اشارة

إذا مات الإمام فهل ينعزل القضاة المنصوبون به أو لا؟ فيه خلاف و الكلام يقع تارة في الإمام المعصوم و أُخرى في الحاكم الإسلامي الأعلى.

و إليك بعض الكلمات:

1- قال المحقّق: إذا مات الإمام عليه السلام،

قال الشيخ: الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع. و قال في المبسوط: لا ينعزلون لأنّ ولايتهم ثبتت شرعاً، فلا تزول بموته عليه السلام، و الأوّل أشبه. «2»

قال ابن سعيد: و إذا مات الإمام انعزل النائبون عنه. «3»

و قال العلّامة في القواعد: و لو مات إمام الأصل فالأقرب انعزال القضاة. «4»

______________________________

(1) نهج البلاغة، قسم الكتب، برقم 63.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 71.

(3) ابن سعيد الحلي: جامع الشرائع 540.

(4) مفتاح الكرامة: 10/ 21، قسم المتن.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 177

و قال أيضاً في الإرشاد: و ينعزل بموت الإمام و المنوب. «1»

و القول المشهور عند الفقهاء هو الانعزال و ما نقله المحقّق عن الشيخ في المبسوط، لم نعثر عليه في كتاب القضاء منه و قد نقل العاملي الانعزال عن النافع، و التحرير، و الدروس، و المسالك، و المجمع و حتّى عن الشيخ في المبسوط.

و مع ذلك يظهر من المسالك وجود قولين بين الفقهاء قال: اختلف كلام الشيخ و غيره من الفقهاء فيما لو مات إمام الأصل هل ينعزل القضاة أم لا؟ فقيل: ينعزلون مطلقاً، لأنّهم نوّابه و ولايتهم فرع على ولايته، فإذا زال الأصل تبعه الفرع، و قيل: لا ينعزلون، لأنّ ولايتهم ثبتت شرعاً فيستصحب و لما يترتّب على الانعزال من الضرر العام اللاحق بالخلق بخلوّ البلدان عن الحكّام إلى أن يتجدّد للإمام اللاحق نوّاب فيعطّل المصالح. و الأظهر هو الأوّل.

و قد يقدح هذا في ولاية الفقيه حال الغيبة و أنّ الإمام جعله قاضياً و حاكماً فيجري في حكمه ذلك الخلاف إلّا أنّ الأصحاب مطبقون على استمرار تلك التولية فإنّها ليست كالتولية الخاصّة بل على حكم بمضمون ذلك فإعلامه بكونه من

أهل الولاية على ذلك، كإعلامه بكون العدل مقبول الشهادة وذي اليد مقبول الخبر و غير ذلك و فيه بحث. «2»

إنّ القائل بالانعزال يتمسّك بفرعية ولايته على إمامة الأصل الذي مات. و القائل بعدمه يتمسّك باستصحاب الولاية أوّلًا، و لما يترتّب على الانعزال من تعطيل المصالح ثانياً و الظاهر أنّ القولين مبنيان على أمر آخر و هو أنّ المنشأ هو النيابة أو إعطاء المنصب كما سيظهر.

و لعلّ نظر الشهيد من قوله: «و فيه بحث» إلى ما يلي:

1- لا فرق بين التولية الخاصّة و التولية العامّة فإن كان المنشأ هو النيابة

______________________________

(1) إرشاد الأذهان: 2/ 139.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 394.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 178

فيكون أشبه بالوكالة، تبطل بموت الموكِّل، و إن كان إعطاء المنصب و إضفاء المقام، فلا ينعزل مطلقاً، خاصّاً كان أو عامّاً.

2- وجود الفرق الواضح بين الإعلام بكون العدل مقبول الشهادة وذي اليد مقبول القول و بين النصب للقضاء، فإنّ الأوّل من قبيل الإخبار عن واقع محفوظ خارج كلامه عليه السلام فلا يتحدّد بحياة المخبر و بين الإنشاء فإذا كان بصورة النيابة يكون مقيّداً بحياة المنوب عنه.

3- و ما ذكره من أنّه قد يقدح في ولاية الفقيه حال الغيبة غير قادح مطلقاً بل القدح يختصّ بصورة واحدة لا بكلتا الصورتين.

و يظهر من الجواهر: الفرق بين استمداد الإمام مشروعيّة مقامه من الناس و بين كونه منصوباً من الله سبحانه فالانعزال يناسب الأوّل دون الثاني لأنّ أئمّتنا أولياؤنا أحياءً و أمواتاً، نعم إنّما ينعزل نوّابهم عليهم السَّلام بالموت حيث تكون التولية منهم مقيّدة بذلك و لو بظاهر الحال لانقطاع ولايتهم بالموت، فإذا كانت من أحدهم على الاستدامة صريحاً

أو ظاهراً فلا إشكال في عدم الانعزال. «1»

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر عدم الفرق بين من أخذ مشروعيّة مقامه من الناس أو من الله، فالمتقمّص بالإمامة من جانب الشعب له الاستنابة، و له إعطاء المنصب و الولاية، فالقيادة العامّة تُسوّغ كلا الأمرين و الأوّل منهما يُتقوّم بحياته دون الآخر.

انّ تخصيص النزاع بالقضاة دون سائر الموظّفين عسكريين كانوا أم مدنيين بلا وجه فمقتضى الاستنابة، انعزال الجميع، و هو يورث الفوضى في المجتمع بل يورث ما لا تحمد عاقبته. كلّ ذلك يدلّنا على أنّ المنشأ هو الولاية و إعطاء المنصب و هذا أيضاً هو المستفاد من جعل الأئمّة، الفقهاءَ حكّاماً ممّا مضى من الروايات

______________________________

(1) النجفي، الجواهر: 40/ 65.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 179

خصوصاً من الإمعان في التوقيع الرفيع الصادر عن صاحب الأمر لشيعته حيث قال: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي و أنا حجّة الله». «1»

ثمّ إنّ اللازم تركيز النزاع بعصر الغيبة و عندئذ لو لم يكن هنا دولة إسلامية فلا موضوع للبحث و الفقهاء فيه قضاة مأذونون من جانب الإمام الحيّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف و أمّا إذا كان هناك دولة إسلامية يرأسها فقيه جامع للشرائط فقد عرفت أنّ النصب شرط النفاذ، و إيصاد باب الفوضى فإذا مات الفقيه فلا ينعزل القضاة لأنّ ولايتهم مقتبسة عن الإمام المعصوم لاعن الفقيه القائد، غاية الأمر النفاذ بالقوة القاهرة، فرع الاعتراف بقيادته.

في موت القاضي المنصوب

ما سبق كان في موت الإمام الناصب، بقي الكلام في موت القاضي المنصوب فيقع البحث تارة في نوّابه في شغل خاص، و أُخرى في الخليفة عنه في القضاء على وجه الإطلاق.

أمّا الأوّل فظاهر الأمر أنّه

من قبيل الاستنابة كما إذا عيّن رجلًا لبيع مال على ميّت أو غائب أو سماع بيّنة في حادثة معيّنة، و لا معنى لإعطاء الولاية في حادثة معيّنة لشخص.

و يقرب منه: تعيين المتولّي للوقف الذي لا متولّي له و القيّم لليتيم الذي لا ولي له، فإنّ الظاهر أنّه من قبيل الإذن في التصرّف القائم نفوذه بحياة الآذن. حيث إنّه لا يمكن للفقيه المباشرة، فيُنيب الغير مكانه.

قال الشهيد: و في المنصوبين في شئون عامة كقوام الأيتام و الوقوف وجهان ناشئان من الوجهين في نوّاب الإمام من حيث التبعية و من ترتّب الضرر لولايتهم

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 180

إلى أن تتجدّد الولاية. «1»

أقول: الظاهر هو الوجه الأوّل، و لا يترتّب أيّ ضرر إذ لو لم يتمكّن من الرجوع إلى الفقيه، يرجع إلى عدول المؤمنين و أقصى ما يترتّب عند عدم التمكّن منهم كون تصرّفاتهم فضولية إذا كانت مقرونة بالمصلحة، فتنفذ بتنفيذ الفقيه الآخر بعد التمكّن منه.

و أمّا الخليفة عنه في القضاء فالمفروض على أُصولنا أنّه مجتهد مثل المنوب عنه، قاض مثله، غير أنّ حفظ النظم دعاهما إلى الترتّب و بما أنّ استنابته كان باذن من الإمام، لا يضر موت النائب و المفروض ثبوت الولاية له أيضاً، نعم نفوذ رأيه ظاهراً يتوقف على الاعتراف به رسميّاً.

المسألة العاشرة: في تولية من لم يستكمل شرائط القضاء

إنّ شرائط القضاء على قسمين: قسم يعدّ مقوّماً له بحيث لولاه لما انعقد القضاء كالعقل و القدرة و البلوغ من الشرائط لعامّة التكاليف، و قسم يعدّ كمالًا للقضاء و شروطاً شرعيّة ففي حقّه يقول المحقق:

إذا اقتضت المصلحة تولية من لم يستكمل الشرائط، انعقدت ولايته مراعاة

للمصلحة في نظر الإمام كما اتّفق لبعض القضاة في زمان علي عليه السلام و ربّما منع من ذلك فإنّه عليه السلام لم يكن يفوض إلى من يستقضيه و لا يرتضيه بل يشاركه فيما ينفذه فيكون هو الحاكم في الواقعة لا المنصوب. «2»

و المراد هنا من غير المستكمل للشرائط من كان مقلِّداً لا مجتهداً، فاسقاً لا عادلًا، و بما أنّا أشبعنا الكلام حول الأمرين عند البحث عن شرائط القضاء فلا نعود إليه، و نعطف عنان الكلام إلى المسألة الآتية.

______________________________

(1) زين الدين، المسالك: 2/ 295.

(2) نجم الدين: الشرائع: 4/ 71.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 181

المسألة الحادية عشرة: كلّ من لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه
اشارة

هنا مسألتان: احداهما: إنّ هنا طوائف لا تقبل شهادتهم على المشهود عليهم و إن كانوا عدولًا، كالولد على الوالد، و العبد على مولاه، و الخصم على خصمه، على وجه لا توجب الخصومةُ فسق الشاهد.

نعم تقبل شهادة الولد لوالده و الوالد على ولده و له، و الأخ لأخيه و عليه، و قد بحث فيه المحقّق في كتاب الشهادة:

قال حول شهادة الولد على الوالد: النسب و إن قرب لا يمنع قبول الشهادة كالأب لولده و عليه، و الولد لوالده و الأخ لأخيه و عليه. و في قبول شهادة الولد على والده خلاف.

و قال حول شهادة المملوك قيل: لا تقبل شهادة المملوك أصلًا، و قيل: تقبل مطلقاً و قيل: تقبل إلّا على مولاه.

و قال حول شهادة الخصم: العداوة الدينية لا تمنع القبول فإنّ المسلم تقبل شهادته على الكافر. و أمّا الدنيوية فإنّها تمنع. «1»

و بما أنّ التصديق الفقهي في هذه الفروع يتوقّف على دراسة أدلّتها، و هي مطروحة في كتاب الشهادة فنتخذ عدم القبول أصلًا موضوعياً فيها و نبحث

في الملازمة بين عدم قبول الشهادة و عدم قبول القضاء فنقول:

و إليك الكلمات:

1- قال المحقّق: كل من لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه كالولد على الوالد، و العبد على مولاه، و الخصم على خصمه. «2»

______________________________

(1) لاحظ الشرائع: 4/ 131129، كتاب الشهادة.

(2) نجم الدين: الشرائع: 4/ 71.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 182

2 و قال العلّامة في القواعد: و كلّ من لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه كالولد على والده .... «1»

3- و قال في الإرشاد: و لا ينفذ حكم من لا تقبل شهادته كالولد على والده .... «2»

أقول:

استدل على الملازمة بوجوه:
1- القضاء شهادة و زيادة

قال ثاني الشهيدين: الحكم من شخص على آخر، شهادة له عليه و زيادة فيشترط في نفوذه ما يشترط في نفوذ الشهادة من الطرفين و أحدهما ... لكنّه قدَّس سرَّه منع الحكم في الأصل، أي عدم قبول شهادته فرتّب عليه قبول حكمه له و عليه كغيره. «3»

و قال المحقّق الأردبيلي في شرح قول العلّامة في الإرشاد: أي لا يُمضى حكم من لا تقبل شهادته على شخص، عليه كشهادته كحكم الولد على والده فإنّ المشهور بل ادّعي الإجماع على عدم قبول شهادة الولد على الوالد فلا يجوز حكمه عليه إذ الحكم شهادة و زيادة.

ثمّ أورد عليه بقوله: فيه تأمل إذ سيجي ء أن لا إجماع و لا دليل على ذلك بل الدليل على خلافه و قد تمنع الأولوية على تقدير وجود الدليل على منع الشهادة فقط و القياس ممنوع فيجوز الحكم عملًا بعموم الأدلّة. «4»

أقول: لا شكّ أنّ الإطلاقات هو المحكّم فما لم يكن هناك دليل صالح على منع الحكم فيؤخذ بإطلاق قوله: «فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً» «5» و أمّا الاستدلال

______________________________

(1) مفتاح الكرامة:

10/ 13، قسم المتن.

(2) ارشاد الأذهان: 2/ 139.

(3) المسالك: 2/ 395.

(4) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 2221.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 183

فيوضح ببيانين:

أ: إنّ القضاء حكم يتضمّن الشهادة، فإذا كانت شهادته غير نافذة يكون قضاؤه كذلك.

يرد عليه أنّ القضاء ليس شهادة، و إنّما القاضي يصدر عن الشهادة من دون تصديق لها قال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات و الايمان و بعضكم ألحن بحجّته من بعض». «1»

ب: انّ العرف يَفهم حكمَ القضاء من حكم الشهادة، و أنّ ما هو السبب لمنع نفوذ شهادته، فهو موجود أيضاً في القضاء حرفاً بحرف و هذا استدلال مقبول و لا يرد عليه ما ذكره المحقّق الأردبيلي: «من منع الأولوية على تقدير وجود الدليل على منع الشهادة، و القياس ممنوع» و ذلك لأنّ أساس الاستدلال ليس القياس و لا القسم الأولوي منه، بل فهم العرف من الدليل، عدم اختصاص الحكم بمورد الدليل.

2- القضاء عليه خلاف المعروف

إنّ القضاء على الوالد، يخالف قوله سبحانه: (وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلٰا تُطِعْهُمٰا وَ صٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً) (لقمان/ 15).

يلاحظ عليه: أنّ القضاء بالحقّ ليس على خلاف المعروف و ليس المعروف إلّا الموافق للشرع و إن أبيت إلّا عن كونه موافقاً لما عليه العقلاء، فنمنع كون الإجهار بالحقّ في المحكمة، على خلاف سلوكهم بل يعدّ خدمة له، لأنّه يخلصه عمّا عليه من الحقّ و من تبعاته، كيف لا يكون كذلك و قد قال سبحانه: (وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَ بِعَهْدِ اللّٰهِ أَوْفُوا

ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام/ 152).

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 184

3- القضاء عليه عقوق:

إنّ القضاء عليه عقوق لأنّه إظهار لكذب الوالد و هو محرّم. «1»

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّه إذا كان عقوقاً يجب أن لا يمضي حكمه على والده مع أنّه جائز بالاتّفاق بأنّ الإيذاء إذا كان بحقّ لا يعدّ عقوقاً، فلو تأذّى الوالد من أداء الواجبات، فلا يعدُّ من العقوق المحرّم يقول سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ) (النساء/ 135). و مثله ليس بعقوق إمّا موضوعاً أو حكماً.

و على ضوء الدليل الأوّل المرضيّ عندنا لا فرق بين قضاء الولد على الوالد، أو قضاء الخصم على خصمه، و إن كان حاكماً في عصر الغيبة أو قضاء المملوك على مالكه، إذ المفروض ثبوت الحكم في الأصل، و المناسبة الموجودة بين الموضوع و الحكم في الأصل تقتضي سريانه إلى القضاء و يكون حاكماً على قوله: «فإنّي جعلته عليكم حاكماً» أو: «فإنّهم حجّتي عليكم»، «و الرادّ عليهم كالرّاد علينا» «2» بمعنى تضييق دائرة الدليل و حجّيته.

تكميل

إنّ من لا تقبل شهادته لا يختصّ بالثلاثة، بل يعمّ من يجرّ بالشهادة إلى نفسه نفعاً أو يدفع ضرراً تجمعهما التهمة كما في شهادة الشريك للشريك فيما هو شريك فيه، و صاحب الدين للمحجور عليه، فمن، لا تقبل شهادته فيه، لا يقبل قضاؤه لنفس الدليل المذكور في الصورة المتقدّمة و قد استدل على عدم جواز شهادة غير الثلاثة بروايات:

أ: موثقة سماعة: قال سألته عمّا يردّ من الشهود قال: «المريب، و الخصم،

______________________________

(1) الدليلان نقلهما السيد العاملي في مفتاح الكرامة عن العلّامة، لاحظ: 10/ 14.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 9، 10.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء،

ج 1، ص: 185

و الشريك، و دافع مغرم، و الأجير و العبد و التابع، و المتّهم، كلّ هؤلاء تردّ شهاداتهم». «1»

ب: ما رواه الصدوق بسنده المذكور في المشيخة عن فضالة بن أيوب عن أبان قال: سئل أبو عبد الله عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه قال: تجوز شهادته إلّا في شي ء فيه له نصيب. «2» إلى غير ذلك من الروايات التي يجمعها غالباً جرّ النفع أو دفع الضرر. و قد عرفت وجود الملازمة العرفية بين المنع عن الشهادة و المنع عن نفوذ القضاء و على ذلك فهناك فروع تترتّب على ذلك الأصل يظهر من المشايخ عدم نفوذ رأي القاضي فيها، و لا يخلو بعضها من إشكال و إليك الفروع:

1- إذا كان للحاكم منازعة مع غيره لا ينفذ حكمه لنفسه على ذلك الغير و لو بأن يوكِّل غيره في المرافعة معه فيترافعا إليه بل يلزم الرجوع إلى حاكم آخر ... و هذا لا غبار عليه، لانصراف أدلّة قضاء الفقيه عن هذه الصورة و لأنّ ظاهره جرّ النفع إلى نفسه و إن كان يحتمل أن يكون حقّاً و قد عنونه المحقّق في محلّه فلاحظ. «3»

2- إذا نقل حقّه إلى غيره، جاز أن يرجع الغير مع الخصم إليه، و إن انتقل إلى القاضي بعد ذلك بإقالة و نحوها و ذهب السيّد الطباطبائي إلى الجواز قال: «حتى و لو نقل إلى الغير بشرط الخيار لنفسه في الفسخ» «4» لعدم كون القاضي طرفاً للنّزاع فلا انصراف للأدلّة و لعدم صدق جرّ النفع بشرط أن يكون الانتقال جدّياً، لا من باب الحيل الشرعية حتى يقع ذريعة للترافع لديه. و مع ذلك ففي النظر فيه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب

الشهادات، الحديث 3 و لاحظ الحديث 7.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب الشهادات، الحديث 3، و سند الصدوق إلى فضالة في «الفقيه» صحيح، و فضالة بن أيوب ثقة، و أبان بن عثمان ممن أجمعت العصابة على تصديقه، و لما حقّقنا في محلّه من بطلان اتّهامه بالناووسية.

(3) نجم الدين الحلي الشرائع: 4/ 83 و لاحظ الجواهر: 40/ 158.

(4) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 17.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 186

مجال، لأنّه متّهم في قضائه إذ لو قضى لصالح المدّعي يلزم عليه ردّ الثمن على من باعه منه، و لو قضى لصالح المنكر (المشتري) فقد دفع به ذلك المغرم عن نفسه فيحتمل أن يكون من مصاديق قوله في موثقة سماعة: «و دافع مغرم» كما مرّ فالأولى رفع الشكوى إلى قاض آخر.

3- إذا كان للحاكم شركة مع غيره في مال و وقع النزاع فيه بينهما و بين غيرهما نفذ حكمه في حصّة شريكه لا في حصّة نفسه مثلًا إذا تنازع أخوه مع غيره في مال مشترك بينه و بين أخيه في طرف الإرث و ترافعا إليه فحكم لأخيه نفذ في حصّة أخيه، و لا ينفذ في حصّة نفسه لأنّه يصبح طرف النزاع و يجرّ به نفعاً.

و هل يشارك القاضي مع الغير في تلك الحصّة التي قضى له؟ ربّما يقال: بالفرق بين ما إذا قسّمها الأخ بينه و بين القاضي قبل القضاء إذ حينئذ يشارك معه في تلك الحصّة لإقراره بالشركة، و ما إذا لم يقسّمها فلا يشارك معه فلأخيه أن ينقلها إلى غيره على إشاعتها. هذا ما ذكره السيّد الطباطبائي. «1»

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان الاعتراف بالشركة قبل الإفراز نافعاً فليكن

نافعاً في صورة عدم الإفراز و على ما ذكره في صورة الإفراز، و ما ذكرناه في صورة الإشاعة يكون مرجع النزاع لبّاً إلى أنّ نصف النصف المفروز أو المشاع ماله فلا يكون نافذاً.

نعم إذا كانت الدعوى ديناً فلا يشاركه بعد القبض لأنّ المحكوم عليه يغرم له بما أنّه سهمه و المحكوم يقبض بما أنّه سهمه و هذا كما إذا تنازع جماعة مشاركون في عين أو دين مع غيرهم فأقاموا شاهداً واحداً و حلف بعضهم دون بعض فإنّه تثبت حصّة الحالف، دون غيره و لا يشاركه من لم يحلف في حصّته.

4- إذا كان القاضي وليّاً خاصاً للمدّعى عليه كالأُبوة و الجدودة و الوصاية، فاختار صاحب الجواهر عدم قبول شهادته للمولّى عليه لأنّها تجرّ نفعاً إليهم

______________________________

(1) ملحقات العروة: 2/ 17.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 187

و قوّى عدم نفوذ قضائه حيث قال: «أمّا إذا كان الأب حاكماً مثلًا أو الوصيّ كذلك ففي قبول حكمه له نظر أقواه العدم». «1»

يلاحظ عليه: أنّ الشهادة في جميع الموارد تجرّ نفعاً إلى المشهود له، و المانع هو جرّ النفع إلى نفسه لا إلى المشهود له و إن كانت بينهما وشيجة كالقرابة و على ذلك فلا مانع من قبول شهادته و قضائه و المراد من المتّهم في رواية سماعة هو المتّهم في دينه كما ورد التفسير به في رواية الصدوق في معاني الأخبار «2» و لو نوقش في سندها و فسِّر بمعنى آخر (غير ما ذكرنا) فهو لا يصدق على القاضي العادل و إن قضى في حقّ أولاده. و القدر المتيقّن من عدم نفوذ قضائه فيما إذا كان النزاع في أنّ المال الفلاني له أو لا

و بعبارة أُخرى أن يكون هو طرف النزاع واقعاً من غير فرق بين كون طرف النزاع في الظاهر هو نفسه أو وكيله. و أمّا إذا كان النزاع في مال غيره فمقتضى عموم نفوذ حكم الحاكم و عدم جواز الردّ عليه، نفوذه.

نعم في تصدّيه للدفاع عن المولّى عليه شبهة وحدة المدّعي و القاضي فله أن يدفع الشبهة بتوكيل شخص يكون هو طرف المرافعة، لا القاضي نفسه، و يحكم و يجوز حكمه. و مع ذلك يجوز له القضاء مباشرة لوجود حيثيتين مختلفتين في القاضي فبما أنّه وليّ أو وصيّ فهو مدّع، و بما أنّه فقيه جامع للشرائط قاض. و في الحقيقة المدّعون الواقعيّون، هم الأيتام و القصّر، و القاضي ينوب عنهم و يتكلّم عن لسانهم و هذا غير كون المدّعي و القاضي واحداً حقيقة نعم التوكيل أحسن و أحوط و أقرب إلى سلوك العقلاء.

أضف إلى ذلك وجود النصّ على نفوذ شهادة الوصيّ فيجوز قضاؤه. «3»

و ممن تنبّه بذلك السيّد الطباطبائي قدَّس سرَّه فإنّه بعد أن منع في المسألة 13 نفوذ

______________________________

(1) النجفي، الجواهر: 40/ 72.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 8.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 28 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 188

قضاء الحاكم إذا كان له منازعة مع غيره كأنّه حاول الاستدراك لما ذكره فقال في المسألة 16: إنّ جميع ما ذكرنا في هذه المسائل إنّما هو بناء على الإطلاق المدّعي على عدم نفوذ حكم الحاكم في حقّ نفسه أو تمامية انصراف أخبار نفوذ حكم الحاكم إلى غير صورة رجوع الحكم إلى نفسه لكن القدر المتيقن من الإجماع أو الانصراف ما إذا كان

هو الطرف للمنازعة أو كان الطرف وكيله مع كون النزاع في أنّ الشي ء الفلاني ماله أو لا و أمّا إذا كان النزاع في مال غيره و لو كان هو الولي له بالولاية الخاصة أو كان الطرف شريكه، أو كان النزاع مع غيره و إن كان الحقّ راجعاً إليه فمقتضى عموم نفوذ حكم الحاكم و عدم جواز الردّ عليه، نفوذه. «1»

5- و بما ذكر يعلم الفرق بين ما إذا كان النزاع مع شريك القاضي و بين كونه شريك المولّى عليه، ففي الأوّل لا ينفذ و إن وكّل الغير، لما مرّ من أنّ القاضي يصير مآلًا طرف النزاع، بخلاف الثاني، لانطباق ما ذكرنا من الميزان على الأوّل دون الآخر. «2»

6- كما تظهر الحال فيما إذا كان الطرف غيره بحسب عنوان المنازعة و إن كان المال راجعاً إليه كما إذا نذر شخص داره له أو أوصى بها له، و حصل منازع مع ذلك الشخص فترافعاً إليه في ذلك الدار فلا مانع عن نفوذ حكمه له. إذ ليس النزاع في أنّ الشي ء الفلاني ماله أو لا، خصوصاً إذا لم يكن حال الحكم عالماً بأنّ تلك الدار له من طرف النذر أو الوصية.

7- إذا كان وليّاً عامّاً للأيتام و المجانين و الغيّب و الفقراء بالنسبة إلى الخمس و الزكاة و الوقف إذا كان النزاع في ثبوتها و عدمها فتظهر الحال ممّا سبق إذ ليس النزاع في أنّ المال ماله بل النزاع في أنّ لهؤلاء حقّاً أو لا فلا وجه لعدم النفوذ و كونه وليّاً لهم لا يكون سبباً للمنع.

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 18.

(2) خلافاً للسيّد الطباطبائي حيث سوّى بينهما في الحكم مع وضوح الفرق.

نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 189

قال العلّامة في التحرير: و لو تولّى وصيّ اليتيم القضاء فهل يقضى له فيه نظر: ينشأ من كونه خصماً في حقّه، كما في حقّ نفسه و من أنّ كل قاض وليّ الأيتام» «1» و قال في الجواهر: «لا إشكال في عدم منع مثل ذلك الحكم لعدم اختصاص الولاية له، و كذا شهادة الفقير أو حكومته بأنّ في مال زيد الزكاة مثلًا بل و كذا الكلام في مصرف الوقف من العلماء و العدول و نحوهم فإنّ ذلك و نحوه لا يمنع الحكومة و لا الشهادة لعموم أدلّة القبول. «2»

و الحاصل: أنّ الذي عليه العقلاء هو أنّه إذا كان الإنسان بشخصه مدّعياً و قاضياً فهذا ما لا يخضع عليه العقلاء، بل يرجعون الواقعة إلى فرد ثالث لأنّهم يتّهمون القاضي بالتأثر عن الإنانيّة عن لا وعي، و هذا بخلاف ما إذا كان مدّعياً نيابة بشخصيته، و قاضياً بشخصه كما في موارد الولاية العامّة و الخاصّة و الوصاية، ففي مثله يخضع العقلاء على قضائه و على ضوء هذا يتّضح حكم كثير ممّا ذكرنا من الصور أو جميعها، فلاحظ.

فتلخّص من دراسة الصور السبع أنّ الميزان هو أنّه إذا كان طرف النزاع فعلًا كما في الصورة الأُولى و الثالثة، أو كان في مظنّة دفع مغرم عن نفسه، كما في الصورة الثانية فلا يصلح للقضاء، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك.

***

______________________________

(1) العلّامة الحلّي، التحرير، كتاب القضاء 181.

(2) الجواهر: 40/ 72.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 190

النظر الثاني في آداب القاضي

اشارة

و فيه مسائل:

الأولى: عمل القاضي بعلمه

اشارة

هل يجوز للإمام أن يقضي بعلمه، و إذا جاز له القضاء بعلمه، فهل يجوز للفقيه القاضي أن يعمل بعلمه أو لا؟ و ربّما يتصوّر أنّ البحث عن الجهة الأُولى لغوٌ لا ثمرة فيه، و ليس كذلك؛ إذ ربّما يقع البحث فيها ذريعةً لاستكشاف الحال في الجهة الثانية، إذ لو لم يجز للإمام، فلا يجوز للقاضي بوجه أولى كما أنّه إذا جاز له العمل، يكون مقتضياً لثبوت الحكم فيه، و إن لم يكن سبباً تامّاً لاحتمال أن يكون العمل من خصائصهم عليهم السَّلام.

و قد عبّر المحقّق الرشتي عن المسألة ب «هل يكون علم القاضي بيّنةً للقضاء»؟

و لعلّ التعبير عن «علم القاضي» بالبيّنة مشعرٌ بأنّ النزاع في الجواز مختصٌّ بالشبهات الموضوعية، و أمّا الشبهات الحكمية فلا ريب أنّه يعمل بعلمه و اجتهاده لا بعلم الغير و اجتهاده لكونه مخطِّئاً له.

إذا عرفت هذا

فلإيضاح المقام نقدّم أُموراً:
* الأمر الأوّل: في نقل كلمات الأصحاب في المسألة:
اشارة

1- قال ابن الجنيد في كتاب الأحمدي: «و يحكم الحاكم فيما كان من حدود الله عزّ و جلّ و لا يحكم فيما كان من حقوق الناس إلّا بالإقرار و البيّنة فيكون ما علمه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 191

من حقوق الناس شاهداً عند مَن فوقه و شهادته كشهادة الرجل الواحد، سواء كان ما علمه من ذلك كلّه في حال ولايته أو قبلها». «1»

و الظاهر ممّا نقل عنه المرتضى أنّه كان يمنع العمل بالعلم مطلقاً من غير فرق بين حقوق الله و حقوق الناس، قال المرتضى: احتجّ ابن الجنيد بأنّ في الحكم بعلمه تزكية نفسه و لأنّه إذا حكم بعلمه فقد عرض نفسه للتهمة و سوء الظن به.

و يظهر من دليله أيضاً أنّه قائلٌ بالمنع مطلقاً قال: وجدت الله

تعالى قد أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقاً، أبطلها فيما بينهم و بين الكفّار و المرتدّين كالمواريث و المناكحة و أكل الذبائح و وجدنا أنّه قد اطلع رسوله على من يُبطِن، كأن يبطن الكفر و يظهر الإسلام و كان يعلمه و لم يبيّن صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أحوالهم لجميع المؤمنين فيمتنعوا من مناكحتهم و أكل ذبائحهم. «2»

و على كلّ تقدير فهو إمّا من المفصِّلين أو من المانعين على وجه الإطلاق.

2- قال المرتضى: ممّا ظنّ انفراد الإمامية و أهل الظاهر في القول بأنّ للإمام و الحكّام من قبله، أن يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق و الحدود من غير استثناء و سواء علم الحاكم ما علمه و هو حاكم أو علمه قبل ذلك ... ثمّ نقل تفصيل مذاهب الجمهور إلى أن قال: لا خلاف بين الإمامية في هذه المسألة و قد تقدّم إجماعُهم ابنَ الجنيد و تأخّر عنه و إنّما عول ابن الجنيد على ضرب من الرأي و الاجتهاد. 3

3- قال الشيخ في الخلاف: للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأحكام من الأموال و الحدود و القصاص و غير ذلك سواء كان من حقوق الله تعالى أو من

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 398 و يظهر منه أنّ كتاب الأحمدي كان موجوداً في عصره. إذ هذه العبارة ليس لها أثر في الانتصار للسيّد المرتضى و لا في مختلف الشيعة للعلّامة و إنّما الموجود فيهما غيرها كما سيوافيك.

(2) 2 و 3 المرتضى، الانتصار: 70. راجع مفتاح الكرامة: 10/ 3736.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 192

حقوق الآدميين، فالحكم فيه سواء، و لا فرق بين أن يعلم ذلك بعد التولية في موضع

ولايته أو قبل التولية، أو بعدها قبل عزله في غير موضع ولايته، الباب واحد. «1»

4- و قال في المبسوط: و الذي يقتضيه مذهبنا و رواياتنا أنّ للإمام أن يحكم بعلمه و أمّا من عداه من الحكّام فالأظهر أنّ لهم أن يحكموا بعلمهم و قد روي في بعضها أنّه ليس له أن يحكم بعلمه لما فيه من التهمة. «2»

و قال أيضاً: «قال قوم يقضي بعلمه، و قال آخرون: لا يقضي، و عندنا أنّ الحاكم إذا كان مأموناً قضى بعلمه و إن لم يكن كذلك لم يحكم به». «3»

و قال أيضاً: «و أمّا إقامته بعلمه فقد ثبت عندنا أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه فيما عدا الحدود و في أصحابنا من قال: و كذلك في الحدود». 4

و على ضوء هذا فللشيخ أقوالٌ ثلاثة:

أ الجواز مطلقاً.

ب الجواز إذا كان مأموناً.

ج التفصيل بين الحدود و غيرها فيجوز في الثاني. و لعلّ مراده من كونه مأموناً، أي بريئاً من التهمة.

5- و في النهاية فصّل في الحدود بين حقوق الناس و حقوق الله فيجوز في الأوّل دون الثاني. 5

6- و قال أبو الصلاح الحلبي: و إن أنكر فكان عالماً بصدق المدّعي أو

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب القضاء، المسألة 41. و لعلّ تقدير العبارة هكذا: يعلم ذلك قبل التولية أو بعدها في موضع ولايته و بعد التولية في غير موضع ولايته.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 166، و ما أشار إليه من الرواية ليست موجود في مصادرنا كما صرح في مفتاح الكرامة: 10/ 37.

(3) 3 و 4 المبسوط: 8/ 121 و 12.

(4) 5 النهاية: 691.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 193

المدّعى عليه على كلّ حال و في تلك القضية

حكم بعلمه و لم يحتج إلى بيّنة و لا يمين على صحّة دعوى و لا إنكار، إلّا أن تقوم بيّنةً تمنع من استمرار العلم فيحكم بمقتضاه. «1»

7- قال ابن البرّاج: «و إذا ترافع خصمان إلى الحاكم فادّعى أحدهما على الآخر حقّاً فأنكر و علم الحاكم صدق المدّعي فيما طالبه، مثل أن يكون ما عليه، يعلمه الحاكم أو قصاص أو ما أشبه ذلك، كان له أن يحكم بعلمه، ثمّ نقل عن المخالفين بأنّهم يعيبوننا بالقول بعلم القاضي بعلمه، مع أنّهم يجوزونه في موارد ثلاثة:

أ أن يحكم في الجرح بعلمه و أن تهدى البيّنة على عدالة الشاهد.

ب إذا طلّق زوجته بحضرته ثلاثاً ثمّ جحد الطلاق كان القول قوله مع يمينه فيعمل بعلمه.

ج إذا عتق الرجل عبده بحضرته ثمّ جحد، و لا يعتمد بيمين المنكر». «2»

8- و قال ابن حمزة: «و يجوز للحاكم المأمون الحكم بعلمه في حقوق الناس و للإمام في جميع الحقوق». «3»

9- قال ابن إدريس: عندنا للحاكم أن يقضي بعلمه في جميع الأشياء؛ لأنّه لو لم يقض بعلمه أفضى إلى إيقاف الأحكام أو فسق الحكّام، لأنّه إذا طلّق الرجل زوجته بحضرته ثلاثاً ثمّ جحد الطلاق كان القول قوله مع يمينه فإن حكم بغير علمه و هو استحلاف الزوج و تسليمها إليه فَسَقَ و إن لم يحكم وقف الحكم و هكذا إذا أعتق الرجل عبده بحضرته ثمّ جحد و إذا غصب من رجل ماله ثمّ جحد يفضي إلى ما قلناه.

الحقوق ضربان: حقّ للآدميين، و حق لله فإن ادّعى حقّاً لآدمي كالقصاص

______________________________

(1) أبو الصلاح، الكافي: 445.

(2) ابن البراج، المهذب: 2/ 587586.

(3) ابن حمزة: الوسيلة: 219.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 194

و

حدّ القذف، و المال فاعترف به أو قامت به البيّنة لم يجز للحاكم أن يعرض له بالرجوع عنه، و الجحود؛ لأنّه لا ينفعه ذلك، لأنّه إذا ثبت باعترافه، لم يسقط برجوعه و إن كان قد ثبت بالبيّنة لم يسقط عنه بجحوده.

و إن كان حقّاً لله كحدّ الزنا و الشرب فإن كان ثبوته عند الحاكم بالبيّنة لم يَعْرض له بالرجوع لأنّ الرجوع لا ينفعه، و إن كان ثبوته باعترافه جاز للحاكم أن يعرض له بالرجوع لكنّه لا يصرّح بذلك؛ لأنّ فيه تلقين الكذب و إنّما قلنا بجوازه لأنّ ماعزاً لما اعترف قال له النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لعلّك قبّلتها، لعلّك لمستها. «1»

10 و قال المحقّق: «الإمام يقضي بعلمه مطلقاً، و غيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس و في حقوق الله تعالى على قولين أصحّهما القضاء». «2»

1- 1 و قال ابن سعيد: «و الحاكم يحكم بعلمه في عدالة الشاهد و جرحه فلا خلاف و في حقوق الناس و حقوق الله في الأظهر». «3»

2- 1 و قال العلّامة في القواعد: «الإمام يقضي بعلمه مطلقاً، و غيره يقضي به في حقوق الناس و كذا في حقّه تعالى على الأصح». «4»

3- 1 قال الشهيد الثاني: ظاهر الأصحاب الاتّفاق على أنّ الإمام يحكم بعلمه مطلقاً لعصمته المانعة من تطرّق التهمة و علمه المانع من الخلاف، و الخلاف في غيره من الحكّام فالأظهر بينهم أنّه يحكم أيضاً بعلمه مطلقاً، و قيل: لا يجوز مطلقاً، و قال ابن إدريس: يجوز في حقوق الناس من دون حقوق اللّه و عكس ابن الجنيد في كتابه الأحمدي إلى أن قال: و أصحّ الأقوال جواز قضاء الحاكم مطلقاً بعلمه مطلقاً لأنّ

العلم أقوى من الشاهدين اللّذين لا يفيد قولهما عند الحاكم إلّا مجرّد الظن إن كان فيكون القضاء به ثابتاً بطريق

______________________________

(1) ابن إدريس الحلي، السرائر: 2/ 179.

(2) الجواهر: 40/ 8886، قسم المتن.

(3) الجامع للشرائع: 529.

(4) مفتاح الكرامة: 10/ 3635، قسم المتن.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 195

أولى. «1»

4- 1 اختار السيد الأُستاذ قدّس سرّه في التحرير جواز عمل القاضي بالعلم في المجالين: حقوق الله و حقوق الناس مثل عمله إذا قامت البيّنة أو أقرّ الخصم، غير أنّ عمله في حقوق الناس يتوقّف على المطالبة حدّاً كان أو تعزيراً «2» و لكنّ القيد ليس تفصيلًا في المسألة؛ إذ المطالبة هو الشرط مطلقاً في حقّ الناس سواء ثبت بالعلم أو بالبيّنة و الإقرار، فما لا يطالب صاحب الحقّ لا يحكم به القاضي.

فهذا أربعة عشر نصّاً من الأصحاب يعرّف موقف الأصحاب من المسألة و يحصل من الإمعان فيها أنّ الأقوال عندهم تناهى ستة:

1- القول بالمنع، كما عن ابن الجنيد.

2- الجواز مطلقاً، كما عليه الأكثر.

3- يجوز في حقوق الناس دون حقوق الله.

4- عكس الثالث و هو خيرة ابن الجنيد في الأحمدي حسب ما عرفت.

5- الفرق بين كون القاضي مأموناً و عدمه فيقضي في الأوّل دون الثاني.

6- الفرق بين الحدود و غيرها فلا يقضي في الأوّل بعلمه و هو خيرة الشيخ في موضع من المبسوط و هو غير القول الثالث؛ لأنّه يفرق بين حقّ الناس و حقّ الله، فيقضي في الأوّل دون الثاني و هذا يفرق بين الحدود و إن كان حقّ الناس و غيرها و على هذا لا يعمل بعلمه في القصاص و حدّ القذف؛ لأنّهما و إن كانا من حقوق الناس، لأنّهما من

الحدود.

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 398. ما نسبه إلى ابن إدريس لا ينطبق على ما نقلناه عن السرائر فلاحظ.

(2) الإمام الخميني: التحرير: 2/ 408.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 196

كلمات فقهاء أهل السنّة
اشارة

و أمّا أهل السنّة فقد نقل المرتضى أقوالهم في الانتصار، و الشيخ في الخلاف و نحن ننقلها عن الخلاف و المغني.

قال الشيخ في الخلاف: للشافعي فيه قولان في حقوق الآدميين: أحدهما مثل ما قلناه و به قال أبو يوسف و اختاره المزني و عليه نصّ في الأُم و في الرسالة و اختاره و قال الربيع: مذهب الشافعي أنّ القاضي يقضي بعلمه و إنّما توقّف فيه لفساد القضاة.

و القول الثاني لا يقضي بعلمه بحال و به قال في التابعين: شريح و الشعبي. و في الفقهاء مالك و الأوزاعي، و ابن أبي ليلى و أحمد و إسحاق ... و عن مالك و ابن أبي ليلى، قال: لو اعترف المدّعى عليه بالحقّ لم يقض القاضي عليه حتى يشهد عنده شاهدان.

و أمّا حقوق الله تعالى فإنّها تبنى على قولين: فإذا قال لا يقضي بعلمه في حقوق الآدميين فبأن لا يقضي به في حقوق الله أولى. و إذا قال يقضي بعلمه في حقوق الآدميين ففي حقوق الله على قولين.

و لا فصل على القولين بين أن يعلم ذلك بعد التولية في موضع ولايته أو قبل التولية، أو بعد التولية في موضع ولايته.

و قال أبو حنيفة و محمّد: إن علم بذلك بعد التولية ففي موضع ولايته حكم و إن علم به قبل التولية أو بعد التولية في غير موضع ولايته لم يقض به. هذا في حقوق الآدميين، أمّا في حقوق الله تعالى فلا يقضى عندهم بعلمه

بحال. «1»

و قال ابن قدامة: ظاهر المذهب أنّ الحاكم لا يحكم بعلمه في حدّ و لا في غيره

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف، كتاب القضاء، المسألة 41.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 197

لا فيما علمه قبل الولاية، و لا بعدها و هذا قول شريح، و الشعبي، و مالك و إسحاق و أبي عبيد، و محمّد بن الحسن، و هو أحد قولي الشافعي.

و عن أحمد رواية أُخرى يجوز له ذلك و هو قول أبي يوسف و أبي ثور و القول الثاني للشافعي و اختيار المزني.

و قال أبو حنيفة: ما كان من حقوق الله لا يحكم فيه بعلمه لأنّ حقوق الله تعالى مبنيةٌ على المساهلة و المسامحة و أمّا حقوق الآدميين فيما علمه قبل ولايته لم يحكم به، و ما علمه في ولايته حكم به، لأنّ ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته، و ما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته إلى أن قال: و لأنّ تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته و الحكم بما اشتهى و يحيله إلى علمه. «1»

حاصل أقوالهم

إنّ المشهور في حقوق الآدميين هو عدم الجواز إلّا على أحد القولين للشافعي، و به قال يوسف و المزني.

و أمّا في حقوق الله، فمن قال لا يجوز في الآدميين يقول به فيها و أمّا من يجوِّز فيها فله قولان فيها و لا يفصل أحد منهم بين العلم قبل التولية و بعدها، أو بين موضع توليته و غيره إلّا أبا حنيفة كما عرفت.

***

* الأمر الثاني: ما هو المراد من الجواز؟

المراد من الجواز في عنوان المسألة هو الجواز الوضعي، لا التكليفي بمعنى جواز العمل و تركه، ضرورة أنّه إذا تمّت الحجّة بالعلم يجب العمل و إقامة القسط

______________________________

(1) ابن قدامة، المغني: 10/ 141140.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 198

و العدل، و الحكم بالحقّ، و إلّا حرم العمل.

***

* الأمر الثالث: في العلم المأخوذ في الموضوع

إنّ القضاء يتوقّف على العلم و القضاء بدونه حرام و هل العلم فيه طريقي محض، أو موضوعي؟ الظاهر هو الثاني، بشهادة قوله: «و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النار» و لو كان العلم المعتبر فيه طريقياً محضاً لما صحّ إيعاد النار عليه في هذه الصورة لكونه أصاب الواقع و لما انحصرت النجاة بآخر الأقسام أعني: «رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنة». «1»

و ليس المراد من العلم منه هو العلم بالحقّ، علماً منطقياً، (الاعتقاد الجازم) بشهادة أنّ من يحكم بالبيّنات و الايمان، لا علم له بواقع الحقّ، بل المراد هو قيام الحجّة على الحقّ، فقد أخذ علم القاضي على وجه الإجمال موضوعاً لوجوب الاتباع و النفوذ على المتخاصمين فعند ذلك يجب الفحص عن خصوصية ذلك العلم النافذ على الغير.

توضيح الحال: إنّ علم الإنسان بالنسبة إلى نفس العالم، يلاحظ غالباً إلّا ما شذّ طريقاً إلى الواقع، فيجب اتّباع العلم من غير فرق بين أسبابه، فلو حصل العلم بالموضوع أو الحكم من أيّ طريق كان، يجب الأخذ به إلّا إذا ردع الشارع عنه فعندئذ يرجع إلى التشكيك في مبادئه، و أمّا علم الإنسان بالنسبة إلى غيره فهو موضوع للزوم اتّباعه كعلم المفتي بالحكم الشرعي، و علم الشاهد بما يشهد، و علم القاضي بما يقضي. فقد اتّخذ العلم في تلك

الموارد، موضوعاً للزوم اتّباع الغير و نفوذه في حقّه و عندئذ يجب الفحص عن حدّ الموضوع، فهل المأخوذ في الموضوع

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4، من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 199

مطلق العلم أو العلم الخاص منه فلو كان إطلاق يؤخذ به و إلّا يؤخذ بالقدر المتيقّن منه و الظاهر من الروايات هو تحديد علم القاضي بالبيّنات و الايمان فالعمل بغيرهما يحتاج إلى دليل خاص.

قال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان و بعضكم ألحن بحجّته من بعض فأيّما رجل قطعتُ له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعتُ له به قطعة من النار». «1»

و قال أمير المؤمنين عليه السلام: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى». «2»

فإن قلت: سلّمنا إنّ العلم مأخوذ موضوعاً في نفوذ رأي القضاء لكنّه مأخوذ فيه على نحو الطريقية، لا على نحو الوصفية و السببيّة فعندئذ كما هو شامل للحجج الشرعية من البيّنات و الأقارير، فهكذا شاملٌ للعلم الوجداني للقاضي أخذاً بالملاك.

قلت: لا يصحّ القول بأنّ تمام الملاك هو الطريقية و ذلك لظهور أدلّة باب القضاء هو كون القاضي إنساناً محايداً غير متحيّز لأحد الطرفين و هو لا يتحقّق في نظر العرف إلّا إذا عمل بما اتّفق المترافعان عليه و هو البيّنة و الإقرار، لا ما إذا عمل بعلمه فإن عمله به يخرجه عن الحيادة.

و ممّا ذكرنا يظهر الإشكال في كلام المحقّق الرشتي، قال قدَّس سرَّه: القضاء سلطنة إلزام شرعي للشخص على ما لا يقتضيه تكليفه سواء كان القضاء بمقتضى العلم أو بمقتضى البيّنة

و الأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي، و هذا هو المراد ممّا ذكرنا في الالتقاط المتقدّم من كون العلم في مسألة القضاء موضوعاً قابلًا للإثبات و النفي، و الأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي في مقام

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 2، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) المصدر نفسه، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 200

الحجّية.

لكن إذا فرض وجوب القضاء لا محالة فلا معنى لعدم اعتبار العلم و لا لاعتبار سائر الموازين في مقابله، مثلًا إذا علم القاضي بحقيّة الدعوى فالإعراض عن مقتضى العلم و الرجوع إلى اليمين لا معنى له، أو علم مثلًا أنّ قاتل زيد هو عمرو، و أقيمت البيّنة على كونه خالداً فإنّ الحكم بالقصاص من خالد و عدم الحكم بالقصاص من عمرو مع العلم بأنّ خالداً ليس بقاتل يوجب التخصيص في أدلّة الأحكام الواقعية، مع أنّ القاضي أمر بالقضاء حسب الحقّ الواقعي. «1»

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في تفسير القضاء ممّا لا غبار عليه إنّما الكلام في غيره فإنّه قَبِلَ أنّ علم القاضي أخذ موضوعاً للحجّية، فعندئذ يجب أن يلاحظ الدليل الدالّ عليه فهل المأخوذ مطلق العلم و الحجّة، سواء أ كان علماً منطقياً أو بيّنةً أو إقراراً، أو العلم الخاص أعني: الأخيرين (البيّنة و الإقرار) و ما لم يكن هنا دليل شارح للموضوع من إطلاق أو غيره لا يمكن الحكم. و ليس العلم الوجداني، المصداق المتيقّن منه.

و كون القضاء واجباً لا ينتج لزوم العمل بالعلم، و ذلك لأنّ وجوبه ليس على وجه الإطلاق بل مشروط بتواجد أسبابه و أدواته و من المحتمل أن تكون أسبابه،

منحصرةً في البيّنات و الايمان.

و أمّا حكم التعارض بين العلم الوجداني و قيام البيّنة فعليه الامتناع من القضاء، لا تقديم علمه على البيّنة؛ إذ العلم و إن كان أقوى في نظره، و لكن البيّنة أقوى في نظر الأخيرين من علمه فترفع الشكوى إلى قاض آخر، يحكم هو حسب الموازين القضائية الممكنة المتيسّرة.

أضف إلى ذلك انّ القضاء من الأُمور ذات الإضافة، له إضافة إلى من

______________________________

(1) الرشتي، القضاء 1/ 104.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 201

يقضي، و من يقضى له، و من يقضى عليه فله كالمثلث أضلاع ثلاثة، و هو غير متحقق في القضاء، بالعلم في حقوق الله سبحانه، لاتّحاد القاضي و المدعي (من يقضى له) فيها، فتنفيذه فيها يحتاج إلى دليل خاص هذا هو مقتضى القاعدة.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّه لو لا الدليل على نفوذ علم القاضي في المتخاصمين، لما جاز الحكم به. ثمّ إنّه ربّما يتوهم أنّ مقتضى الأدلّة العامّة في القضاء و غيره هو جواز الحكم بالعلم، فهذا ما نذكره في البحث الآتي و نبرهن، أنّه لا دلالة لها على الجواز، و لا بدّ من التماس دليل خاص.

***

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأدلّة على أقسام ثلاثة:
اشارة

الأوّل: ما يصلح للاستدلال به على جواز العمل به مطلقاً من غير فرق بين حقوق الله و حقوق الناس.

الثاني: ما يصلح للاستدلال به عليه في خصوص حقوق الله.

الثالث: ما يصلح للاستدلال به عليه في خصوص حقوق الناس.

فلنبدأ بالأوّل:

المقام الأوّل: فيما يصلح للاستدلال به على جواز العمل في كلا الحقوقين
اشارة

استدلّوا في هذا الحقل بأُمور:

1- ما استدلّ به الشيخ في الخلاف على المسألة بقوله تعالى: (يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ) (ص/ 26). و قال تعالى لنبيّه: (وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (المائدة/ 42). و من حكم بعلمه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 202

فقد حكم بالعدل و الحقّ «1» و نقله في الجواهر و أضاف في موضع آخر و قال: مضافاً إلى تحقّق الحكم المعلّق على عنوان قد فرض العلم بحصوله كقوله تعالى: (وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا) (المائدة/ 38)، و (الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (النور/ 2) و الخطاب للحكّام فإذا علموا تحقّق الوصف وجب عليهم العمل فإنّ السارق و الزاني من تلبّس بهذا الوصف لا مَن أقرّ به أو أقامت عليه البيّنة و إذا ثبت ذلك في الحدود ففي غيره أولى. «2»

يلاحظ عليه: أنّ الطائفة الأُولى بصدد بيان صفات الحكم و أنّه يجب أن يكون حقّاً، عدلًا، قسطاً، لا ضدّها، و من أراد أن يحكم يجب أن يحكم بها، و أمّا ما هي الأداة التي بها يميّز الحقّ عن الباطل، و القسط عن الجور، فليس بصدد بيانه حتى يؤخذ بإطلاقها.

و أمّا الطائفة الثانية: فما أفاده صاحب الجواهر حولها من أنّ الموضوع نفس من تلبّس بالمبدإ، و هو محقق فإنّما ينفع في عمل نفسه، لا في نفوذه في حقّ

الغير، فلو علم بنجاسة إناء أو زوجيّة امرأة، فعلمه دليل على نفسه لا على الغير، ما لم ينطبق عليه عنوان الحجج المعتبرة في الشرع.

2- ثمّ إنّه ربّما يتمسّك بأنّه مقتضى وجوب الأمر بالمعروف و إنكار المنكر، و لزوم إظهار الحقّ و نظائره.

يلاحظ عليه: بأنّه إن أُريد من الأمر و الإظهار، و الإنكار ما يؤدّى باللسان، فهو تامٌّ و ربما يرجع المدعّي أو المنكر عن باطلهما و له أن يشهد على الواقع، لو أرجع الواقعة إلى قاض آخر. و إن أُريد منه تنفيذ حكمه في المورد، فهو و إن كان من شئون القاضي لكن الشكّ في كون العلم من طرق الحكم و الفصل بين المتخاصمين أو لا و معه، لا يصحّ التمسّك بتلك الأدلّة في المورد.

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3/ 41.

(2) النجفي، الجواهر: 40/ 8886.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 203

ثمّ إنّ صاحب الجواهر قد نبّه ببعض ما ذكرنا في آخر كلامه عند الردّ على صاحب الانتصار في نقده لنظرية ابن الجنيد حيث قال: و لكن الإنصاف أنّه (كلام ابن الجنيد) ليس بتلك المكانة من الضعف. ضرورة أنّ البحث في أنّ العلم من طرق الحكم و الفصل بين المتخاصمين و لو من غير المعصوم في جميع الحقوق أولا، و ليس في شي ء من الأدلّة المذكورة عدا الإجماع منها دلالة على ذلك و الأمر بالمعروف و وجوب إيصال الحقّ إلى مستحقّه بل كون العلم حجّةً على من حصل له، يترتّب عليه سائر التكاليف الشرعيّة، لا يقتضي كونه من طرق الحكم بل أقصى ذلك ما عرفت و أنّه لا يجوز له الحكم بخلاف حكمه بل لعلّ أصالة عدم ترتّب آثار الحكم عليه يقتضي عدمه.

3-

ما استدلّ به الشيخ في الخلاف حيث قال: «القطع و اليقين أولى من غالب الظنّ أ لا ترى أنّ العمل بالخبر المتواتر أولى من العمل بالخبر الواحد». «1» و قال في الجواهر: «العلم أقوى من البيّنة المعلوم إرادة الكشف منها». «2»

يلاحظ عليه: أنّه إنّما ينفع في حقّ العالم، حيث إنّ علمه طريق محض إلى الواقع، فالعلم في نفسه أولى من البيّنة و أمّا إذا كان موضوعاً بالنسبة إلى الغير، فيجب عندئذ اتّباع الدليل فبما أنّه ليس هنا إطلاقٌ، يدلّ على موضوعيّة مطلق العلم، فلا يصحّ الاستناد بادّعاء الأولوية؛ إذ من المحتمل أن يكون الموضوع للنفوذ، ما اتّفق عليه العقلاء في باب القضاء، أو اتّفق المترافعان على حجيّته، أعنّي: البيّنة.

4- ما استدلّ به الشيخ و ابن ادريس، و هو أنّه إذا لم يقض على وفق العلم لزم إمّا فسق الحاكم، أو إيقاف الحكم؛ لأنّه إذا طلّق زوجته بحضرته ثمّ جحد فإن قضى بعلمه فهو، و إلّا فإن استحلف الزوج و حلف هو و أرجعها إليه، لزم الفسق

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3/ 322.

(2) النجفي، الجواهر: 40/ 88.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 204

و إن لم يقض لزم الإيقاف. «1»

يلاحظ عليه: أنّ هنا طريقاً رابعاً، و هو إرجاع الواقعة إلى قاض آخر، ليس له ذلك العلم.

5- ما رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام، قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فادّعى عليه سبعين درهماً ثمن ناقة باعها منه، فقال: قد أوفيتك، فقال: اجعل بيني و بينك رجلًا يحكم بيننا، فأقبل رجلٌ من قريش فقال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: احكم بيننا،

فقال للأعرابي: ما تدّعي على رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم؟ فقال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم؟ فقال: قد أوفيته، فقال للأعرابي: ما تقول؟ فقال: لم يوفني، فقال لرسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أ لك بيّنة أنّك قد أوفيتَه؟ قال: لا، فقال للأعرابي: أ تحلف أنّك لم تستوف حقّك و تأخذه؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لأتحاكمنّ مع هذا إلى رجل يحكم بيننا بحكم الله.

فأتى عليّ بن أبي طالب عليه السلام و معه الأعرابي، فقال عليّ عليه السلام: ما لك يا رسول الله؟ قال: يا أبا الحسن احكم بيني و بين هذا الأعرابي فقال عليّ عليه السلام: يا أعرابي ما تدّعي على رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم؟ قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: قد أوفيته ثمنها، فقال: يا أعرابي أصدق رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فيما قال، قال الأعرابيُّ: لا! ما أوفاني شيئاً، فأخرج عليّ عليه السلام سيفه فضرب عنقه، فقال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لم فعلتَ يا عليّ ذلك؟ فقال: يا رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم نحن نصدّقك على أمر الله و نهيه و على أمر الجنّة و النار و الثّواب و العقاب و وحي الله عزّ و جلّ، و لا نصدّقك على ثمن ناقة الأعرابي، و إنّي قتلته لأنّه كذَّبك لمّا قلتُ له: اصدق رسول الله فقال: لاما أوفاني شيئاً،

فقال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أصبتَ يا عليّ، فلا تعد إلى مثلها، ثمّ التفت إلى القرشي و كان قد تبعه فقال: هذا حكم الله لاما حكمت به. «2»

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3/ 323.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 18، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 205

وجه الدلالة أنّ مقتضى القضاء بالبيّنات و الايمان هو ما قضى به القرشي و لكن الإمام عليه السلام لما علم بصدق النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم انتقل إلى كذبه و أنّه مكذِّبٌ، و من المعلوم أنّ مكذّب النبيّ مرتدٌّ خارج عن الدين فيجوز قتله، كل هذا يعطي أنّ الإمام له القضاء وفق علمه.

قال في الجواهر: و لوجوب تصديق الإمام في كلّ ما يقوله و كفر مكذّبه و لذا قتل أمير المؤمنين عليه السلام خصم النبي لمّا تخاصما إليه في الناقة و ثمنها و هو يقتضي وجوب الخروج من حقّ يخبر به الإمام و هو يقتضي وجوب إخبار الإمام به و إلّا لأدّى إلى ضياع الحقّ. «1»

يلاحظ عليه: أنّ سند الصدوق بالنسبة إلى أقضية علي و إن كان صحيحاً في الفقيه «2» لكن المتن، يشمل على أُمور شاذّة عن القواعد.

أمّا أوّلًا: فلأنّ الظاهر أنّ الأعرابي كان يكذب النبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم، و مثله في عصر الرسول يكون مرتدّاً ملّياً، لأنّ طبع الحال يقتضي أنّه كان مشركاً ثمّ اعتنق الإسلام فارتداده يستلزم الاستنابة ثلاثة أيّام ثمّ يقتل، فلما ذا قتله علي عليه السلام، بلا استنابة، فهل الاستمهال من خصائص غير هذا النوع من الارتداد؟ أو أنّ للإمام الاستعجال في إجراء الحدّ؟!

و

ثانياً: إذا كان قضاء علي عليه السلام حقّاً و قد حكم بحكم الله فلما ذا نهاه النبي عن العود بمثل هذا و قال: فلا تعد إلى مثلها، ثمّ التفت إلى القرشي و كان قد تبعه و قال: «هذا حكم الله لاما حكمت به».

و ثالثاً: فلو أخذنا بمضمونه يختصّ بالعلم الحاصل من قول المعصوم و أين هذا من العمل بكلّ علم حصل من أيّ مصدر، و ثبوت الحكم في الأقوى لا يكون دليلًا على ثبوته في الأضعف.

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 77.

(2) لاحظ الفقيه: ج 4، ص 85 قسم المشيخة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 206

و رابعاً: أنّه يدلّ على أنّ الإمام يعمل بعلمه في الحدود، لا أنّه يقضي به إلّا أن يدّعي الملازمة بين العمل و القضاء به.

6- ما رواه الكليني بسند صحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: دخل الحكم بن عتيبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السلام فسألاه عن شاهد و يمين فقال: «قضى به رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم، و قضى به عليّ عليه السلام عندكم بالكوفة»، فقالا: هذا خلاف القرآن، فقال: «و أين وجدتموه خلاف القرآن؟» قالا: إنّ الله يقول (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) «1» فقال: قول الله: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) هو لا تقبلوا شهادة واحد و يميناً؟».

ثمّ قال: «إنّ عليّاً عليه السلام كان قاعداً في مسجد الكوفة، فمرّ به عبد الله بن قفل التميميّ و معه درع طلحة، فقال عليّ عليه السلام: هذه درع طلحة اخِذَتْ غلولًا يوم البصرة، فقال له عبد الله بن قفل: اجعل بيني و بينك قاضيك الّذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه و بينه

شريحاً، فقال عليّ عليه السلام: هذه درع طلحة اخذتْ غلولًا يوم البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة، فأتاه بالحسن فشهد أنّها درع طلحة اخذت غلولًا يوم البصرة، فقال شريح: هذا شاهد واحد و لا أقضى بشهادة شاهد حتّى يكون معه آخر، فدعا قنبر فشهد أنّها درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة، فقال شريح: هذا مملوكٌ و لا أقضي بشهادة مملوك، قال: فغضب عليّ عليه السلام و قال: خذها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات، قال: فتحوّل شريح و قال: لا أقضي بين اثنين حتّى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات؟ فقال له: ويلك أو ويحك. إنّي لمّا أخبرتك أنّها درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بيّنة، و قد قال رسول الله: حيث ما وجد غلول أخذ بغير بيّنة، فقلتُ: رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة، ثمّ أتيتك بالحسن فشهد فقلت: هذا واحدٌ و لا أقضي بشهادة واحد حتّى يكون معه آخر، و قد قضى

______________________________

(1) الطلاق: 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 207

رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بشهادة واحد و يمين، فهذه ثنتان، ثمّ أتيتك بقنبر فشهد أنّها درع طلحة أخذت غلولًا يوم البصرة فقلت: هذا مملوك و ما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلًا، ثمّ قال: ويلك أو ويحك إنّ إمام المسلمين يؤمن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا». «1»

وجه الاستدلال هو قوله: «إنّ امام المسلمين يؤمن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا».

يلاحظ عليه: أنّ السند و إن كان صحيحاً، لكن المتن مشتمل على أُمور شاذّة لا مناص من توجيهها.

أمّا أوّلًا: فلأنّ

علم الإمام إذا كان نافذاً في حقّ المحكوم عليه، فلما ذا لميتمسّك الإمام به في هذا الأمر و رضي بالمحاكمة و كان عليه أن يقول له، ما قاله لشريح في آخر الواقعة؟!

و ثانياً: أنّ الإمام اعترض على شريح لمّا قال: «و لا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر» بأنّ رسول الله قضى بشهادة واحد و يمين و لكن الاعتراض إنّما يتوجّه، لو نفى شريح القضاء بشهادة و يمين، مع أنّه لم يحدِّث عنه أبداً و إنّما حدث عن الشاهد الواحد و أنّه لا يقضي به، و ليس على القاضي أن يُعلِّم الخصم بأنّ له اليمين مكان الشاهد الآخر، و قد ذكروا في باب آداب القضاء أنّه لا يجوز للقاضي تلقين الخصم بالحجّة.

و ثالثاً: أنّه لو أخذنا به يكون العلم المصون من الخطأ موضوعاً لجواز العمل به و الحكم على وفقه و أين هو من علم غير المعصوم الخاطئ كثيراً و إن لم يكن القاضي متوجّهاً إلى خطئه عند القضاء.

و رابعاً: أنّه يدلّ على أنّ الإمام يعمل بعلمه و أمّا أنّه يقضي به فلا إلّا أن يدّعي الملازمة بين العمل، و القضاء. كما مرّ.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 208

7 ما روي عن خزيمة بن ثابت بسند غير نقي و إن كان المضمون معروفاً: إنّ النبيّ اشترى فرساً من أعرابي فأنكر الأعرابي بيعه و قال: هلمّ من يشهد و لم يشهد أحد شرائه فشهد خزيمة و أمضى رسول الله شهادته و أقامها مقام اثنين فلقّب بذي الشهادتين. «1»

يلاحظ عليه: أوّلًا: مضافاً إلى ما عرفت من أنّ السند غير نقيّ،

أنّه يدلّ على جواز الشهادة، على الموضوع إذا سمعه من المعصوم، و لا دليل على الملازمة بين جواز الشهادة و جواز القضاء.

و ثانياً: لو أخذ بمضمونه فهو يدلّ على جواز القضاء بالعلم بالموضوع لأجل إخبار المعصوم و أين هو من جواز العمل بمطلق العلم الحاصل من القرائن و ضمّ الشواهد.

إلفات نظر

إنّ الرواية الخامسة و السابعة و إن وردتا في حقوق الناس، و السادسة و إن وردت في حقوق الله، لكن سياق كلّ رواية على نمط يستفاد منه العموم، و لأجل ذلك جئنا بها في ذلك الفصل، و لم ندرجها في الفصلين التاليين.

مثلًا: جاء في الرواية الخامسة، أنّ الإمام ضربه بسيفه معتذراً بأنّه يصدّق رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم على أمره و نهيه و كيف لا يصدّق على ثمن الأعرابي. فلو كان الملاك للعمل ذلك التعليل فلا يختلف فيه الحقوقان إذ كيف يختلف بعد كون المصدر هو كلام رسول الله. صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.

و هكذا جاء في الرواية السادسة قول الإمام: إنّ إمام المسلمين يؤمن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا. و عليه تكون النتيجة هي العموم من غير فرق بين الحقوقين.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 18 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3، ملخّصاً.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 209

و مثله الرواية السابعة حيث أمضى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم شهادة خزيمة مكان الشهادتين و ذلك لأنّ مصدر شهادة خزيمة هو خبر النبيّ الأكرم المعصوم، فلو كان الملاك للشهادة هو ذلك، فلا يفرّق بين الحقوقين.

و هذا هو السرّ في ذكر هذه الروايات في هذا الحقل.

***

المقام الثاني: في ما استدل به على جواز العمل في خصوص حقوق الله
اشارة

استدلّوا في هذا الحقل بأحاديث نأتي بها واحداً تلو الآخر:

الأوّل: ما رواه الكليني عن الحسين بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ و لا يحتاج إلى بيّنة مع نظره؛ لأنّه أمين الله في

خلقه، و إذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره و ينهاه و يَمضي و يَدعه» قلت: و كيف ذلك؟ قال: «لأنّ الحقّ إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته، و إذا كان للناس فهو للناس». «1»

و الاحتجاج به مشكل سنداً لاشتماله على محمّد بن أحمد بن حمّاد المحمودي الذي عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الهادي و لكن لم يرد فيه توثيق، كما أنّه لم يرد في الحسين بن خالد أيضاً سواء أ كان المراد منه هو الصيرفي الذي عدّ من أصحاب الكاظم و الرضا عليهما السَّلام أو الحسين بن خالد بن طهمان الذي يعبّر عنه بالخفاف و عدّ من أصحاب الصادق عليه السلام نعم حاول العلّامة المامقاني إثبات وثاقته من هنا و هناك فلاحظ. «2»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 3.

(2) عبد الله المامقاني: التنقيح 1/ 227226.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 210

و أمّا المضمون، فقد فصّل بين حقوق الله و حقوق الناس و أنّ الإمام بما أنّه أمين الله في أرضه فهو يعمل بعلمه في الأُولى، و يقيم الحدّ على الزاني و شارب الخمر، دون السارق لأنّه من حقوق الناس.

و لكنّه لا يخلو من إشكال لأنّه عدّ حدّ السرقة من حقوق الناس مع أنّه فرق واضح بين حدّ القذف فإنّه من حقوق الناس، و بين حدّ السرقة، فإنّ ردّ ما سُرِق فهو من حقوق الناس، و أمّا القطع فهو من حقوق الله.

و يدلّ على ما ذكرنا: ما رواه الشيخ بسند صحيح عن الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن الفضيل في حديث و جاء فيه: إذا أقرّ على نفسه عند الإمام بسرقة قطعه فهذا

من حقوق الله و إذا أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراً حدّه، فهذا من حقوق الله و إذا أقرّ على نفسه بالزنا و هو غير محصن فهذا من حقوق الله، قال: و أمّا حقوق المسلمين فإذا أقرّ على نفسه بفرية لم يحدّه حتّى يحضر صاحب الفرية أو وليّه .... «1» و لو فرضنا أنّ الروايتين متعارضين فالأخذ بالصحيحة متعين لا بما لم يثبت سنده.

نعم، يظهر من ابن ادريس الحلّي أنّ حدّ السرقة حقٌّ ممزوج من حقوق الله و حقوق الناس حيث قال: فأمّا الحقّ الذي لله و يتعلّق به حقّ الآدمي فلا يطالب به أيضاً و لا يستوفيه إلّا بعد المطالبة من الآدمي و هو حدّ السارق فمتى لم يرفعه إليه و يطالب بماله لا يجوز للحاكم إقامة الحدّ عليه بالقطع فعلى هذا التحرير إذا قامت البيّنة بأنّه سرق نصاباً من حرز لغائب و ليس للغائب وكيل يطالب بذلك لم يقطع حتّى يحضر الغائب و يطالب. «2»

و تحقيق المطلب و أنّ القطع من حقوق الله أو الناس موكولٌ إلى محلّه.

على أنّ الظاهر من رواية ابن خالد أنّه بصدد بيان أمر آخر و هو أنّ حقوق

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 1.

(2) الحلّي، السرائر: 495. 3، ط النشر الإسلامي.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 211

الله تجرى و إن لم تكن هناك مطالبة و أمّا حقوق الناس فإجراؤه فرع المطالبة و ليست الرواية ناظرة إلى جواز عمل القاضي بعلمه و أنّ قوله: «إذا نظر إلى رجل» في كلا الموردين بمعنى ثبوت الموضوع ثبوتاً شرعيّاً لا ثبوته بعلم القاضي.

ثمّ إنّ هناك روايات تدلّ على أنّ عليّاً عليه

السلام عزّر رجلين أو امرأة و رجلًا إذ رآهما في لحاف واحد، أو عزّر قاصّاً يقصُّ في المسجد بالدرة و هذا يدلّ على جواز عمل الإمام بعلمه في حقوق الله من دون بيّنة و إليك رواياته:

الثاني: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «كان علي عليه السلام إذ وجد الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ». «1»

الثالث: صحيحة أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كان علي عليه السلام إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجرّدين جلّدهما حدّ الزاني مائة جلدة كلّ واحد منهما و كذلك المرأتان إذا وُجدتا في لحاف واحد مجرّدتين جلّدهما كلّ واحدة منهما مائة جلدة. 2

الرابع: روى الشيخ بسند صحيح عن أبان بن عثمان (الثقة) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام وجد امرأة مع رجل في لحاف واحد فجلّد كل واحد منهما مائة سوط غير سوط». 3

الخامس: صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام وجد رجلًا و امرأة في لحاف واحد فضرب كل واحد منهما مائة سوط إلّا سوطاً». 4

السادس: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام رأى قاصّاً في المسجد فضربه بالدرّة و طرده. 5 و طبع الأمر يقتضي أن تكون القصّة من القصص المضلّة المضادّة لما عليه

______________________________

(1) 1- 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 6، 15، 19.

(2) 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 20.

(3) 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 212

أسس الإسلام.

في تفسير هذا القسم من الروايات:

1- إنّ

الروايات ليست في مقام بيان عمل الإمام بعلمه، بل بصدد بيان حكم الموضوع و إن المتستّرين تحت لحاف واحد، حكمهما كذا، و التعبير ب «وجد» ليس مشيراً إلى أنّه وقف بالموضوع عن طريق رؤيته نفسه و عمل بعلمه، بل نشير إلى أنّ الثابت من عملهما هو ذاك، أي كونهما في لحاف واحد، من دون إحراز أيّ عمل آخر. و لأجل ذلك جاء التعبير في بعض الروايات: «حدّ الجلد أن يوجدا في لحاف واحد، و الرجلان يجلدان إذا وجدا في لحاف واحد». «1»

2- إنّ القدر المتيقّن من هذه الروايات هو وجود التسالم بين القاضي و المتواجدين تحت لحاف واحد، فلا يصحّ الاحتجاج به إذا لم يكن هناك تسالم فلو افترضنا أنّ الحاكم الإسلامي رآهما بآلة التصوير من بعيد، فاحضرهما فأنكرا فلا يصحّ الاحتجاج بالروايات عليهما.

السابع: ما رواه الشيخ بإسناده عن ابن أبي عمير، عن شعيب «2» قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل تزوّج امرأةً لها زوج قال: «يفرّق بينهما»، قلت: فعليه ضرب قال: «لا، ما له يضرب»، إلى أن قال فأخبرت أبا بصير فقال سمعت جعفراً عليه السلام يقول: «إنّ عليّاً عليه السلام قضى في رجل تزوّج امرأة لها زوج فرجم المرأة و ضرب الرجل الحدّ، ثمّ قال: لو علمت أنّك علمت لفضخت رأسك بالحجارة».

حمل الشيخ ما روى عن أبي الحسن بمن لا يعلم أنّ لها زوجاً، و حمل الثاني

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1 و لاحظ الحديث: 2، 3، 4، 5، 7، 9، 10.

(2) و هو شعيب بن يعقوب العقرقوفي بقرينة رواية ابن أبي عمير عنه وثّقه النجاشي و تبعه العلّامة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة

الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 213

على من غلب على ظنّه ذلك و فرط في التفتيش فيعزر. «1»

و الفضخ بالإعجام هو كشف المساوي و يستعمل في معنى الكسر أيضاً و هو المراد في المقام. و الاستدلال مبنيّ على الأخذ بظهور العلم في العلم الشخصي، و هو مورد تأمّل بل المراد هو الثبوت الشرعي، كالثبوت في المرأة، فلا إطلاق له من هذه الجهة و ليس الإمام بصدد بيانه.

هذا ما وقفنا عليه في حقوق الله و قد عرفت عدم صحّة الاحتجاج بهذه الروايات و هي بين ضعيف السند أو ضعيف الدلالة. أضف إليه وجود الشذوذ في بعض المتون فنخرج بهذه النتيجة أنّه ليس للحاكم الإسلامي العمل بعلمه في حقوق الله إلّا إذا كان هناك تسالم بين القاضي و المحكوم عليه.

في خاتمة المطاف نأتي بأُمور تلقى الضوء على المختار
1- عدم العمل بالعلم في مورد الإحصان

إنّ النبيّ و الوصيّ كانا مصرّين على ستر الأمر في حقّ المحصن و المحصنة، و عدم الرغبة إلى إقرارهما مع الإذعان بصدقهما. فلو كان علم القاضي قائماً مقام بيّنة المدّعي كان اللازم عليهما صلوات الله عليهما إجراء الحدّ، مع أنّا نرى في الروايات المستفيضة تجاهلهما بالنسبة إلى صدور الزنا و محاولتهما أن لا يقرّا بما فعلا. و القائل بجواز العمل بالعلم في مجال حقوق الله لمّا يواجه هذه الروايات، يحاول علاجها بالتخصيص في الضابطة، و يتمسّك بالإجماع بأنّه لا يثبت الإحصان، إلّا بالبيّنة و الأقارير الأربعة. و كان الأولى جعل الروايات دليلًا على بطلان الضابطة و لأجل إيقاف القارئ على موقف النبيّ و الوصيّ من رفض العلم

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 214

بزنا المحصن و المحصنة نأتي بنصّين: أحدهما يرجع إلى

النبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و الآخر إلى وصيّه، و إن كان يوجب الإطناب في الكلام.

روى البيهقي في سننه قال: «جاء ماعز بن مالك إلى النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقال: يا رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم طهّرني! فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله و تب إليه قال: فرجع غير بعيد ثمّ جاء فقال: يا رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم طهّرني! فقال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: مثل ذلك حتّى إذا كانت الرابعة قال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: ممّ اطهّرك فقال: من الزنا فسأل النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أبه جنون فأُخبِر أنّه ليس بمجنون فقال: أشربت خمراً فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. فقال النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أثيب أنت قال: نعم، فأمر به فرجم». «1»

و روى أيضاً بأنّ النبي قال: «و لو كنت راجماً من غير بيّنة لرجمتها». 2

2- روى الكليني عن صالح بن ميثم عن أبيه قال: «أتت امرأة مجحٌّ 3 أمير المؤمنين عليه السلام فقالت: يا أمير المؤمنين! إنّي زنيت فطهّرني طهّرك الله، فإنّ عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لا ينقطع! فقال لها: ممّا أُطهّرك؟! فقالت: إنّي زنيت، فقال لها: و ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت أم غير ذلك؟ قالت: بل ذات بعل، فقال لها: أ فحاضراً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت أم غائباً كان عنك؟ قالت: بل حاضراً، فقال لها: انطلقي فضعي ما في بطنك ثمّ ايتيني أُطهّرك، فلمّا ولّت عنه المرأة فصارت

حيث لا تسمع كلامه قال: «اللّهمّ إنّها شهادة».

فلم تلبث أن أتته فقال: قد وضعت فطهّرني، قال: فتجاهل عليها فقال: أُطهّرك يا أمة الله ممّا ذا؟! قال: إنّي زنيت فطهّرني، قال: و ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم، قال: فكان زوجك حاضراً أم غائباً؟ قالت: بل حاضراً، قال: فانطلقي فارضعيه حولين كاملين كما أمرك الله، قال: فانصرفت المرأة فلمّا صارت منه حيث لا تسمع كلامه قال: «اللّهمّ إنّهما شهادتان».

______________________________

(1) 1 و 2 البيهقي، السنن الكبرى: 8/ 226، و ج 7/ 407.

(2) 3 المتكبرة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 215

قال: فلمّا مضى الحولان أتت المرأة فقالت: قد ارضعته حولين فطهّرني يا أمير المؤمنين، فتجاهل عليها و قال: أُطهّرك ممّا ذا؟ فقالت: إنّى زنيت فطهّرني، فقال: و ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: نعم، قال: و بعلك غائب عنك إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: بل حاضر، قال: فانطلقي فاكفليه حتى يعقل أن يأكل و يشرب و لا يتردّى من سطح و لا يتهور في بئر قال: فانصرفت و هي تبكي فلمّا ولّت و صارت حيث لا تسمع كلامه قال: «اللّهمّ هذه ثلاث شهادات ...». «1»

2- بطلان وحدة المدّعي و القاضي

القضاء المتعارف بين شعوب العالم، هو خروج القاضي عن إطار المنازعة، فلا يكون مدّعياً و لا منكراً، بل ينظر إلى كلامهما، و يوازن دليلهما، و ما يقتضي كلامهما. و يترتّب على ذلك، لزوم كون المدّعي غير القاضي و بطلان وحدتهما.

و لأجل ذلك لو ادّعى أحد على القاضي أمراً يجب أن يرفعه إلى قاض آخر، و لا يصحّ رفعه إليه إذ لا يصحّ أن يكون القاضي، من أُقيم عليه الدعوى و لأجل ذلك قال

المحقّق: و إن ادّعى أحد على القاضي فإن كان هناك إمام، رافعه إليه و إن لم يكن و كان في غير ولايته، رافعه إلى قاضي تلك الولاية، و إن كان في ولايته رافعه إلى خليفته.

و يظهر من الجواهر أنّ لزوم التغاير أمرٌ مسلّمٌ و لذا استشكل في الرجوع إلى خليفته قائلًا بأنّ ولاية الخليفة فرع ولايته الّتي لا يندرج فيها الحكم بالدعاوي المتعلّقة به «2» فإذا لم يصلح القاضي لممارسة ما ادّعي عليه، فلا يصلح أيضاً لممارسة ما ادّعى على غيره لوحدة الملاك و هو لزوم مغايرة القاضي، مع أطراف المنازعة فلو

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 16 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1. و لاحظ الحديث 2 و 5.

(2) الجواهر: 40/ 158.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 216

وقع في إطارها لما صلح.

على ضوء ذلك فلو كان في مجال حقوق الله سبحانه، بيّنةٌ أو إقرارٌ، يكون المدّعي غير القاضي، فيحكم حسب شهادتهم أو إقراره و أمّا إذا لم تكن هناك بيّنة و لا إقرار من الشخص، إلّا القاضي و علمه فادّعى عليه أنّه ارتكب كذا و كذا، انقلب القاضي مدّعياً، مع لزوم كونهما متعدّداً.

نعم ما ذكرنا من استلزامه وحدة القاضي و المدّعي إنّما يتمّ في حقوق الله دون حقوق الناس، فإنّ المدّعي فيها، صاحب الحقّ، و المنكر، من أُقيم عليه الدعوى، و القاضي هو الحاكم، من غير فرق بين صدوره عن البيّنة و الإقرار، أو عن علمه، و على كلّ تقدير فالقاضي خارج عن طرفي المنازعة.

نعم إذا كان القاضي قيّماً للأيتام و القصّر، و أمثالهما، فله إقامة الدعوى على الغير، لكن نيابة عنهم، فلا يكون القاضي و المدّعي واحداً اعتباراً،

و إن قلنا بعدم كفاية التعدّد الاعتباري فاللازم أن يرفع الشكوى إلى قاض آخر و في المحاكم العرفية يتكفّل مدّعي العموم، أمر إقامة الدعوى و يُرفع الشكوى إلى محكمة أُخرى، لئلا تلزم وحدة القاضي و المدّعي.

3- حقوق الله خارجة عن مجال القضاء

إنّ العبرة في حقوق الله بالبيّنة و الإقرار، فإن تحقّق واحد منهما أُقيم الحدّ و لو لا البيّنة و الإقرار لا تصلح لإقامة الدعوى و أمّا إصغاء الادّعاء عند الاقتران بالبيّنة فلأجل الاقتران بها و لا عبرة بالادّعاء و هذا بخلاف حقوق الناس، فلو ادّعى على شخص ديناً فتسمع دعواه و إن لم تقترن بالبيّنة، و يكون له بالتالي حقّ إحلاف المنكر، و هذا بخلاف الادّعاء المجرّد في حقوق الله فلو ادّعى بلا بيّنة، يحدّ أو يعزّر، و لا يترتّب على الادعاء أي أثر إذ لا يمين في الحدّ. «1»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 1، 2، 3، 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 217

و لأجل ذلك قال المحقّق: «لا تسمع الدعوى في الحدود مجرّدة عن البيّنة فلا يتوجّه اليمين على المنكر»، و قال في الجواهر في شرح كلام المحقّق: بلا خلاف أجده كما اعترف به غير واحد؛ لأنّ من شرط سماع الدعوى أن يكون المدّعي مستحقّاً لموجب الدعوى فلا تسمع في الحدود لأنّه حقّ الله، و المستحقّ (الله) لم يأذن و لم يطلب الإثبات على أمر، بل أمر بدرء الحدود بالشبهات و بالتوبة من موجبها من غير أن يظهر للحاكم و قد قال صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لمن حمل رجلًا على الإقرار عنده بالزنى: «هلّا سترته بثوبك» و سماعها بالبيّنة بمعنى ثبوتها لا أنّها تكون

دعوى له معها كما هو واضح. «1»

و مع هذا البيان الواضح من الماتن و الشارح كيف يصلح للقاضي أن يقيم الدعوى في حقوق الله على شخص و يقضي بعلمه، مع عدم قبول الموضوع الإقامة الدعوى، و بالتالي لا يصلح للقاضي أن يتّخذ لنفسه موقف المدّعي، و لا المنكر موقف الإنكار كما هو واضح.

و الحاصل أنّه يشترط في المدّعي أن يكون مالكاً للدعوى بنحو من الأنحاء و هذا الشرط مفقودٌ في حدود الله.

و لعلّه لبعض ما ذكرنا أفتى الشيخ في النهاية باختصاص العمل بالعلم في حقوق الله بالإمام المعصوم و لا يعمّ غيره قال: إذا شاهد الإمام من يزني أو يشرب الخمر كان عليه أن يقيم الحدّ و لا ينتظر مع مشاهدته، قيام البيّنة و الإقرار، و ليس ذلك لغيره بل هو مخصوص به، و غيره و إن شاهد يحتاج إلى أن يقوم ببيّنة أو إقرار من الفاعل. «2»

فإن قلت: إذا كان القاضي عالماً بالواقع و لا بيّنة للمدّعي فهل يصحّ للقاضي إحلاف المنكر مع علمه بصدق المدّعي و كذب الآخر؟، أو نفترض أنّ البيّنة قامت على خلافِ ما يعتقده القاضي، فهل تكون البيّنة حجّة مع العلم

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 257.

(2) الطوسي: النهاية: 691.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 218

بكذبها؟

قلت: قد تكرّرت أمثال هذا السؤال في أكثر الكتب و الجواب أنّ القاضي مأمور من جانب الشارع بإصدار الحكم على طبق الضوابط لا العمل بالواقع سواء أوافق الواقع أم لا و على فرض عدم انصراف أدلّة عن هاتين الصورتين، فلا دليل على وجوب القضاء عليه في تلك الواقعة، و لا يلزم تعطيل الأحكام لعدم انحصار القاضي به، غاية الأمر يصدر القرار بترك

المخاصمة حتّى ينظر قاض آخر في أمرهما.

فتلخّص من هذا البحث الضافي عدم جواز عمل القاضي بعلمه في حدود الله و حقوقه. بقي الكلام في عمله بعلمه في حقوق الناس، و هو ما يأتي في العنوان التالي:

المقام الثالث: في ما استدلّ به في خصوص حقوق الناس
اشارة

قد عرفت حكم عمل القاضي بعلمه في حقوق الله، بقي الكلام في عمله بعلمه في حقوق الناس فقد استدلّ عليه بروايات:

الأُولى: مرسلة أبان بن عثمان عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «في كتاب عليّ عليه السلام: أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه القضاء فقال: كيف أقضي بما لم تر عيني و لم تسمع أُذني؟ فقال: اقض عليهم بالبيّنات و اضفهم إلى اسمي يحلفون به و قال: إنّ داود عليه السلام قال: ربّ أرني الحقّ كما هو عندك حتّى أقضي به، فقال: إنّك لا تطيق ذلك، فألحّ على ربّه حتّى فعل، فجاءه رجل يستعدي على رجل فقال: إنّ هذا أخذ مالي، فأوحى الله إلى داود أنّ هذا المستعدي قتلَ أبا هذا و أخذ ماله، فأمر داود بالمستعدي فقتل، و أخذ ماله فدفع إلى المستعدى عليه، قال: فعجب الناس و تحدّثوا حتى بلغ داود عليه السلام و دخل عليه من ذلك ما كره. فدعا ربّه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 219

أن يرفع ذلك ففعل، ثمّ أوحى الله إليه أن أحكم بينهم بالبيّنات و أضفهم إلى اسمي يحلفون به». «1»

و الاحتجاج بالرواية لا يخلو من إشكال سنداً و دلالةً، أمّا أوّلًا: فلأنّه مرسل، و كون أبان من أصحاب الإجماع ليس بمعنى حجّية مراسيله أو حجّية رواياته الضعاف كما حقّقناه في كتاب كليّات في علم الرجال.

و أمّا ثانياً: فإنّ الرواية تدلّ على أنّ

القاعدة الأوّلية، هو القضاء بالبيّنات و الايمان، لا بالواقع غير أنّ داود النبيّ لما دعا ربّه ليعمل بالواقع لديه سبحانه، أجازه و أوحى إليه الحقّ، في تلك الواقعة و لما صار ذلك سبباً لتحدّث الناس عن داود، دعا ربّه أن يرفع ذلك، فرفعه و صار الأساس، القضاء بالبيّنات و الايمان، و الذي يقتضي الإمعان فيها أنّ مصلحة القاضي تَكْمن في القضاء بالبيّنة و اليمين، و لمّا دعا داود ربّه أن يقضي بما هو الحق عند الله، فأجابه سبحانه بأنّه لا يطيقه و لمّا ألحّ استجاب الله دعوته و أراه المفسدة في العدول عن الطريق المألوف فصار مأموراً بالقضاء به و لو دلّ على شي ء لدلّ، على أنّ القضاء بغير الطريق السائد، غير خال من المشاكل و المصاعب.

و إن أبيت عن الدلالة فإنّما تدلّ على العمل بالعلم الذي هو من سنخ الوحي، لا مطلق العلم الذي هو موضوع للبحث و لو كان حسيّاً فضلًا عمّا كان حدسيّاً.

و يظهر من بعض ما روي في ذلك الباب أنّ القضاء بالواقع بلا سؤال عن بيّنة من خصائص الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف روى أبو عبيدة الحذّاء في حديث قال: «إذا قام قائم آل محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حكم بحكم لا يسأل عن بيّنة». «2»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 220

الثانية: ما يدلّ على أنّ الإمام عليّاً عليه السلام كان يقضي بالمعايير العلمية الطبّية و النفسية التي تورث العلم للقاضي و لكلّ من قام بهذا النوع من العمل

و نأتي منها ما يلي:

1- ما رواه الشيخ عن عاصم بن حميد عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام: كان لرجل على عهد عليّ عليه السلام جاريتان فولدت إحداهما ابناً و الأُخرى بنتاً، فعمدت صاحبة البنت فوضعت بنتها في المهد الّذي فيه الابن و أخذت ابنها فقالت صاحبة البنت: الابن ابني، و قالت صاحبة الابن: الابن ابني فتحاكما إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فأمر أن يوزن لبنهما و قال: أيّتهما كانت أثقل لبناً فالابن لها. «1»

2- ما رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا 2 أمير المؤمنين عليه السلام: قال أبو جعفر عليه السلام: تُوفّي رجل على عهد أمير المؤمنين عليه السلام و خلّف ابناً و عبداً، فادّعى كلّ واحد منهما أنّه الابن و أنّ الآخر عبد له، فأتيا أمير المؤمنين عليه السلام فتحاكما إليه، فأمر عليه السلام أن يثقب في حائط المسجد ثقبين، ثمّ أمر كلّ واحد منهما أن يدخل رأسه في ثقب ففعلا، ثمّ قال: «يا قنبر جرِّد السّيف» و أشار إليه: «لا تفعل ما آمرك به» ثمّ قال: «اضرب عنق العبد»، فنحّى العبد رأسه فأخذه أمير المؤمنين عليه السلام و قال للآخر: «أنت الابن و قد اعتقت هذا و جعلته مولى لك».

3- روى الكليني بسند صحيح عن أبي الصبّاح الكناني 3 عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتى عمر بامرأة قد تزوّجها شيخ، فلمّا أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد فادّعى بنوه أنّها فجرت، و تشاهدوا عليها، فأمر بها عمر أن ترجم، فمرّ بها على عليّ عليه السلام فقالت: يا ابن عمّ رسول الله عليه السلام إنّ لي حجّة، قال: «هاتي حجّتك»، فدفعت إليه كتاباً فقرأه، فقال: «هذه المرأة تعلمكم

بيوم تزوّجها و يوم واقعها و كيف كان جماعه لها، ردّوا المرأة» فلمّا كان من الغد دعا بصبيان أتراب

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 21 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6 و 9.

(2) 3 و في السند محمد بن علي و المراد منه محمد بن علي بن مهزيار الثقة و ليس فيه اي إرسال.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 221

و دعا بالصبي معهم فقال لهم: «العبوا» حتّى إذا ألهاهم اللّعب قال لهم: «اجلسوا» حتّى إذا تمكّنوا صاح بهم، فقام الصّبيان و قام الغلام فاتّكى على راحتيه، فدعا به عليّ عليه السلام و ورثه من أبيه، و جلد إخوته المفترين حدّاً حدّاً، فقال عمر: كيف صنعت؟ فقال: «عرفت ضعف الشّيخ في تكأة الغلام على راحتيه». «1»

و يمكن أن يقال: إنّ الرواية ظاهرة في جواز العمل بالعلم في حقوق الله، و ذلك لأجل أنّ موردها هو الرجم. و لكن الظهور ممنوع و ذلك لأنّ الإمام عمل به في دفعه عن المرأة، لا في إثباته و لا يمكن لنا الإذعان أنّ الإمام يعمل به في الجانب الآخر، و لعلّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان واقفاً على صدقها و أراد بما فعل إقناع الخليفة ببراءتها و إلّا فمجرّد الاتّكاء على الأرض لا يفيد العلم بأنّه ابن رجل أودع نطفته في رحم أُمّه و هو شيخ كبير فان.

4- ما رواه في الوسائل عن الشيخ المفيد في الإرشاد:

قال روت العامّة و الخاصّة أنّ امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادّعته كلّ واحدة منهما ولداً لها بغير بيّنة و لم ينازعهما فيه غيرهما، فالتبس الحكم في ذلك على عمر، ففزع

فيه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فاستدعى المرأتين و وعظهما و خوّفهما، فأقامتا على التّنازع، فقال عليّ عليه السلام: «ايتوني بمنشار» فقالت المرأتان: فما تصنع به؟ فقال: «أقدّه نصفين لكلّ واحد منكما نصفه» فسكتت إحداهما و قالت الأُخرى: الله الله يا أبا الحسن إن كان لا بدّ من ذلك فقد سمحت به لها، فقال: «الله أكبر هذا ابنك دونها، و لو كان ابنها لرقّت عليه و أشفقت»، و اعترفت الأُخرى أنّ الحقّ لصاحبتها و أنّ الولد لها دونها. «2»

لا شكّ أنّ الإمام عليه السلام قد قضى بمقدّمات حسيّة تورث العلم لكلِّ من شاهد القضايا بأُم عينيه، سواء كان الإمام أو غيره و قد اعتمد في قضائه على أمور

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 21 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 21 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 11.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 222

طبّية، كما في مورد وزن اللبن حيث إنّ الذكر أقوى جسماً من الأُنثى، فطبع الحال يقتضي أن يكون اللبن الذي يتغذّى به أقوى مادّة من لبن غيره إذا كانا متقاربي الولادة من حيث الزمان، لا إذا كانوا مختلفين من تلك الجهة، فربّما يكون لبن أُمّ البنت إذا كانت وليدة سنة أقوى من لبن أُمّ الابن إذا كان وليد يوم.

و لكنّه (صلوات الله عليه) اعتمد في الموارد الأُخر على أُمور نفسية تورث الاطمئنان، مثلًا عند ما سمع أحدهما أمرَ الإمام بضرب عنق العبد، نحّى رأسه دون الآخر من لا وعي و شعور، و هذا يدلّ على أنّه في صميم ذاته كان يعتقد برقّيته دون الآخر.

كما أنّ الإمام اعتمد على ناموس الوراثة، و أنّ شيخوخة الأب

حين الولادة تؤثر في الولد حيث قام الصبيان بلا اتّكاء على الراحة و قام هو متكئاً على راحتيه.

و مثله القضية الأخيرة حيث دلّ إشفاق إحدى المرأتين و رقّتها على كونها أُمّاً دون الأُخرى. و إن اعترفت أخيراً على أنّ الولد لها دونها، لكن الإمام قضى قبل إقرارها. «1»

فجميع الموارد تتمتع من خصوصيات:

الأُولى: إنّ المعلوم و إن لم يكن حسيّاً لكن مبادئه حسّية و لا يمكن التعدّي من هذا النوع إلى ما إذا كانت مبادئه حدسيةً بحتةً.

و الثانية: إنّ المصادر الذي صدر عنها الإمام لا يختصّ بأحد دون أحد و الإمام و غيره سواسية، أمام ذلك العلم فهو قابل للانتقال إلى الغير، بالإمعان فيه من مبادئه و مقدّماته.

الثالثة: إنّ الإمام لم يقض غائباً عن أعين الناس بل قضى في مشهد عظيم،

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 21 من أبواب كيفية الحكم، لاحظ أحاديثه.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 223

ترى كيف عالج المشاكل بالمواهب الإلهية و الطاقات فوق العادة فأخرج نفسه بذلك عن مظنّة التهمة و تحدّث الناس عنه.

فلو حصل مثل ذلك العلم للقاضي غير المعصوم، فله الحكم أخذاً بالضابطة.

ثمّ إنّ جمع القرائن و الشواهد في المحاكم العرفية للتعرّف على صدق المدّعي أو إنكار المنكر أمر رائج فيها و ربّما يحولون الأمر إلى الخبراء للتحقيق عن دلالتها على ما يرتئيه القاضي.

نفترض وقوع قتل في البيت أو الشارع أو في غرفة عمل المقتول، فاتّهم إنسان بأنّه المباشر للجناية فإنّ التحقيق عن الصلة الموجودة، بين المقتول و المتّهم، من الحبّ و البغض و عن مكان القتل و زمان وقوعه، و الآلة التي تركت في المحلّ و مدى قدرة المتّهم على إعمالها، و الإمعان في حالته عند مواجهة جسد

المقتول. و وجود الانسجام أو التناقض في أجوبة الأسئلة إلى غير ذلك من الأُمور، يكشف الستر عن وجه الحقيقة و يصل القاضي في ظل نظر الخبراء إلى النتيجة القطعية التي يصل إليها، كل من نظر في الملفّ و تأمّل فيه، فهذا النوع من العلم علم حسيّ بمعنى كون مبادئه حسّية، و لأجل ذلك ربما يضطرّ المتّهم بالإقرار قبل صدور الحكم، كما ربّما يصل القاضي ببراءته و ليس تحصيل العلم فيه أبعد من تحصيله من الشهادة بالعدالة و الفسق.

فلو لم نعتمد على هذه القرائن و الشواهد أو شهادة الخبراء الذين أحرزت عدالتهم و صدقهم في المقال، على دلالتها على واحد من الأمرين، لانتشر الفساد في الأرض، أو أقفل باب القضاء في زماننا هذا.

و لقد بلغني عن بعض القضاة الممارسين في المحاكم، أنّ القضاء بالبيّنات فيها قليل جدّاً، فلا محيص إلّا عن الإقرار، أو الإحلاف غير أنّ جمع القرائن و الشواهد و الرجوع إلى الخبراء و الأخصّاء، يكشف السرّ المكتوم و يستعين به

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 224

القاضي و ربّما يواجه القاضي حوادث ليس للبيّنة لها طريق، كوقوع حريق في المعمل، لا يُدرى هل حدث عن عمد، أو لوجود نقص في الأسلاك الكهربائيّة، أو تقصير في الصيانة أو غير ذلك فلا محيص عن اعتبار علم القاضي إذا استند إلى أُمور حسيّة أو قريبة من الحسّ مفيدة للعلم لكل إنسان عاديّ.

و على ضوء ذلك يجوز للقاضي العمل بعلمه بشرط أن يكون علمه مستنداً إلى مبادي حسيّة أو قريبة منها، على وجه يكون قابلًا للانتقال إلى غيره، بحيث لو نظر إليها غيره لحصل له العلم، و هذا ما نعبّر عنه بجمع القرائن

و الشواهد المفيدة للعلم.

إكمال

استثنى الموافق و المخالف في عمل القاضي بعلمه، موارد جوّزوا فيها العمل بعلمه:

1- تزكية الشهود و جرحهم لئلّا يلزم التسلسل فإنّه إذا علم بأحد الأمرين و توقّف في إثباته على الشهود فإن اكتفى بعلمه بعدالة المزكّي أو الجارح فقد حكم بعلمه و إلّا افتقر إلى آخرين و هكذا فيلزم التسلسل إن لم يعتبر شهادة الأوّلين.

2- الإقرار في مجلس القضاء و إن لم يسمعه غيره. و قيل يستثنى إقرار الخصم مطلقاً.

3- العلم بخطاء الشهود يقيناً أو كذبهم.

4- تعزير من أساء به في مجلسه و إن لم يعلم غيره لأنّه من ضرورة إقامة أُبهة القضاء.

5- أن يشهد معه آخر فإنّه لا يقصر عن شاهد. «1»

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 399، ملحقات العروة: 1/ 27.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 225

و لو ثبت الإجماع في هذه الموارد فهو و إلّا فالقضاء بالعلم في مورد الإقرار، إذا لم يكن قابلًا للانتقال مشكل لما عرفت من قصور الأدلّة من شمولها لغير هذه الصورة و ربّما يرد عليه ما تقدّم في باب حقوق الله من وحدة القاضي و المدّعي، حيث يدّعي بنفسه إقرار المنكر ثمّ يقضي، و هو ليس بصحيح و الاستناد في ذلك بما مرّ من قضية ماعز و غيرها حيث إنّ الظاهر كفاية علم القاضي بإقرار المقرّ، لا يخلو من إشكال، لأنّ الإقرار في تلك المواضع لا ينفكّ عن سماع الأخيرين على أنّ مدّعي السماع هناك هو النّبي المعصوم الذي لا يقع مظنّة التهمة فلاحظ ذيل الرواية الأُولى. «1» و الله العالم.

المسألة الثانية: في التماس المدّعي حبس المنكر لتزكية البيّنة

إذا أقام المدّعي بيّنة و لم يعرف الحاكم عدالتهما فالتمس المدّعي حبس المنكر ليعدّ لها فهل يجوز حبسه وجهان:

1- قال الشيخ

في المبسوط بالجواز لقيام البيّنة بما ادّعاه. «2»

2- و قال المحقّق: لا يجوز حبسه حيث لم يثبت المدّعى بالبيّنة العادلة، حتى تجوز عقوبته.

لا شكّ أنّه يجوز الحبس بعد ثبوت الدين، و قبل ثبوت الإفلاس فقد روى غياث بن إبراهيم عن أبيه أنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدين فإذا تبيّن له حاجة

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 16 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 152 و 239.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 226

و إفلاس خلّى سبيله حتى يستفيد مالًا. «1» و روى السكوني عن جعفر عليه السلام عن ابنه انّ عليّاً كان يحبس في الدين ثمّ ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء و إن لم يك له مال دفعه إلى الغرماء .... 2

إنّما الكلام فيما إذا لم يثبت، فلو ادّعى عليه حقّاً و لم يُحضر بيّنة، فليس له حبس المدّعى عليه بمجرّد الدعوى غاية الأمر له إحلاف المنكر، إنّما الكلام إذا ادّعى حقّاً و احضر بيّنة و لكن الحاكم لم يعرفها فالتمس المدّعي حبسه ليعدّ لها، خوفاً من فراره أو اختفائه أو غير ذلك فالقول بجواز الحبس مبني على أحد أمرين:

1- إنّ الأصل في كل مسلم هو العدالة و الفسق يحتاج إلى الإثبات فالبيّنة تامة و لا ينافيه التوقف على طلب التزكية لأنّ القائل بهذا القول يجوز البحث عن التزكية عند الريبة، و مع طلب الغريم له ذلك.

2- إنّ العدالة ليست بشرط، بل الفسق مانع مثل ما يقال أنّ كون اللباس ممّا لا يؤكل لحمه، مانع لا كونه ممّا يؤكل شرط و على ذلك فالمقتضي موجود، و يحرز عدم المانع بالأصل أي باستصحاب الحالة السابقة

قبل البلوغ.

و الوجهان ضعيفان أمّا الأوّل فلم يدلّ دليل على أنّ الأصل في المسلم العدالة، كما لم يدل دليل على أنَّ العدالة المشروطة في الشهادة بمعنى الإسلام كما سيوافيك في كتاب الشهادة.

أمّا الثاني، فلأنّ الظاهر من قوله سبحانه (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و قوله سبحانه: (اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) (المائدة/ 106) و قوله: (فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (المائدة/ 95) أنّ العدالة هو الشرط في قبول شهادة قول البيّنة.

و الحقّ أنّه لا يجوز حبسه، و لكن لا يجوز له إطلاقه أيضاً من دون أخذ تأمين منه لحضور مجلس القضاء ثانياً، فيدخل في مصاديق تزاحم الحقوق فيجب الجمع بين الحقّين أو الأخذ بالأقوى ملاكاً و المورد من قبيل الأوّل و هو أخذ الكفيل أو الرهن فما ذكره في الجواهر من عدم جواز الحبس و لا المطالبة بكفيل و لا رهن، غير تام و على ذلك سيرة المحاكم العرفيّة حيث لا يخلُّون الخصم بلا تأمين لحقّ المدّعي إذا كان مظنوناً.

***

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 13، الباب 7 من أبواب الحجر، الحديث 1- 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 227

المسألة الثالثة فيها فروع ثلاثة:

اشارة

ذكر المحقّق فيها فروعاً ثلاثة بالنحو التالي:

1- لو قضى الحاكم على غريم بضمان مال، و أمر بحبسه فعند حضور الحاكم الثاني، يُنظر فإن كان الحكم موافقاً للحقّ ألزم، و إلّا أبطله سواء كان مستند الحكم قطعياً أو اجتهادياً.

2- كلّ حكم قضى به الأوّل و بان للثاني فيه الخطاء فإنّه ينقضه.

3- لو حكم هو ثمّ تبيّن الخطأ فإنّه يبطل الأوّل و يستأنف الحكم بما علمه حقاً. «1»

و إليك البحث فيها

واحداً بعد الآخر.

[الفرع الأول] لزوم النظر في حكم الغريم المحبوس

إنّ ما ذكر في الفرع الأوّل، هو الموافق لما ذكره في مبحث الآداب قال: «إنّ

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 75.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 1، ص: 228

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 228

القاضي ينظر في المحبوسين و يجعل وقتاً فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد و يسأله عن موجب حبسه و يعرضه على خصمه فإن ثبت لحبسه موجب أعاده و إلّا أشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم أطلقه» «1» و لكنّه، لا يلائم ظاهراً مع ما سيذكره في المسألة الرابعة حيث قال: «ليس على الحاكم تتبّع حكم من كان قبله». «2»

و قد اضطرب كلامهم في الجمع بين ما ذكر هنا، و ما ذكره في المسألة الرابعة فقال الشهيد الثاني: عند الكلام في المسألة الرابعة إنّما وجب في المسألة الأُولى النظر في حكم الأوّل دون هذه، (الرابعة) لأنّه في الأوّل وجد الغريم محبوساً على الحقّ و لم يُحصِّل أداءه فكأنّ الأوّل لم يتمّ، فلذا أوجب على الثاني النظر في حال من عليه الحقّ لأنّه يحتاج إلى أن يحكم عليه بوجوب أداء الحقّ و لا يتمّ للثاني ذلك حتّى يعلم حال الحكم السابق بخلاف ما إذا كان قد انقضى الأمر في حكم الأوّل و استوفى متعلّق الحكم فإنّ الحاكم الثاني لا يجب عليه النظر في السابق و لا يُتْبع الأحكام إلّا أن يدّعي المحكوم عليه جور الحاكم الأوّل فيلزمه حينئذ النظر لأنّ هذه دعوى يلزمه سماعها و

لا يتمّ إلّا بالنظر في الحكم فينفذه إن كان حقّاً و يردّه إن تبيّن بطلانه. «3»

و اعترض في الجواهر بأنّ دعوى عدم انتهاء الحكم في الأوّل يدفعها ظهور العبارة في خلافها ضرورة كون حبسه لاستنقاذ الحقّ منه.

و الظاهر أنّ صاحب الجواهر قدّس الله سرّه ما أعطى حقّ النظر في عبارة الشهيد أنار الله برهانه كما هو شأنه في سائر الموارد إذ المراد من عدم التمامية هو عدمها استيفاءً لا حكماً فليس له الحبس إلّا إذا ثبت موجبه عنده، و مثله إذا صدر الحكم بالإعدام فليس للثاني الإجراء إلّا إذا ثبت موجبه عنده مثل القاضي

______________________________

(1) المصدر نفسه/ 73.

(2) المصدر نفسه/ 76.

(3) العاملي، المسالك: 2/ 400.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 229

الأوّل.

و الضابطة الكلّية أنّه ليس للثاني ردّ حكم القاضي السابق و لكنّه أيضاً ليس له إنشاء حكم وفق حكم الحاكم الأوّل إلّا بعد ثبوت الموضوع عنده بل و لا إجراؤه و إن لم يحكم كما سيوافيك في محلّه و العجب أنّه تنبّه ببعض ما ذكره الشهيد في بعض كلماته حيث قال: و عدم جواز الردّ عليه مع عدم العلم بفساده لا يقتضي تحقّق الموضوع الذي يتوقّف عليه مباشرة الثاني لاستيفاء الحقّ الذي هو من ولاية القضاء بالمعنى الأعم فليس له حينئذ ذلك إلّا بعد ثبوت كونه مستحقّاً عليه عنده و ليس في الأدلّة أزيد من حرمة الردّ و من الإنكار على الردّ و نحوه ذلك ممّا لا دلالة فيه على ثبوت الحقّ عند الثاني على وجه يكون وليّاً على استنقاذه «1».

و بذلك اتّضح دليل الفرع الأوّل و قد أشار إليه المحقّق بعبارة موجزة حيث قال: لاحتياج الاستيفاء منه إلى مسوِّغ.

و

الحاصل: إنّ الردّ و الاستنكار أمر و إنشاء الحكم وفق الحكم الأوّل أو إجراء حكم المعزول أمر آخر فما يرجع إلى المسألة الرابعة، هو الأمر الأوّل، و ما يرجع إلى المقام هو الأمر الثاني.

ثمّ إنّه يظهر من السيّد الطباطبائي أنّ الممنوع في هذه الصورة هو إنشاء حكم على طبق حكم حاكم آخر من غير أن يبحث عنه و يتبيّن كونه على طبق رأيه و مع ذلك يجوز أو يجب إمضاؤه بمعنى تنفيذه و هو غير الحكم من نفسه على طبقه. «2»

و لا يخفى عدم ترتّب ثمرة على هذا التفصيل، فإنّ محور النزاع هو جواز أو وجوب إجراء حكم من تقدّم سواء كان هناك إنشاء حكم على وفق الأوّل أو لا، و الذي تترتّب عليه الثمرة، هو اجتنابه عن إجراء الحكم إلّا إذا ثبت الموضوع عنده.

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 95.

(2) ملحقات العروة 2/ 28، المسألة 35.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 230

و الظاهر من عبارة الجواهر السابقة هو ما ذكرناه. «1»

و نظير ما قلناه في المقام ما يقال في أصالة الصحّة في فعل الغير من أنّها لا تثبت الصحّة المطلقة بل الصحّة النسبيّة، فلو اشترى رجل من بايع مشكوك بلوغه عندنا فمقتضى الأصل، هو صحّة شراءه منه و لكنّه لا تثبت بلوغ البائع حتّى يجوز لنا شراء شي ء آخر منه بل لا محيص لنا عن التحقيق في بلوغه و عدمه.

و مثله إذا تفحّص الحاكم عن زوج المرأة أربع سنوات، فطلّقها فيجوز لنا، تزويجها، و أمّا إذا تفحّص و لم يطلّق فليس لنا طلاقها مبنياً على فحصه إلّا بعد ثبوت الموضوع عندنا.

فإن قلت: إذا كان الحكم صادراً عن وفق موازين القضاء فيجب على

الحاكم الثاني تنفيذه، فإنّ إيقافه ردّ على الحاكم الأوّل.

قلت: إنّ الحرام هو ردّ الحكم و رفضه حسب دلالة المقبولة، و أين هو من الإيقاف حتّى يثبت الموضوع.

و الحاصل: إنّ الإجراء فرع ثبوت الموضوع لدى الحاكم الثاني و إلّا فلا يردّه و لا يرميه بالبطلان و في الوقت نفسه لا يجريه.

[الفرع الثاني] نقض حكم القاضي عند تبيين الخطأ
اشارة

هذا هو الفرع الثاني الذي أشار إليه المحقّق بقوله: «و كذا كلّ حكم قضى به الأوّل و بان للثاني فيه الخطأ فإنّه ينقضه» توضيحه:

التنصيب عموماً أو خصوصاً على القضاء، يلازم نفوذ حكم القاضي لرفع الخصومة و قطع النزاع فلو لم يكن حكمه نافذاً لغى التنصيب و يصبح القاضي رجلًا ناصحاً لا أثر لكلامه في رفع المنازعة إلّا في أقلّ من الناس. و لأجل ذلك

______________________________

(1) الجواهر 40/ 95.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 231

أوجب الإمام قبول قضائه و حرّم ردّه بقوله: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله و علينا ردّ، و الرادّ علينا كالرادّ على الله و هو بمنزلة الشرك». «1» إلى غير ذلك من الروايات.

و مع ذلك كلّه فقد استثنى القوم موارد جوّزوا فيها نقض حكمه فيها قائلين بأنّه ليس من مقولة الردّ عليه و الصور المتصوّرة بشكل عام و إن كان بعضه خارجاً عن إطار البحث عبارة:

1- نقض الحكم بالحكم

2- نقض الحكم بالفتوى

3- نقض الفتوى بالحكم

4- نقض الفتوى بالفتوى

و هذه هي الأقسام الأربعة و إليك البحث فيها واحداً بعد الآخر.

1- نقض الحكم بالحكم
و قبل الخوض في البحث نأتي ببعض نصوصهم:

1- قال الشيخ: إذا قضى الحاكم بحكم فاخطأ فيه ثمّ بان أنّه أخطأ أو بان أنّ حاكماً كان قبله قد أخطأ فيما حكم به، وجب نقضه و لا يجوز الإقرار عليه بحال و قال الشافعي: إن أخطأ فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد بأن خالف نصّ كتاب أو سنّة أو إجماعاً أو دليلًا لا يحتمل إلّا معنى واحداً و هو القياس الجليّ على قول بعضهم، و القياس الجليّ و الواضح على قول الباقين منهم، فإنّه ينقض حكمه، و إن أخطأ فيما

يسوغ فيه الاجتهاد لم ينقض حكمه.

و قال مالك و أبو حنيفة: إن خالف كتاب الله و السنّة لم ينقض حكمه، و إن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 232

خالف الإجماع نقض حكمه، و ناقض كل واحد أصله فقال مالك: إن حكم بالشفعة للجار نقض حكمه و هذه مسألة خلاف، و قال محمد بن الحسن: إن حكم بالشاهد و اليمين، نقض حكمه، و قال أبو حنيفة: إن حكم بالقرعة بين العبيد أو بجواز بيع ما تركت التسمية على ذبحه عامداً، نقض حكمه لأنّه حكم بجواز بيع الميتة.

قال الشيخ: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم و أيضاً فقد ثبت عندنا أنّ الحقّ في واحد، و أنّ القول بالقياس و الاجتهاد باطل، فإذا ثبت ذلك فكلّ من قال بهذا قال بما قلناه، و إنّما خالف في ذلك من جوّز الاجتهاد، و روي عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال: من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو ردّ، و قال عليه السلام: ردّوا الجهالات إلى السنن، و هذه جهالة و روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري كتاباً يقوله فيه: و لا يمنعك قضاء قضيت به اليوم ثمّ راجعت رأيك فهُديت لرشدك أن تراجع فإن الحقّ قديم، و لا يبطله شي ء، و أنّ الرجوع إلى الحقّ أولى من التمادي في الباطل. «1»

2- و قال الشيخ أيضاً: و قال المخالف ليس لأحد أن يردّ عليه و إن حكم بالباطل عنده لأنّه إذا كان حكمه باجتهاده وجب عليه العمل به فلا يعترض عليه بما هو فرضه إلّا أن يخالف

نصّ الكتاب أو سنّة أو إجماعاً أو قياساً لا يحتمل إلّا معنى واحداً فإنّ ذلك ينكر عليه ثمّ إنّه اختار ما يلي و قال: إنّه إن أصاب الحقّ نفذ حكمه، و لا يعترض عليه، و إن أخطأ وجب على كل من حضره أن ينبّهه على خطئه، و لا قياس عندنا في الشرع و لا اجتهاد، و ليس كلّ مجتهد مصيباً. «2»

3- قال ابن البرّاج: و إذا حكم بشي ء ثمّ بان له أنّه أخطأ أو بان له أنّ الحاكم قبله حكم بشي ء و أخطأ فيه كان عليه نقض ما أخطأ هو فيه، و كذلك ما أخطأ فيه غيره من الحكّام المتقدّمين عليه و حكم بما يعلمه من الحقّ. «3»

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف، كتاب القضاء، المسألة 7.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 91.

(3) ابن البرّاج، المهذب: 2/ 599.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 233

4 و قال العلّامة: و كلّ حكم ظهر بطلانه فإنّه ينقضه سواء كان الحاكم هو أو غيره، و سواء كان مستند الحكم قطعياً أو اجتهادياً. «1»

5- و قد اضطرب كلام العلّامة في القواعد ففي موضع يظهر منه التفصيل بين ما إذا خالف دليلًا قطعياً وجب عليه و على غير ذلك الحاكم، نقضه و لا يسوغ إمضاؤه ... و إن خالف دليلًا ظنّياً لم ينقض كما لو حكم بالشفعة مع الكثرة ....

ثمّ يقول بعد عدّة سطور: و لو كان الحكم خطأ عند الحاكم الأوّل و صواباً عند الثاني ففي نقضه مع كون الأوّل من أهله نظر و الأقرب أنّ كلّ حكم ظهر أنّه خطأ سواء كان هو الحاكم أو السابق فإنّه ينقضه و يستأنف الحكم بما علمه حقّاً. «2» فقد فصّل في العبارة

الأولى بين الدليل القطعي و الظنّي و لكنّه حكم بالنقض مطلقاً في الثانية فلاحظ.

6- و قال فخر المحقّقين: إذا علم الحاكم الثاني بأنّ الحاكم الأوّل أخطأ في حكمه، أو الحاكم نفسه علم أنّه حكم بحكم خطأ و الخطاء بمخالفة نصّ الكتاب أو السنّة المعلومي الدلالة مع علم سند السنّة أو الإجماع، نقض ذلك الحكم. و أمّا إذا ظهر خطأ الحكم لاستناده في الاجتهاد إلى دليل ظهر أنّه ليس بدليل في نفسه و لم يظهر له برهان على فساد هذا الحكم بل ظهر فساد في مستنده فهذا هو المبحوث عنه هنا و قد اختار المصنف (العلّامة) أنّ الأقرب نقضه و الحكم بما علمه حقّاً.

و وجه القرب قوله تعالى: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ) (المائدة/ 47) و الخطأ لم ينزله اللّه، و لأنّ إقرار ما يعتقده خطأ مع العلم به أو الظنّ و هو غير جائز.

و قال: و فيه نظر، لأنّ قوله: «مع العلم به لا نزاع فيه» و قوله: «أو الظن» فإنّه

______________________________

(1) الإرشاد: 2/ 141.

(2) مفتاح الكرامة: 10/ 155، قسم المتن، و لاحظ: الايضاح: 3/ 319.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 234

في عين المنع، فإنّ الدليل الظنّي لا ينقض ما حكم به بدليل ظنيّ و إلّا لم تستقرّ الأحكام أمّا لو ظهر باجتهاد ثان فلا ينقض و إلّا لم يستقرّ حكم. «1»

هذه بعض النصوص في المسألة و إليك تحليلها:

إنّ نقض الحكم بالحكم جوازاً و منعاً يستمدّ من الأمور التالية و الإمعان فيها يعطي الضابطة و يحدِّد الجواز و المنع و إليك بيانها:

1- الغاية المتوخاة من القضاء في جميع الأوساط هو رفع الخصومة و قطع النزاع قانوناً و تشريعاً

و هو لا يتحقّق إلّا إذا كان حكم القاضي متمتِّعاً بصلابة و قوّة غير منتقضة باعتراض أحد الطرفين و إلّا لما حصلت الغاية المطلوبة، و انتهى الأمر إلى الهرج و المرج و لأجل ذلك يَتمتَّعُ حكم القاضي في تمام المجتمعات بالقوّة و الاستحكام.

2- إنّ النقض و تحديد القضاء فرع وجود الخصومة و المفروض أنّها ارتفعت بالقضاء الأوّل فليست على صعيد التشريع أيّة خصومة حتّى يتصدّاها الحاكم الثاني أو القاضي الأوّل نفسه و إن رضى المتحاكمان لأنّ الوصل بعد الفصل يحتاج إلى دليل.

و بذلك يظهر أنّ حرمة النقض و تجديد المرافعة من القضايا التي دليلها معها، لأنّ القضاء الثاني فرع وجود المرافعة تشريعاً و المفروض أنّها ارتفعت بالقضاء الأوّل و بقاءها تكويناً في نفوس المترافعين أو في ألسنتهما ليس موضوعاً شرعياً له. و إلى ما ذكرنا يشير المحقق الرشتي و يقول: إنّ حرمة النقض لا يحتاج في إثباتها إلى دليل آخر غير ما دلّ على وجوب الرضا بحكم الحاكم بعد تصوّر حقيقة الحكم فإنّ الحكم المبحوث عنه على ما سبق عبارة عن فصل الخصومة و قطع المنازعة بإلزام أحد المتخاصمين على غير ما يقتضيه تكليفه فإذا تحقق

______________________________

(1) الايضاح: 4/ 320.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 235

الفصل عند حاكم لم يبق أمر قابل للفصل شرعاً بعدُ سواء رضي الخصمان بتجديد المراجعة أم لا. «1»

فما يظهر من صاحب الجواهر من تجويز النقض برضى المتخاصمين «2» ليس في محلّه لأنّ رضاهما لا يغيّر الحكم الشرعي و لا يوجد موضوعاً لدى القاضي.

3- إنّ الإمام أعطى لحكم القاضي منزلة جليلة، فجعل حكمه حكم نفسه و ردّه ردّ حكمه «3». فكل مورد كان النقض ملازماً مع

الردّ يكون محرّماً بلا إشكال.

هذه الجهات الثلاثة، توضح وجه حرمة النقض، و هناك جهات أخرى تسوّغ النقض و إليك بيانها:

4- إنّ العبرة و الاعتبار في حكم القاضي برصيده الذي يتمتّع به و هو كونه حاملًا لحكمهم عليهم السَّلام و هذا هو الذي أعطى له القيمة و الكرامة و لو خلّي عنه، لسقط عن الاعتبار و المقصود من حكمهم هو الأعم من الحكم الواقعي المنكشف بالعلم، أو المنكشف بالأدلّة القطعيّة و إن لم يكن نفس الحكم قطعياً، كظواهر الكتاب و السنّة المعتبرة، و الإجماع المحصّل، و الشهرات المحقّقة التي تجعل المقابل شاذاً ساقطاً حسب ما حقّقناه.

و الحكم القضائي عندنا ليس حكماً واقعياً و لا ظاهرياً و إنّما قسم خاص منه، لكن بما أنّه يستمدّ من هذين القسمين يكون له الاعتبار، فإذا لم يكن مستمدّاً منهما لما كانت له قيمة.

5- الاجتهاد الصحيح موضوع لنفوذ القضاء فلو حكم بالحق بلا اجتهاد،

______________________________

(1) المحقق الرشتي: كتاب القضاء: 1/ 107.

(2) النجفي: الجواهر 40/ 95، و نقله عنه كل من المحقق الرشتي و الآشتياني في كتابيهما باسم «كتاب القضاء: 108، و 57 معبّرين عنه ببعض مشايخنا و هذا يعرب عن تتلمذهما عليه أولًا ثمّ على الشيخ الأنصاري: قدّس الله أسرارهم.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 236

أو باجتهاد فاسد فهو من مصاديق قوله: «حكم بالحقّ و هو لا يعلم» و لأجل ذلك لا قيمة لقضاء العامي و إن أصاب الحق.

6- إنّ حكم القاضي و إن كان حجّة على الكل من غير فرق بين المترافعين و غيرهما لكن ليست حكومته مطلقة، غير مشروطة و لا محدّدة فلو كان

الحقّ منكشفاً لدى القاضي بالعلم القطعي أو بحجّة قطعيّة على قول، فليست له حكومة عليه إذ لا يصح جعل حكم مخالف في عرض الواقع، المنكشف.

7- إذا حكم القاضي بحكم على موضوع ثبت عنده بالبيّنة كالقصاص، و لكن عزل و ترك إجراءه على قاض آخر، فلا يصحّ له الإجراء إلا إذا تحقّق الموضوع عنده و هو كونه قاتلًا أو مديوناً فيطلب ذلك، النظرَ في القضاء الأوّل. و إلّا فمجرّد حرمة الردّ و الإنكار لا يدلّ على ثبوت الحقّ عند الثاني.

إذا عرفت ما هو المبرر لحرمة النقض و جوازه فإليك بيان الموارد التي يجوز النقض فيها:
أ: تبيّن فساد الاجتهاد

إذا تبيّن أنّ الحاكم الأوّل، لم يقض على اجتهاد صحيح مثلًا أحلف المدّعي مكان المنكر أو قضى بشهادة النساء مكان لزوم شهادة الرجال، أو بشهادة عدلين مع لزوم شهادة الأربعة أو قضى بشهادة عدل و يمين في غير الأموال و الحقوق مع اختصاص القضاء بهما عليهما ففي تلك الموارد لا شبهة في جواز النقض بل لزومه في حقوق الله مطلقاً و حقوق الناس مع المطالبة فإنّ حكمه في الواقع دائر بين الحقّ و الباطل فعلى الأوّل قضى بالحقّ و هو لا يعلم، و على الثاني قضى بالجور و هو لا يعلم و الكلّ قضاء باطل.

ب إذا خالف الدليل القطعي

إذا كان في المسألة دليل قطعي يفيد العلم بالحكم الواقعي، كنصِّ الكتاب،

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 237

أو السنّة المتواترة، و إجماع الفرقة المحقّة في الأعصار، فحكمه حكم القسم الأوّل من لزوم النقض مطلقاً في حقوق الله و حقوق الناس مع المطالبة إذ لا معنى لجعل حكم في عرض الحكم الواقعي، و بكلمة قصيرة يدخل الحكم حينئذ في من قضى بالجور و هو لا يعلم.

ج إذا خالف الدليل المعتبر

إذا كان في المسألة دليل معتبر ثبت اعتباره بالدليل القطعي كخبر الواحد و سائر الأمارات التي قامت الأدلّة القطعية على حجّيتها كالشهرات الفتوائية طوال القرون على ما حقّقنا حالها في الأصول، و كالعلّة المنصوصة و بالجملة تبيّن تبيّناً قطعياً أنّه استند إلى ما ليس بحجّة واقعاً، و إن لم ينكشف الواقع مثل انكشافه في الصورة الثانية فهل يجوز النقض أو لا؟

و الحقّ جوازه و ذلك لأنّ المفروض أنّ الحجّة الفعلية في حقّه، هو ما غفل عنه، و عدل إلى ما ليس بحجّة و مع ذلك فكيف يكون نافذاً في حقّ القاضي الثاني؟

و الحاصل أنّ المقياس تبيّن الخطاء في قضائه (لا تبيّن الواقع و انكشافه) و هو يلازم عدوله عن الحجّة السابقة إلى الحجّة الفعلية.

د لو كان الدليل المخالف عند القاضي الثاني أرجح عنده مما استند إليه.

مع كون مستند الأوّل أيضاً ممّا يجوز الاعتماد عليه فإنّ ذلك لا ينقض لأنّه لا يعلم كونه خطاء. و على ضوء ذلك ظهر أنّ مورد النقض ينحصر في أمرين: تبيّن فساد الاجتهاد، تبيّن الخطاء في مستند القاضي الأوّل تبيّناً قطعياً سواء كان الواقع متبيّناً أيضاً أو لا و أمّا إذا كان الخطاء غير متبيّن غاية الأمر كان لأحد الدليلين ترجيح في نظر الثاني على الأوّل فلا.

نعم المتأخّرون بين موافق، و متردّد، و جازم بالخلاف.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 238

أمّا الأوّل فقد أفاد المحقّق الرشتي في هذا المجال:

يجوز النقض في مواضع ثلاثة. و هي المواضع التي يقع فيها الحكم لاغياً:

أحدها: ما لو علم الحاكم أو غيره مخالفة حكم الحاكم الأوّل للحكم الإلهي الواقعي علماً قطعيّاً فإنّه يجوز النقض حتّى تتجدّد المرافعة لأنّه الحكم على حدّ سائر الأمارات فلا يكون حجّة إلّا مع الجهل بالواقع و امّا

مع العلم به فلا حكومة له.

ثانيها: ما لو علم مخالفة الحكم لدليل معتبر عند الكل كالخبر الصحيح المعمول به، الثابت في الكتب المعتبرة مع عدم المعارض فإنّ النقض جائز لأنّ العلم بالواقع الأوّلي و الثانويّ مع وحدته بين الكلّ سيّان في عدم جواز المخالفة، بحيث لو فرضت مراعاة المجتهد لشرائط الاجتهاد لم يفت بمضمونه.

و أمّا مخالفة الحكم الثانوي مطلقاً فليس محلّ النقض لأنّ الأحكام الثانويّة متعدّدة حسب تعدّد الأمراء فليس لمجتهد إبطال ما زعم الآخر حكماً إلهياً و إلّا لم يبق للحكم مورد لا ينتقض فيه إلّا نادراً.

و الحاصل: أنّ المخالفة في الرأي لا توجب جواز النقض مطلقاً، بل يتوقّف على كونها بحيث لا تخفى على أحد مراع لشروط الاجتهاد.

ثالثها: ما لو ظهر خطأ الحاكم في الاجتهاد قصوراً أو تقصيراً (فساد الاجتهاد) إلخ. «1»

و القسمان الأوّلان داخلان في تبيّن الخطأ في مستند القاضي سواء كان الواقع متبيّناً كما في القسم الأوّل أو لا كما في الثاني.

أمّا الثاني: فقد أفاد المحقّق الآشتياني فيه و قال: المخالفة للدليل المعتبر عند الكل إن رجع إلى الفساد في الاجتهاد فهو داخل في القسم السابق و إلّا ففيه

______________________________

(1) المحقق الرشتي: كتاب القضاء 1/ 109108

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 239

إشكال من حيث عموم الأدلّة الدالّة على حرمة النقض و شمولها بالنسبة إلى المقام، و من حيث العلم بكون التكليف الظاهري لكلّ أحد، هو مؤدّى الدليل الفلاني حتّى لهذا الحاكم فيرجع إلى العلم بمخالفة حكمه للتكليف الظاهري حتّى في حقّ الحاكم فلا أثر في حكمه كما لو خالف الدليل العلمي. «1»

و أمّا الثالث فقد أفاد السيّد الطباطبائي فخصّ جواز النقض بموردين:

1- علم علماً قطعياً بمخالفته

للواقع بأن كان مخالفاً للإجماع المحقّق أو الخبر المتواتر.

2- إذا تبيّن تقصيره في الاجتهاد ثمّ قال ففي غير هاتين الصورتين لا يجوز نقضه و إن كان مخالفاً لرأيه بل و إن كان مخالفاً لدليل قطعي نظريّ كإجماع استنباطي أو خبر محفوف بقرائن و أمارات قد توجب القطع، مع احتمال عدم حصوله للحاكم الأوّل فإن مقتضى إطلاق عدم جواز ردّ حكم الحاكم، عدم جواز نقضه حينئذ إلّا إذا حصل القطع بكونه على خلاف الواقع فلا يكفي في جواز النقض كون الدليل علميّاً لبعض دون بعض. «2»

يلاحظ عليه: أنّ التمسّك بالاطلاق فرع إحراز الموضوع و هو أنّه حكم بحكمهم، و المفروض أنّه لم يحرز إمّا وجداناً كما فيما إذا قامت الحجّة القطعيّة أو تعبّداً كما في مورد الأمارات التي دلّت الحجّة القطعية على صحّة الاحتجاج بها. و معه كيف يصح التمسّك بالإطلاق.

و بذلك يظهر النظر فيما أفاده صاحب الجواهر حيث قال: أمّا القطعي النظري كإجماع استنباطي و خبر محفوف بقرائن و تكثّر أمارات ممّا يمكن وجود عكسها عند الأوّل كما تراه بالعيان بين العلماء خصوصاً في دعوى الإجماع فلا يبعد عدم جواز النقض به في غير ما فرضناه ضرورة اندراج حكم الأوّل في الأدلّة

______________________________

(1) الآشتياني القضاء 56.

(2) السيّد الطباطبائي ملحقات العروة 2/ 26 المسألة 32 و لاحظ أيضاً المسألة 28 ط طهران.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 240

المقتضية لنصبه فإنّ المدار في صحّته على معرفة حكمهم بالاجتهاد الصحيح الذي هو أعمّ من القطع النظري و الظن «1».

يلاحظ عليه: أنّه لا ملازمة بين جواز النصب، و نفوذه على المجتهد الآخر، فلعلّ عرفانه بالاجتهاد الصحيح في أغلب الموارد كاف في جوازه و لا

يكون دليلًا على كونه حجّة على المجتهد الذي كشف أنّ الحكم الفعلي هو خلاف ما حكم. كشفاً قطعياً، بحيث لو كان الأوّل ملتفتاً لقضى به.

و لعلّ ما أفاده في ذيل كلامه موافق لما ذكرناه حيث قال: و ينقض إذا خالف دليلًا علمياً لا مجال للاجتهاد فيه أو دليلًا اجتهادياً لا مجال للاجتهاد بخلافه إلّا غفلة و نحوها و لا ينقض في غير ذلك. «2»

ما هو المراد من حرمة النقض؟

إذا اختلف المتبايعان في نجاسة المبيع و طهارته كالعصير الذاهب ثلثاه بالشمس، و رأى المشتري نجاسته تقليداً أو اجتهاداً على خلاف البائع، و حكم الحاكم بطهارته، فهل يترتّب جميع آثار الطهارة على نوع العصير، أو على شخصه المتنازع فيه، أو خصوص الأثر الذي بسببه وقعت الخصومة و هو صحّة البيع و تملّك البائع الثمن، و لزوم دفعه إليه من غير أن يصحّ للمشتري أن يرتّب سائر آثار الطهارة كإباحة الأكل و الصلاة إذا لم يساعد تكليفه؟

فعلى الوجه الأوّل يجوز للمشتري القائل بالنجاسة، أن يعامل مع مطلق العصير، معاملة الطهارة و إن كان خارجاً عن محلّ المرافعة، و على الثاني يجوز له أن يرتّب على خصوص المتنازع فيه جميع آثارها من الأكل و الصلاة، و على الثالث يجوز أن يرتّب الأثر الذي وقع مورد النزاع و هو لزوم دفع الثمن و كون

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 9796.

(2) الجواهر: 40/ 9796.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 241

البائع مالكاً. و الظاهر هو الثالث لأنّ المتبادر من قوله «فارضوا به حكماً» «1» هو الرضا بحكمه بمقدار ترتفع به الخصومة و هو الذي يقبل الإلزام، لا سائر الآثار. من غير فرق بين أن يكون متعلّق القضاء الطهارة أو أداء الثمن، لأنّ الحكم

بالطهارة ليس إلّا فتوى و لا يجب على المحكوم عليه الأخذ بفتياه خصوصاً إذا كان مجتهداً أو كان مقلّداً أو كان القاضي غير أعلم، بخلاف حكمه بأداء الثمن فإنّه حكم قضائي محترم.

نعم يظهر من صاحب الجواهر، أنّ المترتّب، هو الطهارة حيث قال: كما أنّه لا فرق في ذلك بين العقود و الإيقاعات و الحلّ و الحرمة و الأحكام الوضعيّة حتّى الطهارة و النجاسة فلو ترافع شخصان على بيع شي ء من المائعات و قد لاقى عرق الجنب من زنا مثلًا، عند من يرى طهارته فحكم بذلك كان طاهراً مملوكاً للمحكوم عليه و إن كان مجتهداً يرى نجاسته أو مقلِّد مجتهد كذلك لإطلاق ما دلّ على وجوب قبول حكمه، و يخرج حينئذ هذا الجزئي من كلّي الفتوى بأنّ المائع الملاقي عرق الجنب نجس في حقّ ذلك المجتهد و مقلّديه و كذا البيوع و الأنكحة و الطلاق و الوقوف و غيرها، و هذا معنى وجوب تنفيذ الحاكم الثاني ما حكم به الأوّل و إن خالف رأيه. «2»

و يظهر من السيّد الطباطبائي اختياره أيضاً قال: إذا كان مذهبه اجتهاداً أو تقليداً نجاسة الغسالة أو عرق الجنب من الحرام و اشترى مائعاً فتبيّن أنّه كان ملاقياً للغسالة أو عرق الجنب من الحرام إلى أن قال ففي خصوص هذا المورد يعمل بمقتضى الطهارة و يبنى عليها و ينقض الفتوى بذلك الحكم «3».

______________________________

(1) الوسائل 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(2) الجواهر: 40/ 98.

(3) السيّد الطباطبائي: ملحقات العروة: 2/ 27، المسألة 38 و المورد من مصاديق نقض الفتوى بالحكم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 242

يلاحظ على ما ذكراه أنّ المتبادر من أدلّة نفوذ القضاء، هو

نفوذه، في مورد الخصومة، و هو لزوم أداء الثمن، و عدمه لا صيرورة النجس في نظر المشتري طاهراً بحيث يجوز له شربه و بيعه.

و العجب أنّ السيّد الطباطبائي أفتى في كتاب التقليد على خلاف ما ذكره هنا حيث قال: إذا كان البائع مقلِّداً لمن يقول بصحّة المعاطاة مثلًا أو العقد الفارسي و المشتري مقلِّداً لمن يقول بالبطلان، لا يصحّ البيع بالنسبة إلى البائع أيضاً لأنّه متقوّم بطرفين فاللازم أن يكون صحيحاً من الطرفين، و كذا في كلّ عقد كان مذهب أحد الطرفين بطلانه و مذهب الآخر صحّته «1».

فإذا كان هذا حال البائع حسب الفتوى فكيف يمكن أن يغيّره حكم القاضي إلى الصحّة لأنّ المفروض أنّ القاضي يُفتي ثمّ يقضي حسب الفتوى نعم ذهب المشايخ إلى صحّته بالنسبة إلى البائع مع تمشي قصد المعاملة ممّن يرى بطلانها كما عليه السيّد الأستاذ في تعليقته على العروة و غيره من الأعلام.

و الحقّ أنّ النقض نسبيّ لا مطلق و بذلك يظهر اندفاع ما ربّما يقال: «لا دليل على نفوذ حكمه على مجتهد مخالف لأنّه لا يلتزم بأنّ ما حكم به حكم الإمام عليه السلام بل يرى أنّه ليس بحكمه فلا تدلّ الروايات على نفوذ حكم ذلك الحاكم على مخالفيه في الرأي إذ يجب عند ترتّب الأثر إحراز عناوين الموضوعات و منها أنّه حكم الإمام فمهما لا يعلم أنّ ما حكم به هو حكم الإمام فلا دليل على نفوذ حكمه عليه».

يلاحظ عليه: أنّه إن أراد من قوله: «إنّ ما حكم به الأوّل ليس من أحكامهم» الموارد الثلاثة التي يجوز نقضها، فلا كلام في عدم النفوذ، إنّما الكلام في غيرها كنجاسة الغسالة، أو عرق الجنب عن الحرام، الذي للاجتهاد معه محلّ

فلو لم يكن رأى الحاكم نافذاً في المخالف معه اجتهاداً أو تقليداً، يلزم بقاء

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي: العروة الوثقى باب التقليد، المسألة 55.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 243

الخصومة لأنّ كلّا يريد العمل برأيه أو برأي مقلّده فتبقى غير منحلّة و بالجملة ترتّب جميع آثار الطهارة، أو عدم نفوذه في حقّ المخالف، بين الإفراط و التفريط و الأوسط ما اخترناه.

هذا كلّه حول الشبهة الحكمية و أمّا الشبهة الموضوعية فإن لم يعلم مخالفة حكمه فيها للواقع فلا شكّ في حرمة النقض و توهّم اختصاص المقبولة بالأُولى مردود، بما في صدره من اختلاف بعض أصحابنا في دين أو ميراث فإنّ الاختلاف في الأوّل ينشأ من الشبهة الموضوعية. و كون حكم القاضي حكماً مبرماً غير قابل للنقض أثر طبيعة حكمه فلا معنى للفرق بين كون الشبهة حكمية أو موضوعية و على كلّ تقدير فإن كان هناك تقصير أو قصور في الاجتهاد يجب النقض، إذا كان من حقوق الله، و مع المطالبة إذا كان من حقوق الناس، و قال المحقّق الرشتي: ينقض باطناً دون جهار بمعنى تجديد المرافعة من رأس لخوف الفتنة أو الإهانة على الحاكم الأوّل «1». و هو كما ترى و مراده من النقض باطناً جواز التقاص خفاءً في غير اليمين. و أمّا إذا كان القضاء على وفق الموازين لكن كذّب المدّعي نفسه أو تبيّن أنّ السند مزوّر أو أنّ الشاهدين فاسقان و بعبارة أخرى تبيّن الخطأ و علم كون الحكم على خلاف الواقع الفعلي، نقَضَه، دون ما إذا ظنّ أو احتمل.

2- نقض الحكم بالفتوى

قد عرفت عدم جواز نقض الحكم بالحكم إلّا في موارد خاصّة، فأولى بعدم النقض، نقضه بالفتوى إلّا في موارد ثلاثة

متقدّمة، فبما أنّ الحاكم يفتي أوّلًا ثمّ يقضي ربّما يكون نقض الحكم بالحكم مسبوقاً بالنقض بالفتوى و على أيّ تقدير لا يجوز النقض بها في غير الموارد الثلاثة. مثلًا لو بدا له في الحكم بعد حكمه في جزئي خاص، كما في تزويج الباكرة بدون إذن أبيها، فحكم بالصحّة لعدم اشتراط

______________________________

(1) المحقق الرشتي: كتاب القضاء: 1/ 110.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 244

الإذن عنده في ذلك الزمان ثمّ تغيّر رأيه، فالتزويج السابق، يكون محكوماً بالصحّة لظهور أدلّته في عدم جواز نقضه مطلقاً إلّا في موارد ثلاثة.

3- نقض الفتوى بالحكم

يجوز نقض الفتوى بالحكم كما عرفته فيما إذا كان مذهب المشتري اجتهاداً أو تقليداً نجاسة الغسالة أو نجاسة عرق الجنب من الحرام إلى آخر ما عرفت.

4- نقض الفتوى بالفتوى

إذا مات مقلَّده أو تغيّر رأيه فإنّه يجب عليه العمل بالفتوى الثانية فيما يأتي دون ما مضى و أمّا الأعمال السابقة فقد اخترنا الإجزاء مطلقاً سواء كان مستند الفتوى، الأمارات أو الأُصول مثلًا إذا تزوّج بكراً، بإذنها ثمّ تبدّل رأيه إلى كون أمرها بيد أبيها، لم يضرّ بما سبق نعم يختصّ الإجزاء بما سبق دون ما يأتي و بعبارة أخرى، يحكم على الأعمال السابقة بالصحّة و إن كان له استمرار، و أمّا الموضوع الجديد فيجب العمل فيه على وفق الرأي الحديث فلو تزوّج بنتاً بإذنها، بفتوى كفاية إذنها دون أبيها، فلا يصحّ التزويج من بعد إلّا من بعد إذن أبيها، و لو توضّأ بالماء القليل الملاقي للنجس بفتوى عدم انفعاله فالصلوات الماضية صحيحة لكن طهارة البدن بالنسبة إلى الأعمال الآتية موضوع جديد يجب إحرازها حسب الفتوى الجديدة و بالجملة إنّ دليل الإجزاء في الأمارات، الذي هو وجود الملازمة العرفية بين تجويز العمل، و كفايته مطلقاً، لا يؤثّر إلّا في الأعمال السابقة دون ما يأتي، و تزويج الباكرة بلا إذن أبيها أو تزويج من ارتضعت منه عشرة رضعات عمل واحد قد تمّ و معنى تماميتها كونه زوجها إلى أن تموت أو تطلَّق.

قد عرفت أنّ المحقّق ذكر في المسألة الثالثة فروعاً ثلاثة و قد فرغنا عن دراسة الفرعين الأوّلين و إليك

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 245

الفرع الثالث: لو حكم ثمّ تبيّن له الخطأ

لو ثبت عند القاضي ما يبطل حكمه الأوّل أبطله سواء كان من حقوق الله أو من حقوق الناس و في بعض الكلمات الماضية «1» إلماع إلى هذا الفرع، أضف إليه ما ننقله هنا:

1- قال ابن حمزة: فإن حكم بخلاف الحقّ سهواً أو خطأً ثمّ

بان له، رجع و نقض ما حكم به «2».

2- و قال ابن سعيد: إذا قضى بقضاء ثمّ بان له فساده نقضه. «3»

أقول: النقض لا يختصّ بصورة العلم بالخطاء بل يكفي الشكّ و التردّد في صحّة الحكم السابق فإذا حكم إنشاء لا استيفاء ثمّ عرض له الشكّ أو تبيّن الخطاء فليس له أن يرتّب الأثر على الحكم السابق لأنّ ما هو شرط ابتداءً شرط استمراراً أيضاً و لأجل ذلك لا يجوز الإفتاء بما شكّ في صحّته فالعلم و اليقين بصحّة الحكم من شرائط القضاء ابتداءً و استمراراً.

أضف إلى ذلك أنّه إذا طرأ عليه الشكّ ربّما يكون المورد من مصاديق درء الحدود بالشبهات.

و ليس المقام من موارد استصحاب الحكم السابق، لأنّه فيما إذا كان اليقين بالحدوث محفوظاً في ظرفه و تعلّق الشك بالبقاء و لكنّ الشك في المقام متعلّق بالحدوث فهو من مصاديق قاعدة اليقين و الشكّ الساري التي لا تشملها أدلّة الاستصحاب كما حرّر في محلّه.

كما لا تجري في المقام أصالة الصحّة إذا شكّ في الصحّة لا إذا تبيّن الخطاء

______________________________

(1) لاحظ كلام الشيخ في المبسوط، و ابن البرّاج في المهذّب، و العلّامة في الإرشاد و قد مضت نصوصهم.

(2) ابن حمزة: الوسيلة: 309.

(3) ابن سعيد: الجامع للشرائع: 529.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 246

و ذلك لأنّها إنّما تجري إذا لم تكن صورة العمل محفوظة و إلّا فلو كانت محفوظة و كانت الحالة السابقة و اللاحقة بالنسبة إلى اليقين و الشكّ سواسيه فلا تجري، كما إذا اغتسل في الحمام و لم يحرّك الخاتم الذي في يده، ثمّ شكّ بعد الفراغ عن العمل في جريان الماء تحته قهراً أو لا، فلا تجري أصالة

الصحّة التي يعبّر عنها بقاعدة الفراغ، إذ ليس هو حين العمل بأذكر من بعده و لذا لو التفت حين العمل، لشكّ مثل الشكّ بعد العمل. و المقام أيضاً كذلك لأنّه لو كان تبيّن له حين القضاء ما تبيّن له بعده، لشكّ في قضائه.

تمّ الكلام في المسألة الثالثة بفروعها الثلاثة.

المسألة الرابعة فيها فروع ثلاثة

قد جاء في هذه المسألة أيضاً فروع ثلاثة:
اشارة

1- ليس على الحاكم تتبّع حكم من قبله

2- لو زعم المحكوم عليه أنّ الحاكم الأوّل حكم عليه بجور لزمه النظر.

3- لو ثبت عنده ما يبطل حكم الأوّل، أبطله، سواء كان من حقوق الله أو من حقوق الناس.

أمّا الفرع الأوّل، فليس عدم وجوب التتبّع لأجل أصالة الصحّة في القضاء السابق

و لا لكونه تفتيشاً في عيوب الناس بل لأجل عدم الموضوع و هو التخاصم، إذا كان الغرض هو التصويب أو النقض و أمّا إذا كانت الغاية دراسة وضع القضاء فيما مضى، فهو أمر مباح لا دليل على وجوبه و لا على حرمته.

و أمّا الثاني: فلأنّ هذا الادّعاء دعوى جديدة أقامها المحكوم عليه على القاضي

، فيشمله إطلاق ما دلّ على قبول كلّ دعوى من مدّعيها.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 247

ثمّ إنّه لو ادّعى الجور في الأحكام، فهو ليس من موارد البيّنة حتّى يقال البيّنة للمدّعي، لأنّ مورد البيّنة هو الشبهات الموضوعية، و المفروض أنّ ادّعاء الجور فيها شبهة حكمية، فيجب على القاضي النظر في الحكم فإن كان حقّاً يقبله و إن كان باطلًا يردّه نعم لو كان مضمون الدعوى غير الجور في الأحكام، بل كان عدم اجتهاد القاضي، أو فسقه أو فسق الشهود فعليه حينئذ البيّنة و ما ربّما يقال من أنّ طلب الاستئناف ردّ لحكمه، غير مسموع إذ فرق بين إنكار الحكم مع الاعتراف بكونه على موازين القضاء المقرّرة و بين ردّه لعدم كونه على وفقها، بحيث لو كان موافقاً لقبله و مثل ذلك ليس ردّاً و لا تشمله المقبولة، و لأجل ذلك يصحّ الاعتراض سواء أ كان القاضي معزولًا أم لا.

و بذلك يظهر أنّ ما اشتهر أنّه لا استئناف في القضاء الإسلامي، فليس على إطلاقه لأنّه إن أُريد به، وجود دائرة للقضاء الابتدائي، و دائرة للاستئناف، و دائرة ثالثة للقضاء النهائي فالنفي حقّ، لأنّ الفقيه الجامع للشرائط لا تتحدّد مسئوليته بمرحلة خاصّة.

و إن أُريد أنّه إذا تمّ القضاء يصحّ للمحكوم، أن يعترض على القضاء البدئي من دون أن يوجّه شكواه إلى شي ء من العناصر المؤثرة في القضاء فالنفي أيضاً

حقّ.

و إن أُريد أنّ للمحكوم بعد صدور الحكم أن يعترض على أحد العناصر المؤثّرة فيه و أنّه لم يكن جامعاً للشرائط كعدم أهلية القاضي للقضاء، أو فسق الشاهدين أو الجور في الحكم أو غير ذلك، فالنفي غير صحيح لما عرفت من أنّ للمحكوم أن يعترض على القضاء و برفع شكواه إلى قاض آخر.

و سيوافيك الكلام في هذا الموضوع في المستقبل.

و أمّا الفرع الثالث: فهو مبني على كون الحقوقين من باب واحد

سواء كان هناك مطالب أو لا، و أمّا على ما هو المعروف من الفرق بينهما و أنّ الأوّل ليس

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 248

رهن مطالب بخلاف الثاني فيشكل النقض مع عدم المطالب.

و بما أنّ نظام القضاء قد وقع في قفص الاتّهام و اتّهم، بعدم الاستئناف الذي يعد اليوم من كمال النظام القضائي فلنردّ عنه سهام التهمة، بالبحث الموجز فيه.

الاستئناف في القضاء
اشارة

قد عرفت موقف القضاء الإسلامي في تجديد المرافعة و استئناف المحاكمة على وجه موجز و قد أجمل الفقهاء الكلام فيه و بذلك صار غرضاً لأعداء الإسلام فناقشوا نظام القضاء بأنّه فاقد لهذا الأصل الحيويّ في مهمّة القضاء، فإنّ القضايا المطروحة في المحاكم بين واضح بسيط لا يحتاج إلى قضاء مجدّد، و غامض معقَّد، تتوقّف إصابة الواقع إلى محاكمة من هو أبصر منه و أكثر تجربة و أعرف بالأصول و القوانين و على زعمهم ضرب الإسلام الجميع بسهم واحد و تعامل معهم معاملة واحدة.

و قد أفرطت المحاكم الدولية في العالم، حيث جعلوا لغالب القضايا مراحل متعدّدة و بذلك فوّتوا الوقت على أكثر المراجعين، حيث لا يتمّ القضاء النهائي إلّا بعد مرور سنين. فهل فرّط من نفى الاستئناف من رأس، و جعل لكلّ مرافعة، مرحلة واحدة؟!

و لنذكر أُموراً.
1- اختلاف كلمات الفقهاء

إنّ كلمات الفقهاء في ذلك مختلفة فالمحقّق النراقي، على النفي المطلق و صاحب الجواهر و السيّد الطباطبائي على التفصيل و إليك كلماتهم:

قال النراقي: لو ترافعا عند مجتهد و تمّ قضاؤه لا يجوز لهما الترافع عنده أو عند غيره ثانياً في هذه الواقعة مخصوصاً، و لو ترافعا لا يجوز للحاكم سماع الذي

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 249

فيه «1».

و قال صاحب الجواهر: بل ربّما يتوّهم عدم محلّ للدعوى و إن تراضى الخصمان بتجديدها عند الحاكم الثاني، و إن كان الأقوى خلافه، بل الأقوى نفوذ حكمه و إن اقتضى نقض الحكم الأوّل. «2»

و قال السيّد الطباطبائي: ليس للمحكوم عليه بعد تمام المرافعة و الحكم، مطالبة تجديدها عند حاكم آخر أو عند الأوّل و هل يجوز ذلك مع رضى الطرفين أو لا قولان: أقواهما الأوّل كما اختاره في

الجواهر إذ الظاهر عدم صدق ردّ الحكم خصوصاً إذا كان لاحتمال خطأ الحاكم لا سيّما إذا كان الحاكم أيضاً أراد تجديد النظر في مقدّمات الحكم. «3»

2- مورد البحث غير المواضع الثلاثة

إنّ محل البحث في غير الموارد التي يجوز فيه تجديد النظر و النقص عند تبيّن الخطأ في الحكم، بقسميه أو فساد اجتهاده أو عدم كون القاضي أهلًا و نحو ذلك، و إلّا فلا خلاف في جواز النقض.

3- الموانع الماثلة أمام تجديد المرافعة

إنّ الموانع الموجودة حول تجويز الاستئناف عبارة عن الأمور التالية:

أكون الاستئناف و تجديد المرافعة ينافي التسليم و القبول الذي أُمرنا به في المقبولة.

______________________________

(1) النراقي: المستند: 2/ 504، المسألة التاسعة من البحث الثالث في بعض الأحكام المتعلّقة بالقاضي.

(2) النجفي: الجواهر: 40/ 94.

(3) السيّد الطباطبائي: ملحقات العروة: 2/ 26 المسألة 31.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 250

ب ما أطبقوا عليه تبعاً للنصوص من أنّ حلف المنكر يذهب بحق المدّعي و إن كان محقّاً فلا تجوز له المقاصّة و لا التصرّفات الآخر. روي الصدوق بإسناده عن عبد الله بن أبي يعفور أنّ رسول الله قال: «من حلف منكم على حقّ فصدِّقوه، و من سألكم بالله فأعطوه، ذهبت اليمين بدعوى المدّعي و لا دعوى له» «1».

قال المحقّق: إنّ المنكر إمّا أن يحلف أو يردّ أو ينكل فإذا حلف سقطت الدعوى و لو ظفر المدّعي بعد ذلك بمال لم تحلّ له المقاصّة و لو عاود المطالبة أثم و لم تسمع دعواه.

لو أقام بيّنة بما حلف عليه المنكر، لم تسمع و أضاف في الجواهر قوله: «كما هو المشهور بل عن خلاف الشيخ و الغنية الإجماع عليه، و لا حقّ له فلا تكون البيّنة حجّة» «2».

ج ما ذكرناه من أنّه بعد القضاء لا موضوع (النزاع) على صعيد التشريع، و معه كيف تعمّه أدلّة القضاء العامّة و وجود النزاع في الأذهان ليس موضوعاً لها بل النزاع الذي لم يحكم عليه، و

لم يقطع و لم يفصَّل و بعد الحكم و القطع و الفصل، لا موضوع على صفحة التشريع حتّى تشمله الأدلّة.

هذه هي الجهات الماثلة أمام تجويز الاستئناف فلا بدّ من دراستها و الوقوف على مدى تأثيرها في منع تجديد النظر.

أ- تجديد النظر غير الاستنكار

أمّا المانع الأوّل، فالظاهر أنّ المراد من الردّ، هو الاستنكار و الإعراض عن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2 و لاحظ الباب 10.

(2) النجفي: الجواهر 40/ 173171.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 251

حكم القاضي متوجّهاً إلى التحاكم لدي الطواغيت و النزول في حكمهم و ذلك بشهادة أنّه جاء في صدر الحديث: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت و ما يحكم له، فإنّما يأخذ سحتاً و إن كان حقّاً ثابتاً، إلى أن قال: قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران من كان منكم من روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» فعند ذاك قال: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخف بحكم الله و علينا ردّ». «1»

فكم هو الفرق بين طلب تجديد النظر عند نفس القاضي أو قاض آخر ليحكم حسب الموازين الواردة في المقبولة و غيرها، و بين رفض حكم القاضي مستنكراً عليه، راجعاً إلى محاكم طاغوتية؟ و المحرّم هو الثاني دون الأوّل و تجديد النظر في الأوّل لأجل طلب الواقع أكثر ممّا كان، و في الثاني: لأجل القضاء لصالح أحد الطرفين أو لاستنكار النظام السائد، و الشاهد عليه وراء ما ذكرنا تمثيل المقام بأنّه على حدّ الشرك بالله و هو يناسب الرفض، لا طلب تجديد النظر لغاية إصابة

الواقع أكثر من الوضع الموجود.

ب- ذهاب الحقّ باليمين حكم ثانوي
اشارة

و أمّا الثاني: أي ذهاب الحقّ باليمين فهل المراد أنّ اليمين الكاذبة يذهب بالحقّ واقعاً و حقيقة و يصبح مال المدّعي، ملكاً للمنكر حقيقة لا سبيل إلى هذا أبداً و لا يتفوّه بذلك أحد من الفقهاء كيف و الرسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول: «إنّما أقضى بينكم بالبيّنات و الأيمان، و بعضكم ألحن بحجّته من البعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار» «2».

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 252

أو المراد الذهاب حسب الحكم القضائي الذي هو أشبه بالحكم حسب العنوان الثانوي فليس للمدّعي أخذ المال الذي حلف عليه المنكر كاذباً و لا المقاصّة عن دينه و لا التصرّفات الآخر، كل ذلك احتراماً للحلف و تكريماً للحكم، و إن كان خاطئاً أو كاذباً في الواقع، فيكون المقصود منه نفوذ حكمه و لزوم العمل به و ليس للطرفين و لا لطرف واحد، الاعتراض عليه. و يكون مفاده متّحداً مع مفاد المقبولة، فبما أنّ الذهاب لم يكن واقعياً بل ثانوياً، يدور نفوذ القضاء مدار وجود الموضوع فإذا نقض الحكم، و ارتفع، فيتبعه ما ترتّب عليه.

محاولات للجمع بين ذهاب الحق و تجديد النظر

1- لو افترضنا أنّ المتخاصمين اتّفقوا عند الرجوع إلى القاضي أن يكون لهما، أو لكلّ واحد منهما تجديد النظر بعد ذلك، فهل الروايات تدفع ذلك الاشتراط أو هي ساكتة منصرفة عن هذه الصورة أو افترضنا أنّه لم يكن منهما اتّفاق على هذا و لكن دائرة القضاء قسّمت القضايا المطروحة على قسمين، قسم يتمتّع

من تجديد النظر إذا رضي المتخاصمان، و قسم ليس له هذا الشأن، و نفترض أنّ المتخاصمين خاضا الترافع على ذلك الأصل، فهل يكون هذا النوع من الاشتراط أو الأصل المصوَّب، مخالفين للمقبولة، و بالتالي يكون مخالفاً للسنّة أو لا؟ الظاهر لا، لانصرافها عن هذه الصورة أي اتّفاق المتخاصمين على التجديد بعد القضاء. نعم لو كان لرواية ذهاب الدعوى باليمين إطلاق يعمّ حالة الاشتراط، أو الخوض في القضاء بانياً على الأصل المصوّب، يكون الاشتراط، أو البناء مخالفاً للسنّة و الشرط المخالف لها لا يكون نافذاً أو يختصّ الرجوع بما إذا كان الفصل بغير اليمين.

2- إذا كان المراد من الاستئناف هو تجديد المرافعة أي دعوة المدّعي لإقامة البيّنة، و المنكر للتحليف ثانياً كان لما ذكر وجه، و أمّا إذا كان المراد، تجديد النظر في الأسس التي قام الحكم عليها و صدر القاضي عنها فلو كان موافقاً للحق لزم

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 253

و إلّا أبطل، فعندئذ يدخل الموضوع فيما ذكره المحقّق في المقام حيث قال: «ليس على الحاكم تتبّع حكم من قبله و لكن لو زعم المحكوم عليه أنّ الأوّل حكم عليه بالجور لزم النظر ....

3- إذا تمّت عملية المحاكمة لدى القاضي و بان الحقّ لديه و اتّضح الباطل و لكن توقف عن إصدار الحكم و إنشائه حتّى تتمّ المحاكمة الثانية و إن استلزمت إقامة البيّنة من جديد، و التحليف ثانياً فعند ذلك إذا كانت النتيجة واحدة أنشأ الحكم و إلّا أمسك فيصحّ الاستئناف بناء على أنّ ذهاب الحقّ باليمين ليس أثر نفسها بل أثر الحكم الذي افترضنا عدم صدوره.

ج- النزاع غير مرفوع لدى الاشتراط

و أمّا الثالث و هو عدم الموضوع للقضاء بعد صدور

الحكم، فهو غير مرفوع إذا كان الترافع على وجه مشروط أو بناء على الأصل المصوّب لدى دائرة القضاء فإنشاء الحكم على هذا الأصل لا يقطع النزاع حتّى على صعيد التشريع و لهما، أن يطلبا بجديد النظر ثانياً.

على أنّ الإشكال يتمّ على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة و أمّا على الوجه الثالث، فالحقّ و إن تبيّن لدى القاضي الأوّل، و لكن الحكم الفاصل بعد لم يصدر و معه فالنزاع بعد باق، حتّى يتمّ القضاء النهائي. و الله العالم.

المسألة الخامسة: في الشكوى على قضاء القاضي

اشارة

الشكوى على قضاء القاضي إذا كانت جامعة للشرائط دعوى مسموعة و

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 254

ما ربّما يتوّهم من أنّ إقامة الدعوى على الفقيه المأذون إهانة لمقام الإمامة غير تام لأنّه لم ينصب رجلًا معصوماً للقضاء حتى تُعدَّ الشكوى إهانة عليه و على ضوء هذا فلو ادّعى أحد أن المعزول بل و غير المعزول قضى عليه بشاهدين فاسقين، فهو موضوع قابل للسماع و تحقيق الحقّ في المسألة يتوقّف على الكلام في موضعين:

الأوّل: في وجوب إحضاره مطلقاً حرّر المدّعي الدعوى أم لم يحرّر، أقام البيّنة أو لا.

الثاني: إذا أحضر فإن اعترف بما ادّعى عليه فهو و إن قال: لم أحكم إلّا بشهادة عدلين فهل يُكلَّف بالبيّنة أو باليمين أو يقبل قوله مطلقاً؟ و إليك الكلام في الموردين:

أمّا الأول: فإن أقام المدّعي بيّنة على مدّعاه فلا شكّ في وجوب الإحضار لكونها دعوى مسموعة تشملها إطلاقات أدلّة القضاء في الكتاب و السنّة، و إنّما الكلام إذا كانت الدعوى مجرّدة عن البيّنة فهل يجوز أو يجب الإحضار أو لا؟ وجوه:

1- السماع لاحتمال الإقرار أو تحليفه و هذا كاف في لزومه و هو خيرة المحقّق في

الشرائع «1» و العلامة في الإرشاد «2» و الشهيد الثاني في المسالك «3».

2- عدم السماع إمّا بنحو عدم الوجوب أو عدم الجواز. قال المحقّق الأردبيلي: قيل لا يجب، بل يمكن أن لا يجوز فإنّه موجب لهتكه، و زهد القضاة عن القضاء، و لأنّه أمين عام فالظاهر وقوع فعله على الوجه الشرعي «4».

______________________________

(1) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 76.

(2) العلامة الحلي، إرشاد الأذهان، 2/ 142.

(3) زين الدين العاملي، مسالك الافهام، 2/ 400.

(4) الأردبيلي مجمع الفائدة 12/ 88.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 255

3 التفصيل بين ذكر ما يُستعدى عليه و غيره. قال الشيخ في المبسوط: «فإن اسْتُعْدِيَ على حاكم كان قبله لم يحضره حتى يُبيّن ما يستعدى عليه لأجله احتياطاً للمعزول و خوفاً من الامتهان «1» و الابتذال» و هو خيرة العلّامة في القواعد، حيث قال: «و لو استعدى على الحاكم المعزول فالأولى للحاكم مطالبته بتحرير الدعوى صوناً للقاضي عن الامتهان فإذا حرّرها أحضره» «2».

4- استدعاؤه إلى داره. نقله في مفتاح الكرامة عن بعض العامّة، حيث أوجب على الحاكم إحضار ذي المروءة إلى داره دون مجلس الحكم. «3»

هذه هي الأقوال التي عثرت عليها و غير خفيّ على الفقيه النابه أنّ المقام من قبيل التزاحم فإنّ كون المدّعي مُحقّاً أمر محتمل كما أنّ الإهانة لذوي المروءات و الشخصيات المحترمة من غير فرق بين القاضي و غيره أمر محرّم قطعاً فيجب على الحاكم الإمعان و الدقّة فإن تفرّس من القرائن الموجودة حول المدّعي و المدّعى عليه و الحقّ الذي يدّعيه، أنّ الدعوى أمر واه فلا يرتّب عليه أثراً لانصراف أدلّة القضاء من مثله و إلّا فيحضره على وجه خال عن الإهانة.

و ربّما يحتجّ

على الإحضار بحضور الإمام علي عليه السلام في مجلس القضاء مع الخصم و لكنّه لا يصلح للاستشهاد على المقام لأنّ حضوره فيه مع كونه حاكماً أعلى، ما كان يزيده إلّا علواً و شأناً و لا يشينه بخلاف إحضار القاضي المعزول أو غيره إلى المحكمة.

و أمّا إذا لم يتفرّس ذلك و احتمل كون المدّعي محقّاً فعليه أن يحضره جامعاً بين الحقّين من غير فرق بين أن يحرّر الدعوى أو لا. نعم سيرة المحاكم الدوليّة على لزوم تحرير الدعوى و بدونه لا يترتّب عليها أثر.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل، و أمّا الأمر الثاني و هو كيفية الحكم إذا اقيمت

______________________________

(1) أمهن الشي ء: أي احتقره و أبتذله.

(2) فخر المحقّقين، الإيضاح، 4/ 322 قسم المتن.

(3) العاملي، مفتاح الكرامة، 10/ 58.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 256

الدعوى على أنّه قضى بشاهدين فاسقين فإليك الكلام فيه فننقل من الأقوال ما يفيدنا في المقام:

قال الشيخ في الخلاف: إذا عزل حاكم فادّعى عليه إنسان أنّه حكم على شهادة فاسقين و أخذ منه مالًا و دفعه إلى من سأل عن ذلك. فإن اعترف به لزمه الضمان بلا خلاف. «1»

و قال المحقّق: «فإن حضر و اعترف به الزم». إلى غير ذلك من العبارات. «2»

و الحقّ أن يقال: أنّه ضامن مع العلم بالفسق أو التقصير في طلب المزكّي حيث حكم بمجرّد الشهادة مع عدم ثبوت الحكم إلّا بالبيّنة العادلة. و أمّا لو كان خطأ يكون على بيت المال. روى الصدوق بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام إنّ ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين «3».

و لو كان هناك تدليس من الشهود

يستقرّ الضمان عليهم. هذا إذا أقرّ بفسق الشاهدين على النحو الذي عرفت و أمّا إذا لم يعترف فهناك أقوال:

1- يحلف القاضي لو لم يكن للمدّعي البيّنة

و إن أنكر كان على المدّعي، البيّنة «4» و إن لم تكن له بيّنة كان القول قوله مع يمينه و لا تجب عليه إقامة بيّنة على صفة المشهود. و هو خيرة الشيخ في

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف ج 3 كتاب القضاء المسألة 8.

(2) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 76.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(4) بيّنة المدّعي إنّما تنفع في ضمان القاضي إذا شهدت بعلم القاضي بفسقهما، و أما إذا شهدت بفسقهما وحده يكون الضمان على بيت المال.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 257

الخلاف «1» و نقله عن الشافعي أيضاً مستدلًا بأنّ الظاهر من الحاكم أنّه أمين كالمودع فلا يطالب بالبيّنة و يكون القول قوله.

1- و قد أفتى به الشيخ أيضاً في المبسوط لا في خصوص هذه المسألة (حَكَمَ بشاهدين فاسقين) بل في مطلق ما إذا اسْتُعدِيَ على الحاكم حيث قال: فإن اعترف الزم و إن أنكر قضى بينهما كما يقضى بينه و بين غيره. «2»

2- يُكلَّف القاضي بإقامة البيّنة
اشارة

يكلّف القاضي بإقامة البيّنة على ذلك، لأنّه قد اعترف بالحكم و نقل المال عنه إلى غيره (كما إذا كان مورد المرافعة ادّعاء الدين) و هو يدّعي ما يزيل ضمانه عنه فلا يقبل. و هو خيرة أبي حنيفة كما في الخلاف «3» و خيرة الشيخ في المبسوط قال: قال بعضهم يجب عليه إقامة البيّنة أنّه حكم بعدلين و هو الأقوى عندي لأنّه إذا اعترف بالحكم و نقل المال عنه إلى غيره، و هو يدّعي ما يزيل الضمان عنه فلا يقبل منه «4»، إلّا إذا ثبت أنّه قضى بعدلين.

يلاحظ عليه بأمرين:

أ: أنّ المدّعي و المنكر من المفاهيم العرفية الرائجة بين العقلاء فالمدّعي عندهم من لو ترك تُرك و هو لا ينطبق في المقام على القاضي. بل ينطبق على من ادّعى عليه و لو عرّف بمن خالف قوله الأصلَ أو الظاهرَ و هو أيضاً ينطبق على من استعدى عليه.

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3/ كتاب القضاء المسألة 8.

(2) الطوسي: المبسوط 8/ 102.

(3) الطوسي: الخلاف 3/ كتاب القضاء المسألة 8

(4) المبسوط 8/ 103.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 258

ب- ليس مطلق نقل المال موجباً للضمان فإنّ الوكيل يعترف بذلك و ليس بضامن بل إذا كان في النقل مفرطاً و الأصل عدمه. «1»

3- يُصدَّق بلا يمين

يُصدّق القاضي في ادّعائه بلا يمين لا لكونه أمين الشرع فيصان منصبه عن الامتهان و الابتذال كما في المسالك 2 بل لما مرّ في بحث عمل القاضي بعلمه من اتفاق الفقهاء على جواز عمله بعلمه في موارد تزكية الشاهدين، فإذا كان علمه في المورد حجّة فيكون إخباره عن ذلك حجّة أيضاً للملازمة كما لا يخفى.

اللّهم إلّا أن يقال علمه و ادّعاءه إنّما يكون حجّة إذا لم يكن القاضي طرفَ النزاع و أما إذا كان طرفاً له فلا و قد مضى الكلام فيه في محلّه.

المسألة السادسة: في شرطية التعدّد في المترجم و عدمها

اشارة

إذا افتقر الحاكم إلى مترجم فهل يكفي المترجم العدل الواحد، أو لا بدّ من التعدّد؟ المشهور هو التعدّد.

قال الشيخ في الخلاف: الترجمة لا تثبت إلّا بشهادة شاهدين لأنّها شهادة و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة و أبو يوسف: لا يفتقر إلى شهادة عدل بل تقبل فيه شهادة واحد لأنّه خبر، بدليل أنّه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة دليلنا أنّ ما اعتبرناه مجمع على قبوله، و ما ادّعوه ليس عليه دليل و قد اعتبر الشافعي لفظ

______________________________

(1) 1 و 2 زين الدين العاملي: المسالك 2/ 400.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 259

الشهادة في ذلك «1».

أقول: إنّ دليل الشيخ يرجع إلى الأخذ بالاحتياط و هو مرجع إذا لم يكن دليل اجتهادي يدلّ على كفاية واحد.

و قد طرحه في المبسوط من غير ترجيح أحد القولين قال:

فمن قال: الترجمة شهادة. ينظر فيما يُترجم عنه فإن كان مالًا أو في معناه ثبت بشهادة شاهدين، و شاهد و يمين، و إن كان ممّا لا يثبت إلّا بشاهدين كالنكاح و النسب و العتق و غير ذلك لم يثبت إلّا بشاهدين عدلين،

و إن كان حدّ الزنا فأصل الزنا لا يثبت إلّا بأربعة و الإقرار، قال قوم يثبت بشاهدين لأنّه إقرار و قال آخرون لا يثبت إلّا بأربعة لأنّه إقرار بفعل موجِب أن لا يثبت إلّا بما يثبت به ذلك الفعل كالإقرار بالقتل «2».

يلاحظ عليه: بأنّه لو افترضنا أنّ الترجمة من مصاديق الشهادة لكن ليس المشهود به هو الإقرار بالمال، حتّى يكتفي فيه بشاهد و يمين. و لا النكاح و النسب و العتق، حتّى لا يثبت إلّا بشاهدين، و لا الزنا حتّى لا يثبت إلّا بأربعة و الإقرار، بل المشهود به، هو إقراره بكذا و كذا، و أنّه يقول كذا و كذا، فلا يعتبر فيه إلّا ما يعتبر في ثبوت الإقرار. فإسراء حكم المقرّ به إلى الترجمة غريب جدّاً.

و على كل تقدير فهل الترجمة من مصاديق الشهادة فيعتبر فيها وراء التعدّد البلوغ و العدالة المفروغين عن اعتبارهما أو لا؟ و الظاهر في كلام المحقّق أنّه لم يتّضح عنده أنّها من أيتهما فأخذ بالقدر المتيقّن و قال: و لا يقتنع بالواحد عملًا بالمتفق عليه. و هو اللائح من كلام صاحب الجواهر حيث قال: إذا شككنا أنّه من موضوع الشهادة أو الرواية و لا أصل و لا إطلاق ينقّح أحدهما فيجري عليه حينئذ حكم الشهادة من التعدّد و لو لأنّه المتيقن بخلاف غيره.

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3/ كتاب القضاء، المسألة 9.

(2) الطوسي: المبسوط 8/ كتاب القضاء، 103.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 260

أقول: إنّ الشهادة من الشهود بمعنى الحضور قال سبحانه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185). و إنّما سمّى الشاهد، شاهداً، لأنّه يحضر الواقعة و يشاهدها و يعاينها، قال في اللسان: المشاهدة، المعاينة

و شهد شهوداً: حضره فهو شاهد، و الفرق بينه و بين الخبير أنّه إذا ضيف إلى الباطنة يقال: خبير و إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد «1».

و عرفت الشهادة بوجوه:

1- الشهادة خبر قاطع «2»

2- الشهادة الإخبار عن اليقين «3».

يلاحظ عليهما، أنّهما غير مطردين لانتقاضهما بإخبار العالم الفيزيائي عن تركّب عنصر الماء من جزءين، فهل تصحّ تسمية ذلك بالشهادة بحجّة أنّه خبر قاطع، أو إخبار عن اليقين.

3- إخبار جازم عن حقّ لازم لغيره «4».

يلاحظ عليه: أنّه لا يشترط في موردها وجود الحقّ كالشهادة على رؤية الهلال أو شهادة المقوّم على القيمة و القاسم على المقدار.

4- الخبر الصادر في مقام التوقّع و الانتظار فكلّ خبر كان مسبوقاً بسؤال محقّق أو مقدّر، بمعنى وقوعه في مقام انتظار شخص له كالهلال، هو شهادة و من ذلك تخرج الروايات عن الشهادة لأنّها إخبار ابتدائية غير مسبوقة بسؤال عن مضامينها تحقيقاً أو تقديراً. و على هذا تدخل الترجمة تحت الشهادة فيعتبر فيها التعدّد للإجماع على اعتباره فيها «5».

______________________________

(1) اللسان: 4/ 293 مادة «شهد».

(2) ابن منظور: اللسان 4/ مادة «شهد».

(3) ابن الأثير: النهاية 2/ مادة «شهد».

(4) زين الدين العاملي: المسالك 2/ 445.

(5) الرشتي: القضاء 1/ 117. نقله عن شيخه الأنصاري.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 261

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان هجوم العدو متوقعاً، و أخبر الرائد بقربه من البلد، فهل ترى أنّه يسمّى شهادة؟! لأجل كون المخبر به أمراً متوقّعاً.

5- الشهادة إخبار عن ثبوت الشي ء في مظانّ انكاره «1»

6- إنّ المرجع في تشخيص الشهادة عن غيرها هو العرف و لأجل ذلك تكون الترجمة تارة من قبيلها و أخرى من مصاديق الرواية. فإذا أريد بها إثبات ما يترتّب عليه

الحكم كشهادة الشاهد احتيجت إلى التعدّد، ضرورة أنّها حينئذ بمنزلة شهادة الفرع التي لا بدّ فيها من التعدّد لانّها شهادة حينئذ و حيث يراد منها بيان المراد في غير ذلك كانت رواية و تكفي فيها الواحدة و لعلّ منه بيان عبارة المقلَّد مثلًا لمقلِّديه أو بيان المراد من السؤال للمجتهد مثلًا ليذكر حكمه و نحو ذلك ممّا لا يعدّ شهادة بل هو قسم من الرواية و لو بالمعنى «2».

هذا ما قيل حول الشهادة و في المقام فنقول: إذا كانت الشهادة مأخوذة من الشهود بمعنى الحضور فلا بدّ أن يكون في المقام واقعة شهدها الشاهد و غاب عنها القاضي، و هل ترجمة مقاصد المترافعين أو الشاهدين داخل تحت تلك الضابطة، و هل هناك شاهد و حاضر، و غائب عن الواقعة؟!. اللهم إلّا أن يقال أن جهل القاضي باللغة جعله كالغائب عنها و هو كما ترى.

تحليل المسألة بوجه آخر

إذا لم نقل بوجود إطلاق أو عام يدلّ على حجّية الخبر العادل في جميع الموارد، أو قلنا بوجود أحدهما و لكن قلنا بأنّ الترجمة من مصاديق الشهادة، فلا

______________________________

(1) الآشتياني: القضاء: 60، نقله عن شيخه الأنصاري، و يبدو أن الكتابين تقريران لمحاضرات الشيخ الأعظم، غير أنّ المحقّق الرشتي أتى بلبّ المراد، و المحقّق الآشتياني بسط الكلام في المسائل.

(2) النجفي: الجواهر: 40/ 107.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 262

إشكال في اعتبار التعدّد.

و أمّا إذا قلنا بوجود إطلاق في دليل حجّيته من غير فرق بين الأحكام و الموضوعات، لكن خرج منه باب الشهادة و لكنّ الخارج مردّد بين الأقل و الأكثر أي بين شمولها للترجمة و عدمها، صارت الترجمة شبهة مصداقية للعام بعد التخصيص بالشهادة، و قد قلنا

في محلّه، بجواز التمسّك بالعام فيما إذا كان منشأ الشبهة في المصداق كون المخصّص دائراً بين الأقل و الأكثر كدوران الفسق بين ارتكاب الكبيرة أو هي و الصغيرة، فيصحّ التمسّك بعموم أكرم العلماء بعد التخصيص بإخراج الفاسق من العلماء.

نعم ذكر صاحب الجواهر أنّ الرواية و الشهادة نوعان متباينان و أنّ التعدّد مقوّم للشهادة، قال: وضوح التباين بين الرواية و الشهادة في العرف الذي هو المرجع في أمثالهما بعد معلومية عدم الوضع الشرعي فيهما و عدم الإجمال. و اعتبار التعدّد في موضوع الشهادة لا أنّه هو المميّز لها عن الرواية، و كون جنسهما الخبر لا يقتضي أنّها قسم منه بل هما نوعان متمايزان في العرف «1».

يلاحظ عليه: أنّه بعد تسليم كون الخبر جنساً للرواية و الشهادة، تكون الرواية بالمعنى اللغوي أيضاً جنساً للشهادة لا نوعاً مثلها، فإذا قال نبأ أو خبر أو رواية العادل حجّة، يعمّ كلامه الأحكام و الموضوعات و الشهادة، خرج عنه الأخير حيث يعتبر فيه التعدد، و مع الشكّ في الترجمة يتمسّك بعموم العام، على النحو الذي عرفت.

اللّهم إلّا إذا أراد من الرواية، المعنى المصطلح منها و هو الإخبار عن المعصوم في مجال الأحكام.

و على ذلك فالظاهر هو الاكتفاء بمترجم واحد. و مع ذلك كلّه ففي

______________________________

(1) النجفي: الجواهر 40/ 107.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 263

النفس من الاكتفاء به شي ء و هو أن اشتراط التعدّد في الشاهد في مورد، حاك عن عناية الشارع بثبوته عند القاضي بشخصين، فإذا اكتفينا بمترجم واحد في مورد التعدّد، يكون معناه أنّه اكتفى في ثبوت الموضوع بواحد و لو في الحلقة الأخيرة، و المترجم و إن كان لا يشهد إلّا على إقراره

و مفاد كلامه و لا يشهد على الزنا و لا السرقة إلّا أنّ القاضي يتوصّل إلى الواقع عن طريقه و معنى ذلك جواز توصّله إليه بشخص واحد و هو خلاف المطلوب فالأحوط لو لم يكن الأقوى هو التعدّد، كما عليه المحقّق و إن كان طريقنا إلى إثبات الحكم غير طريقه. و الله العالم.

المسألة السابعة: في صفات كاتب القاضي

إنّ القضاء غالباً لا ينفكّ عن كتابة دعوى المدّعي و خصوصياته، و إقرار الآخر أو إنكاره، و ما يرتبط بهما، فلأجل ذلك كانت القضاة من لدن زمان قديم يتّخذون كاتباً يكتب المحاضر و السجلات و ما يرجع إليهما فيقع الكلام في شرائطه فذكر المحقّق أنّه يشترط: أن يكون بالغاً، عاقلًا، مسلماً، عدلًا بصيراً ليؤمن انخداعه و إن كان مع ذلك فقيهاً كان حسناً. و أضاف صاحب الجواهر أن يكون جيّد الكتابة و ادّعى على هذه الشروط عدم الخلاف.

قال الشهيد الثاني: ينبغي للحاكم أن يتّخذ كاتباً لمسيس الحاجة إلى كتب المحاضر و السجلات و الحاكم لا يتفرغ لها غالباً و من المشهور أنّه كان لرسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كُتّاب و كذا لغيره من الخلفاء و يشترط أن يكون الكاتب بالغاً، عاقلًا، مسلماً عدلًا ليؤمن خيانته، عارفاً بما يكتبه من المحاضر. و غيرها لئلا يفسدها و يستحب أن يكون مع ذلك وافر العقل، عفيفاً عن المطامع الفاسدة لكيلا يخدع

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 264

من غيره بمال و غيره و أن يكون فقيهاً لا يؤتى من جهل و أن يكون جيّد الخط ضابطاً للحروف لئلا يقع في الغلط و الاشتباه و الأولى أن يُجلس الحاكم الكاتب بين يديه ليملي عليه و يشاهد ما

يكتب و لبعض الشافعية قول: إنّه لا يشترط فيه الإسلام و العدالة لأنّ القاضي لا يمضي ما كتبه حتى يقف ما عليه «1».

و إلى الكلام الأخير أشار صاحب الجواهر و قال: ربّما يقال بعدم الاشتراط. لأنّ ثمرة الكتابة تذكّر ما كان و إلّا فهي ليس بحجّة شرعاً و حينئذ فلا عبرة بشي ء من هذه الأوصاف ضرورة أنّه مع الذكر بها يجري عليها الحكم و إلّا فلا و إن كان الكاتب بالأوصاف المذكورة. نعم معها غالباً تحصل الطمأنينة إلى ما يجري عليها الحكم.

و أورد عليه: بأنّ ثمرتها لا تنحصر فيما للتذكّر فيه مدخلية بل قد تكون مراسلة إلى القضاة و غيرهم، و أمراً و نهياً فيما يكون فيه زيادة و نقيصة و تغيير و تبديل فلا بدّ أن يكون معتمداً عليه و هو فرع هذه الأوصاف «2».

أقول: يرد عليه مضافاً إلى ما ذكره أنّه كلام من لم يمارس القضاء إذ لا يمكن للقاضي أن يعتمد على ذاكرته في كلّ صغير و كبير، بل لا بدّ أن يعتمد على السجلات و التقارير المكتوبة المؤرخة و مع ذلك فكيف يمكن أن يعتمد على الكاتب غير الأمين و إلا لزم الفوضى و اختلال نظام القضاء كما هو معلوم للممارس.

و على ضوء هذا نمنع أوّلًا عدم حجّية ما سجّله الكاتب العدل بقلمه و بَنانه مع إطلاق أدلّة حجّية خبر العادل من غير فرق بين قوله و كتابته و على ذلك جرى العقلاء في أمورهم و معايشهم.

و ثانياً: على فرض التسليم إنّ القاضي ربّما يتردّد، فيما ضبطته ذاكرته،

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 400.

(2) النجفي: الجواهر 40/ 110109.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 265

فبالرجوع إلى السجلات،

يتذكّر ما تردّد فيه فيعود إلى ذاكرته ما ذهب و غاب مؤقّتاً. و الرجوع إنّما يكون مفيداً إذا كان الكاتب عادلًا، بخلاف ما إذا كان غير ثقة فلا يعينه حتى في إعادة ما نسيه موقتاً.

نعم لا يشترط أن يكون فقيهاً بل يكفي كونه عارفاً بكيفيّة كتابة التقارير و ادّعاء الشهود و إذا كان القاضي مملياً، فربّما يكفي كونه عارفاً بالكتابة و إن لم تكن له ممارسة في كتابة السجلات و المحاضر.

و على كل تقدير فالذكر الحكيم يشترط في كاتب الدين العدالة و يقول: (وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ) (البقرة/ 282)، فكيف يصحّ نفي لزومها في كاتب المحاضر و السجلات و التقارير التي ليست في الأهميّة بأقلّ منها؟!

المسألة الثامنة: في عدالة الشاهدين

اشارة

اتّفق المسلمون تبعاً للذكر الحكيم، في اشتراط العدالة في الشهود و لم يخالف فيه أحد، قال سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ) (الطلاق/ 2)

و الآية واردة في الطلاق لكن الحكم العدل الذي أمرنا به في قوله سبحانه: (وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/ 58). لا يتحقّق غالباً إلّا أن تكون الشهود عدولًا تصدّ عدالتهم عن الشهادة على خلاف الحقّ مضافاً إلى ورود الأمر بالقضاء بالبيّنة العادلة في الروايات «1».

نعم إنّ هناك بحوثاً في عدالة الشاهدين اطرحها المحقّق في هذه المسألة و نحن نقتفيه.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 266

1- لزوم التحقيق في هويّة الشاهد

قال: الحاكم إن عرف عدالة الشاهدين حكم، و إن عرف فسقهما، أطرح و إن جهل الأمرين بحث عنهما.

لا شكّ في أنّه تؤخذ، بالشهادة في الأولى و تطرح في الثانية، إنّما الكلام في لزوم البحث عن هويّة الشاهد إذا كانت مجهولة و هل هو من واجبات الحاكم أو لا؟ و استدلّ عليه بالخبر المروي عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري و فيه بعد كلام: «إذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير و لا شرّ قال للشهود: أين قبائلكما؟ فيصفان، أين سوقكما؟ فيصفان، أين منزلكما؟ فيصفان، ثمّ يقيم الخصوم و الشهود بين يديه ثمّ يأمر فيكتب أسامي المدّعي و المدّعى عليه، و الشهود، و يصف ما شهدوا به، ثمّ يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار ثمّ مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه ثمّ يقول ليذهب كل واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما و أسواقهما و محالهما و الربض الذي ينزلانه

فيسأل عنهما ...». «1»

و الرواية ضعيفة سنداً لا يحتجّ بها.

و استدلّ صاحب الجواهر بوجه آخر من دلالة إطلاق الأمر بالحكم بالبيّنة العادلة، لزوم الفحص عن وجود الموضوع كما هو الحال في لزوم الفحص عن دخول الوقت للصلاة أو وجود الماء للطهارة.

يلاحظ عليه: أنّ ظاهر قولهم: «البيّنة للمدّعي»، أنّ إقامة البيّنة عليه، و من وظائفه فيجب عليه إحضار المزكّي إذا كانا مجهولين لدى القاضي خصوصاً إذا كانت التزكية متوقفة على السفر إلى محلّ الشاهدين، في النقطة البعيدة.

و مع ذلك كلّه لو كان تحصيل العلم بعدالة الشاهدين أمراً سهلًا للقاضي،

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 267

لم يبعد وجوبه عليه و قد قلنا بذلك في وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إذا كان تحصيل العلم بوجود الموضوع، أمراً سهلًا، إذ لا يظهر من الأدلّة، أنّ فريضة المدّعي أزيد من إحضار من لو تفحّص القاضي عنه فحصاً يسيراً، لوقف على عدالتهما. و إلّا لزم عليه الاكتفاء بمن عرفه من ذي قبل. و هو موجب لصدّ باب القضاء إذ ليس القاضي في كلّ زمان يعرف وجوه الناس و أوساطهم فضلًا عمّن هو في درجات نازلة عنهم، و الحقّ أنّ الفحص على القدر الميسور من وظائف القاضي.

2- إذا أحرز إسلامه و شكّ في فسقه
اشارة

قد عرفت أنّ مجهول الهوية و إن علم إسلامه لا يمكن القضاء به و لا بدّ من الفحص و التفتيش إذا كان ميسوراً و إلّا أقفل باب القضاء إذا اكتفى القاضي بعلمه السابق بالمشهود.

غير أنّه اشتهر عن الشيخ بأنّه إذا علم إسلامه و جهل فسقه يقضى به و ربّما يفسر كلامه بأنّ العدالة المعتبرة في الشهود ليست إلّا هذا:

«علم إسلامه و لم يعلم فسقه». و لو صحّت النسبة يكون معنى ذلك أنّه لو كان فاسقاً واقعاً و لم يعلم فسقه فهو فاسق و عادل و هو نفس القول باجتماع الضدّين، فإنّ الفسق و العدالة من الصفات النفسانية المتقابلة لا تجتمعان أبداً و قد ينسب هذا القول إلى بعض قدماء الشيعة كابن الجنيد، و المفيد، و أظنّ أنّ مقصود الشيخ غير هذا و أنّه يقول بكون الإسلام مع عدم ظهور الفسق طريق إلى العدالة المعتبرة.

و تحقيق الحقّ يتوقف على البحث في مقامين:

1- هل الاختلاف بين الشيخ و غيره في مفهوم العدالة المعتبرة في الشاهد جوهري أو لا؟

2- و على فرض عدمه فهل الإسلام مع عدم ظهور الفسق طريق إلى العدالة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 268

أو لا؟

أ: هل الاختلاف في مفهوم العدالة جوهري؟

لا بدّ في تحقيق النسبة نقل عبارة الشيخ برمّتها.

قال الشيخ في الخلاف: إذا شهد عند الحاكم شاهدان يُعرف إسلامهما، و لا يُعرف فيهما جرح، حكم بشهادتهما، و لا يقف على البحث إلّا أن يجرح المحكوم عليه فيهما بأن يقول: هما فاسقان فحينئذ يجب عليه البحث.

و قال أبو حنيفة: إن كانت شهادتهما في الأموال و النكاح و الطلاق و النسب كما قلناه، و إن كانت في قصاص أو حدّ لا يحكم حتّى يبحث عن عدالتهما.

و قال أبو يوسف و محمّد و الشافعي: لا يجوز له أن يحكم حتّى يبحث عنهما فإذا عرفهما عدلين حكم و إلّا توقف في جميع الأشياء و لم يخصّوا به شيئاً دون شي ء.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضاً الأصل في الإسلام العدالة، و الفسق طار عليه يحتاج إلى دليل، و أيضاً نحن نعلم أنّه ما كان البحث

في أيّام النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و لا أيّام الصحابة، و لا أيام التابعين، و إنّما هو شي ء أحدثه شريك بن عبد الله القاضي فلو كان شرطاً ما أجمع أهل الأمصار على تركه. «1»

و حاصل الآراء المنقولة في عبارة الشيخ عبارة عن:

1- القضاء بشهادة المسلم الذي لم يعرف جرحه مطلقاً و هو مختار الشيخ.

2- التفصيل بين الأموال و النكاح و الطلاق و النسب، و بين الحدّ و القصاص فلا يقبل في الثاني و هو خيرة أبي حنيفة.

3- عدم القبول مطلقاً و هو خيرة الشافعي، و تلميذي أبي حنيفة: أبي يوسف و محمّد بن الحسن الشيباني.

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3/ 312، كتاب القضاء، المسألة 10.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 269

4 استدلّ الشيخ بأنّ الفحص ممّا أحدثه شريك بن عبد الله القاضي و لم يكن في زمان النبي و الصحابة و التابعين منه أثر.

أمعن النظر في عبارة الشيخ فهل هو بصدد تفسير العدالة، أو أنّه جعل الإسلام مع عدم ظهور الفسق دليلًا على العدالة بالمعنى المعروف بين الأصحاب، كما أنّ بعضهم جعل «حسن الظاهر بمعنى الخلطة المطلعة على أنّ ما يظهر منه حسن، من دون معرفة باطنة» طريقاً إليها. «1» و يؤيد الثاني ذيل كلامه حيث نسب الفحص إلى شريك بن عبد الله القاضي و أنّه لم يكن منه خبر في عصر الصحابة و التابعين، و هذا يدلّ على أنّه يكفي في كشف العدالة، إحراز الإسلام المقرون بعدم ظهور الفسق، و لا يلزم الفحص لا أنّه نفس العدالة و أوّل من نبّه بذلك المحقّق البهبهاني في كلام له نذكر منه ما يلي:

«و المراد بالاكتفاء بالإسلام أو حسن الظاهر

كونهما طريقين جعليين من الشارع إلى العدالة التي هي ملكة من الملكات، و صفة من الصفات، نظير سائر الطرق الشرعية كالبيّنة و فعل المسلم و أصالة الطهارة لا أنّ العدالة عبارة عنهما كما توهّمه جملة من المتأخرين حيث زعموا، أنّ الاختلاف في المقام راجعة إلى حقيقة العدالة و إنّها الملكة، أو الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر. «2»

ثمّ إنّ صاحب المسالك نسب قول الشيخ في الخلاف، إلى صريح ابن الجنيد، و ظاهر المفيد في كتاب الأشراف «3» و لم يحضرني كتاب الاشراف حتى أُلاحظ المنقول، و لكن صريحه في كتاب المقنعة خلافه قال: العدل من كان معروفاً بالدين و الورع عن محارم الله تعالى. «4»

و أمّا ابن الجنيد، فالمنقول منه في كتاب «المختلف» خلافه قال: «فإذا كان

______________________________

(1) لاحظ الجواهر: 40/ 113، نعم هو فسر العدالة بنفس هذا المعنى المذكور.

(2) المحقّق الرشتي: القضاء 118، نقلًا عن المحقّق البهبهاني.

(3) زين الدين، المسالك: 2/ 401.

(4) المفيد، المقنعة: 112.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 270

الشاهد حرّاً، بالغاً، عاقلًا، مؤمناً، بصيراً، معروف النسب، مرضياً، غير مشهور بكذب في شهادة، و لا بارتكاب كبيرة و لا مقام على صغيرة، حسن التيقّظ، عالماً بمعاني الأقوال، عارفاً بأحكام الشهادة غير معروف بحيف على معامل، و لا متهاون بواجب من علم و عمل، و لا معروف بمعاشرة أهل الباطل، و لا الدخول في جملتهم، و لا بالحرص على الدنيا و لا بساقط المروءة، بريئاً من أهواء البدع التي توجب على المؤمنين البراءة من أهلها، فهو من أهل العدالة المقبول شهادتهم. «1»

و بالجملة ما نسب إلى ظاهر الشيخ، في الخلاف من تفسير العدالة بما ذكر غير صحيح

و على فرض الصحّة لم يذهب به أحد من علمائنا و لم يذكره في كتاب النهاية «2» و المبسوط «3» إذ فسّرها في الأُولى قريباً ممّا في رواية ابن أبي يعفور، و في المبسوط بما تقدّم من ابن الجنيد. و الحقّ ما ذكره المحقّق البهبهاني في تفسير كلامه.

ب- هل الإسلام مع عدم ظهور الفسق طريق إلى العدالة؟

إذا تبيّن أنّ اختلاف الشيخ ليس في معنى العدالة، يقع الكلام في كونه طريقاً إلى العدالة المعتبرة فيها، فقد استدلّ له بوجوه:

الأوّل: ما ذكره في الخلاف: «الأصل في الإسلام العدالة و الفسق طارئ عليه، يحتاج إلى دليل» و هذه العبارة تحتمل وجوهاً أوضحها وجهان: أحدهما يرجع إلى استصحاب حكم قبل البلوغ و الآخر يرجع إلى التمسّك بأصالة الصحّة في فعل المسلم.

أ إنّ الأصل في كلّ مسلم العدالة، بالنظر إلى ما قبل بلوغه، و الفسق أمر طارئ يحتاج إلى دليل و الأصل عدمه.

______________________________

(1) المختلف، كتاب القضاء، المسألة 4، قال العلّامة و ظاهر كلامه يوافق كلام الشيخ في المبسوط، لاحظ المبسوط: 8/ 217 و لا حاجة لنقل كلامه في المبسوط بعد الاتّحاد.

(2) الطوسي، النهاية: 325.

(3) الطوسي، المبسوط: 8/ 179.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 271

يلاحظ عليه: بأنّه أصل مثبت، فإنّ استصحاب عدم الفسق لا يثبت كونه عادلًا، لأنّه بمنزلة نفي أحد الضدّين و إثبات الضدّ الآخر، على أنّ الثابت قبل البلوغ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع و هو التكليف، و الثابت في الآن اللاحق، هو السالبة بانتفاء المحمول و استصحاب السالبة بانتفاء الموضوع لغرض اثبات السالبة بانتفاء المحمول من أوضح مصاديق الأُصول المثبتة.

ب الأصل في المسلم أن لا يخلّ بواجب و لا يفعل محرّماً و قد فسّر ابن إدريس العدل بأنّه الذي لا يخلّ

بواجب و لا يرتكب قبيحاً. «1»

يلاحظ عليه: أنّه على فرض صحّة الأصل لا يثبت به وصف العدالة، غاية الأمر يجب حسن الظن بالمسلم بأنّه ما يخلّ بواجب و لا يرتكب محرّماً، و لا يثبت بهذا التعبّد بعنوان العدالة.

ثمّ إنّه ربّما يفسّر كلام الشيخ بكون الإسلام و العدالة مترادفين و هو باطل لا تصحّ نسبته إلى الشيخ، فلأجل ذلك ضربنا عنه و عن مثله صفحاً.

الثاني: اطلاق قوله سبحانه: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) (البقرة/ 282) حيث اكتفى بكون الشاهد من المسلمين و لا يحمل على قوله: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) لعدم حجّية مفهوم الوصف.

يلاحظ عليه: أنّ التقييد ليس مبنياً على وجود المفهوم للوصف، بل مبني على الجمع العرفي بين الدليلين و ليس القيد منحصراً بآية الطلاق بل جاء في آية الوصية و كتابة الدين.

قال سبحانه: (إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) (المائدة/ 106).

و قال سبحانه: (وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ) (البقرة/ 282).

______________________________

(1) الحلي: السرائر: 1/ 280، كتاب الصلاة، أحكام صلاة الجماعة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 272

و قال سبحانه: (أَوْ لٰا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) (البقرة/ 282).

و لا يمكن القول باختصاص القيد بالوصية و الدين فإنّ أمر الأوّل مبني على السعة و لأجل ذلك يقبل قول غير المسلم عند فقدان المسلم إذا شهد حين الوصية كما في الآية، فإذا كانت معتبرة فيها ففي غيره بطريق أولى.

الثالث: ظاهر قوله سبحانه: (إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات/ 6). و ظاهره التثبّت فيما إذا بان الفسق، و القبول في ما عداه.

يلاحظ عليه: أنّ الخارج هو

الفاسق الواقعي و مجهول الهوية مردّد بين البقاء تحت العام و الخروج عنه و دخوله تحت المخصّص و في مثل ذلك لا يتمسّك بالعموم لأنّه تمسّك به في الشبهة المصداقية له بعد التخصيص.

الرابع: الروايات الواردة في المقام و هي بين غير صريح أو ضعيف السند، نظير:

1- مرسلة يونس بن عبد الرحمن عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ، أ يحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال: «خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، و المناكح، و الذبائح، و الشهادات، و الأنساب، فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه».

و رواه الشيخ إلّا أنّه قال: يقضي بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم. و ترك الأنساب و ذكر بدلها المواريث.

قال الشيخ الحرّ العاملي: «قد عمل الشيخ و جماعة بظاهره و ظاهر أمثاله، و حكموا بعدم وجوب التفتيش، و حملوا ما عارضه ظاهراً على أنّ من تكلّف التفتيش عن حال الشّاهد يحتاج أن يعرف وجود الصفات المعتبرة هناك، و على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 273

أنّه إذا ظهر شي ء من الأمور المذكورة ممّا ينافي العدالة لم تقبل الشهادة و إن كان لا يجب الفحص، و الّذي يفهم من الأحاديث الكثيرة عدم وجوب التفحّص و أنّ الأصل العدالة، لكن بعد ظهور المواظبة على الصلوات، و عدم ظهور الفسق». «1»

يلاحظ عليه: مضافاً إلى ضعف سنده أنّه لا دلالة فيها على مطلوب الشيخ من كون الإسلام مع عدم ظهور الفسق طريقاً إلى العدالة بل هو بصدد بيان أنّ قول الشاهد المأمون ظاهراً حجّة و إن لم نعلم مصدر

علمه، فاشتراط العلم بمصدر علمه أو عدم اشتراطه، هو مورد العناية في الرواية لا تحديد العدالة، على أنّ قوله: «ظاهراً مأموناً» دليل على القول الثاني و هو أنّ حسن الظاهر بالمعنى الذي مضى، طريق إلى العدالة و هو غير مختار الشيخ.

2- روى الصدوق باسناده عن العلاء بن سيّابة قال: سألت أبا عبد الله عن شهادة من يلعب بالحمام، قال: «لا بأس إذا كان لا يُعرف بفسق» «2»، و سند الصدوق إلى العلاء بن سيّابة صحيح. و أمّا العلاء نفسه فلم يوثّق و لم يرد فيه مدح. و الاحتجاج به غير تام.

3- روى الصدوق بسند متّصل إلى علقمة قال: قال الصادق عليه السلام و قد قلت له: يا بن رسول الله أخبرني عمن تُقْبل شهادتُه و من لا تُقبل؟ فقال: «يا علقمة كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته إلى أن قال: فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر، و شهادته مقبولة، و إن كان في نفسه مذنباً». 3

أقول: لا بأس بصدر السند لكنّه ينتهي إلى صالح بن عقبة و هو مردّد بين الأسدي و غيره و لم يرد فيهما توثيق، و إلى علقمة و هو أيضاً كذلك و الخبر غير صالح للاحتجاج.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 3، 4.

(2) 2 و 3 الوسائل: ج 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 6 و 13.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 274

4- عن سلمة بن كهيل قال: سمعت علياً يقول لشريح: ... و اعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض إلّا مجلود في حدّ لم يَتُب

منه أو معروف بشهادة الزور و ضنين «1».

و في السند إرسال، إذ فيه: الحسن بن محبوب عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه عن سلمة بن كهيل، و الأوّل من الطبقة السادسة و الثاني من الطبقة الثالثة، و من البعيد أن يروي الحسن بن محبوب الذي هو من أصحاب الرضا عن عمرو بن أبي المقدام و هو عمرو بن ثابت من أصحاب الإمام السجاد و الباقر و الصادق عليهم السَّلام قال النجاشي: روى عن علي بن الحسين و أبي جعفر و أبي عبد الله عليهم السَّلام و له كتاب لطيف، توفّي الإمام الصادق عام 148، و تولّد الحسن بن محبوب عام 150، و توفّي عام 224.

على أنّ أبا المقدام و هو ثابت بن هرمز لم يرد فيه توثيق و لا مدح و لأجل ذلك لا يصحّ الاحتجاج بالحديث.

5- صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدل منهم اثنان و لم يعدل الآخران فقال: إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً و أُقيم الحدّ على الذي شهدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا و علموا، و على الوالي أن يجيز شهادتهم إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق «2».

و الرواية و إن كانت صحيحة تامّة الدلالة، لكن الاعتماد عليها مشكل لأمرين:

1- أنّها موافقة لرأي أبي حنيفة «3»، الكاشف عن وجود رأي مثله في عصر

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 18.

(3) مضى رأيه نقلًا عن الخلاف.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 275

صدور الرواية.

2- إنّها

معارضة بروايات أكثر عدداً، و أوضح سنداً.

فإن قلت: إنّ أكثر ما استدلّ على قول الشيخ و إن كان قابلًا للمناقشة من حيث السند أو المتن إلّا أنّ المجموع من حيث المجموع قابل للاحتجاج لأنّ بعضه يشدّ بعضاً كما هو الحال في سائر المقامات.

قلت: نعم لو لا أنّ الروايات المعارضة، أقوى سنداً و أكثر عدداً و أوضح مضموناً و قد عمل بها المشهور و أعرض عن مخالفه.

نعم ما نذكره من الروايات المعارضة لا يُركّز على عنوان واحد و لكنّ الجميع متّفق على عدم جواز الاكتفاء بالإسلام مع عدم ظهور الفسق بل يجب أن يتمتَّع الشاهد بعنوان وراء ذاك و إليك هذه العناوين و هي بين إيجابي و سلبيّ أمّا الأوّل فإليك بيانه:

1- إذا علم منه خير

روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس». «1»

2- إذا كان عفيفاً صائناً

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً». «2»

3- إذا كان صالحاً

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 8. و الحديث 1 من الباب 39 من أبوابها. و حمل الخير على الإسلام بعيد خصوصاً في الحديث الأخير إذ يقول: إذا علم منهما بعد ذلك (الإسلام) خير جازت شهادتهما أي الذمي بعد الإسلام و العبد بعد العتق.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 10.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 276

روى العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: قلت فالمكاري و الجمّال و الملاح فقال: «و

ما بأس بهم تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء». «1»

4- أن يكون عادلًا

روى ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال قلت: بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج ...». «2»

روى عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلًا». «3»

روى محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام في شهادة المملوك إذا كان عدلًا فانّه جائز الشهادة إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك عمر بن الخطّاب. 4

فعلى ضوء هذه العناوين الوجودية يشترط أمر غير الإسلام و عدم ظهور الفسق كما أنّ هناك روايات تشترط عدم بعض العناوين المضرّة، ككونه فاسقاً، أو ظنّيناً و متّهماً و غير ذلك و إليك الإشارة إلى تلكم العناوين.

5- أن لا يكون فاسقاً

روى محمد بن قيس عن أبي جعفر في حديث إنّ عليّاً عليه السلام قال: «لا أقبل شهادة الفاسق إلّا على نفسه». 5

6- لا يكون متّهماً و ظنّيناً

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 34 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 41، من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 23 من أبواب الشهادات، الحديث 1 و 3 و لاحظ الحديث 6 من الباب 1 و 5 من الباب 12 من أبواب كيفية الحكم.

(4) 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 277

روى عبد الله بن سنان قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما يردّ

من الشهود قال: فقال: الظنين و المتّهم قال قلت: فالفاسق و الخائن قال: ذلك يدخل في الظنين. «1»

ثمّ إنّ الروايات الواردة في ردّ شهادة بعض الأصناف أزيد ممّا ذكرنا فلا تقبل شهادة فحّاش و لا ذي مخزية في الدين و من يبتغي على الأذان و الصلاة بالناس أجراً، و المريب، وذي شحناء إلى غير ذلك من العناوين الواردة في البابين 32 و 33 من أبواب الشهادات في الوسائل و أكثرها يدخل تحت عنوان الفاسق، و الجميع متّفق على اشتراط أمر زائد، و هو العدالة، لكن بعد تقييد أوسع العناوين بأضيقها كما لا يخفى.

و أمّا ما هي العدالة المشترطة فهل هي ملكة التجافي عن جميع الكبائر و الرادعة عنها على ما هو المشهور؟ أو هي عبارة عن حسن الظاهر بمعنى الخلطة المطلعة على أن ما يظهر منه حسن من دون معرفة باطنة كما عليه صاحب الجواهر. «2» و المحقّق الآشتياني في كتاب القضاء «3»؟ فهذا هو الذي نبحث عنه في كتاب الشهادات عند البحث عن صفات الشهود التي رابعها: العدالة فانتظر. «4» و بذلك نستغني عن البحث حول قول المحقق في المقام: «و لا يجوز التعويل في الشهادة على حسن الظاهر».

3- لو تبيّن فسق الشاهدين

إذا حكم الحاكم بعد إحراز العدالة، ثمّ ظهر فسق الشهود في زمان الإقامة أو زمان الحكم المتّصل زمانه بزمان إقامة شهادتهما، نقض حكمه، مثل ما لو تبيّن فسوقهما قبل الإقامة المتّصل بزمان إقامتها، لفقدان الشرط (العدالة) واقعاً المستلزم

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب الشهادات، الحديث 1 و لاحظ الحديث 2، 3، 5، 6.

(2) النجفي: الجواهر: 41/ 113.

(3) الآشتياني: كتاب القضاء: 65.

(4) كتاب الشهادات: النظر الأوّل في صفات الشهود.

نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 278

لفقدان المشروط و هو الحكم الصحيح و لا يختصّ جواز النقض بقول المشهور، القائل بشرطيّة العدالة حين الإقامة بل يعمّ قول الشيخ أيضاً القائل بكفاية إحراز الإسلام مع عدم ظهور الفسق، و ذلك لأنّه إنّما يكتفي به إذا لم يظهر الخلاف كما هو اللائح من عبارة الخلاف الماضية. قال ابن حمزة: «فإن حكم على ظاهر الإسلام ثمّ بان له فسقهما نقض الحكم» «1».

ثمّ إنّ إطلاق النقض باعتبار الظاهر و أمّا حسب الواقع فلا حكم حتى يُنقض و على كل تقدير إنّ جواز النقص مبنيّ على كون العدالة، شرطاً واقعياً، لا شرطاً علمياً و ذلك لانصراف الأدلّة إلى أنّ العدالة بوجودها الواقعي شرط فقوله سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و قوله عليه السلام: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة ...» «2» مثل قول القائل: «إذا غسلته في الكرّ» في أنّ الموضوع هو العدل الواقعي كالكرّ الواقعي، لا المحرز منهما و إن لم يكونا كذلك.

أضف إلى ذلك أنّ أخذ العدالة شرطاً في الشاهد ليس أمراً تعبّديّاً بل لأجل صدِّه عن اقتراف الكذب و شهادة الزور و من المعلوم أنّه لا يترتّب إلّا على وجودها الواقعية لا الذهنية.

نعم ذهب الأصحاب في باب صلاة الجماعة إلى كونها شرطاً علمياً و ذلك لما رواه على بن أبي راشد عن أبي جعفر الجواد عليه السلام، أنّه قال: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه» «3» و رواه الشيخ في التهذيب مضيفاً إليه كلمة «و أمانته» مستظهرين بأنّ المتبادر منه هو كون الشرط هو الوثوق الذي هو أمر قلبي لا واقعي. و لكن الاستظهار في غير محلّه، و ذلك لأنّ المتبادر من أمثاله،

هو كون

______________________________

(1) الوسيلة: 210. و لاحظ كلام الشيخ في المبسوط: 8/ 249.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

(3) الوسائل: الجزء 5، الباب 10 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 279

العلم مأخوذاً على وجه الطريقية لا الموضوعية و بما أنّ في المسألة دليلًا غير هذا، نقول بما ذهب إليه المشهور من كفاية إحراز العدالة في صحّة الجماعة لا في المقام.

ثمّ إنّ كونها شرطاً واقعياً يتصوّر على وجوه:

1- أنّها شرط في حقّ القاضي فقط فلو وقف على فسقهما نقض حكمه، و إلّا يكفي إحرازه و إن كان خطأ في وجوب ترتيب الأثر على آخرين فليس لهم حقّ النقض و إن علموا فسق الشاهدين، مثلًا إذا طلق القاضي عند شاهدين و قد أحرز عدالتهما و إن كانا فاسقين عند الآخرين، يجب عليهم ترتيب الأثر و المعاملة معها معاملة المطلّقة.

2- شرط في حقّ كل من له صلاحية القضاء فلو قضى بشاهدين و قد أحرز عدالتهما، و لكن ثبت عند الآخرين فسقهما، جاز لهم النقض لأنّ علمهم بفسقهما كعلم القاضي به في كونه مجوّزاً للنقض.

3- شرط في حقّ جميع المكلفين من غير فرق بين من له القضاء و غيره و كون العامي عاجزاً عن إحراز شرائط العمل بالبيّنة، لا يكون سبباً لعدم توجّه الخطاب إليه، كما أنّ عدم تمكّنه من إحراز شرائط العمل بالخبر الواحد الوارد في الأحكام، لا يكون سبباً عن انصراف الخطاب عنه غاية الأمر ينوب القاضي و المجتهد عنه فيما يعجز لا فيما لا يعجز فإذا وقف العامي على فسق الشاهدين فله نقض حكم القاضي أخذاً بعموميّة الخطاب.

لكن لا سبيل إلى

الاحتمال الثالث: لما أفاده المحقّق الرشتي من أنّه يترتّب عليه من المفاسد التي لا يظنّ بالتزام أحد إيّاها مثل سماع قول كلّ من يتمرّد من قبول حكم الحاكم و إن لم يكن من أطراف المرافعة مدّعياً فسق الشهود فلا يكون علم غير الحكّام بفسق الشهود مؤثراً في جواز النقض و حينئذ يدور الأمر بين القولين و الأظهر هو القول الثاني فلا يجب عليهم إنفاذ الحكم المستند إلى البيّنة الفاسقة، إذا كانوا عالمين لها.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 280

نعم قلنا ليس للعامي نقض الحكم و إن كان من أطراف المرافعة لكن للمحكوم عليه، جرح الشهود قبل الحكم، أو إقامة الدعوى على القاضي بأنّه حكم بشاهدين فاسقين، أو لم يتفحّص عن الجارح، و لكنّه غير صلاحيّة كلّ المكلّفين، بنقض الحكم كما لا يخفى.

و هل الفسق حال الحكم كالفسق حال أداء الشهادة أو لا؟ ذكروا فيه وجهين:

قال الشيخ: و إذا حكم بشهادتهما بظاهر العدالة عنده نفذ حكمه، فلو ثبت أنّهما فاسقين حين الحكم بشهادتهما لم ينقض الحكم و الأوّل أحوط عندنا، و الثاني تدلّ عليه رواياتنا، غير أنّه إذا علم أنّهما كانا فاسقين حين الشهادة نقض حكمه «1».

أقول: لا شكّ في عدم تأثير الفسق بعد الحكم إنّما الكلام في تأثير الفسق الطارئ بعد الإقامة، و قبل الحكم ففيه وجهان. و الظاهر كفاية وجود العدالة حال الأداء التي تصدّه عن الكذب و الشهادة بالزور، و إنّ زلّ قدمه بعد الأداء، إذ لا تأثير لبقاء عدالته بعد الأداء. ثمّ إنّ المحقّق طرح في المقام بأنّه «لا يجوز التعويل في الشهادة على حسن الظاهر» و سيوافيك البحث عنه في كتاب الشهادات فانتظر.

4- في تزكية الشاهد أو جرحه

إذا قامت البيّنة

و لم تعرَف حالُها توقّف القاضي عن الحكم، حتّى تعلَم هويّة الشاهدين بالفحص عن حالهما حتّى يقف على تعديل أو جرح فهناك فروع:

أ: ينبغي أن يكون السؤال عن هويّة الشاهد من حيث العدالة و الفسق سرّاً

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط 8/ 105104.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 281

من غير أن يعلم الشاهد.

ب: هل يكفي في التعديل و الجرح الإطلاق أو لا بدّ من التفسير؟

ج: يفتقر التعديل إلى المعرفة الباطنة المتقادمة.

د: لا يفتقر الجرح إلى تقادم المعرفة.

أمّا الأوّل: فينبغي أن يكون سرّاً، من غير اطّلاع الشاهد، لأنّه يكون أبعد من التهمة إذ لو كان التحقيق بحضوره، أو مع اطّلاعه ربّما توقف المزكّي أو الجارح عن بيان الواقع فربّما يزكي خوفاً أو حياء، بخلاف ما إذا كان بعيداً عن حضوره أو اطّلاعه.

قال الشيخ: و يكون المسألة عنه سرّاً لأنّه ليس المقصود هتك الشهود، فإذا كان جهراً ربّما انكشف عليه ما يُفتضح به، و لأنّه إذا كان جهراً ربّما توقّف المزكّي عن ذكر ما يعرفه فيه حياء، و مراعاة حقّ، و لأنّه قد يخاف المشهود عليه .... «1»

و أمّا الثاني: فالأقوال فيه خمسة:

1- ما نسب إلى المشهور من كفاية الإطلاق في العدالة و لزوم التفسير في الجرح.

2- من لزوم التفسير في كلا الأمرين و هو خيرة الشهيد في المسالك.

3- من كفاية الإطلاق فيهما و استحسنه الشهيد الثاني فيما إذا كان المزكّي مقلّداً للحاكم أو موافقاً معه في أسباب الفسق و كفاية الإطلاق أيضاً خيرة الجواهر.

4- يلزم التفسير في التعديل دون الجرح على خلاف ما هو المشهور نسبه في المسالك إلى العلّامة.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 107.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص:

282

5- يكفي الإطلاق إذا كان المزكّي و الجارح عالمين بأسبابهما و إلّا لزم ذكر السبب فيهما. «1»

و لنذكر بعض كلمات الفقهاء في المقام:

1- قال الشيخ: فإذا ثبت أنّ الجرح مقدّم على التزكية فإنّه لا يقبل الجرح إلّا مفسّراً و يقبل التزكية من غير تفسير و قال قوم يقبل الأمران معاً مطلقاً و الأوّل أقوى عندنا لأنّ الناس يختلفون فيما هو جرح و ما ليس بجرح، فإنّ أصحاب الشافعي، لا يُفسِّقُون من شرب النبيذ و مالك يفسقه و من نكح المتعة في الناس من فسّقه، و عندنا أنّ ذلك لا يوجب التفسيق، بل هو مباح مطلق، فإذا كان كذلك لم يقبل الجرح إلّا مفسّراً لئلا يجرحه بما هو جرح عنده و ليس عند القاضي، و يفارق الجرح التزكية لأنّ التزكية إقرار صفة على الأصل فلهذا قبلت من غير تفسير، و الجرح إخبار عمّا حدث من عيوبه، و تجدّد من معاصيه فبان الفصل بينهما. «2»

2- و قال في الخلاف: لا يقبل الجرح إلّا مفسّراً، و تقبل التزكية من غير تفسير و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة: يقبل الأمران مطلقاً فقاس الجرح على التزكية. دليلنا: الناس يختلفون فيما هو جرح و ما ليس بجرح فيجب أن يفسّر فإنّه ربّما اعتقد فيما ليس بجرح، أنّه جرح، فإذا فسّره عمل القاضي بما يقتضي الشرع فيه من تعديل أو جرح. «3»

و قال المحقّق: و تثبت (العدالة بالشهادة بها) مطلقة و لا يثبت الجرح إلّا مفسّراً. «4»

و قال ابن سعيد: و لا يقبل الجرح إلّا مفسّراً بخلاف العدالة. «5»

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 403402 و الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 76 و قد ذكر أقوالًا أربعة.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/

109.

(3) الطوسي، الخلاف: 3 كتاب القضاء، المسألة 13.

(4) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 77.

(5) ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 530.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 283

و قال العلّامة: و يفتقر المزكّي إلى المعرفة الباطنة المفتقرة إلى تكرّر المعاشرة و لا يجب التفصيل و في الجرح يجب التفسير على رأي. «1»

و على كلّ حال فقد قيل إنّ المشهور هو الاكتفاء بالإطلاق في التعديل دون الجرح و استدلّ له بوجوه:

1- إنّ العدالة لا تتحقّق إلّا بفعل أُمور كثيرة و ترك أُمور مثلها، غير أنّ ذكرها موجب للعسر فلا محيص من الإجمال بأن يقول: رأيته مواظباً على الطاعات و ترك المحرّمات زماناً معتدّاً، و أمّا إيجاب التفصيل فيؤول إلى تعطيل الأحكام و ليس ذلك في الجرح و يكفي فيه ذكر اقتراف معصية واحدة. «2»

يلاحظ عليه: إذا كان المراد من التعديل الإجمالي هو قول المزكّي أنّه عادل يكون المراد من التعديل التفصيلي، قريباً ممّا يلي: عاشرت معه فترة مطلعة و رأيت أنّه كان يواظب الواجبات و يترك المحرّمات و ما يعدّ خلاف المروءة. و ليس التكلّم بمثل ذلك أو بأكثر منه أمراً معسوراً على أنّ كونه معسوراً يوجب سقوط المقدار المعسور، لا أصل التفصيل.

2- إنّ الجارح قد يتبنّى الجرح عن ظنّ خطأ، و اشتباهاً و نسياناً.

يلاحظ عليه: أنّه أمر مشترك بين العدالة و الجرح، و ربّما يحكم بقيامه بالواجبات و ترك المحرّمات عن خطأ و عن اشتباه و نسيان.

3- إنّ المذاهب فيما يوجب الفسق مختلفة فلا بدّ من البيان ليعمل القاضي باجتهاده.

يلاحظ عليه: أنّ الاختلاف في سبب الفسق يقتضي الاختلاف في أسباب العدالة فإنّ الاختلاف مثلًا في عدد الكبائر كما يوجب في بعضها ترتّب

الفسق على

______________________________

(1) العلّامة الحلّي، إرشاد الأذهان: 2/ 141.

(2) زين الدين العاملي، المسالك 2/ 402، مجمع الفائدة: 12/ 76.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 284

فعله، يوجب في بعض آخر عدم قدحه في العدالة بدون الإصرار عليه فيزكّيه المزكّي مع علمه بفعل ما لا يقدح عنده فيها و هو قادح عند الحاكم.

و الحاصل أنّه لو كان سبب التفصيل في الجرح هو احتمال الاشتباه و السهو في ارتكاب الخلاف، أو اختلاف العلماء في أسبابه فهما أمران مشتركان لا ينحصر بالجرح و لأجل ذلك يصبح التفصيل المشهور أمراً غير تام.

و أضعف منه القول الرابع المنسوب إلى العلّامة من لزوم التفصيل في العدالة، دون الجرح.

و مثله القول الخامس من التفصيل بين وحدة النظر بين المزكّي و القاضي فيكفي الإطلاق، و إلّا فيجب عليه التفصيل مطلقاً. و ذلك لأنّه خارج عن محلّ النزاع كما هو اللائح من كلام المحقّق الأردبيلي. «1»

فبقى القولان و هو الاكتفاء بالإجمال مطلقاً، أو التفصيل مطلقاً. و الظاهر هو كفاية الأوّل و ذلك بوجوه:

الأوّل: أنّ الأصل هو حمل عبارة الشاهد على الواقع و إن كان هناك اختلاف بينه و بين القاضي، من غير فرق بين الموضوعات الصرفة الخارجية كالماء و التراب و النار و الرماد و الهلال و البدر، أو الموضوعات الاعتبارية المتعلّقة للأحكام كالملكيّة و الحرّيّة و الزوجيّة و البيع، سواء كان هناك اختلاف في أسبابها كما في هذه الأمثلة، أو في مفاهيمها كالعدالة و الفسق و ذلك إمّا لعموم حجّية قول العدل إلّا إذا علم الاستناد في الشهادة إلى الأسباب الفاسدة، أو لأُمور غير صحيحة كالجرح بما ليس بخارج عند القاضي و إمّا لاعتبار حمل الفعل على الصحيح الواقعي،

كما هو المحقّق في باب أصالة الصحّة فإذا شكّ في صحّة عمل، و لو مع العلم بالاختلاف بين الفاعل و الحامل، يحمل على الصحّة.

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 76.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 285

و لأجل ذلك يسمع قول الشاهد إذا شهد بالتطهير و التنجيس و البيع مع وجود الاختلاف في أسبابها.

الثاني: إنّ قدح عمل في عدالة الشاهد تابع لاعتقاده أنّه قادح فيها أولا اجتهاداً، فلو فرضنا انّ الجارح أطنب في الكلام و ذكر شيئاً قادحاً للعدالة عنده و وصل إليه القاضي و لم يعلم كونه قادحاً عند الشاهد كبيع الدهن الذي لاقى عرق الجنب من حرام لاحتمال اعتقاده بطهارته اجتهاداً أو تقليداً و إن كان نجساً عند الجارح و القاضي فالتفصيل في الجرح لا يوصله إلى عقيدة الشاهد التي هي الملاك في كون العمل قادحاً أو لا.

و بذلك تعلم حال ما ذكره المحقّق الآشتياني في المقام قال ما هذا حاصله:

إنّ معنى حجّية قول العادل هو نفي الكذب عنه و أمّا جعل ما أخبر به، أمراً واقعاً في الخارج فهو ممّا لا يستفاد من أدلّة الحجّية لاحتمال الاشتباه في الإخبار فلا بدّ من الرجوع إلى الأدلّة الأُخر فحينئذ إذا كان المخبر به أمراً حسيّاً كنقل الراوي كلام الإمام. يجري الأصل المتّفق عليه، و هو أصالة عدم الخطأ في الحقّ و عدم الاشتباه في الرواية و الحسّ.

و أمّا إذا كان حدسياً فإن كان ما أخبر عنه نفس الحكم الشرعي كإخبار المجتهد عن الحرمة و الوجوب فهو ممّا قام الإجماع على وجوب تصديقه في حقّ المقلّد.

و أمّا إذا كان المخبر به، الموضوع الذي تعلّق به الحكم الشرعي و كان طريق ثبوته مختلفاً

فيه حسب اعتقاد المجتهدين كما في الفسق فلا يجب فيه تصديق العادل حتّى يشهد تفسيراً حتّى ينتقل الحاكم في كلامه إلى نفس ما انتقل إليه المزكّي. «1»

______________________________

(1) الآشتياني، كتاب القضاء: 67.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 286

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلًا: أنّ لازم ذلك عدم قبول الشهادة على الزوجيّة و الملكيّة التي تختلف فيها أنظار العلماء من حيث الأسباب حيث إنّهما و إن كانا ينتهيان إلى الأسباب الحسّية لكن لأجل اختلافهم في أسبابهما لا يجب فيه تصديق العادل حتى يشهد تفسيراً لينتقل الحاكم من كلامه إلى نفس ما انتقل إليه الشاهد بهما.

و ثانياً: أنّ اختلاف الجارح و القاضي في كون عمل معصية كبيرة عند الجارح و معصية صغيرة عند القاضي لا يكون مؤثراً في المقام، و إنّما المؤثر اعتقاد الشاهد الفاعل في كونها صغيرة أو كبيرة اعتقاداً ناشئاً عن اجتهاد أو تقليد فلا فائدة في وصول القاضي إلى نفس ما وصل إليه المزكّي، بل لو وجب التفصيل يجب أن يكون على وجه يصل القاضي إلى عقيدة الشاهد بالنسبة إلى الفعل الذي ارتكبه، هل كان يراه محرّماً أو مباحاً و المفروض أنّ التفصيل في المقام لا يوصل القاضي إليه.

الثالث: صحيح يونس بن عبد الرحمن عن بعض رجاله عن أبي عبد الله: خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم: الولايات، و التناكح، و المواريث، و الذبائح، و الشهادات ... «1» و قد تقدّم أنّ مفاد الحديث بشهادة ذيله أعني: «و لا يسأل عن باطنه» هو قبول شهادة الشاهد و الأخذ بظاهر قوله من دون لزوم السؤال عن مصدر شهادته و سببها.

و أمّا الثالث و الرابع تقادم المعرفة في التعديل و الجرح

و عدمه فقال المحقّق: تفتقر العدالة إلى المعرفة الباطنة المتقادمة و لا يحتاج الجرح إلى تقادم المعرفة و ذلك لأنّ العدالة سواء فسّرت بالملكة أو بحسن الظاهر، لا يثبت إلّا بالمعرفة المتقادمة أمّا الملكة فواضح و أمّا حسن الظاهر، فإنّ المراد عدم رؤية شي ء منه سرّاً و جهراً إلّا الحسن و هو يتوقّف على مرور زمان. و أمّا الجرح فيكفي العلم بموجب الجرح كالكذب أو الغيبة و لو مرّة واحدة من غير تقادم المعرفة.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 22 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 287

اعلم أنّ دخول التعديل و الجرح في باب الشهادة، غير دخولهما في باب الدعاوي التي يعتبر فيها التعدّد و الظاهر جواز الاكتفاء فيهما بواحد من المزكّي و الجارح.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 1، ص: 287

توضيحه: أنّا قوّينا في محلّه «1» حجّية خبر العدل في الأحكام و الموضوعات، خرج عنه باب الدعاوي لقوله: إنّ البيّنة للمدّعي و اليمين على المدّعى عليه «2» و مثله ما اعتبر الشارع في ثبوته التعدّد كالهلال، و القدر المتيقّن من هذه الروايات ما يدخل في عنوان الادّعاء، فيرجع في غيره إلى عموم حجّية خبر العدل، اللّهمّ إلّا أن يتأمّل في كفاية العدل الواحد بما تقدّم في كفاية المترجم الواحد فلاحظ.

5- في اختلاف المزكّي و الجارح

إنّ اختلاف المزكّي و الجارح على قسمين:

تارة يرجع الاختلاف إلى وقوف واحد منهما على ما لم يقف عليه الآخر من دون أن يكون هناك تكذيب من أحدهما بالنسبة

إلى الآخر، و أُخرى إلى التكاذب، بأن يخطِّئ كلّ الآخر، و يكذّبه، و لأجل ذلك يعبّر المحقّق عن الأوّل بالاختلاف و عن الثاني بالتعارض و إليك بعض النصوص.

قال الشيخ في الخلاف: «إذا شهد اثنان بالجرح و شهد آخران بالتعديل وجب على الحاكم أن يتوقّف و قال الشافعي: يعمل على الجرح دون التعديل. و قال أبو حنيفة: يقبل الأمران فيقاس الجرح على التذكية. دليلنا إذا تقابل الشهادتان و لا ترجيح لأحد الشاهدين وجب التوقف. «3»

قال المحقّق: و إذا اختلف الشهود في الجرح و التعديل، قدّم الجرح لأنّه

______________________________

(1) السبحاني، كلّيات في علم الرجال: 160159.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(3) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب القضاء، المسألة 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 288

شهادة بما يخفى على الآخرين، و لو تعارضت البيّنتان في الجرح و التعديل قال في الخلاف: توقّف الحاكم و لو قيل يعمل على الجرح كان حسناً. «1»

أقول: لا بدّ من البحث في موردين: فتارة في اختلاف المزكّي و أُخرى في تعارضهما.

أمّا الاختلاف، فإن كان على وجه الإطلاق بأن يقول المزكّي، عادل و الجارح أنّه فاسق، فوجه تقديم الجارح، لعدم وجود التعارض بينهما، لأنّ الأوّل يدّعي أنّه ذو ملكة رادعة و أنّه لم يرَ منه طول المعاشرة، أيّة معصية، و الجارح لا ينكر الملكة، غاية الأمر يدّعي أنّ الميول النفسانية غلبت عليها و أنّه رأى منه ما يوجب الفسق فهو يدّعي شيئاً لا يدّعيه المزكي، لا أنّه ينكره.

و ربّما يعكس الأمر، فالمزكّي يدّعي ما لا يدّعيه الآخر، كما إذا قال الجارح: صدر منه يوم كذا معصية، قال المزكّي: لكنّه تاب عنه في مشهد منّي ثمّ

مارسته و خالطته بعد ذلك فوجدته ذا ملكة بعدها و لم يصدر منه ما ينافيها، و بذلك يظهر أنّ إطلاق كلام المحقّق أنّه يقدّم الجارح ليس بتامّ. لا بدّ أن يقال: يقدّم قول من يدّعي شيئاً لا يدّعيه الآخر بمعنى لا يكذّبه فهو تارة ينطبق على قول الجارح و أُخرى على قول المزكّي.

أمّا إذا كانت الشهادة بنحو التعارض كأن شهد الجارح بفعل المعصية في وقت و مكان كذا و شهد المزكّي بأنّه كان في ذلك الزمان في غير ذلك المكان و كان متفرغاً للعبادة مثلًا.

ففيه وجهان:

الأوّل: ما عرفته من الشيخ من التوقّف و ذلك لأنّ مقتضى القاعدة في تعارض الأمارات هو سقوطهما عن الحجّية. لا الرجوع إلى المرجّحات لأنّ الأصل

______________________________

(1) الشرائع: 4/ 77.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 289

فيما شكّ في اعتباره من الظنون استقلالًا و ترجيحاً هو عدم الحجّية، لأنّه لا فرق في الاحتجاج بين الاستقلال، أو الترجيح و ادّعاء أنّ سيرة العقلاء في المقام على متابعة أقرب الطريقين إلى الواقع و أرجحهما، غير ثابت بل الظاهر هو السقوط. نعم خرج باب الأحكام الشرعية ففيه يرجع إلى المرجّحات أخذاً بالنصوص كالمقبولة و غيرها، ثمّ إنّ الشيخ الطوسي عبّر عن سقوطهما بالتوقّف و أمّا ما ذا يصنع القاضي بعد التوقف فسيوافيك المراد منه.

الثاني: ما ذكره المحقّق من أنّه: «لو قيل يعمل على الجرح كان حسناً» و أيّده في الجواهر باعتضاد بيّنة الجارح بأصالة عدم حصول سبب الحكم فيبقى المنكر مثلًا حينئذ على حجّته بلا معارض. ضرورة عدم الفرق في العمل بين الجرح الثابت و بين عدم ثبوت العدالة. «1»

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ الأصل عند التعارض مرجع لا مرجّح فلا

يصحّ قوله: «باعتضاد بيّنة الجارح بالأصل» لما قد حقّق في الأُصول من أنّ الترجيح فرع وحدة الرتبة بين المرجّح وذي الترجيح، و ليس الأصل في درجة البيّنة.

و ثانياً: أنّ المرجع بعد التعارض هو قوله: «و اليمين على المدَّعى عليه» فتصل النوبة إلى الاستحلاف من دون حاجة إلى اعتضاده بالأصل المزبور. فتترك بينة المدّعي لأجل تعارض التذكية الجرح و يطلب من المنكر في الواقعة، اليمين.

هذا و الظاهر أنّ الثمرة بين القولين: (التوقّف أو العمل بقول الجارح) يظهر في صورة واحدة، و هي تفسير التوقّف في كلام الشيخ، بالتوقّف المطلق و ترك القضاء و دعوة الطرفين إلى المصالحة، فعلى قول الشيخ يرجع إلى المصالحة و على قول المحقّق يعمل بمقتضى قول الجارح و هو استحلاف المنكر.

و أمّا إذا قلنا إنّ مراد الشيخ، هو التوقّف عن القضاء ببيّنة المدّعي، لا التوقّف عن القضاء على وجه الإطلاق فيلزم العمل بمقتضى إنكار المنكر

______________________________

(1) النجفيّ: الجواهر: 40/ 122121.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 290

أعني: «و اليمين على المدَّعى عليه»، فتكون النتيجة على كلا القولين واحداً.

و يظهر من الجواهر ترجيح المعنى الأوّل و هو التوقّف عن الحكم أصلًا حتّى بيمين المنكر الذي لم تعلم حجّيته في هذا الحال باعتبار وجود بيّنة المدّعي و إن كان لا عمل عليها باعتبار معارضتها ببيّنة الجرح و حينئذ يكون ميزان الحكم مجهولًا لانسياق الأدلّة في غير هذا الفرض فيرجع إلى الصلح أو غيره. «1»

يلاحظ عليه: لا وجه لانصرافها عن هذه الصورة إذ المتقدّم من بيّنة المدّعي على يمين المنكر، هو الحجّة منها و التي يصلح للاحتجاج و أمّا ما لا يصلح له، و كان إقامتها و عدمها سيّان فلا تكون

مانعاً من الرجوع إلى مقتضى إنكار المنكر و هذا مثل ما إذا أقام بيّنة لم تعرف بعدل أو غيره.

المسألة التاسعة: في تفريق الشهود

إذا أُقيمت البيّنة على المدّعى. فإن كان القاضي عالماً بصدقها أو ظانّاً به أو غير واقف بشي ء من صدقها و كذبها، فيقضي بها إذا طلب المدّعي صدور الحكم و لا يجوز التأخير الحاكي عن المساهلة في الانتصاف و أخذ الحقّ و دفعه لذيه.

إنّما الكلام إذا كانت هناك ريبة في شهادة الشهود و مظنّة على كذبهم، إمّا لاحتمال تواطئهم على التزوير، أو لالتباس الأمر عليهم لأجل افتقادهم البصيرة اللازمة و الذهن القويّ. فهل يجوز له القضاء بحجّة اكتمال أركان القضاء أو يلزم عليه التثبت إلى أن ترتفع الريبة بظهور سيماء الحقيقة؟ الظاهر هو الثاني و ذلك لوجهين:

الأوّل: انصراف عمومات القضاء و خصوص ما دلّ على أنّ البيّنة للمدّعي و اليمين على المدّعى عليه عن مثل هذه الصورة التي يتمكّن القاضي من رفع

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 40/ 121.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 291

الغشاء و التزوير عن وجه الحقيقة بطريق سهل غير عسير.

الثاني: ما ورد في الآيات و الروايات من لزوم القضاء بالحقّ قال سبحانه: (يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ) (ص/ 26) فالواجب هو القضاء بالحقّ مهما أمكن، و لا شكّ أنّ التثبّت في المقام و التحقيق عن صدق مقالهم أو كذبه، أقرب إلى الحقّ من التسرّع إلى القضاء فيكون واجباً.

و بذلك يظهر أنّه لا حاجة في إيجاب التثبّت إلى الاستدلال بعمل دانيال، أو داود عليهما السَّلام إذا كانت نفس أدلّة القضاء كافية في إثباته حتّى يستشكل بنسخ شرائعهم بشريعتنا، و يجاب بأنّه

لا ينافي الأمر ببعض ما كان عندهم، إذ المسلَّم منعه التعبّد بشرعهم من حيث إنّه مشروع عندهم لا مطلقاً. «1» و ذلك لأنّ ما ذكره من الإشكال و الجواب تبعيد للمسافة بعد إمكان استفادة ذلك من نفس الأدلّة.

و من طرق التثبت هو تفريق الشهود تارة، و المتّهمين أُخرى و قد قام بهما علي عليه السلام فتارة فرّق الشهود، و استنطق كلّ واحد بعيداً عن الآخر كما في قصّة يتيمة شابّة تربّت في بيت رجل و خافت امرأة الرجل من أن يتزوّجها (زوجها) فرمتها بالفاحشة و أقامت البيّنة من جاراتها «2» و أُخرى فرّق المتّهمين بالقتل، المنكرين له كما في حديث جماعة خرجوا إلى السفر فرجع الجميع إلّا واحد منهم، فرفع ابن المفقود الشكوى إلى أمير المؤمنين قال: هؤلاء النفر خرجوا و أبي معهم في السفر فرجعوا و لم يرجع إليّ فسألتُهم عنه، فقالوا مات فسألتُهم عن ماله فقالوا ما ترك مالًا فقدّمتهم إلى شريح فاستحلفهم، و قد علمت أنّ أبي خرج و معه مال كثير فقال أمير المؤمنين عليه السلام: و الله لأحكمنّ بينهم بحكم ما حكم به قبلي إلّا داود، إلى

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 40/ 122.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 19 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 292

آخرها. «1»

و يستفاد من الروايات بعد التأمّل فيها عدم اختصاص التثبت بالتفريق بل للحاكم التوصل إلى معرفة الحقّ بما يراه في ذلك الوقت مما لا ينافي الشرع و عليه لو كانت للحكومة دائرة خاصّة تسجّل أسماء الجانين و هويّاتهم ففي إمكان القاضي الاستعانة من ملفّاتهم أو غير ذلك من الطرق المبيّنة للحق. كما استعان علي عليه السلام

بالتكبير، و إراءة السيف و ما عرّف به نفسه إلى غير ذلك كما ورد في الروايتين.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني خصَّ التفريق بما قبل الاستزكاء إن احتيج إليه «2» و أضاف إليه في الجواهر فقال: «بل ظاهره حتى مع الريبة لعدم ثبوت مانعيتها عن الوزن بالميزان الشرعي الموضوع للوزن به بين الناس» «3» و معنى ذلك أنّه بعد الاستزكاء يسقط التثبت سواء كان هناك ريبة أو لا. و لكن الظاهر، عدم اختصاصه بما قبل الاستزكاء فإنّ عروض الريبة، مطلقاً يصدّ الفقيه عن التمسّك بالعمومات، لما عرفت من حديث الانصراف، أو لزوم القضاء بالحقّ مهما أمكن كما أنّ له التفريق من أوّل الأمر عند سماع الشهادة و إن لم تكن ريبة لإطلاق قوله تعالى: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) (البقرة/ 282).

و تصوّر كونهم عدولًا بالاستزكاء يُغني عن التثبت و يرفع الريبة مدفوع بأنّ العدالة تصدّ صاحبها عن الكذب غالباً و لكن ربّما يصير مغلوباً للميول النفسانية، و بذلك يظهر أنّه ربّما يكون التثبت واجباً لا مستحبّاً و يصبح التفرق المحقِّق له مثله في الحكم، نعم الوجوب يتعلّق بالعنوان و هو التثبُّت، و التفريق و كلّ ما يحقّقه مصداق له.

ثمّ إنّ المحقّق ذكر في المسألة الرابعة عشرة، ما يعدّ تكميلًا لما ذكر في المقام و سيوافيك نصُّه هناك.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 20 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 402.

(3) النجفي: الجواهر: 40/ 123.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 293

المسألة العاشرة: ما هو المعتبر في الجرح و التعديل؟

المعروف بين المتأخّرين أنّه يشترط في مستند الشهادة على الجرح العلم أو الشياع الموجب للعلم بخلاف الشهادة على العدالة.

قال المحقّق: لا يشهد شاهد بالجرح إلّا مع المشاهدة لفعل

ما يقدح في العدالة أو أن يشيع ذلك في الناس شياعاً موجباً للعلم و لا يعوّل على سماع ذلك من الواحد و العشرة لعدم اليقين بخبرهم. «1» و تقييده الفعل ب «ما يقدح في العدالة» لأجل التحرز عن مشاهدة نفس الفعل من دون إحراز أنّه يقدح فيها كما إذا شاهد شرب الخمر و لكن يحتمل أن يكون عن إكراه مسوِّغ أو لمداواة.

و قال العلّامة: و يحرم الشهادة على الجرح إلّا مع المشاهدة أو الشياع الموجب للعلم. «2»

و قال في القواعد بمثل ما قاله المحقّق في الشرائع. «3»

و قال الشهيد الثاني: المعتبر في التعديل، الخبرة الباطنة الموجبة لغلبة الظنّ بالعدالة و أمّا الجرح فلا يكفي فيه مطلق الظنّ إجماعاً بل لا بدّ فيه من العلم بالسبب إمّا بالمشاهدة بأن يراه يزني أو يشرب الخمر أو يسمعه يقذف أو يقرّ على نفسه بالزنا أو شرب الخمر و أمّا إذا سمع من غيره فإن بلغ المخبرون بهذا التواتر جاز الجرح لحصول العلم، و إن لم يبلغوا حدّ العلم لكنّه استفاض و انتشر حتّى قارب العلم ففي جواز الجرح به وجهان، من أنّه ظنّ و قد نهى الله عن اتّباعه إلّا ما استثنى، و من أنّ ذلك ربّما يكون أقوى من البيّنة المدّعية للمعاينة و يظهر من

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 77.

(2) العلّامة الحلي، ارشاد الأذهان: 2/ 14.

(3) مفتاح الكرامة: 10، قسم المتن: 44.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 294

المصنف (المحقّق) و الأكثر اشتراط العلم فلا يصحّ بدونه و هو أولى. «1»

أقول: الذي دعاهم إلى التفريق بين الشهادتين، أخذ العلم في الشهادة، و لكن لمّا كانت العدالة عندهم ملكة خفية و التكليف

بالعلم حرج منفي فاكتفوا بغير العلم، بخلاف الجرح، إذ ليس أمراً مخفياً، بل يسهل الوقوف عليه بالمشاهدة أو بالشياع المفيدين للعلم، مضافاً إلى ثبوتهما بالبيّنة.

يلاحظ عليه: تارة بالنقض بما تقرّر في الأُصول من أنّه يكفي في جرح الراوي، شهادة واحد بل يثبت بالكُتُب و بشهادة مصنّفهم به مع عدم مشاهدته للجارح، و عدم ثبوت جرحه عنده بالتواتر و نحوه بل ينقله عن واحد و يرويه في كتابه.

و أُخرى بالحلّ و هو أنّ الملكة و إن كانت باطنية إلّا أنّ آثارها تدلّ عليها و يحصل القطع بها منها بكثرة المعاشرة و الصحبة كما هو الشأن في سائر الملكات فإنّ الإنسان يقطع بأنّ زيداً شجاع أو كريم لما رآه غير مرّة من إقدامه في الحروب و إعطاءه في المسغبة و كذا الشأن في الجبن و البخل و كذا ملكة الاجتهاد تعرف بآثارها و لا حرج ذلك إذا كان المزكّي عارفاً زكياً بأحوال الجرح و التعديل. «2»

و يمكن الجواب عن الأوّل بأنّ وجه الاكتفاء بالظنّ في الراوي، لأجل بعد عهده و عدم إمكان ملاقاته و المعاشرة معه، فاكتُفِي فيه بالظنّ بخلاف الشاهد فإنّ تحصيل العلم بحاله ليس بمعسور.

و عن الثاني: بأنّ تحصيل العلم بالعدالة، و إن كان أمراً ممكناً كما مرّ، لكنّه ليس متوفّراً، و لو اكتفي في التعديل بما ذكر لزم تعطيل باب القضاء و هو يطلب لنفسه عشرات العدول في مختلف القضايا كلّ يوم و لأجل ذلك، فُرِّق بين التعديل و الجرح.

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 404.

(2) العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 44.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 295

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يذكر وجهاً لما هو المشهور من التفصيل

بين التعديل و الجرح. و الذي يمكن أن يقال إنّ العلم مأخوذ في موضوع الشهادة، كما هو اللائح من الروايات، روى علي بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفك» «1» و قال الصدوق: و روي أنّه لا تكون الشهادة إلّا بعلم 2، و روى المحقّق في الشرائع عن النبيّ و قد سئل عن الشهادة قال: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع». 3 مضافاً إلى أنّ الحضور و العلم من معطيات لفظها. فمقتضى القاعدة شرطية العلم في كلتا الشهادتين: الشهادة بالتعديل و الشهادة في الجرح، لكن الموجب للتوسّع هو ما يلي:

إنّ العلم و إن كان مأخوذاً في مفهوم الشهادة لكن أُخذ بما أنّه طريق إلى الواقع لا بما أنّه وصف نفساني و قد حقّقنا في محلّه أنّ الحجج الشرعية تقوم مقام العلم الموضوعي الطريقي بنفس أدلّة حجّيتها، من دون حاجة إلى دليل، بخلاف العلم المأخوذ في الموضوع بما أنّه وصف فإنّ الأمارات لا تقوم مقامها بنفس أدلّتها بل يحتاج إلى دليل آخر.

و على ضوء ذلك تصحّ الشهادة بالحجج و الأمارات لكونها قائمة مقام العلم المأخوذ فيها و هي:

1- إذا قامت البيّنة على عدالته أو جرحه، فتصحّ الشهادة على تعديله أو جرحه اعتماداً عليها، لكونها قائمة مقام العلم.

2- إذا أخبر العدل، عن عدالة الشاهد أو جرحه، و قلنا بحجّية خبر العدل في الموضوعات كالأحكام (غير الدعاوي و المرافعات) فتصحّ له الشهادة على أحد الأمرين، فإنّ العلم و إن كان معتبراً في الشهادة لكنّه أخذ فيها بما أنّه طريق و حجّة فتقوم الأمارة مقامها لكونها معتبرة بهذه الحيثية.

______________________________

(1) 1 و 2 و 3 الوسائل: الجزء 18،

الباب 20 من أبواب الشهادات، الحديث 31.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 296

3 إذا كان واقفاً على عدالة زيد، ثمّ غاب عنه و احتمل زوالها فتصحّ الشهادة على عدالتها، لأنّ حكم الشارع على بقاء العدالة و لزوم التعبّد ببقائها يكون حاكماً على الدليل الواقعي و تكون النتيجة أنّ العلم المعتبر فيها أعم من الحقيقي و التنزيل.

و على ضوء ذلك يكون التعديل و الجرح سيّان يثبتان بالعلم و بالحجج المعتبرة، دون الظنون غير المعتبرة و إن بلغ مرتبة الظنّ الحاصل من البيّنة و خبر العدل إلّا أن يبلغ مرتبة الاطمئنان و سكون النفس الذي يعدّ علماً عرفياً، لا ظنّاً فلا يبعد الاعتماد عليه و الشهادة به.

و ممّا ذكرنا من حكومة أدلّة الحجج و الأمارات، على موضوع الحكم الواقعي يظهر عدم تمامية ما ذكره صاحب الجواهر من لزوم الاكتفاء بالعلم قال: لكن يدفعه اعتبار العلم في الشاهد على وجه لا تقوم مقامه الحجّة شرعاً بل لو أراد ذلك على وجه الشهادة كان مدلّساً، بخلاف الشهادة على الملك باليد الدالّة عليه، باعتبار أنّ الشهادة شرعاً و عرفاً بنحو ذلك. «1» و ذلك لأنّ ما ذكره إنّما هو مقتضى الدليل الأوّلي، و لكن بعد قيام الدليل على حجّية قول العدلين بل العدل الواحد، في الموضوعات كالأحكام، يكون معناه أنّ كل واحد يقوم مقام العلم المأخوذ في الشهادة و إن شئت قلت: المراد من العلم في الشهادة، هو الحجّة الشرعية لا العلم الوجداني المنطقي كما هو المتبادر من اليقين في أدلّة الاستصحاب.

بل الظاهر من رواية حفص بن غياث: أنّ كل ما يجوز العمل به، يجوز الشهادة به فقد وردت في مورد الشهادة باليد، و أنّها

يجوز العمل بها، فيجوز الشهادة بها. «2»

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 40/ 125.

(2) و إليك نصه عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قال له رجل: إذا رأيتُ شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرّجل: أشهد أنّه في يده، و لا أشهده أنّه له فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 297

و ما ذكرناه في المقام أضيق مما جاء في الرواية و هو أنّه تجوز الشهادة بالحجج و الأمارات القائمة مقام العلم لا أنّه يجوز بكل ما يعمل به.

و هناك طريق آخر: و هو أنّه أن يعتمد على الحجّة، و يخبر عن مضمونها بلا ضمّ لفظ الشهادة فلو أخبرت البيّنة أو العدل الواحد عن عدالة زيد، أو جرحه، فيخبر في الحقيقة عن الواقع، لأجل قيام الدليل من دون أداءه بلفظ الشهادة، فيجب على القاضي ترتيب الأثر على إخباره و هو التعبّد بعدالته أو جرحه و إن لم تكن هناك شهادة.

المسألة الحادية عشرة: الشهادة بالاستصحاب

إذا ثبتت عدالة الشاهد حكم باستمرار عدالته حتى يتبيّن ما ينافيها و ذلك لأنّ العلم المأخوذ في الشهادة موضوعي طريقي و المقصود هو الشهادة عن حجّة و الاستصحاب حجّة تنزيليّة و ما ذكره المحقّق من جواز الشهادة بالاستصحاب دليل واضح على أنّ المراد من العلم المأخوذ في الشهادة، هو الحجّة الشرعية.

المسألة الثانية عشرة: في تنظيم الملفّات

ينبغي أن يجمع قضايا كلّ أُسبوع و وثائقه و حججه و يكتب عليها، خلاصة ما في الملفّ، بحيث إذا رجع هو أو غيره إليها، يقف على ما فيه على وجه الإجمال. فإذا اجتمع ما لشهر، كتب عليه قضاء شهر كذا، فإذا اجتمع ما لسنة، جمعه و كتب

______________________________

أ فيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: فلعلّه لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك هو لي و تحلف عليه و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 298

عليه، قضاء سنة كذا كل ذلك لغاية تسهيل إخراج المطلوب منه له و لمن بعده.

روى الكليني عن عقبة بن خالد قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام لو رأيت غيلان بن جامع و استأذن عليّ فأذنت له و قد بلغني أنّه كان يدخل إلى بني هاشم فلمّا جلس قال: أصلحك الله أنا غيلان بن جامع قاضي ابن هبيرة إلى أن قال: قلت: كيف تقضي يا غيلان؟ قال: أكتب هذا ما قضى به فلان بن فلان لفلان بن فلان يوم كذا و كذا، من شهر كذا و

كذا، من سنة كذا، ثمّ أطرحه في الدّواوين، قال: قلت: يا غيلان هذا لحتم من القضاء. «1»

أقول: ما جاء في هذه المسألة يرجع إلى الشكل دون المحتوى و ما زال يتوسّع حسب توسّع المجتمعات و كثرة المراجعات و لأجله مسّت الضرورة لتأسيس دائرة خاصّة باسم دائرة قسم الملفّات و الأضابير للموضوع، لها مسئول و موظّف، و لن يقف التنظيم لحدّ بل يتّبع متطلّبات العصر، و لم يرد في الإسلام شكل خاصّ بل هو تابع لمقتضيات الزمان

المسألة الثالثة عشرة: في نفقة المحضر

كلّ موضع وجبت على الحاكم فيه كتابة المحضر، فإن حُمل له من بيت المال ما يصرفه في ذلك وجبت عليه الكتابة و مثله ما إذا أحضر الملتمس ما يصرفه في الكتابة، و لا يجب على القاضي بذل الورق و الحبر و غير ذلك إنّما الكلام في وجوب الكتابة عليه. و الظاهر وجوبها عليه في صورة واحدة و هي إذا توقف تنفيذ الحكم على كتابة المحضر، و إلّا يكفي الحكم مع الإشهاد عليه و ذلك لأنّ الكتابة لها، طريقية، فإذا توقف التنفيذ عليها، تجب، لأنّه من شئون القضاء الواجب و إلّا فلا.

______________________________

(1) الكليني، الكافي: 7/ 429.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 299

و ربّما يتوهم الوجوب تمسّكاً بقوله سبحانه في كتابة الدين: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لٰا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ) (البقرة/ 282) لكن الآية ليست ظاهرة في الوجوب حتّى يتعدّى عن الدين إلى القضاء.

و الحقّ ما ذكرناه من التفصيل و يكفي في الوجوب توقّف القضاء المنتج عليه.

المسألة الرابعة عشرة: في تعنيت الشهود

ليس للحاكم أن يعنِّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر و الأذهان القوية مثل أن يفرّق بينهم لأنّ في ذلك نوع غضاضة لهم. و العنت هو إيقاع الشهود في أمر شاقّ: و لو استلزم الامتهان لهم، يكون محرّماً لا مكروهاً و لأجل ذلك قلنا: «ليس للحاكم» مكان قول المحقّق: «يكره للحاكم»، لما عرفت من أنّه ربّما يكون حراماً و أمّا عند الريبة فقد مرّ حكمه و قلنا بأنّ القضاء بالحقّ إذا كان متوقفاً عليه، يجب على وجه يجمع بين كرامة الشهود، و القضاء بالحقّ.

المسألة الخامسة عشرة: في المداخلة في كلام الشاهد

ليس للحاكم أن يُتعْتِع الشاهد و هو أن يداخل في تلفظه بالشهادة أو يعقّبه لكلام بل يجب عليه أن يكفّ عنه حتّى ينتهي ما عنده. و ذلك لأنّ الغاية منه إمّا أخذ الإقرار إذا أراد الإنكار أو الإنكار إذا أراد الإقرار فتحرم، إذ فيه إمّا إحياء للباطل أو إمامة للحق. نعم لو كانت الغاية هو الإعانة عليه ليبرر ما هو مقصده، فليس بحرام و لا مكروه و لو تردّد الشاهد في الشهادة لم يجز ترغيبه في الإقدام على الإقامة و لا تزهيده في إقامتها. لما فيه من الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 300

نعم خرج منه حقّ الله فللحاكم إيقاف المتّهم عن الإقرار كما مرّ في عمل القاضي بعلمه. و مرّ حديث النبي مع «ماعز».

المسألة السادسة عشرة: في ضيافة أحد الخصمين

يكره للحاكم أن يضيّف أحد الخصمين دون صاحبه لما في معتبرة السكوني أنّ رجلًا نزل بأمير المؤمنين عليه السلام فمكث عنده أيّاماً ثمّ تقدّم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين عليه السلام فقال له: أ خصم أنت؟ قال: نعم قال: تحوَّل عنّا فإنّ رسول الله نهى أن يضاف الخصم إلّا و معه خصمه. «1» و المتبادر هو الكراهة. لإبعاد القاضي عن التهمة.

المسألة السابعة عشرة: في الرشوة موضوعاً و حكماً

اشارة

الرشوة مثلث الفاء مأخوذة من رشا الفرخ. إذا مدّ رأسه إلى أُمّه ليزقَّه أي ليطعمه بمنقاره، و الرشا: رسّ الدلو، الذي يتوصّل به إلى الماء. و قال ابن فارس: «رشي» أصل يدلّ على سبب أو تسبب لشي ء برفق و ملاينة. تقول: ترشيت الرجل: لاينته، و راشيتُ الرجل: إذا عاونتَه فظاهرته.

و بإحدى المناسبات الثلاث، يطلق الرشوة على الشي ء المدفوع إلى القاضي و غيره لغاية خاصّة فعمل الراشي أشبه بعمل الفرخ، أو ملقي الدلو إلى داخل البئر، ليتوصّل به إلى الماء، لكن بمرونة و ملاينة، و لطافة.

و يقع الكلام في أُمور:

الأوّل: الرشوة في المعاجم و كلمات الفقهاء

1- قال الفيّومي: الرشوة ما يعطيه الشخص الحاكم أو غيره ليحكم له أو

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 301

يحمله على ما يريد.

2- قال ابن الأثير: الرشوة و الرشوة: الوُصلة إلى الحاجة بالمصانعة و أصله من الرشا الذي يتوصّل به إلى الماء، فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل، و المرتشي: الآخذ، و الرائش الذي يسعى بينهما، يستزيد لهذا و يستنقص لهذا. فأمّا من يعطى توصّلًا لأخذ حقّ، أو دفع ظلم فغير داخل فيه.

3- و قال الزمخشري في أساس البلاغة: الرِشوة بكسر، ما يعطيه الشخص للحاكم و غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد.

4- و قال الطريحي: قلّما تستعمل الرشوة إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل، و هو ظاهر.

5- و قال الفيروزآبادي: الرشوة الجُعل.

و المتحصّل من ضمّ البعض إلى بعض أنّ الرشوة، ما يتوصّل به إلى الحكم لمصالح الدافع حقّاً كان أو باطلًا و أحسن التعابير ما ذكره الزمخشري حيث قال: ما يعطيه الشخص للحاكم

أو غيره ليحكم له.

هذه كلمات اللغويين و إليك كلمات الفقهاء بوجه موجز:

1- قال الشيخ: و القاضي بين المسلمين و العامل عليهم يحرم على كل واحد منهم الرشوة لما روي أنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: لعن الله الراشي و المرتشي في الحكم و هو حرام على المرتشي بكل حال، و أمّا الراشي فإن كان قد رشاه على تغيير حكم أو إيقافه فهو حرام. «1»

2- و قال ابن إدريس: و القاضي بين المسلمين و الحاكم و العامل عليهم يحرم على كلّ واحد منهم الرشوة ... إلى آخر ما نقلناه عن الشيخ بنصّه. «2»

3- و قال العلّامة: و الرشوة حرام على آخذها و يأثم دافعها إن توصّل بها

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 151.

(2) ابن إدريس، السرائر: 2/ 166.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 302

إلى الباطل لا إلى الحقّ و يجب على المرتشي إعادتها، و إن حكم عليه بحقّ أو باطل «1»

4- و قال العاملي: الرشوة للحكم حقّاً أو باطلًا كما هو الحقّ فهي حرام على الراشي أيضاً مطلقاً و لا ينبغي تعريفها بأنّها التي يشترط بإزائها الحكم بغير الحقّ، أو الامتناع من الحكم بالحقّ كما صنع بعض الأصحاب. 2

5- و قال السيّد الطباطبائي: الرشوة ما يبذله للقاضي ليحكم له بالباطل أو ليحكم له حقّاً كان أو باطلًا، أو لتعلِّمه طريق المخاصمة حتى يغلب خصمه. 3

و لا بدّ تخصيص الجزء الأخير من كلام السيّد الطباطبائي بما إذا كان المتعلّم مبطلًا و إلّا فتعليم المحقِّ للغلبة على الباطل لا يكون حراماً.

و لعلّ أغلب هذه الكلمات تهدف إلى معنى واحد و هو دفع مال أو غيره إلى القاضي ليحمله على ما

يريد و هو على أقسام:

1- أن يحمله على الحكم بالباطل.

2- أن يحمله على الحكم بما يريد من دون تقييده بالحقّ و بالباطل.

3- أن يحمله على الحكم بالحقّ بحيث لو لا الدفع لما حكم به قطعاً أو احتمالًا.

و الظاهر دخول الجميع تحت الرشوة كما عرفت في كلام العاملي و جوازها لأجل قاعدة لا ضرر و غيرها لا يكون دليلًا على خروجها عنها موضوعاً كما سيأتي. و تفسيرها بالبذل لإبطال الحقّ أو إحقاق الباطل تفسير بالمصداق الغالبي و حاصل مفهومها التزام القاضي في مقابل أخذ مال أو غيره، بعمل، لولاه لما قام به سواء كان ذلك العمل إبطالًا لحقّ أو إحقاقاً لباطل، أو حكماً بالحقّ.

______________________________

(1) 1 و 2 مفتاح الكرامة: 10/ 33، المتن و الشرح.

(2) 3 السيد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 22.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 303

الثاني: الرشوة غير مختصّة بباب القضاء

إذا كانت الرشوة ما يتوصّل به إلى ابطال حقّ أو تمشية باطل، فلا تختصّ بالقاضي بل تعمّ الحاكم و العامل و قد عرفت في كلام الشيخ و ابن إدريس عطفَ الحاكم و العامل إلى القاضي بل تعمّ ما يدفع إلى موظّف أو ظالم مقتدر، ليستعين به في محو الحقّ أو إحياء الباطل، أو الحكم بالحقّ، بحيث لولاها لما حكم. و هو الظاهر من كلام الزمخشري حيث قال: «ما يعطيه الشخص للحاكم و غيره ليحكم له، أو يحمله على ما يريد».

فإن قلت: ظاهر الآية، أعني: قوله سبحانه: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 188) اختصاصها بما إذا كان الآخذ حاكماً و المراد منه القاضي فلا يشمل ما إذا دفع شيئاً

لغير القاضي، من سائر الحكّام و الموظّفين، و الظالمين للاستعانة بهم فيما يريده، من إبطال الحقّ، أو تمشية الباطل و غيرهما.

قلت: سيوافيك عند البحث عن حكم الرشوة أنّ القيود الواردة في الآية، غالبيّة، و ليست لها خصوصية و ذلك لأنّ إبطال الحقّ، في العصور السابقة و العصر الحاضر، بيد القضاة و لأجل ذلك خصّ القضاة بالذكر فيكون القيد وارداً مورد الغالب.

و أمّا الروايات فما اقترن فيها الرشاء بالحكم، لا يهدف إلى اختصاصها بالحكم، بل بصدد بيان أنّ الرشاء في الحكم، كفر بالله «1» أو سحت، «2» أو شرك «3» لا أنّ الرشاء مختصّ بباب الحكم بل الرشاء مفهوم عام و له مصاديق و لكن حرمة

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 2، 8، 12، 16.

(2) الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، 5، 9.

(3) الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 304

قسم منه مؤكّدة و هو الرشاء في الحكم، فهو سحت، و كفر بالله، و شرك به.

الثالث: حكم الرشوة في الكتاب و السنّة

إنّ حرمة الرشوة من ضروريات الفقه الإسلامي التي دلّ عليها الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل، بل اتّفق عليها الشرائع السماوية و عقلاء العالم و إن لم يكونوا منتحلين إلى شريعة، و لذا تعدّ حرمة الرشوة في الإسلام، حكماً إمضائيّاً، لا تأسيسيّاً.

فمن الكتاب قوله سبحانه: (وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 188)، و قد جاء صدر الآية أيضاً في آية أُخرى «1» و لكن لا

صلة لها بالمقام و فسّرها في المجمع بالنحو التالي:

«لا يأكل بعضُكم مال بعض بالغصب و الظلم و الوجوه التي لا تحلّ، و تلقوا بالأموال إلى القضاة لتأكلوا طائفة من أموال الناس، بالعمل الموجب للإثم و كان الأمر بخلافه و أنتم تعلمون أنّ ذلك الفريق من المال ليس بحقّ لكم و أنتم مبطلون». «2»

و قال السيّد الأُستاذ قدَّس سرَّه في الميزان: «الإدلاء إرسال الدلو في البئر لنزح الماء كُني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكّام ليحكموا كما يريده الراشي، و هو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم، المطلوب بالرشوة الممثِّل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده، و الآية مسوقة للنهي عن تصالح الراشي و المرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما و تقسيمها لأنفسهما بأخذ الحاكم ما أُدلي به منها

______________________________

(1) النساء، الآية 29: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً).

(2) الطبرسي، مجمع البيان: 1/ 228، ط صيدا.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 305

إليه، و أخذ الراشي فريقاً آخر منها بالإثم و هما يعلمان أنّ ذلك باطل غير حقّ». «1»

و الحاصل: أنّ صدر الآية نهى عن مطلق أكل الأموال بالباطل كما ذكره الطبرسي، لكن قوله تعالى: (وَ تُدْلُوا بِهٰا) إشارة إلى قسم خاص منه و هو تقريب بعض المال إلى الحاكم ليحكم لصالحه حتّى يتسنّى للراشي أكل البعض الآخر الذي يدلّ عليه قوله تعالى: (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ).

و الغاية من دفع المال إلى الحاكم، هو حكمه لصالحه، و هما يتواطآن على ذلك بأنّ هذا، بدل ذاك سواء صرّحا

بذلك أو أضمرا و كان معلوماً لهما و بذلك يتّضح الفرق بين الرشوة و الهدية، فالأوّل مشتمل على المقابلة صريحاً أو ضميراً بخلاف الثاني، فليس هناك أيّة مقابلة لا في الظاهر و لا في الباطن، و الفرق بينهما كالفرق بين البيع و الهبة و يشير إلى ما ذكر، حرف اللام في قوله: (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ) و اللام للغاية.

و يدلّ على الحرمة لفيف من الروايات التي أشرنا إلى مواضعها فلاحظ.

هذا و الرشوة من المفاهيم ذات الإضافة، لها إضافة إلى الراشي، و إضافة إلى المرتشي، و إلى المال المعطى (الرشوة) فإذا دلّ الدليل على حرمة الرشا، فيكون دليلًا على كونه حراماً على المعطي و الآخذ و لأجل ذلك ترى أنّ الآية توجّه الخطاب إلى الراشي أوّلًا و بالذات و تقول: (وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ)، و بذلك تستغني عن الاستدلال على الحرمة في جانب المعطي بالنبوي المروي من قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «لعن الله الراشي و المرتشي». «2»

و قال السيّد الطباطبائي: كما يحرم على الآخذ، كذا يحرم البذل على الباذل

______________________________

(1) العلّامة: الطباطبائي، الميزان: 2/ 52، ط طهران.

(2) النوري، المستدرك: الجزء 18، الباب 8، من أبواب آداب القاضي، الحديث 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 306

لقوله: «لعن الله الراشي و المرتشي» و لكونه إعانة على الإثم. «1»

يلاحظ عليه: أمّا النبوي فلم يثبت سنده و أمّا الثاني فمنصرفه ما إذا كان الغير قاصداً لارتكاب الحرام، فالآخر يعينه في ذلك الهدف مثلًا لو حاول ضربَ اليتيم، فيعطيه العصا، أو قتل إنسان فيعينه بالآلة القتّالة، و أمّا إذا لم يكن المقصود الأصلي هو

إعانة الغير و دفعه إلى المحرّم، بل كان الهدف الأصلي هو أكل الدافع أموال الناس بالإثم في ظلّ حكم القاضي فشمولها له مورد تأمّل.

و الأولى الاستدلال بنفس الآية المغني عن هذه المستمسكات.

الرابع: حكم الرشا في إحقاق الحقّ

قد عرفت أنّ الرشا، هو دفع شي ء للقاضي ليلزم بشي ء من غير فرق بين الحكم بالباطل أو الحكم لصالحه حقّاً كان أو باطلًا أو الحكم بالحقّ، لكن يقع الكلام في أنّه هل يجوز إذا توصّل بها إلى حقّ. ثمّ إنّ للتوصّل بها إليه صورتين: إمّا يتوقّف إنقاذ الحقّ عليها أو لا. و على كلا التقديرين إذا جاز للدافع فهل يجوز للآخذ أو لا.

قال الشيخ: و إن كان لإجرائه على واجبه لم يحرم عليه، أن يرشوه كذلك لأنّه يستنقذ ماله فيحلّ ذلك له و يحرم على آخذه لأنّه يأخذ الرزق من بيت المال. و إن لم يكن له رزق كما إذا قال لهما: لست أقضي بينكما حتّى تجعلا لي رزقاً حلّ ذلك له حينئذ عند قوم و عندنا لا يجوز بحال. «2»

و قال ابن إدريس: إن كان على إجرائه على واجبه لم يحرم عليه أن يرشوه لأنّه يستنقذ ماله، فيحلّ ذلك له و يحرم على الحاكم أخذه. «3»

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 22.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 151.

(3) ابن إدريس، السرائر: 2/ 166.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 307

و قال المحقّق: و لو توصّل إلى حقّ لم يأثم. «1»

و قال السيّد الطباطبائي: نعم لو كان كارهاً في الدفع لا حرمة عليه، و كذا لو توقّف استنقاذ حقّه على ذلك و إن كان محرّماً على الآخذ. «2»

أمّا جوازه للدافع فلوجهين: الأوّل: عدم دخوله في الآية المباركة، لأنّ الغاية من الدفع

فيها هو أكل أموال الناس بالإثم و هو لا يريد سوى استنقاذ حقّه فليس عمله داخلًا في الغاية.

الثاني: قد عرفت أنّه داخل في الرشوة موضوعاً و لكن، يحكم عليه بالحلّية في هذا الفرض لقاعدة لا ضرر. و أمّا كونه حراماً على الآخذ لأنّه أكل المال بالباطل فعمله داخل في صدرها. و إنّما تصدق الرشوة في حقّ المنصوب بالقضاء و الحكم فإذا مُنع من الرشوة لما حكم بالحقّ، بل حكم بالباطل. لأخذ الرشوة من صاحبه، و أمّا من ليس منصوباً بالقضاء، فيطلب الأُجرة على القضاء بالحقّ و إلّا، فلا يتصدّى للأمر، فهو خارج عن موضوع البحث، و داخل في جواز أخذ الأُجرة على القضاء و عدمه. و بذلك تعلم الخلل في كلام الشيخ الطوسي حيث فرض المسألة في الصورة الأخيرة كما لا يخفى.

ثمّ هل الدفع من جانب المعطي رشوة محلّلة كما هو الحال في صورة الإكراه، أو ليس رشوة موضوعاً و إن كان رشوة بالنسبة إلى الآخذ. لا يترتّب على ذلك ثمرة، و إن كان الأوّل لا يخلو عن قوّة. و قد عرفت وجود السعة في التعريف السابق لها: و هو الدفع لأجل الحكم بالباطل، أو الحكم لصالحه حقّاً كان أو باطلًا، بإضافة ما يشمل ذلك القسم أيضاً.

ثمّ إذا لم يتوقّف استنقاذ الحقّ عليه، كما إذا كان لأخذ الحقّ، طريقان: أحدهما ذلك و الآخر، التقاص من ماله أو التوسل بأصحاب القدرة فهل يجوز

______________________________

(1) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 869.

(2) السيد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 23.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 308

أولا فيه وجهان:

1- الجواز، لانتفاء الغاية الواردة في الآية من أكل أموال الناس بالإثم و لقاعدة لا ضرر، كما مرّ،

و توهم أنّه من باب الإعانة على الإثم قد عرفت حاله.

2- عدمه لكون الرشوة أوسع ممّا جاء في الآية، و لا موضوع لقاعدة لا ضرر لعدم الضرر بعد وجود طريق مشروع لأخذ الحقّ. و الثاني هو الأقوى لانّه رشوة.

الخامس: في عدم اختصاص الرشوة بالمال و القاضي و الحقّ

ثمّ إنّ هنا أُموراً ثلاثة لا يدلّ عليها منطوق الآية و لكن يمكن استخراج حكمها بالتأمّل منها:

1- هل الرشوة تختصّ بالمال، أو تعمّ غيره كالخياطة، أو قضاء حاجة القاضي في موضوع آخر، أو مدحه بالشعر و الخطابة؟ يظهر من السيّد الطباطبائي كونها أعم. قال: الرشوة قد تكون مالًا من عين أو منفعة و قد تكون عملًا للقاضي كخياطة ثوبه أو تعمير داره أو نحوهما و قد تكون قولًا كمدحه و الثناء عليه. «1»

و العرف يساعده، و أمّا الآية فالمذكور فيها، هو إدلاء المال إلى الحاكم و لكنّه وارد مورد الغالب، و المقصود أنّ كلّ تسبب إلى الغاية المحرّمة (أكل أموال الناس بالإثم) حرام فحرمة الغاية توجب سراية الحرمة إلى كلّ سبب مالًا، كان أو منفعة، أو عملًا للقاضي.

2- و بذلك تعلم الحال في دفع المال إلى الظالم للغاية المحرّمة و إن لم يكن قاضياً، فهو أيضاً من مصاديق الرشوة و قد مرّ أنّ ذكر الحكّام في الآية من باب أغلب المصاديق.

قال السيّد الطباطبائي: لا تختصّ الرشوة ما يبذل للقاضي ليحكم له، بل

______________________________

(1) السيد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 23.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 309

تجري في غير الحكم أيضاً كما إذا بذل شيئاً لحاكم العرف أو الظالم أو رئيس ليعينه على ظلم أو غيره من المعاصي و نحو ذلك فتكون حراماً «1» نعم لو بذله شيئاً ليعينه على إحقاق حقّ أو

دفع ظلم أو أمر مباح فلا إشكال. و أمّا في القاضي فقد مرّ الكلام فيه و أنّه رشوة محرّمة.

3- كما أنّ بذل الرشوة لأكل المال بالإثم حرام و كذلك تحرم إذا كان الهدف إبطال الحقّ كما إذا رشا القاضي، ليحكم بأنّ حقّ الحضانة في البنت فوق السنتين للأب، مع أنّه للأُم إلى سبع سنين، و ذلك لأنّ أكل المال بالإثم، وارد مورد الغالب.

السادس: حكم بيع المحاباة
اشارة

و هو بيع الغالي بقيمة رخيصة كبيع ما يساوي ألف، بمائة، و تكون المعاملة غطاءً لدفع المال إلى القاضي ليحكم له. و لا شكّ في حرمته لحرمة غايته و هو أكل أموال الناس بالإثم، إنّما الكلام في فساده. قال في الجواهر في شرح قول المحقّق: «و يجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها» ما هذا نصّه: حتّى لو وقعت في ضمن عقد هبة أو بيع محاباة أو وقف فإنّه بناء على أنّ نحو ذلك من أفراد الرشا لا ريب في فساد العقود المزبورة نحو ما كان منها إعانة على الإثم ترجيحاً لأدلّة فسادها على ما يقتضي صحّتها، بل النهي فيها عن نفس المعاملة بل لعلّ ذلك مبني على فساد الرشوة التي هي غالباً تكون بعنوان الهبة رشوة. «2»

يلاحظ عليه: أنّه إذا لم يكن النهي متعلّقاً بنفس المعاملة، بل بعنوان خارج عن حقيقتها، ككونها إعانة على الإثم، أو رشوة ففي مثلها لا يقتضي الفساد، إذ غاية ما ذكره، أنّ العقد و المعاملة أي الإيجاب و القبول، مصداق لعنوان الرشوة،

______________________________

(1) السيد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 24.

(2) النجفي: الجواهر: 40/ 131.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 310

و لكن المعاملة ليست محرّمة بالذات، فعندئذ تصحّ المعاملة و يكون نفس العمل حراماً

تكليفاً.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم قسَّم المعاملة المحابى فيها إلى أقسام ثلاثة و رجّح الفساد في الجميع قال و له أقسام:

1- ما لم يقصد من المعاملة إلّا المحاباة التي في ضمنها.

2- قصد المعاملة لكن جعل المحاباة لأجل الحكم له بأن كان الحكم له من قبيل ما تواطئا عليه من الشروط غير المصرّح بها في العقد و هي الرشوة.

3- قصد أصل المعاملة، ثمّ حابى فيها لجلب قلب القاضي فهي كالهدية ملحقة بالرشوة و في فساد المعاملة المحابى فيها وجه قوي. «1»

يلاحظ عليه بوجهين:

الأوّل: إنّ رمي الجميع بسهم واحد غير تامّ، و الأوّل باطل لأجل عدم قصد المعاملة، و الثاني باطل لأجل بطلانها بمقدار المحاباة، المستلزم لبطلان أصل المعاملة.

و أمّا الثالث: فقابل للملاحظة فربّما يقال أنّ ظاهر القواعد الصحّة، لكون الرشوة داعياً، فيها. إلّا أن يقال فيها بالبطلان فإنّ الهدية غطاء على الرشوة و واجهة لها فانتظر.

الثاني: إنّ سياق كلامه أنّ البطلان لأجل انطباق أمر خارج على المعاملة، و قد عرفت انّه لا يستلزم البطلان.

نعم للسيّد الطباطبائي كلام في المقام أشار في آخره بما يمكن أن يكون سنداً للبطلان.

______________________________

(1) الأنصاري، المكاسب المحرّمة: ص 31، ط تبريز.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 311

قال معترضاً على كلام المحقّق الأنصاري: إنّه اختار في مسألة الإعانة على الإثم عدم فساد البيع إذا قصد توصل الغير إلى المحرّم مثل بيع العنب ليعمل خمراً و ذلك لتعلّق النهي بما هو خارج عن المعاملة و هو الإعانة إلى أن قال و إلّا فالأوجه عدم الفساد لما ذكر من تعلّق النهي بأمر خارج عن المعاملة و لا نسلّم ما ذكره صاحب الجواهر من بقاء المال على ملك الراشي بأيّ طريق كان و

إنّما هو مسلّم في صورة البذل من غير أن يكون بعقد من العقود إلى أن قال: نعم يمكن أن يقال إنّه إذا قصد الرشوة بالمعاملة المحابائية يصدق عرفاً أنّ العين الموهونة رشوة فيكون حراماً و لازمه بطلان المعاملة و هذا هو الفرق بين المقام و بين مسألة الإعانة. و عليه لا بدّ أن يفصّل بين المذكورات و بين البيع بثمن المثل بقصد الرشوة فيما إذا كان للقاضي غرض في المبيع و لو بعوض مثله. «1»

الأمر السابع: في حكم الرشوة ردّاً و ضماناً

إنّ المأخوذ رشوة أو الملحق بها حكماً كما هو الحال في الهدايا الّتي تُقدّم إلى القاضي و سيوافيك حكمها هل يجب ردّه ما دام باقياً، و يضمن إذا تلف او أتلفه الآخذ، أو لا؟ و المحكي عن فقهاء العامّة أنّ المرتشي يملكها و إن فعل حراماً، و نقل عن بعض آخرين أنّه يضعها في بيت المال. «2» و إليك نقل بعض الكلمات:

1- قال الشيخ: كلّ موضع قلنا يحرم عليه فإن خالف و قبل فما الذي يصنع؟ فإن كان عامل الصدقات، قال قوم: يجب عليه ردّها، و قال آخرون: يجوز أن يتصدّق عليه بها، و الأوّل أحوط، و أمّا هديّة القاضي قال قوم يضعها في بيت المال ليُصرف في المصالح و قال آخرون: يردّها على أصحابها و هو الأحوط عندنا. «3» و لم يذكر

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 24.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 405.

(3) الطوسي، المبسوط: 8/ 152.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 312

الشيخ حكم التلف و لعلّ نظره فيه يعلم من حكمه بوجوب الردّ، إذ لو وجب الردّ، يلزمه الضمان مع التلف، و إلّا فيكون الحكم بعدم الضمان مناقضاً مع وجوب الردّ

كما سيوافيك.

2- و قال المحقّق: و يجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها، و لو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له. «1»

3- و قال العلّامة: و تجب على المرتشي إعادتها و إن حكم عليه بحقّ أو باطل و لو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها. «2»

4- و قال أيضاً: و على المرتشي إعادتها فإن تلفت ضمن. «3»

5- و قال الشهيد الثاني: و تجب على المرتشي إعادة الرشوة على صاحبها على خلاف بعض العامّة حيث ذهب إلى أنّه يملكها و إن فعل حراماً لوجود التمليك، و آخرين حيث ذهبوا إلى أنّه يضعها في بيت المال و الأظهر ما ذكره المصنّف من عدم ملكها مطلقاً و وجوب ردّها إلى المالك و يضمنها إلى أن يصل. «4»

6- قال المحقّق الأردبيلي: و ممّا سبق يعلم وجوب الإعادة على المرتشي و أنّه لا بدّ من دفعه فورياً مع وجود العين، و مع التلف عوضاً مثلًا و قيمةً على الوجه المقرّر في ضمان المتلفات سواء أ كان بتفريطه أم لا مثل الغصب فإنّ اليد ليست بيد أمانة. «5»

7- و قال صاحب الجواهر: و لا إشكال في بقاء الرشوة على ملك المالك كما هو مقتضى قوله «إنّها سحت» و غيره من النصوص الدالة على ذلك و أنّ حكمها حكم غيرها ممّا كان من هذا القبيل نعم قد يشكل الرجوع بها مع تلفها و علم الدافع بالحرمة باعتبار تسليطه و التحقيق فيه ما مرّ في نظائره. «6»

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع 4/ 78.

(2) العاملي: مفتاح الكرامة: 10/ 33، قسم المتن.

(3) العلّامة الحلّي، إرشاد الأذهان: 2/ 140.

(4) زين الدين العاملي: المسالك 2/ 405.

(5) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 50.

(6) النجفي، الجواهر: 22/ 149.

نظام القضاء و الشهادة

في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 313

إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة لما سبق. و يقع الكلام في وجوب ردّها أوّلًا و ضمانها بمثل أو قيمة ثانياً و بعبارة أُخرى: يقع الكلام تارة في الحكم التكليفي أي وجوب الردّ، و أُخرى في الحكم الوضعي أي الضمان لدى الإتلاف و التلف.

أمّا وجوب الردّ فلما مرّ من عدم تملّكها، لتعلّق النهي بذات المعاملة (الرشوة) الدالّ على فساد التمليك العرفي، الملازم لبقائها في ملك مالكها، من غير فرق بين أن يملّكها بنفسها أو وقعت في ضمن بيع محاباة لما عرفت من صدق الرشوة على العين عرفاً و يظهر من خبر ابن اللتبية الواردة في الهدايا التي تقدّم إلى عامل الصدقات، أنّه لا يملكها و سيوافيك نصّ الحديث عند البحث في الهديّة.

أمّا ضمانها على المرتشي إذا تلفت أو أتلفها المرتشي فقد عرفت عبارات الأصحاب، الحاكية عن الضمان إنّما الكلام في دليله. فنقول: استدلّ بعموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» «1» خرج منه ما أُخذ أمانة كالوديعة و غيرها و المفروض انّه لم يُسلّطه على العين إلّا في مقابل عوض و لم يجعلها عنده أمانة، و لم يهتك حرمة ماله، بل طلب به ما هو أعزّ و أغلى ممّا دفع. و لمّا حكم الشارع ببطلان المعاملة، بقيت العين على ملك مالكه، فيكون أخذها بعنوان المعاوضة موجباً للضمان، حتّى يردّ عينها أو مثلها أو قيمتها. و ما تقدّم من صاحب الجواهر من «أنّه قد يشكل الرجوع بها مع تلفها و علم الدافع بالحرمة باعتبار تسليطه» فقد أوضحه السيّد الطباطبائي في ملحقات العروة و قال: و لعلّ وجه الضمان لأنّ الراشي إنّما بذل في مقابلة الحكم فيكون إعطاؤه بعنوان المعاوضة

و يدخل في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ثمّ استشكل عليه بوجوه ثلاثة و قال: و فيه:

أوّلًا: أنّه أخص من المدّعى إذ قد يكون لا بعنوان المعاوضة، بل إنّما يعطى مجّاناً و عوضه جلب قلب القاضي فلا يكون في مقابلة الحكم، و الغرض غير العوض.

______________________________

(1) النوري، المستدرك: الجزء 17، الباب 1 من كتاب الغصب، الحديث 4، و البيهقي، السنن: 6/ 95

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 314

ثانياً: لا دليل على القاعدة المذكورة كما بيّن في محلّه.

و ثالثاً: أنّ المفروض أنّ الراشي راض بإتلاف المرتشي إيّاها فيكون هو الهاتك لحرمة ماله حيث إنّه سلّطه عليه مع علمه بعدم ملكيّته و حرمته عليه، فرضاه و إن كان مقيّداً بالعوض الذي هو الحكم إلّا أنّ قيده حاصل بعد فرض الحكم له، فحاله حال سائر المقبوضات بالعقود الفاسدة و قد بيّنا فيها عدم الضمان مع التلف. نعم لو كان رضاه مقيّداً بالحكم له و لم يحكم له يمكن أن يقال فيه بالضمان لأنّ المفروض أنّ رضاه كان مقيّداً و القيد لم يحصل. «1»

يلاحظ على الوجه الأوّل: و قد سبقه الشيخ الأنصاري في هذا التفصيل قائلًا «بأنّ الرشوة حقيقة جعل على الباطل بخلاف ما إذا لم يقصد بها المقابلة فأعطى مجّاناً ليكون داعياً على الحكم و هو المسمّى بالهبة فإنّ الظاهر عدم ضمانه لأنّ مرجعه إلى هبة فاسدة إذ الدّاعي لا يكون عوضاً» بأنّه إنّما يتمّ في مورد لم يكن هناك التفات من القاضي إلى ما أضمره المُهدي و إلّا يكون العين في مقابل الحكم، لصالحه و القاضي الملتفت إلى نيّة الدافع يتلقّاه رشوة، و يقف على أنّ عنوان الهدية غطاء على القبيح، و

واجهة لما هو المذموم شرعاً و عرفاً، و مع ذلك كيف يتلقّاه هدية، و لا يُعتبر في كون الشي ء عوضاً، التصريح به بل تكفي الإشارة و الإيماء إلى أنّ الدافع يطلب من تقديمه إليه، هو حكمه لصالحه و إنّما يصرِّح بالتقابل و المعاوضة، البسطاء من الناس و أمّا أهل الخبرة فيدفعونه بعناوين، صوناً لمقام القضاء في الظاهر عن القبيح، و ما هو إلّا شيطنة منهم و الحاصل أنّ الهدية بشرط التفات القاضي إلى واقع الأمر رشوة، موضوعاً و حكماً أو حكماً فقط و إن كان التحقيق هو الأوّل فلا يكون الدليل أخصّ من المدّعى.

و أمّا الثاني: فلا يضرّ بالمقصود إذ الدليل على الضمان، هو دليل القاعدة أعني: قاعدة اليد، أو قاعدة الإقدام، لا نفس القاعدة سواء أصحّت أم لا.

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 24.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 315

و أمّا الثالث، أعني قوله: «أنّ المفروض أنّ الراشي راض بإتلاف المرتشي إيّاها فيكون هو الهاتك لحرمة ماله حيث إنّه سلّطه عليه مع علمه بعدم مالكيته و حرمته عليه به و رضاه و إن كان مقيّداً لكن المفروض حصول قيده» فهو يرجع إلى أمرين:

1- «إنّه الهاتك لحرمة ماله»، و لكنّه ممنوع إذ كيف يوصف كذلك مع أنّه بصدد أن يأخذ من القاضي ما هو أعز و أغلى ممّا دفع بمراتب. و بعبارة أُخرى إنّما دَفعَ ما دَفَعَ ليلتزم القاضي على شي ء من الأُمور الثلاثة الماضية.

2- «إنّ رضاه كان مقيّداً و قد حصل قيده» و هو أيضاً مثل ما سبق و ذلك لأنّ رضا الراشي بتصرّف القاضي فيه لم يكن مغايراً لرضاه بالتصرّف فيه بعنوان الرشوة و المفروض أنّ الشارع حكم

ببطلانها فيكون وجود الرضا كعدمه، فيصير مقتضى عموم «على اليد» هو الضمان و ذلك لعدم صلاحية ذلك الرضا للخروج عنه، و لا يكون علم الدافع بفساد المعاملة سبباً لنشوء رضى آخر حتّى يكون هو المسوِّغ للتصرّف و الرافع للضمان بل الراشي إنّما رضى بالتصرّف بالعنوان المحرّم، علم بتحريمه أو لا و مثل ذلك الرضا لا يكون سبباً للحلّية و إلّا لزم أن يكون ثمن المغنّية و أجر الزانية حلالًا لرضا الدافع بالتصرّف فيه.

و ما ذكرناه جار في جميع العقود الفاسدة، محرّمة كانت أو لا كبيع الصبي و المحجور لأنّ المفروض أنّ الرضا فيها رضا معاملي و المفروض أنّ الشارع تلقّاه لغواً و فاسداً غير مؤثر، و ليس هناك رضى آخر يؤثّر في جواز التصرّف و رفع الضمان، فيكون المرجع هو عموم على اليد و لم يثبت المخصِّص.

و هناك إشكال آخر يتوجّه على كلامه و هو: لو كان رضا الراشي و كونه هاتكاً لحرمة ماله، رافعاً للضمان و سبباً لجواز التصرّف فيه، يلزم عدم وجوب الردّ مع أنّ الكل اتّفقوا على وجوبه، و الجمع بين وجوب الردّ و عدم الضمان أشبه بالجمع بين الضدّين.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 316

و ممّا ذكر من اختصاص البحث بما إذا كان القاضي ملتفتاً إلى نيّة الراشي و المُهدِي، يعلم ضعف ما أفاده في الجواهر من الإشكال في الضمان مع التلف، فيما إذا كانت الرشوة من الأعمال التي تبرَّع بها الراشي و نحوه ممّا لا بد فيه للمرتشي و لا أمر بالعمل «1». اللّهم إلّا أن يُفصَّل كما احتملناه في الدورة السابقة بين العين و المنفعة بأنّ الراشي لمّا كان هو المقدم عرفاً فهو المتلف

فلا يملك على المرتشي شيئاً من العمل. و مع ذلك فللنظر فيه مجال لأنّه لم يملّكه إلّا في مقابل الحكم له الذي طرده الشارع و عدّه فاسداً و لم يملّكه مجّاناً فيدخل تحت قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، لا العكس.

الأمر الثامن: في الفرق بين الهدية و الرشوة
اشارة

إنّ ما يبذل للقاضي و العامل و الظالم، ينقسم إلى الرشوة و الهدية و الظاهر أنّ الفرق بينهما جوهري يتفارقان به لا بالقصد، و الاختلاف في القصد تابع للاختلاف الماهوي، فلو كان البذل في مقابل العوض، بأن يذكر أو يضمر بأنّ هذا مقابل ذاك فهو رشوة، و إلّا فإن كان البذل بلا عوض بأن كان ناشئاً عن عاطفة قلبية أو رابطة رحمية أو غير ذلك، فهو هدية.

و بعبارة أُخرى: أنّ الطريق الصحيح لاستكشاف الفرق بين الرشوة و الهدية هو الدقّة في الفرق بين البيع و الهبة غير المعوَّضة فإنّ الفرق بينهما جوهري في عالم الاعتبار، لا بالقصد و النيّة، حتى و لو اختلف القصد، فإنّما هو لأجل اختلاف المقصود بالذات ففي البيع التزام بشي ء، ليس في الهبة، و لأجل ذلك يقصد البائع مبادلة مال بمال و لا يقصده الواهب. و إنّما يقصد أصل البذل بلا عوض. و مثله الرشوة و الهدية فالراشي سواء دفعه صريحاً باسم الرشوة، أو ألبس عليها لباس الهدية فإنّما يبذل في مقابل التزام بما يرجع إلى المحاكمة و المرافعة بخلاف ما إذا

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 40/ 133.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 317

بذله من دون انتظار عمل و بذلك يظهر أنّهما عقدان متخالفان، لا يجتمعان في مورد، كاختلاف البيع و الهبة عقداً أو معاطاة فما يسميه القوم في المقام هديّة فهو عندنا رشوة و ليست

هديّة إلّا مجازاً و تغطية و اسماً، لا حقيقة، و الهدية الواقعية ما لا يكون هناك أيُّ انتظار عمل.

قال السيّد الطباطبائي: الفرق بين الرشوة و الهدية أنّ الغرض من الرشوة جلب قلبه ليحكم له و من الهدية الصحيحة، القربة أو إيراث المودّة لا لداع أو الداعي عليها حبّه له، لوجود صفة كمال فيه من علم أو ورع أو نحوهما. «1» و لقد أحسن فعدّ ما يبذل لجلب قلب القاضي من الرشوة، و خصص الهديّة بما لا عوض فيه.

و على كلّ تقدير فالأولى التركيز على حكم الهديّة في المقام، فللشيخ في المقام كلام في المبسوط نأتي بإجماله قال: «فأمّا الهدية فإن لم يكن بمهاداته عادة حرم عليه قبولها و العامل على الصدقات كذلك لما روي عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال: هدية العمّال غلول و في بعضها هدية العمّال سحت و أمّا إن كان من عادته كالقريب و الصديق الملاطف نظرت فإن كان في حال حكومته بينه و بين غيره أو أحسّ بأنّه يقدّمه لحكومة بين يديه، حرم عليه الأخذ كالرشوة و إن لم يكن هناك شي ء من هذا فالمستحبّ أن يتنزّه عنها هذا كلّه إذا كان الحاكم في موضع ولايته فأمّا إن حصل في غير موضع ولايته فأهدى له هدية فالمستحبّ أن لا يقبلها. «2»

و حاصله تقسيمها إلى أقسام ثلاثة، يحرم الأوّلان دون الثالثة و قريب منه ما ذكره ابن البرّاج في المهذّب. «3»

و قال المحقّق الأردبيلي: و الظاهر أنّه يجوز له قبول الهدية فإنّه مستحبّ في الأصل إلّا أنّه يمكن أن يكون مكروهاً لاحتمال كونها رشوة إلّا أن يعلم باليقين انّها

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 25.

(2) الطوسي،

المبسوط: 8/ 152.

(3) ابن البرّاج، المهذّب: 2/ 581.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 318

ليست كذلك مثل أن كان بينه و بين المهدي صداقة قديمة و علم أن ليس له غرض من حكومة و خصومة بوجه أو يكون غريباً لا يعلم أو جاء من السفر و كان عادته ذلك، أو فعل ذلك بالنسبة إليه و إلى غيره و مع ذلك لا شكّ أنّ الأحوط هو الاجتناب في وقت يمكن أو يحتمل احتمالًا بعيداً لكونها رشوة و تؤيّده الأخبار من طرقهم و قد روي أنّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: هدايا العمّال غلول و في أُخرى: هدية العمّال سحت. «1»

و قد ظهر ممّا ذكر أنّ هذه التفاصيل تبعيد للمسافة و الأولى حسم مادة الخلاف بكلمة واحدة و هي أنّ الرشوة عبارة عن كون البذل في مقابل شي ء من الحكم بالباطل أو الحكم لصالحه، أو الحكم بالحقّ لولاه لما حكم و لا يشترط في التقابل، التصريح بل يكفي كونه معلوماً من القرائن سواء كان البذل في موضع الولاية أو غيره، كان قبل طرح الدعوى أو بعده و قبل الحكم. و على ضوء ذلك فأكثر ما يسمّيه الناس هدية، فهو هدية ظاهراً، رشوة حقيقة و لا يهمّنا دخولها فيها موضوعاً، سواء أ كانت رشوة موضوعاً أم لا فهي رشوة حكماً و ما دلّ على حرمة الرشوة، يدلّ على حرمة الهدية أيضاً لفظاً، أو بإلغاء الخصوصية و إن كان الحقّ أنّها رشوة موضوعاً و لقد أحسن السيد الطباطبائى كما مرّ حيث سمّى ما يبذل لجلب قلب القاضي رشوة لا هدية، و خصّ الثانية بما إذا كان الداعي حبّه له أو لكماله.

و بكلمة

قصيرة: إنّ البذل إذا كان في مقابل التزام القاضي بشي ء في صميم الحكم، ظاهراً أو غاية فهو رشوة و إن قُدِّم إليه باسم الهدية و أمّا إذا بذل من دون أيّ انتظار من القاضي لا ظاهراً و لا واقعاً فهو هدية.

و يؤيّده ما روي عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه استعمل رجلًا من الأزد على الصدقة يقال له ابن اللتبية.

فلما جاءه قال للنبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: هذا لكم و هذا أُهدي لي.

______________________________

(1) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 51.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 319

فقام رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم على المنبر فحمد الله و أثنى عليه و قال: «ما بال العامل نستعمله على بعض العمل من أعمالنا فيجي ء فيقول هذا لكم و هذا أُهدي لي أ فلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أُمِّه فينظر هل يُهدى له شي ء أولا؟ و الذي نفس محمّد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشي ء إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرةً لها خوار، أو شاة تيعر». ثمّ رفع يديه حتّى رأيت عفرة إبطيه فقال: «اللّهم هل بلّغت؟». «1»

ثمّ إنّ هنا فروعاً ذكرها الشيخ الأنصاري في المكاسب المحرّمة نأتي بها و بغيرها ممّا ذكره السيّد الطباطبائي في ملحقات العروة.

فروع:
الفرع الأوّل: إذا شكّ الآخذ في كون المأخوذ رشوة أو هدية

إذا بُذل للقاضي شي ء و شكّ في أنّ الدافع قصد بها الرشوة أو الهديّة الصحيحة ذهب السيّد الطباطبائي إلى جواز الأخذ حملًا لفعله على الصحّة إلّا إذا كانت هناك قرينة على إرادته منها الرشوة كما إذا لم تكن من عادته ذلك قبل المرافعة و قال:

و الأولى عدم أخذها مطلقاً، و يمكن أن يقال بحرمتها حال المرافعة لأنّه يصدق عليها الرشوة عرفاً بل يمكن أن يقال: بحرمتها تعبّداً لما في بعض الأخبار من أنّ هدايا العمّال غلول أو سحت. «2»

يلاحظ عليه: أنّ جريان أصل الصحّة مبنيّ على أنّ الرشوة و الهبة تتحدان ماهية و تختلفان قصداً، فلو قَصَد الباذل التزام القاضي بشي ء من إبطال الحقّ، أو إحقاق الباطل أو الحكم بالحقّ فهو رشوة و إن لم يقصد التزامه بشي ء، بل دفعه إليه، تكريماً أو محبّة، أو أداءً للوظيفة في حقّ الرحم فهو هديّة، فعند ذلك فالعمل

______________________________

(1) البيهقي، السنن الكبرى: 4/ 158.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 25، تفرّد السيّد بطرح هذا الفرع.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 320

الواحد الذي له حالتان يحمل على حالة الصحّة، لا على حالة الفساد كما هو الحال فيما إذا باع و شكّ أنّه هل كان ربوياً أو لا، أو أسلف و شكّ أنّه أقبض الثمن أو لا ففي جميع ذلك يحمل على الصحّة.

و أمّا إذا قلنا بأنّهما أمران مختلفان ماهية حيث إنّ أحدهما بذل في مقابل شي ء، و الآخر بذل بلا عوض فإجراء أصالة الصحّة مشكل جدّاً لأنّ القدر المتيقّن من موردها إذا أحرز عنوان الفعل و شكّ في خصوصياته لا ما إذا كان العنوان مشكوكاً و هذا كما إذا رأينا الرجل أمام الميّت، يحرّك لسانه، و لا ندري أنّه يصلي أو يدعو له بالخير و المغفرة، فلا يُحكم عليه بأنّه صلّى عليه صلاة صحيحة أو ذهب إلى الحمام ثمّ خرج و لا يدري هل كان للنظافة، أو للاغتسال، و المقام من قبيل الثاني، لأنّ البذل مع العوض، غير

البذل بلا عوض فاختلافهما يَكْمُنُ في وجود المقابل لأحدهما دون الآخر، و أمّا الاختلاف في القصد فهو تابع لاختلاف المقصود، لا أنّهما يتميزان بالقصد.

و أمّا ما أفاده من أنّه «لو دلّت القرينة على أنّه رشوة يحكم بها» فإنّما يتم إذا كانت مفيدة للاطمئنان الذي هو علم عرفي و حجّة عقلائية أمضاه الشارع، لا على مطلق الظنّ الذي لم يقم دليل على حجّيته. نعم الاستدلال بما ذكر من الرواية غير كاف في المقام، لأنّ إضافة الهدية إلى العمّال قرينة على أنّ الهدية كانت رشوة و لأجل ذلك حكم عليه بالغلول أو السحت.

الفرع الثاني: إذا اتّفقا على وجود عقد و اختلفا في نوعه

إذا اتّفقا على وجود عقد بين الدافع و القابض و لكن اختلفا في نوعه فقال الدافع: كان المبذول رشوة و قال القابض: كان هبة صحيحة قال السيّد الطباطبائي على غرار ما ذكره في الفرع الأوّل يقدّم قول القابض للحمل على الصحّة و أصل البراءة من الضمان، بناء على أنّ الضمان على فرض كونه رشوة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 321

و أمّا احتمال تقديم قول الدافع لأنّه أعرف بنيّته أو لأنّ الأصل في اليد الضمان، فلا وجه له، لعدم الدليل على الأوّل، و مثله كون الأصل الضمان لعدم الدليل عليه إلّا عموم على اليد و هي مختصّة باليد العادية و مع الإغماض عن الاختصاص فالشبهة مصداقية، و على فرض التمسّك بالعموم فيها، الحمل على الصحّة مقدّم عليه. «1»

يلاحظ عليه أوّلًا: بما عرفت من كون المورد خارجاً عن مجرى أصالة الصحّة، لعدم تعلّق الشكّ بالعقد الواحد من أجل كونه واجداً لشرائط الصحّة و عدمه، و إنّما اتّفقا على أصل العقد لكنّه مردّد بين عقدين، مختلفين و قد عرفت حاله و أنّه

ليس مجرى لأصالة الصحّة.

و ثانياً: أنّ الأصل في الأموال و هكذا الأعراض و النفوس، هو الضمان، لا البراءة و قد نبّه الشيخ بذلك في مبحث البراءة، و أوجب الاحتياط في الشبهات البدئية إذا كان المشتبه مالًا أو عرضاً أو نفساً، و ذلك لأنّ الأصل عدم الانتقال في الأموال، و عدم الحلّية في الأعراض و النفوس.

هذا تحليل كلامه حول الشقّ الأوّل، أعني: تقديم قول القابض.

و أمّا تحليل كلامه حول الشقّ الثاني، أعني: تقديم قول الدافع فقد أشكَلَ بالأُمور التالية:

1- بأنّ الدافع و إن كان أعرف بنيّته، لكن لا دليل على حجّيته.

2- إنّ قاعدة «على اليد» مختصّة باليد العادية و هي منتفية في المقام.

3- إنّ المورد من قبيل الشبهة المصداقية للعام لاحتمال كون التسليط بالمجّان و هو خارج عن تحت العموم.

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 26، و أمّا وجه كون المورد شبهة مصداقية فلخروج التسليط المجّاني عنه فيكون المورد مردّداً بين كونه باقياً تحت العام أو خارجاً عنه و داخلًا تحت المخصّص أي التسليط بالمجّان.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 322

4 و على فرض التمسّك به فأصالة الصحّة مقدّمة عليه.

و الجميع قابل للمناقشة:

أمّا الأوّل: فالظاهر اعتباره في كلّ مورد كان منشأ الشك، هو الاختلاف في نيّة العامل، نعم ليس منشأ الشكّ في المقام ناشئاً من الاختلاف في نيّة الدافع، بل منشؤه هو الاختلاف في كون العقد الواقع، رشوة أو هدية و قد عرفت أنّ القصد تابع.

و أمّا الثاني: فللمنع من اختصاصها باليد العادية، نعم هي منصرفة عن اليد الأمانية.

و أمّا الثالث: فهو صحيح لو كان هو المستند و لكن المستند إنّما هو الأصل المسلّم في الأموال و هو الضمان حتّى يدلّ

دليل على خلافه، و تسانده أصالة عدم الانتقال.

و أمّا الرابع: أعني تقديم أصالة الصحّة على عموم اليد فهو غريب، لأنّها أصل و القاعدة أمارة و معها لا تصل النوبة إلى الأصل.

الفرع الثالث: فيما إذا لم يتّفقا على وجود العقد

إذا اختلفا في أنّه مبذول رشوة من غير عقد أو أنّه عقد هبة صحيحة و الفرق بين الفرعين واضح، لاتّفاقهما على وجود عقد مشترك بينهما في السابق غير أنّ الباذل يصفه بالرشوة و الآخر بالهبة بخلاف المقام فالدافع لا يعترف بالعقد بل بالإعطاء رشوة، و القابض يدّعي العقد الصحيح و لأجل ذلك تردّد السيّد الطباطبائي في هذا الفرع في بدء الأمر فقال: فالأقوى أنّه مثل الفرع السابق و قد يحتمل عدمه لعدم عقد مشترك حتّى يحمل على الصحّة فالدافع منكر لأصل العقد لا لصحّته.

ثمّ أورد على ما احتمله بقوله: و فيه أنّ تمليكه محمول على الصحّة و لا يلزم في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 323

الحمل على الصحّة أن يكون عقد مشترك، فأصالة عدم الهبة معارضة بأصالة عدم التملّك رشوة. «1»

و الظاهر أنّ حكم هذا الفرع هو حكم السابق لعدم جريان أصالة الصحّة لعدم ثبوت الموضوع أي العقد لا أصله و لا نوعه و المرجع هو الضمان في الأموال حتّى يثبت خلافه لأصالة عدم انتقاله و لو قلنا بجريان أصالة البراءة في ناحية القابض، فإنّما تنفع في نفي الحرمة التكليفية للقابض، و لا تنفي الحرمة الوضعية بمعنى الضمان لما عرفت من أنّ الأصل في الأموال هو الضمان.

و أمّا ما أفاده من احتمال الضمان في المقام دون السابق، لعدم الاتّفاق على وجود عقد مشترك محمول على الصحّة في المقام دون السابق، فغير مفيد لما عرفت أنّ الحقّ هو الضمان

حتّى في صورة الاتّفاق على وجود عقد مشترك لأصالة الضمان في الأموال، فليس الاتّفاق و عدمه مؤثّراً في الضمان و عدمه.

ثمّ إنّه حاول تصحيح تقديم قول القابض بأمرين:

1- إجراء أصالة الصحّة في التمليك المعترف به بالطرفين.

2- تعارض أصالة عدم الهبة مع أصالة عدم التملّك رشوة.

يلاحظ على الأوّل بما ذكرنا من أنّ الأصل الحاكم في المقام هو أصالة الضمان لا أصالة الصحّة أوّلًا، و على فرض جريانها فإنّ موضوعها هو العقد، المشكوك وجوده، لا التمليك ثانياً، لأنّه يحصل من ضمّ اعتراف الدافع إلى القابض حيث إنّهما يعترفان به غاية الأمر يختلفان في وصفه.

و يلاحظ على الثاني: بأنّ الأثر مترتّب على الهبة لا على التمليك عن رشوة فتكون الهبة مصبّاً للأُصول يدّعيها القابض و ينكرها الدافع و الأصل مع الثاني حتّى يقيم القابض البيّنة، و يكفي للدافع إنكار الهبة و لا يحتاج إلى إثبات الرشوة

______________________________

(1) السيّد الطباطبائى، ملحقات العروة: 2/ 26.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 324

لأنّ مجرّد إنكار الهبة كاف في تقديم قوله مع اليمين من دون حاجة إلى إثبات كونه رشوة.

و بما ذكرنا يظهر حال الفرع الرابع و الخامس اللّذين ذكرهما الشيخ و لا نطيل الكلام في المقام و قد طرحناهما في محاضراتنا باسم «المواهب في أحكام المكاسب» فراجعهما. «1»

المسألة الثامنة عشرة: في إحضار الخصم بطلب المشتكي

إذا التمس المشتكي، إحضار خصمه مجلسَ الحكم، فهل يجب مطلقاً، حاضراً كان في ولاية الحاكم أو غائباً، حرّر الدعوى أو لا، كانت بينهما معاملة أو لا، كانت فيه مشقّة أو لا، أو لا يجب مطلقاً غاية الأمر يبعث إليه و يُعلمه الموقف و يخيّره بين الحضور أو الحكم عليه غائباً. أو يفصِّل بين الحاضر و الغائب فلا يُحضر الثاني

إلّا بعد تحرير الدعوى لاحتمال أن لا تكون مسموعة، و الإحضار قبل إحراز المشروعية حرج و ضرر أو يفصّل بين ما يعلم أنّ بينهما معاملة و عدمه فلا يحضره إلّا في الأوّل وجوه و تفاصيل و إليك نقل الكلمات:

قال الشيخ: إذا استعدى رجل عند الحاكم على رجل و كان المستعدى عليه حاضراً، اعتدى عليه و أحضره سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم، و به قال الشافعي و قال مالك إذا لم يعلم بينهما معاملة لم يحضره لما روي عن علي عليه السلام أنّه قال: لا يَعْدي الحاكمُ على خصم إلّا أن يعلم بينهما معاملة و لا مخالف له (هذا إذا كان الخصم حاضراً).

و أمّا إذا ادّعى رجل على غيره شيئاً و كان المستعدى عليه غائباً في ولاية

______________________________

(1) المواهب: 413، 416، و قد وردا ضمن المسألة الثالثة و الرابعة فلا تغفل.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 325

الحاكم في موضع ليس له فيه خليفة، و لا فيه من يَصلَح للحكم أن يجعل الحكم إليه فيه، فانّه يُحضره إذا تحرّر دعوى خصمه قريباً كان أو بعيداً و به قال الشافعي. «1»

حاصله أنّه يحضره مطلقاً إذا كان حاضراً و إلّا فيحضره بعد تحرير الدعوى.

2- و قال في المبسوط: إذا استعدى رجل عند الحاكم على رجل فإن كان حاضر اعتدى عليه و احضره مطلقاً و ليس في ذلك ابتذال لأهل الصيانات و المروءات فإنّ عليّاً عليه السلام حضر مع يهودي عند شريح ... هذا إذا كان المستعدى عليه حاضراً و أمّا إذا كان غائباً في غير ولايته، فإنّه يقضي على غائب و فيه خلاف، و إن كان غائباً في ولايته فإن كان له

قاض في موضع غيبته، كتب إليه و بعث بخصمه إليه ليحكم بينهما و إن لم يكن له فيه من يصلح أن يقضي بينهما قال لخصمه: حرّر دعواك عليه. «2»

و مختاره في المبسوط يخالف مختاره في الخلاف في خصوص الغائب حيث اكتفى في الثاني برأي واحد و هو الإحضار بعد التحرير، و جعله في المبسوط شقوقاً ثلاثة:

الف: إذا كان خارج ولايته يُقضى على غائب.

ب: لو كان في ولايته و كان هناك قاض يبعث إليه.

ج: لو لم يكن من يصلح للقضاء، يُحضر بعد التحرير.

3- و قال المحقّق: إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم أحضره إذا كان حاضراً أمّا لو كان غائباً لم يَعِده الحاكم حتّى يحرّر دعواه و الفرق لزوم المشقة في الثاني و عدمها في الأوّل. هذا كلّه إذا كان في بعض ولايته و ليس له هناك

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3/ كتاب القضاء، المسألة 3433.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 155154.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 326

خليفة يحكم له و إلّا سمع بيّنته و أرسل إلى خليفته و إن كان في غير ولايته أثبت الحكم عليه بالحجّة و إن كان غائباً.

و ما ذكره المحقّق يوافق المبسوط حيث جعل حكم الغائب شقوقاً ثلاثة فإذا كان خارج ولايته، يقضى عليه غائباً، و إذا كان داخل ولايته فإن كان في موضع إقامته نائب يرسل إليه و إلّا يحضر بعد التحرير. هذا كلّه في الرجل و أمّا المرأة فقال المحقّق:

و لو ادّعى على امرأة فإن كانت برزة فهي كالرجل و إن كانت مخدّرة بعث إليها من ينوبه في الحكم بينها و بين غريمها. «1»

4- و قال العلّامة: و إذا سأل الخصم إحضار الخصم مجلس الحكم اجيب

مع حضوره و إن لم يحرّر الدعوى و لا يجاب في الغائب إلّا مع التحرير، و لو كان في غير ولايته أثبت الحكم عليه و إن كانت امرأة مبرزة كلّفت الحضور و إلّا انفذ من يحكم بينهما. «2»

و قال الشهيد الثاني: إذا كان الخصم في البلد وجب إحضاره مطلقاً عند علمائنا و أكثر العامّة و قال مالك: إن كان من أهل المروات لم يحضره إلّا أن يعرف بينهما معاملة صيانة له من الابتذال (ثمّ ذكر بعد بيان كيفية الإحضار) و إن كان في خارج ولايته فإنّ له أن يحكم عليه بشرائط القضاء على الغائب، و إن كان في داخل ولايته فإن كان له نائب لم يحضره بل يسمع البيّنة و يكتب إليه، فإن لم يكن هناك نائب فإن كان من يصلح للاستخلاف، استخلفه و أذن له في القضاء بينهما و إلّا طولب المدّعي بتحرير الدعوى فقد تكون غير مسموعة. «3»

و ما ذكره قريب ممّا ذكره في المبسوط غير أنّه جعل للغائب صوراً أربع.

أقول: إنّ المسألة ممّا لم يرد فيه نصّ و ما ذكر من الأقوال، اصطياد من

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 79.

(2) العلّامة الحلي: إرشاد الأذهان 2/ 142.

(3) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 405.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 327

القواعد العامّة و لكل ذوقه و فهمه.

أمّا الحاضر في البلد، فلا شكّ أنّ القضاء شُرّع لسماع الدعاوي من الطرفين و هو يقتضي إخبارها بالموضوع ليحضرا حتّى يسمع القاضي كلامهما في مجلس الحكم و لأجل ذلك يقول ابن سعيد الحلي: «و ينبغي أن لا يحكم بين الخصمين إلّا في مجلس حكم» «1»، و لكنّه إن احرز أنّ الدعوى مسموعة، سواء

كان صاحبها محقّاً أو لا فيشرع من الإخطار إلى الإحضار و أمّا مع الشكّ فيها، فجواز الإحضار فضلًا عن وجوبه موضع تأمّل و ذلك لأنّ الحاضر لا تخلو حاله عن أمرين إمّا أن يكون الحضور عليه حرجياً أو ضررياً فإيقاعه في الضرر و الحرج القطعيين بمجرّد احتمال كون دعواه مسموعة، غير جائز قطعاً إذ معناه تقديم محتمل الضرر على قطعيه إلّا أن يكون المحتمل أقوى، و لا يعلم إلّا بعد بيان الدعوى و تحريرها و المفروض عدمه.

و أمّا غير المتضرّر، فإيجاب الحضور عليه، بلا حجّة (الدعوى المسموعة) يحتاج إلى الدليل و لأجل ذلك يجب أن يقيّد الوجوب إمّا بتحرير الدعوى أو وقوف القاضي من القرائن على أنّ الدعوى مسموعة و إن لم يميّز المحقّ عن المبطل لأنّ سماع الدعوى غير كون مدّعيها محقّاً فعند ذلك يخبره و يطلب منه الحضور و إلّا يحضره على نحو يجمع بين حقّ صاحب الدعوى و كرامة المستعدى عليه بخلوّ إحضاره من أيّ إهانة أو ابتذال و إسقاطه عن عيون الناس، و بما أنّ حضور الخصم مقدّمة القضاء لا نفسه يتخيّر القاضي في الوصول إليه بين صورها المختلفة. «2»

و الاستدلال باجتماع علي عليه السلام مع أحد الرعايا مجلس شريح، لا يصلح دليلًا، لأنّه عليه السلام كان مدّعياً، لا منكراً، و كان مستعدياً لا مستعدى عليه.

هذا كلّه حول الحاضر بكلا قسميه من المتضرّر و غيره فالشرط الوحيد هو إحراز كون الدعوى مسموعة. و لكن لمّا كان الحضور مقدّمة للقضاء يتوصّل

______________________________

(1) ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 525.

(2) لاحظ مجمع الفائدة: 12/ 92.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 328

القاضي لتحصيل المقدّمة، أسهلها و أبعدها عن الوهن، و

هو يختلف حسب اختلاف الأمكنة و الأزمنة فيبدأ بأسهل الطرق، و ينتهي إلى الجلب إلى المحكمة و لكل محلّه و شرطه.

و أمّا الغائب فسيوافيك عنه البحث تبعاً للشرائع تحت عنوان «مسائل تتعلّق بالحكم على الغائب». «1»

***

______________________________

(1) لاحظ الجواهر: 40/ 220.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 329

النظر الثالث في كيفية الحكم

اشارة

و فيها مقاصد

المقصد الأوّل: في وظائف الحاكم

اشارة

و هي سبع:

الأُولى: التسوية في أنواع الإكرام بين المتخاصمين

من آداب مجلس الحكم رعاية القاضي التسوية بين المترافعين في أنواع الإكرام و هل هي واجبة أو مستحبّة، أو يفصّل بين الإنصات و العدل في الحكم فهما واجبان لأنّ الإنصات بمعنى استماع الدعوى و جوابها و هو واجب. وجوه و عبارات الأصحاب مختلفة بين ظاهرة في الوجوب، و صريحة في الاستحباب أو في التفصيل:

1- قال الشيخ: على الحاكم أن يسوّي بين الخصمين في الدخول عليه، و الجلوس بين يديه، و النظر إليهما، و الإنصات إليهما و الاستماع منهما و العدل في الحكم بينهما. روت أُم سلمة أنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: من ابتلى بالقضاء بين الناس فليعدل بينهم في لحظه و إشارته، و مقعده فلا يرفعن صوته على أحدهما بما لا يرفع على الآخر، و كتب بعض الصحابة إلى قاضيه كتاباً طويلًا. فقال فيه واس بين الناس في وجهك و مجلسك و عدلك حتى لا ييأس ضعيف من عدلك و لا يطمع

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 330

شريف من حيفك. «1»

2- قال المحقّق: «التسوية بين الخصمين في السلام و الجلوس و النظر و الكلام و الإنصات و العدل في الحكم» «2» و لعلّ عطف الأخيرين الواجبين على غيرهما ظاهر في كون التسوية واجباً في الجميع.

3- قال العلّامة: و تجب على الحاكم التسوية بين الخصمين إن تساويا في الإسلام و الكفر، في القيام و النظر، و جواب السّلام و أنواع الإكرام و الجلوس و الإنصات و العدل في الحكم. «3»

4- و قال في الإرشاد: إذا حضر الخصمان بين يديه سوى بينهما في السّلام و الكلام و القيام و النظر و أنواع الإكرام

و الإنصات و العدل في الحكم. «4»

و العبارتان الأخيرتان صريحتان في الوجوب و أمّا عبارة المحقّق فمحتملة له، و سيوافيك في الوظيفة الثالثة أنّه جوّز تخصيص الخطاب بأحد المترافعين و هو يوافق استحباب التسوية لا وجوبها و ممّن قال بالاستحباب: سلّار، و ابن ادريس.

5- قال سلّار: و ليكن نظره إليهما متساوياً و مجلسهما كذلك ... فهذا كلّه ندب. «5»

6- و قال ابن إدريس: و يستحبّ أن يكون نظره إليهما واحداً و مجلسهما بين يديه على السواء لا أنّ ذلك واجب على ما يتوهمه من لا بصيرة له بهذا الشأن. «6»

استدلّ على الحكم بروايات غير نقيّة السند، لكن التعاضد و إتقان المضمون، يدلّ على الصدور خصوصاً ما رواه سلمة بن كهيل عن أمير المؤمنين عليه السلام: واس بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك حتّى لا يطمع قريبك

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 139، و المقصود من «بعض الصحابة» هو أمير المؤمنين عليه السلام على ما في رواية سلمة بن كهيل.

(2) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 80.

(3) العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 30، قسم المتن.

(4) العلّامة الحلي، إرشاد الأذهان: 2/ 140.

(5) سلّار الديلمي، المراسم: 231.

(6) ابن إدريس، السرائر: 2/ 157.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 331

في حيفك و لا ييأس عدوك من عدلك. «1»

يلاحظ عليه: أنّ في السند عمرو بن أبي المقدام، و هو لم يوثق و كون الراوي من أصحاب الإجماع كالحسن بن محبوب ليس دليلًا على كون المرويّ عنه ثقة كما أوضحنا حاله في كتابنا: «كليّات في علم الرجال»: أضف إلى ذلك أنّ «واس» الذي هو لغة في «اس» بمعنى التعاون من واسى الرجل بمعنى عاونه و هو غير المساواة، على

أنّه غير مختصّ بمجلس المرافعة، و التعليل يناسب كونه مستحبّاً، لأنّ الواجب على القاضي، هو الحكم بالعدل، فلو قام بعمل طمع القريب في حيفه، و لكنّه لم يحف، ليس عليه شي ء. كلّ ذلك دليل على أنّ هذه الأُمور مستحبّة إلّا ما دلّ الدليل على وجوبه كالإنصات و العدل في الحكم.

و منه يظهر حال ما رواه السكوني. «2»

و قال المحقّق الأردبيلي: إنّ ظاهر الرواية (السكوني) الوجوب و لكن للندرة و ضعف السند و الأصل و ورود الأمر للندب كثيراً خصوصاً في مقام بيان الآداب الأعم حملت على الندب «3» نعم لو انتهى ترك العمل بها إلى تحقير الآخر و إهانته يحرم.

و قد استثنى من ذلك أمران:

1- التسوية في الميل القلبي لأنّ ذلك غير مقدور.

2- تفضيل المسلم على الكافر فلا مانع من كون الكافر قائماً و المسلم جالساً ليميّزا و لكنّه لا يكون دليلًا على العدول عن الحقّ و قضيّة الإمام مع يهودي حضر لدى شريح معروفة. «4»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2) نفس المصدر، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث 32.

(3) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 54.

(4) الطوسي: المبسوط: 8/ 149، و ابن قدامة، المغني: 11/ 444.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 332

الثانية: في تحريم تلقين أحد الخصمين على الآخر

قال الشيخ: إذا جلس الخصمان بين يديه لم يكن له أن يلقّن أحدهما ما فيه ضرر على خصمه و لا يهدي إليه، مثل أن يقصد الإقرار فيلقّنه الإنكار، أو يقصد اليمين فيلقّنه ألّا يحلف. «1»

قال المحقّق: «لا يجوز للحاكم أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه، و لا أن يهديه لوجوه الحجاج» «2»، أي ليس له أن يعين المدّعي في

ادّعائه ليكون ادّعاؤه مسموعاً، كما إذا ادّعى بطريق الاحتمال فيعلمه أن يدّعي بالجزم حتّى تكون دعواه مسموعة، و لا أن يعين المنكر في إنكاره. كما إذا قال له المدّعي، أقرضته كذا درهماً، فأراد المدّعى عليه أن يقول، بأنّه أدى دينه و بما أنّ هذا النمط من الجواب يجعله مدّعياً لا يقبل منه إلّا بالبيّنة، يُعلمه القاضي لينكر الدين من أساس. كلّ ذلك إدخال ضرر على الخصم و إرشاد لأحد المترافعين ليغلب على الآخر، فالجملتان «3» في عبارة المحقّق تشيران إلى معنى واحد و دليل التحريم كونه مخالفاً لشئون القضاء و هو المحايدة و أين هي من تلقين الحجّة على أحد المتخاصمين مضافاً إلى احتمال إيراد الضرر على خصمه، و أمّا ما ذكره المحقّق من أنّه يفتح باب المنازعة و قد نصب لسدّها فليس بكاف إذ لا دليل على تحريمه ما لم ينجر إلى إبطال الحقوق.

نعم لا بأس بالاستفسار و التحقيق و إن استفاد منه الخصم، كما أنّه لا بأس بالتلقين، إذا علم أنّه الحقّ و لا يلزم منه فتح باب المنازعة.

هذا كلّه في القاضي و أمّا الوكيل فهو على طرف النقيض من الحيادة، فله أن يعلمه و يلقنه طريق الغلبة، ما لم يقف على فساد الدعوى و إلّا فيحرم الدفاع عنه

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 150.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 80.

(3) التلقين، و الهداية و حاول في مفتاح الكرامة أن يفرّق بينهما بوجه غير مهمّ فلاحظ ج 10/ 34.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 333

الثالثة: في عدم مواجهة أحدهما بالخطاب

قال المحقّق: إذا سكت الخصمان استحب أن يقول لهما تكلّما أو ليتكلّم المدّعي، و لو أحسّ منهما أنّ سكوتهما بسبب احتشامه، أمر من يقول

ذلك و يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر. «1»

و ذكر العلّامة صدر الكلام و ترك ذيله أي قوله: «و يكره أن يواجه أحدهما بالخطاب» و لو كانت التسوية واجبة لما جاز أن يخصّ أحدهما بالخطاب إلّا أن يجعل ذلك قرينة، على كون التسوية لدى المحقّق مستحبّة.

و يظهر من الشيخ أنّه على الحرمة قال: «و لا يقول لواحد منهما تكلّم لأنّه إذا أفرده بالخطاب كسّر قلب الآخر». «2»

و لكن الكراهة أظهر و قد مرّ عدم الدليل الواضح على وجوب التسوية في غير الإنصات و العدل في الحكم.

الرابعة: في الدعوة إلى الصلح

قال المحقّق: إذا ترافع الخصمان و كان الحكم واضحاً لزمه القضاء و يستحبّ ترغيبهما في الصلح فإن أبيا إلّا المناجزة، حكم بينهما. «3»

و قال العلّامة: و إذا اتّضح الحكم وجب، و يستحبّ الترغيب في الصلح و إن أشكل أخّر إلى أن يتّضح. «4»

إذا ظهر للحاكم بعد تحرير الدعوى و المنازعة الحكم الحقّ، يحب عليه الحكم به إذا طلب المحكوم له لا مطلقاً كما سيوافيك و كونه فورياً لأجل أنّه

______________________________

(1) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 80.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 150.

(3) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 81.

(4) العلّامة الحلي، إرشاد الأذهان: 2/ 141.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 334

حقّ مطالب و لا مسوّغ للتأخير، كما أنّه إذا لم يظهر الحكم الحقّ، فعليه أن يتأمّل و يجتهد و يطالع و يباحث العلماء حتّى يظهر الحكم. إنّما الكلام استحباب الدعوة إلى الصلح بعد ظهور الحكم و طلب المحكوم على وجه لا ينافي الفورية العرفية و ما في المسالك من أنّ الترغيب إلى الصلح، ينافي الفورية و إلّا لم يصحّ الاشتغال عنه بالترغيب في

الصلح، ليس بتام لعدم منافاته مع الفورية العرفية.

و يمكن استظهار الاستحباب مما نذكر.

1- عمومات الدعوة إلى الصلح، منها: ما رواه اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ و جلّ: (وَ لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النّٰاسِ) «1» قال: إذا دعيت لصلح بين اثنين فلا تقل عليّ يمين أن لا أفعل. «2»

و معنى الآية لا تجعلوا اليمين بالله مانعاً عن البرّ و التقوى و الصلح لئلّا تبرّوا و تتّقوا، نظير قوله سبحانه (يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ...) (النساء/ 176) أي لئلّا تضلّوا، و الآية نزلت في عبد اللّه بن رواحة حلف أن لا يدخل ... و لا يكلّمه و لا يصلح بينه و بين امرأته فكان يقول إنّي حلفت بهذا فلا يحلّ لي أن أفعل فنزلت الآية. «3»

2- لو لا الترغيب إلى الصلح ربّما يتوجّه إلى المنكر الحلف و هو مكروه و إن كان صادقاً. «4»

الخامسة: فيما إذا ازدحمت جماعة من المدّعين

إذا ورد الخصوم إلى المحكمة متعاقبين و عُرف المتقدِّم و المتأخر بُدِئ بالأوّل

______________________________

(1) البقرة/ 224.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 1 من أبواب الصلح، الحديث 5 و لاحظ روايات الباب.

(3) الطبرسي: 1/ 322، ط صيدا.

(4) الوسائل: الجزء 16، الباب 1 من أبواب كتاب الأيمان، لاحظ أحاديثه.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 335

فالأوّل.

فإن وردوا جميعاً، أو لم يُعْرَف الترتيب فقد ذكر المحقّق لحلّ مشكلة الترتيب وجهين:

1- يُقْرع بينهم.

2- تكتب أسماء المدّعين و لا يحتاج إلى ذكر الخصوم، و قيل يذكرهم أيضاً لتنحصر الحكومة و يجعلها تحت ساتر ثمّ يُخْرج رُقعة رقعة و يستدعي صاحبها.

ما هو الفرق بين الطريقين و هل الطريق الثاني

أيضاً نوع إقراع، و الظاهر أنّه كانت للقرعة في الأعصار السابقة صورة خاصّة من وضع الرقاع في بنادق «1» من طين و سترها و نحو ذلك بخلاف الصورة الثانية فإنّها ليست إلّا كتابة أسماء المدّعين في رقاع و صبُّها تحت يدي القاضي مستورة ليأخذها واحدة واحدة و يسمع دعوى من خرج اسمه في كلّ مرتبة و هذا في الحقيقة ضرب من القرعة لا على الوجه المشهور. «2».

و كان تعبّدهم بالصورة الأُولى على حدّ نقل المحقق أنّه إنّما يعمل بالصورة الثانية إذا تعسّرت القرعة بالصورة الأُولى و نسبه في المسالك إلى المشهور.

أمّا لزوم تقديم السابق وروداً فلأجل أنّه يوجد السبق حقّاً للسابق في نظر العرف و العقلاء بحيث يرون التخلّف عنه ظلماً و تعدّياً و هذا كاف في لزوم العمل به و إذا كان عندهم كذلك فليس للقاضي التجاوز عنه فيعمّه قوله سبحانه: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ) (ص/ 26) فيشمل أيضاً ما يعدّ حقّاً في نظر عامّة الناس بفطرتهم.

و أمّا إذا لم يعلم السبق فبما أنّ المقام مظنّة التنازع فالإقراع، الطريق الوحيد لرفعه نعم المتقدّم بالسبق أو القرعة إنّما يقدّم في دعوى واحدة فإن كان له دعوى

______________________________

(1) البندق كلّ ما يرمى به من رصاص كرويّ و سواه.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 405.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 336

غيرها، يحضر في مجلس آخر، و يكفي في لزوم عدم الاشتغال به. إنّ العدول عنه يعدّ تعدّياً إلّا إذا لم يتوقف على صرف وقت كثير يعدّ تضييعاً لحقّ الآخرين.

هذا ما يرجع إلى السابق أمّا في محاكم اليوم، فيراعى الترتيب حسب تسلسل ورود الشكوى لدائرة استلام المرافعات.

و مع ذلك فربّما يرى القاضي أنّ

التأخير في القضاء، يوجّه ضرراً كثيراً بالنسبة إلى أحد المترافعين أو أنّ المتّهم سوف يترك ولاية القضاء فلا تصل اليد إليه، فعند ذلك يقدّم ما هو الأصلح للقضاء. أو أنّ الاشتغال بالمرافعة المتأخّرة، يكون مؤثّراً في حلّ المرافعة الأُولى أو انّ التحقيق بعدُ لم يتمّ من حيث تكميل ملفّ المرافعة ففي جميع ذلك يكون للقاضي، العدول عن السابق إلى اللاحق.

السادسة: في قطع كلام المدّعي بطرح دعوى جديدة

إذا كان المتقدّم من المدّعيين أحقّ في طرح الدعوى و سماع القاضي منه من غيره، يترتب عليه أنّه لو قطع المدّعى عليه، دعوى المدّعي بدعوى، لم تسمع حتى يجيب عن الدعوى و تنتهى الحكومة فإنّه حينئذ مدّع متأخّر عن الأوّل فلا تسمع دعواه ما لم يفرغ القاضي عن الحكومة في الاولى إلّا إذا كانت بين الدعويين صلة، ربّما تلقى الثانية ضوءاً في حال الدعوى الأُولى فلا مانع عندئذ من استماعها.

نعم بعد الفراغ، يستأنف هو دعواه الثانية إن لم يكن هناك مدّع متقدّم.

السابعة: فيما إذا سبق أحد الخصمين بالكلام
اشارة

لا شكّ أنّ المدّعي هو الأحقّ بالابتداء بالكلام لأنّه المشتكي هو و إذا ترَكَ تُرِكَ، لكن إذا تنازع الخصمان و زعم أنّ كلّ واحد منهم هو المدّعي نظر، فإن سبق أحدهما بالدعوى، لم يلتفت إلى قول الآخر الذي يقول: أنا المدعي بل عليه أن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 337

يجيب ثمّ إن شاء طرح الدعوى.

لكن إذا لم يبتدئ واحد منهما بالدعوى فلا بدّ في ترجيح أحدهما على الآخر، من مرجّح، فقيل: يقدّم من كان جالساً على يمين خصمه و يكون بالطبع أمام يسار القاضي. قال الشيخ: إذا حضر اثنان عند الحاكم معاً في حالة واحدة كلّ واحد منهما يدّعي على صاحبه، من غير أن يسبق أحدهما بها. روى أصحابنا أنّه يقدّم من هو على يمين صاحبه و اختلف الناس في ذلك على ما حكاه ابن المنذر، فقال: منهم من قال: يُقْرع بينهما و هو الذي اختاره أصحاب الشافعي و قالوا: لا نصّ فيها عن الشافعي، و منهم من قال: يُقدِّم الحاكم منهما من شاء، و منهم من قال: يصرفهما حتى يصطلحا، و منهم من قال: يستحلف كل

واحد منهما لصاحبه. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم و لو قلنا بالقرعة كما ذهب إليه أصحاب الشافعي كان قوياً لأنّه مذهبنا في كلّ أمر مجهول. «1»

فظهر أنّ هنا قولين:

1- يقدِّم قول الجالس عن يمين الخصم.

2- يقرع، و دليل القول الثاني واضح أشار إليه الشيخ في كلامه إنّما الكلام في دليل القول الأوّل.

فقد استدل للأوّل بما رواه الصدوق بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أن يقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام. «2»

و رواه ابن الجنيد عن كتاب الحسن بن محبوب عن محمد بن مسلم «3» و سند الصدوق إلى محمّد بن مسلم غير نقي، و سند ابن الجنيد إلى الحسن بن محبوب غير

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3/ 319، كتاب القضاء، المسألة 32، و لاحظ المبسوط: 8/ 154.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(3) المرتضى، الانتصار: 244.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 338

معلوم لنا و هل المراد يمين الخصم، أو يمين القاضي و ليس صريحاً في يمين صاحبه كما عبّر به الشيخ في الكتابين. نعم على ما قرر السيّد المحقّق البروجردي من أنّ الصدوق نقل الأحاديث عن الكتب الثابتة إسنادها إلى مؤلفيها (كما صرّح به الصدوق في أوّل الفقيه). و أنّ ذكر الاسناد إلى مؤلفي هذه الكتب تبرّعي لا إلزامي، يرتفع الإشكال في السند.

روى الصدوق بسند صحيح عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إذا تقدّمتَ مع خصم إلى وال أو إلى قاض فكن على يمينه يعني يمين الخصم» و الظاهر أنّ التفسير

من الصدوق و على فرض صحّته لا يدلّ على أنّه كان مدّعياً و أنّ له حقّ السبق بالكلام. و لو قيل بالقرعة أو فوّض الأمر إلى اختيار القاضي لكان أحسن أيضاً.

إذا كثر المدّعون، و وردوا مجتمعين، فقد تقدّم أنّ القاضي يقرع بأحد النحوين، فيقدّم في الاستماع من خرج اسمه لكن لو افترضنا أنّ بين المدّعين مسافراً أو مرأة ربّما يكون تأخير سماع دعواهما، سبباً لوقوعهما في الضرر و الحرج الشديدين فيقدّما على غيرهما و ربّما يقال بعدم اقتضاء ذلك سقوط حقّ الآخر، و يمكن أن يقال: إنّما يرجع إلى القرعة إذا لم يكن هناك مرجّح شرعي و المفروض تضرّرهما دون الآخرين، و على ذلك لا يختصّ الحكم بالمسافر و لا بالمرأة بل يعمّ كل مورد يصاحب الضرر، لو أخّر، و هل يمكن إسراء الحكم إلى ما كان المتضرّر متأخّراً قطعاً، أو لا؟ وجهان:

كراهة الشفاعة للقاضي

ذكر المحقّق أنّه يكره للحاكم أن يشفع في موردين:

1- إسقاط حقّ بعد ثبوته

2- إبطال دعوى قبل ثبوتها

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 339

لقول النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لأُسامة: يا اسامة لا تسألني حاجة إذا جلست مجلس القضاء فإنّ الحقوق ليس فيها شفاعة. «1» و الحديث أجنبيّ عن المقام لكون البحث في شفاعة القاضي، لا شفاعة الغير عند القاضي.

و قد سبق في الوظيفة الرابعة: أنّه إذا ترافع الخصمان و كان الحكم واضحاً يستحبّ ترغيبهما في الصلح، و عند ذلك يقع الكلام في كيفية الجمع بينهما و يمكن الجمع بوجهين:

1- إنّ الترغيب إلى الصلح قبل الحكم بالحقّ و إن كان واضحاً عند القاضي بخلاف المقام فإنّ الشفاعة بعده. «2»

2- إنّ الترغيب إلى الصلح

راجع إلى حقوق الناس بخلاف المقام فإنّه راجع إلى حدود الله.

على أنّ القاضي إذا أعياه الأمر و لم يجد طريقاً صحيحاً للقضاء يأمر بالصلح أيضاً.

المقصد الثاني: في مسائل متعلّقة بالدعوى

اشارة

و هي خمس:

الأُولى: لا تسمع الدعوى إذا كانت مجهولة

يشترط أن يكون المدّعى به معلوماً بالجنس و النوع و الوصف و القدر كما عن الشيخ و أبي الصلاح و ابني حمزة و زهرة و إدريس و الفاضل في التحرير، و التذكرة

______________________________

(1) النوري، المستدرك: الجزء 17، الباب 11 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(2) لاحظ الوسائل: الجزء 18، الباب 20 من أبواب مقدّمات الحدود.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 340

و الدروس فلا تسمع إذا كان مجهولًا كما إذا ادّعى فرساً أو دابّة أو ثوباً أو شيئاً. «1»

1- قال الشيخ إنّ ما يدّعيه لم يخل من أحد أمرين إمّا أن يكون أثماناً أو غيرها فإن كان أثماناً فلا بدّ من ثلاثة أشياء يكون بها معلومة و هو أن يذكر القدر و الجنس و النوع، فالقدر ألف، و الجنس دراهم، و النوع راضية أو عزيّة.

و أمّا إذا كانت من غير الأثمان فقسّمها إلى القائمة و التالفة، و القائمة إلى ما يمكن ضبطها بالصفات كالحبوب و الثياب فيذكر صفاتها و إلى ما لا يمكن فليذكر القيمة، ثمّ قسم التالف إلى مثلي يذكر صفاته و قيمي يذكر قيمته. «2»

2- و قال عماد الدين الطوسي: و لا يجوز سماع الدعوى غير محرّرة إلّا في الوصيّة و إنّما تتحرّر الدعوى في الدين بثلاثة: قدر المال و الجنس و النوع و ربّما احتاج إلى وصف رابع إذا اختلف النوع مثل من ادّعى مائة درهم فلاني و كان بين الصحيح و العلّة تفاوت. «3»

3- و قال ابن إدريس: فإن كان أثماناً فلا بدّ من ذكر ثلاثة أشياء تكون معلومة و هو أن يذكر القدر و الجنس و النوع و أمّا إن كانت غير الأثمان

فقد ذكر نفس ما ذكره الشيخ في المبسوط. «4»

4- و قال المحقّق: لا تسمع الدعوى إذا كانت مجهولة مثل أن يدّعي فرساً أو ثوباً و يقبل الإقرار بالمجهول و يلزم تفسيره و في الأوّل (عدم قبول الدعوى المجهولة) إشكال. «5»

و لعلّ المحقّق أوّل من خالف الرأي السائد قبله إذ أيّ فرق بين الدعوى

______________________________

(1) النراقي، المستند: 2/ 514513؛ و السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 38.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 157156 بتلخيص.

(3) عماد الدين، الوسيلة: كتاب القضاء 216.

(4) ابن إدريس، السرائر: 2/ 178.

(5) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 82.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 341

و الإقرار، فإنّ الأوّل لا يقبل، و الثاني يقبل لكن يلزم بتفسيره و ربّما قيل إنّ الفرق و هو أنّ إقرار المقرّ يسمع إذ لو ردّ ربّما يرجع عن إقراره فلأجل ذلك يقبل، حتى يفسره بخلاف ادّعاء المدّعي فبما أنّه لصالحه، فلو لم يقبل يرجع و يدّعي شيئاً معلوماً، إذ له داع لأخذ حقّه من غيره.

يلاحظ عليه: أنّ المهم، شمول الأدلّة للمجهولة منهما أوّلًا، و لا اعتبار بهذه الاستحسانات ثانياً.

و الأولى أن يقال: يجب أن تكون الدعوى ذات أثر شرعي فلو ادّعى على رجل شيئاً لا أثر شرعي لها كما إذا قال لي عنده شي ء، و هو مردّد بين ما له القيمة و ما ليس له قيمة، فلا تشمله الأدلّة و أمّا إذا كان مع كونه مجهولًا، ذا أثر شرعي فيقبل و إن كان مجهولًا من جهة و معلوماً من جهة أُخرى كما إذا ادّعى أنّ له على زيد ثوباً أو دابّة فيقبل الادّعاء فإن قامت البيّنة على تعيين المدّعى به من حيث الخصوصيات التي تختلف بها القيم،

و إلّا فيُلزم بالأقلّ قيمة من محتملات الثياب أو الدواب لا الخارج عنهما و تحتمل القرعة فإذا ادّعى أنّ له عليه ثوباً لكن نسي خصوصياته، و كان المدّعى به محتملًا بين ثياب أو دوابّ مختلفة محدودة فإن كان موجوداً يقرع بين الثياب أو الدواب، فإن تلف فإن اتّفقا في القيمة و إلّا، فيدفع الأقل.

الثانية: إيراد الدعوى بصيغة الجزم
اشارة

من شروط صحّة طرح الدعوى إيرادها بصيغة الجزم و عليه لفيف من الفقهاء فلا يصحّ أن يقول: أظنّ أو أتوهّم كذا سواء أ كان في قلبه جازماً أو لا:

1- قال المحقّق: و لا بدّ من إيراد الدعوى بصيغة الجزم فلو قال: أظنّ أو أتوهّم لم تُسمع و كان بعض ما عاصرناه يسمعها في التهمة و يحلف المنكر. و هو بعيد عن شبه الدعوى. «1»

______________________________

(1) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 82.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 342

2 و قال العلّامة: لا يجوز أن يعتمد على خطّه إذا لم يتذكّر.

و قد تتبّع المحقّق النراقي الأقوال في المسألة و تبعه السيّد الطباطبائي و هي لا تتجاوز عن ستّة.

1- لا تسمع الدعوى الظنيّة و الوهمية.

2- تسمع مطلقاً لو كانت احتمالية.

3- تسمع في صورة التهمة.

4- تسمع في صورة الظنّ.

5- تسمع فيما يخفى و يعسر الاطّلاع عليه كالقتل و السرقة و نحوهما دون ما لا يخفى.

6- تسمع عند احتمال الإقرار أو وجود البيّنة أو ادّعاء المدّعي أحدهما فإن تحقّق و إلّا سقطت، كما تسقط مع عدم احتمال شي ء منهما من الأوّل. «1»

إنّ الظاهر من كلماتهم أنّ وجه الاشتراط أحد أمرين: إمّا لعدم صدق الدعوى إذا لم يكن جزم في عرضها، أو لعدم ترتّب أثرها عليه من حلف المدّعي إذا ردّ المنكر عليه،

أو القضاء بالنكول، فلا يصحّ للمدّعي الحلف لعدم علمه بصحّة الدعوى كما أنّه لو قضى القاضي بالنكول لما صحّ له التصرّف في المدّعى به للوجه المذكور، فلأجل ذينك الوجهين التزموا باشتراط الجزم في صيغة الدعوى مطلقاً أو في بعض الموارد كما عرفت في الأقوال.

غير أنّ هذه الوجوه غير صالحة للاستدلال.

أمّا الأوّل فيمنع عدم صدق الدعوى مع الظنّ و التهمة و لا يمكن إنكاره بل تطلق عليه الدعوى في مقام التهمة و غيرها و لأجل ذلك يجوز تحليف الأمين مع

______________________________

(1) النراقي، المستند: 2/ 514، و السيد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 42 و القول الأخير لوالد النراقي، أعني: الشيخ مهدي النراقي في المعتمد فإذا كان للولد «المستند» فللوالد «المعتمد».

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 343

التهمة كما في غير واحد من الروايات.

روى بكر بن حبيب: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: اعطيت جبّة إلى القصار فذهبت بزعمه قال: إن اتّهمته فاستحلفه، و إن لم تتّهمه فليس عليه شي ء. «1»

كلّ ذلك يدلّ على أنّه لا يشترط في طرح الدعوى الجزم بالصيغة بل يكفي كون الدعوى مقبولة عند العقلاء.

نعم فرق بين المقام و مورد الرواية فإنّ الحالف فيها، هو المدّعي، أعني: القصّار و الحائك اللذين يدّعيان أنّ الثوب قد سُرِقَ، بخلاف المقام فإنّ الحالف لو قلنا بسماع الدعوى هو المنكر، دون المدّعي و لكن وجه الاستدلال غير مبني على التماثل بين البابين من جميع الجهات بل من جهة أنّه يجوز طرح الدعوى مع عدم الجزم بهما.

و أمّا الثاني و الثالث: أي قبول اليمين المردودة من المنكر، أو القضاء بالنكول فلا نلتزم بكونها من آثار الدعوى على وجه الإطلاق لأنّه إنّما يحلف باليمين المردودة أو

يُقضى بالنكول إذا لم يكن هناك مانع و هو في المقام موجود لأنّ المفروض عدم جزم المدّعي بالمدّعى به فكيف يحلف، أو يتصرّف فيما قُضي له بالنكول.

هذا هو إجمال الكلام في المسألة و تحقيق الحقّ يقتضي التفصيل و هو.

لا شكّ أنّه إذا علم بالحقّ، صحّ له طرح الدعوى على وجه الجزم كما أنّه إذا علم بعدمه يحرم عليه طرح الدعوى مطلقاً إنّما الكلام فيما إذا لم يكن له علم جازم أي العلم حسب اصطلاح المنطقيين فهنا صورتان:

الأُولى: إذا كانت معه حجّة شرعية كما إذا قامت البيّنة على كونه مديوناً أو دلّ الاستصحاب على كونه كذلك، أو أقرّ خارج مجلس الحكم، أو وجد بخطّه أو

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 29، من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 16، و يلاحظ الحديث 17 و 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 344

خطّ المدّعى عليه أنّه مديون و أمن من التزوير فإنّه حجّة عقلائية بلا كلام.

الثانية: إذا لم تكن له حجّة شرعية أو بيّنة عقلائية بل لم يكن له إلّا مجرّد احتمال يحتمل معه انتهاء الأمر إلى إقرار المدّعى عليه بالدين و نحوه و الكلام في كلّ منهما يقع في موردين:

تارة في جواز طرح الدعوى من جانب المدّعي و عدمه و أُخرى، في جواز سماع الدعوى للقاضي و عدمه، و بعبارة أُخرى يقع الكلام تارة في الحكم التكليفي للمدّعي، و أُخرى في الحكم الوضعي للقاضي من حيث وجوب السماع و اعمال قواعد القضاء فلنبحث عن الصورتين واحدة بعد الاخرى.

الأُولى: إذا كانت للمدّعي حجّة شرعية

أمّا جواز طرح الدعوى فلا شكّ في أنّه إذا كان للمدّعي حجّة شرعية، أنّ له حق المطالبة و طرح الدعوى باحدى الصور التالية:

1- أن يطرح الدعوى

بصورة الاخبار و يقول: لي على فلان دينار، من دون أن يذكر مصدرها.

2- تلك الصورة، لكن يضمّ إليها ذكر المصدر، و يقول: لي على فلان دينار، لقيام البيّنة.

3- أن يطرح الدعوى بصورة الإنشاء، و يقول خطاباً للقاضي: اطْلب من فلان ديناراً. و إن لم يكن له علم وجداني، إذ يكفي في عدم صدق الكذب استناده إلى الحجّة الشرعية خلافاً للمحقّق الرشتي حيث زعم أنّه كذب مسوغ لأجل استنقاذ الحقّ الذي قامت عليه أمارة شرعية.

يلاحظ عليه: أنّ إظهار الدعوى بالجزم مع عدمه في القلب إنّما يعدّ كذباً و تدليساً إذا لم يستند إلى دليل شرعي، و أمّا معه فلا يوصف به، و قد أشار إليه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 345

صاحب الجواهر في ثنايا كلامه «1» و أمّا الكذب المضموني فهو يتحقّق مع الجزم أيضاً، كما هو واضح.

و أمّا سماع الدعوى فيجب على القاضي سماعها، لوجود المقتضي و هو الدعوى الصحيحة و فقدان المانع، حتّى و لو علم القاضي أنّه استند إلى البيّنة أو القواعد الشرعية و ذلك لشمول الإطلاقات للمقام و لولاه لزم إبطال كثير من الحقوق و يترتب عليه كلّما يترتّب على الدعاوي الصحيحة من لزوم اقامة البيّنة على المدعي و الحلف على المنكر، فلو ردّ الحلف جاز له اليمين حسب ما قامت عليه البيّنة أو الأصل الشرعي و لو قضى القاضي بالنكول جاز له التصرّف في العين لنفس الدليل، و معه لا حاجة إلى الاستدلال بما ورد في جواز إحلاف الأُمناء إذا ادّعوا التلف أو إحلاف القصار و الحائك في صورة التهمة «2» و قد أشار صاحب الجواهر إلى هذه الصورة و قال: «إنّ المدّعي لا يشترط

جزمه في نفس الأمر لأنّه إذا كانت للمدّعي بيّنة تشهد له بحقّ و هو لا يعلم به فله أن يدّعي به عند الحاكم لتشهد له البيّنة، و كذا لو أقرّ له مقرّ بحقّ و هو لا يعلم فله أن يدّعيه عليه و إن لم يعلم سببه في نفس الأمر ما هو». «3»

الصورة الثانية: إذا كانت فاقدة للحجّة الشرعيّة

لا شكّ في أنّه لا يجوز طرح الدعوى بصيغة الجزم لكونه كذباً مخالفاً لما يعتقد إذ ليس في نفسه جازماً نعم يجوز له، إظهارها على النحو المنزّه عن كذب و نفاق فقال: أظنّ أو احتمل أنّ لي عندك درهماً فالكلام في وجوب السماع و ترتيب الأثر و إعمال قواعد القضاء في حقّه و عدمه، و ربّما يرجّح عدمه لأنّ الدعوى يلزمها أن

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 154، السطر 9.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 29 من أبواب الإجارة، الحديث 1716.

(3) الجواهر: 40/ 153154.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 346

يتعقّبها يمين المدّعي إذا ردّت إليه أو القضاء بالنكول و كلاهما غير ممكنين مع عدم العلم بأصل الحقّ، و لكنّك قد عرفت أنّ الأمرين المذكورين ليسا من أثر مطلق الدعوى، و إنّما يقوم به المدّعي أو القاضي إذا كان العمل بهما ممكناً، لا ما إذا لم يكن كذلك، و الظاهر الاكتفاء بكون الدعوى أمراً مقبولًا عند العقلاء و هو كذلك إذا كان مظنوناً أو متّهماً أو ما إذا اكتنفت الدعوى بأُمور تسوِّغ إقامة الدعوى عند العقلاء فيكفي ترتّب الأثر عليها من احتمال إقرار المدّعى عليه على الحقّ، أو يمينه المسقط لحقّ الدعوى أو نحوهما و أقصى ما يلزم أنّه إذا توقّف عن اليمين، تكون الدعوى متوقّفة و كم لها من نظير في

باب القضاء. و يؤيّد ما ذكرنا أمران:

1- ما قدّمناه من الروايات الواردة في القصار و الحائك فإنّ الأثر المترتّب عليها، هو جواز إحلاف القصّار هناك و في المقام.

2- إنّه لو بنى على سماع خصوص الدعوى القطعية لصار كثير من الحقوق خصوصاً فيما تردّد المدّعى عليه من بدء الأمر بين شخصين، و لكن مهما طال التحقيق و الاستنطاق، يتجلّى الواقع، و يُميّز السارق عن الأمين.

و يمكن أن يقال إنّه يجوز له الجزم في طرح الدعوى إذا كان المحتمل أمراً مهمّاً يحتمل معه إقرار المدّعى عليه به كالقتل و المال الطائل، بحيث لو طرحها بصورة الظن أو الوهم، يبعد اعترافه به.

ثمّ إنّ القوم قد عدّوا من الصورة الثانية ما لو وجد الوارث في ديوان أبيه بخطّه ديوناً لأبيه، أو وجد الإمام في ديوان من لا وارث له ديوناً له، بخطّه، و قد سبق أنّه حجّة إذا كان مأموناً من التزوير فيلحق بالصورة الأُولى، و إلّا فهو من الصورة الثانية.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 347

المسألة الثالثة: في طلب الجواب من المدّعى عليه

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 1، ص: 347

إذا تمّت الدعوى من المدّعي هل يُطالِبُ الحاكمُ، المدّعى عليه بالجواب أو يتوقّف ذلك على التماس المدّعي؟ وجهان:

قال الشيخ: كلّ موضع تحرّرت الدعوى، هل للحاكم مطالبة المدّعى عليه بالجواب من غير مسألة المدّعي أم لا؟ قال قوم: لا يطالبه بالجواب من غير مسألة المدّعي، لأنّ الجواب حقّ المدّعي فليس للحاكم المطالبة به من غير مسألته كنفس الحقّ و هو الصحيح عندنا و

قال قوم: له مطالبته به من غير مسألة المدّعي لأنّ شاهد الحال يدلّ عليه لأنّ الإنسان لا يُحضِر خصمه إلى الحاكم ليدّعي عليه، و ينصرف من غير جواب و هو قويّ أيضاً. «1»

و لا يخفى أنّ الاستناد إلى شهادة الحال، يُرجع القول الثاني إلى الأوّل و معناه، عدم جواز المطالبة إلّا بطلبه صريحاً أو بشهادة الحال.

و قوّاه المحقّق و قال: إنّه يتوقّف لأنّه حقّ له فيقف على المطالبة. «2»

و لكن الحقّ خلافه، مضافاً إلى كونه خلاف سيرة العقلاء في المحاكم.

أنّ شاغل منصّة القضاء إنّما نُصب عليه لقطع المخاصمات، و حلّ المشكلات، فما لم يكن هناك موضوع مطروح فلا تكليف له، و أمّا بعده، فهو مأمور بالقضاء بالقواعد، فلا شأن له إلّا هذا فهو يتّبع القواعد إلى نهاية الأمر، إلّا أن يدلّ دليل خاص على لزوم التوقّف و استفسار الأمر عن أحد المترافعين، و بما أنّه لا دليل على لزوم سؤال المدّعي، في مورد مطالبة الجواب عن الخصم، لكونه على خلاف المفهوم من الأمر بالقضاء فينهي المخاصمة بالقضاء.

و هناك احتمال ثالث و هو أنّ الجواب حقّ الخصم، ليدفع عن نفسه ما

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 157.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 82.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 348

وجّهه إليه المدّعي، و هو يؤيّد عدم الحاجة إلى إجازة المدّعي.

المسألة الرابعة: في الشكوى على القاضي

قد سبق أنّه يشترط في صحّة الترافع أن لا يكون القاضي من أطراف المرافعة، فلا يصحّ إذا كان أحد المترافعين قاضياً فيها بل يجب أن يكون كأحد الرعايا و ترفع الشكوى إلى قاض آخر و المسألة عندئذ لا تخلو من الصور الآتية:

1- إذا كان هناك إمام له رئاسة كلّية على الأنظمة، و منها

نظام القضاء، رفعها إليه.

2- إذا لم يكن رفع الشكوى إلى الإمام ميسوراً و كان المدّعي في غير ولاية الخصم (القاضي) رفعه إلى قاضي ولايته، و يجب على القاضي الحضور، شأن غيره ممّن تكون بينه و بينه خصومة، و ذلك، لأنّ تعيين القاضي حقّ طبيعي للمدّعي، فتجب على الخصم الإجابة إذا دعى إلى المحكمة.

3- إذا كان المدّعي في بلد الخصم الذي هو قاضي ذلك البلد، فلا يصحّ رفع الشكوى إليه، لما عرفت من بطلان كون القاضي أحد المترافعين، لكن إذا كان له خليفة في ذلك البلد رفعه إليه كما حضر علي عليه السلام مع أحد الرعايا عند خليفته أعني: شريحاً، و بما أنّ النائب يكون خارجاً عن طرف الدعوى، يكون حكمه نافذاً في حقّهما، و افتراض الخليفة عادلًا، يصدّه عن الجنوح إلى جانب المنوب عنه، إلّا جنوحاً عن لا شعور، و هو ليس بمحرّم.

و هناك احتمال آخر و هو أن يرفع الشكوى إلى قاضي بلد آخر كالصورة الثانية إذ لا دليل على لزوم الرجوع إلى قاضي البلد الذي هو و خصمه، فيه خصوصاً بعد ما عرفت من أنّ تعيين القاضي حقّ طبيعي للمدّعي، فلا وجه لعدم حضوره في المحكمة و إن كانت في غير بلده إلّا إذا كان ضررياً أو حرجياً، فما لم يمنعه مانع عن رفع الشكوى إلى أيّ محكمة من المحاكم القريبة أو النائية، فله رفع الشكوى

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 349

إليها، إلّا إذا كان هناك تحديد من الحاكم الأعلى للمرافعات خلافاً للشهيد الثاني، حيث منع العدول عن الترافع لدى الخليفة و قال: «و لا تجب إجابة المدّعي إلى الذهاب معه إلى غيره مع وجوده لأنّ العدالة

تمنع من التهمة» «1» و هو كما ترى.

4- و لو لم يكن له خليفة رفعه إلى حاكم آخر في غير ولايته.

هذا هو مقتضى الأنظمة السالفة و أمّا اليوم فللاعتراض على أحكام القضاة محكمة خاصّة، هم المعنيّون لرفع التظلم عن الرعايا، نعم تختصّ تلك المحكمة بالنظر إلى الشكاوى المتوجّهة إلى أحكامهم، لا إلى أعمالهم الخارجة عن حيطة قضاءهم فهم في ذلك مع غيرهم سواء.

المسألة الخامسة: في جلسة المتخاصمين

يستحبّ للمتخاصمين أن يجلسا بين يدي الحاكم لأنّه الموافق للأدب، و ليتمكّن القاضي من التساوي بينهما في النظر، و قد جلس علي عليه السلام مع خصمه عند شريح «2» و لو قاما لكان أيضاً جائزاً، كلّ ذلك لباس للقضاء، و ليس لبّاً له و الحاكم يتحرّى في كلّ زمان، الصورة المناسبة له.

المقصد الثالث: في جواب المدّعى عليه

اشارة

ذكروا أنّ جواب المدّعى عليه لا يخلو عن ثلاثة: إمّا الإقرار أو الإنكار أو السكوت و لكلّ حكمه و لكن جعل الأخير من أقسام الجواب لا يخلو عن تأمّل فإنّه يرجع إلى عدم الجواب، و لعلّ عدّه منه لأجل اشتراكه في الإنكار في الأثر إذا أصرّ

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 407.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 350

عليه فيكون كالناكل في ردّ اليمين على المدّعي أو القضاء بالنكول لو قلنا به، و قد نسب إلى المحقّق الأردبيلي قسم رابع و هو الجواب ب «لا أدري» و هو جواب حقيقة، و أكثر ما يجاب به في كلام الوارث فيما إذا ادّعيَ على مورّثه من الديون فيجيب ب «لا أدري» و عدّه قسماً من الإنكار كما ارتكبه المحقّق الرشتي بحجّة اشتراكهما في نفي العلم، لا في نفي الواقع، ضعيف لأنّ الإنكار، ادّعاء علم بالعدم، بخلاف «لا أدري» فهو ادّعاء عدم العلم، و شتّان بينهما فجعله أمراً مستقلًا أولى من إدخاله تحت الإنكار، و لأجل ذلك لا يترتّب عليه حكمه من الاستحلاف على نفي الواقع.

و إليك البحث عنها واحداً بعد الآخر فهنا فصول ثلاثة:

الفصل الأوّل في إقرار المدّعى عليه
اشارة

اقرار المدّعى عليه بما ادّعاه المدّعي موضوع للمسائل التالية:

1- يُلزم المدّعى عليه بما أقرّ به و هل اللزوم يتوقّف على حكم الحاكم أولا؟

2- هل يتوقّف حكم الحاكم على مسألة المدّعي و موافقته لصدور الحكم أو لا؟

3- لو التمس المقرّ له، أن يكتب له إقرار المدّعى عليه، هل تجب الكتابة أولا؟

4- ما هو صورة الحكم، إذا حاول أن يكتب؟

5- إذا امتنع المقرّ عن الأداء مع كونه واجداً.

6- إذا

ادّعى الإعسار و استبان فقره فهل يُنظر أو يسلّم إلى الغرماء؟

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 351

7 إذا جهل حاله، فهل يحبس لتُبيَّن حاله أو لا؟

فهذه فروع سبعة مطروحة حول الجواب بالإقرار فنبحث عن كلّ بعد الآخر.

الأوّل: إلزام المقرّ و التوقّف على حكم الحاكم؟

إذا أقرّ يلزمه ما أقر به إذا كان جامعاً للشرائط، أي جامعاً لشرائط الإقرار و التصرّف و إقراره حجّة على نفسه لما روى عن النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم انّه قال:: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» «1» و هل الإلزام مقيّد بحكم الحاكم كما هو الحال في البيّنة إذا قامت لصالح المدّعي أو لا؟ ذهب العلّامة إلى عدم التوقّف قال في الإرشاد: «فإن اعترف الزم بأن يقول الحاكم حكمت أو قضيت أو اخرج من حقّه مع التماس المدّعي و إلّا ثبت الحقّ» «2» و فسّره الأردبيلي بقوله: «و إن لم يلزمه الحاكم و يحكم عليه، ثبت».

و تبعه الشهيد الثاني في المسالك فحكم بالثبوت و إن لم يرافقه الحكم، خلافاً للأردبيلي حيث قيّد الثبوت بحكم الحاكم و قد استدل الشهيد و غيره على الفرق بين الإقرار و البيّنة في أنّ الثبوت فيها منوط بحكم الحاكم دون الإقرار بوجوه:

1- إنّ البيّنة منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها و ردّها و هو غير معلوم بخلاف الإقرار. «3»

يلاحظ عليه: أنّه لم يعلم الفرق بينهما من هذه الجهة فإنّ الثبوت في الإقرار أيضاً منوط باجتهاد الحاكم في قبوله و ردّه لأنّه ربّما لا يكون جامعاً للشرائط إقراراً

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 2 من كتاب الإقرار، الحديث 2.

(2) العلّامة الحلي: إرشاد الأذهان: 2/ 144.

(3) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 129. و الظاهر زيادة بل.

نظام القضاء و الشهادة

في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 352

و تصرّفاً كما إذا كان محجوراً أو سفيهاً، و ربّما يكون غير صريح فيما يدّعيه المدّعي فنفوذه يتوقّف على حكم الحاكم.

2- إنّ قبول البيّنة و ردّها يرجع إلى الاجتهاد بخلاف الإقرار. «1»

يلاحظ عليه: أنّه ليس شيئاً جديداً بل هو نفس الفرق السابق أضف إليه أنّ الإقرار مثل البيّنة ربّما لا يتوقّف قبولها على حكم الحاكم إذا علم قبولها عند الحاكم و إن لم يُنشأ الحكم لمقتضاهما و ربّما تتوقف، و ليس هنا ضابطة كلّية في أحد الجانبين دون الآخر.

3- لا مجال لحكم الحاكم مع الإقرار إذ لا خصومة حينئذ كي يحكم بقطعها بخلاف البيّنة.

يلاحظ عليه: أنّ معناه لغويّة حكم الحاكم مع الإقرار مع أنّهم اتفقوا على صحّة الحكم إذا حكم.

4- إنّ البيّنة حجّة لدى المدّعي دون المدّعى عليه فلا يحصل قطع الخصومة بإقامتها وحدها و يحتاج إلى حكم الحاكم حتّى يكون قوله قاطعاً للنزاع بخلاف الإقرار فإنّه حجّة لدى المترافعين، فلا وجه للتوقّف.

يلاحظ عليه: أنّ الأثر مترتّب على الإقرار الجامع للشرائط و لا يعلمه إلّا القاضي، الكاشف عنه حكمه فكيف لا يحتاج إليه كما سيوافيك بيانه.

و أمّا ثمرة القولين فتظهر الثمرة في الموارد التالية:

أ: إذا كان مورد النزاع عيناً من الأعيان عند المدّعى عليه، فلو قلنا بعدم الحاجة يجوز للمدّعي التقاص دون القول الآخر.

ب: إذا لم يكن له علم بالمدّعى به إلّا عن طريق إقرار المدّعى عليه، فلو قلنا بعدم الحاجة فله أن يطالبه دون القول الآخر.

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 408.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 353

ج: إنّ للحاكم الآخر إنفاذ حكم الحاكم الأوّل، فلو قلنا بعدم الحاجة فله تنفيذه و

إن لم يحكم دون القول الآخر.

و الظاهر كما مرّ مضافاً إلى حفظ النظام، و اتّباع السيرة المألوفة أنّ رفع الخصومة أمر فني لا عادي لا يقوم به إلّا العارف بشئون القضاء، فلا يتحقّق إلّا بحكم من يعرفها، من غير فرق بين البيّنة و الإقرار، و يمين المنكر أو اليمين المردودة و غيرها، فإحراز كون الإقرار جامعاً للشرائط لا يقف عليه الّا القاضي، و لا يعلم علمه إلّا بحكمه.

و يظهر من المحقّق الأردبيلي، اختيار ذلك القول لكن علّله بوجه غير تام و قال: إذ الحكم بالثبوت مشكل و لهذا لم يقدر أحد أن يشهد بثبوته في ذمّته بل (كذا) بإقراره فليس الحكم إلّا للحاكم لاجتهاده أنّ اقرار العقلاء على أنفسهم جائز و نحوه و للإجماع فحينئذ تجويز الحكم و أخذ الحقّ عنه لكلّ أحد بغير رضاً للمقرّ له محلّ التأمّل. «1»

يلاحظ عليه: أنّ عدم الحكم بثبوته في ذمّته، لا يكون دليلًا على عدم الثبوت من دون حكم الحاكم و ذلك لأنّ الإقرار ليس أمارة على الثبوت، حتّى يتّخذ دليلًا على الثبوت في الذمّة و يشهد عليه، بل هو موضوع عقلائي للأخذ بما أقرّ به، ثبت في ذمّته أو لا. و بالجملة عدم جواز الشهادة لا يكون دليلًا على توقّف سائر الأحكام المذكورة على الحكم.

الثاني: توقّف حكم الحاكم على رضى المقرّ له

إذا أقرّ المقرّ، فهل يتوقّف حكم الحاكم على مسألة المقرّ له كما عليه الشيخ الطوسي، أو لا يتوقّف كما عليه الآخرون؟ قال الشيخ: فإذا ثبت أنّه يلزمه لم يكن

______________________________

(1) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 129.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 354

للحاكم أن يحكم عليه به، إلّا بمسألة المقرّ له، به لأنّ الحكم عليه به، حقّ له فلا

يستوفيه إلّا بأمره كنفس الحق. «1»

و نسبه المحقّق في المقام إلى «القيل» مشعراً بتمريضه قال: «قيل لا لأنّه حقّ له فلا يستوفى إلّا بمسألته». «2» مع أنّه ذهب في مطالبة الجواب عن المدّعى عليه، إلى لزوم مسألة المدّعي كما سبق، و الفرق بين المسألتين غير واضح و الحقّ عدم الحاجة إلى المسألة في كلا المقامين و يمكن تقريب ذلك بوجوه:

1- إنّه مقتضى إطلاق أدلّة القضاء، فالقاضي بعد رفع الشكوى إليه و حضور المتخاصمين لديه مأمور بفصل الخصومة و رفعها و لزوم السؤال في كلتا المرحلتين، خلاف الإطلاق.

2- و لو قلنا بأنّ الإطلاقات غير ناظرة إلى هذه الجهة حتّى يتمسّك بإطلاقها، يصحّ التمسّك بالإطلاق المقامي فإنّ لزوم الاستجازة من المدّعي، ممّا يُغفَل عنه فلو كان واجباً لزم التنبيه عليه و لو بدليل مستقلّ.

3- إنّ فصل الخصومة و رفع النزاع من حقوق القاضي كي يطهّر المجتمع من الخلاف و هو مطلوب للشارع فما لم ينصرف المدّعي عن النزاع فهو مأمور بالفصل، و يعدّ من شئونه، و معه، لا وجه لتعليق الحكم برضى المدّعي و هذا البيان غير التمسّك بالإطلاق كما في الوجهين الأوّلين.

4- و الذي يدلّ على أنّه من حقوق القاضي لا المدّعي، أنّه ربّما يكون التوقّف مزاحماً لحقّ المنكر، كما إذا حلف بطلب من المدّعي، فإيقاف الحكم بعد حلفه على رضى المدّعي ربّما يزاحم لحقّ المنكر، و ذهاب اليمين بحقّه و هذا و إن كان خارجاً عن محطّ البحث (الإقرار لا الإنكار) لكنّه يصلح مؤيداً للمختار.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 158.

(2) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 83.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 355

الثالث: لو التمس المقرّ له، الكتابة.

إذا كان القضاء ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية

الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معيّنة «1» يظهر الفرق بين الفتوى و الحكم في الشبهات الحكمية ففي مسألة ثبوت الشفعة لأكثر من شريكين، أو كون الحبوة للولد الأكبر أو لجميع الورثة، أو في إرث الزوجة عن الأراضي و العقار و عدمه، إذا لم يكن نزاع، يفتي المفتي بالحكم الكلي من دون نظر إلى وجود نزاع في البين و عدمه، و أمّا معه، فهو يطبق الفتوى الكلّي على المورد، بإنشاء حكم جزئي مماثل للحكم الكلّي في الجوهر و يفارقه في الكلّية و الجزئية و إليه يشير قولهم: «الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معيّنة» و على ذلك لا ينفكّ القضاء عن الحكم الجزئي هذا كلّه إذا كانت الشبهة حكمية.

و أمّا إذا كانت الشبهة موضوعية فحقيقة القضاء فيها عبارة عن موازنة أدلّة الطرفين و تبيين الأقوى منهما، كما يشير إليه قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان و بعضكم ألحن بحجّته من بعض». «2» و بما أنّ الاختلاف فيها ليس في الحكم الشرعي الكلّي، بل في الموضوع مثلًا في أنّ المرأة الفلانية زوجة فلان المتوفّى أولا، أو أنّ العين هل هي ملك لزيد أو عمرو، أو أنّ زيداً مديون لشخص أو لا؟ فجهد القاضي يكون مركّزاً على تبيين الموضوع، و بتبيّنه، يتبعه الحكم الجزئي القضائي فيحكم لها بالميراث، و بالعين بالردّ، و بالخروج عن عهدة الدين و بهذا تبين أنّ القضاء لا ينفكّ عن الحكم مطلقاً و لولاه لما حصل الفصل.

و لو التمس المقرّ له أن يكتب له بالإقرار فهل يجب عليه أو لا؟ فمقتضى القاعدة عدم الوجوب، لأنّ الواجب عليه، هو الفصل بإصدار الحكم و قد فعل

______________________________

(1)

زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 388.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 356

نعم لو توقّف استنقاذ حقّه على الكتابة وجب عليه، إذ ليست الغاية من القضاء مجرّد إنشاء الحكم بل إثبات الحقوق و استيفاؤها للمستحق. نعم له مطالبة الأجر كما له مطالبة قيمة القرطاس و المداد، و ذلك لما مرّ من أنّه يصحّ الجُعل للقضاء إذا لم يكن القاضي مرتزقاً من بيت المال. «1»

الرابع: في كيفية الكتابة.

للكتابة صور: 1 إذا عرف القاضي المقرّ و المقرّ له باسمهما و نسبهما أو شهد عدلان عليهما، فلا إشكال في أنّه يكتب المحضر على النحو الذي عرفهما.

2- إذا لم يعرفهما إلّا من جهة أنّ أحدهما أقرّ للآخر فقال الشيخ في النهاية بعدم الجواز. قال: و إذا سأل إنسان لغيره عند الحاكم فسأل المقرّ له الحاكم أن يثبت إقراره عنده لم يجز له ذلك إلّا أن يكون عارفاً للمقرّ بعينه و اسمه و نسبه أو يأتي له بيّنة عادلة على أنّ الذي أقر هو فلان بن فلان بعينه و اسمه، لأنّه لا بأس أن يكون نفسان قد تواطئا على انتحال اسم إنسان غائب و اسم أبيه و الانتساب إلى آبائه ليقرّ أحدهما لصاحبه بما ليس له. «2»

و لكنّه قدّس سرَّه أجاز في الخلاف، غاية الأمر الوصف يقوم مقام الاسم، و بأنّ الضبط بالحلية يمنع من استعارة النسب فإنّه لا يكاد يتّفق ذلك، و الذي قاله بعض أصحابنا، يحمل على أنّه لا يجوز عند ما لا يعرفهما أن يكتب و يقتصر على ذكر نسبهما فإنّ ذلك يمكن استعارته و ليس في ذلك نص مستند عن أصحابنا نرجع إليه

«3» و قد وافق المحقّق، كلام الشيخ في الخلاف و أجاز الكتابة بالاسم و النسب عند العرفان و بالحلية و الوصف عند عدمه. «4»

و أظنّ عدم الخلاف في جواز الاكتفاء بالحلية و الوصف أيضاً، و اقتصار جملة

______________________________

(1) لاحظ ص 158147 من الكتاب.

(2) الطوسي، النهاية: 342341.

(3) الطوسي، الخلاف: 3، المسألة 16، 314.

(4) نجم الدين: الشرائع: 4/ 83.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 357

من الأصحاب على الأوّل لا يقتضي الخلاف في الثاني، و عبارة الشيخ في الخلاف حاك عن عدم تجويزهم الكتابة بالاسم و النسب عند عدم العرفان، من غير نظر إلى جواز الكتابة بالحلية و عدمها. ثمّ إنّ صريح ابن إدريس موافقة رأي الشيخ في الخلاف من جواز الكتابة بالاسم و النسب، و الحلية و الوصف حيث قال: الذي ذكره و ذهب إليه شيخنا في مسائل خلافه هو الذي أقول به و أعمل عليه و يقوي في نفسي.

لكنّه ذكر بعد هذا كلاماً تلقّاه العلّامة في المختلف «1» و صاحب الجواهر «2» اعتراضاً على الاكتفاء بالحلية، مع أنّ صريح كلامه قبل ذلك اختيار ما ذكره الشيخ في الخلاف، فلا بدّ من الإمعان في العبارة فلاحظ. «3»

و أظنّ أنّ الموضوع لا يحتاج إلى الإطناب، و ليست المسألة من صميم الإسلام فالذي يجب على القاضي رعاية الضوابط الرائجة في كلّ عصر من كيفية الكتابة، على وجه لا يقع ذريعة للباطل.

قال العلّامة: «و التحقيق أنّه لا مشاحّة هنا لأنّ القصد تخصيص الغريم و تمييزه عن غيره و إزالة الاشتباه فإن حصل ذلك بالتحلية جاز». «4»

الخامس: إذا امتنع المقرّ عن الأداء مع كونه واجداً

إذا أقرّ بالحقّ و امتنع عن الأداء فتحلّ عقوبته على وجه يهيّئه لأداء الواجب من الغلظة في الكلام، و

الحبس تأديباً.

______________________________

(1) العلّامة، المختلف: كتاب القضاء، 139.

(2) النجفي، الجواهر: 40/ 163.

(3) ابن إدريس، السرائر: 2/ 162 «أي قوله» و أيضاً هذا مصير إلى أنّ الإنسان أن يعمل و يشهد بما يجد به مكتوباً بخطّه من غير ذكر الشهادة ... الخ.

(4) العلامة، المختلف: كتاب القضاء، 139.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 358

قال العلّامة: فإن عرف كذبه حبس حتّى يخرج من الحقّ «1» لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «ليّ الواجد يُحِلّ عقوبته و عرضه». «2» «اللّي» هو التسويف بالوفا، و في خبر غياث بن إبراهيم عن علي عليه السلام أنّه كان يفلِّس الرجل إذا التوى على غرمائه ثمّ يأمر به فيقسم ماله بينهم بالحصص فإن أبى باعه فقسّم بينهم «3» و في و رواية عمار «يحبس» مكان يفلس و هو تصحيف و المراد من الالتواء هو التثاقل. و الظاهر أنّ الحبس في أمثال المقام للتأديب لإيجاد التهيّؤ للقيام بالواجب فلو لم يؤثر يقوم الحاكم بالاداء ببيع ماله كما في الرواية.

و لا ينافيه ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كان علي عليه السلام لا يحبس في الدين إلّا ثلاثة: الغاصب، و من أكل مال اليتيم ظلماً، و من ائتمن على أمانة فذهب بها، و إن وجد له شيئاً باعه غائباً كان أو شاهداً». «4»

و ذلك لأنّ الحديث يحكى فعل الإمام لا قوله، و كم فرق بين حصر فعله في الثلاثة، و حصر قوله فيها؟ و الأوّل لا يفيد الحصر في الحكم الشرعي و لعلّ دائرته أوسع من الثلاثة لكن المصلحة آنذاك اقتضت أن لا يحبس غير الثلاثة و هو لا يدلّ على عدم الجواز في غيرها.

ثمّ إنّ

الشيخ الطوسي حاول الجمع بوجهين تبرعيين ذكرهما الشيخ الحرّ في الوسائل «5» و ربّما يحاول في إدخال الغريم الواجد المتثاقل، تحت عنوان الغاصب، أو من ائتمن على أمانة ... و هو كما ترى.

______________________________

(1) العلّامة الحلي، مفتاح الكرامة: 10/ 72، قسم المتن.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 8 من أبواب القرض، الحديث 4.

(3) الوسائل: الجزء 13، الباب 6 من أبواب الحجر، الحديث 1.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(5) المصدر نفسه.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 359

السادس: إذا ثبت إعسار المقرّ فهل يُنظر أو يسلَّم إلى الغرماء أو ...؟

إذا ادّعى الإعسار كشف عن حاله فإن استبان فقره ففيه أقوال:

1- الإنظار إلى ميسرة.

2- التسليم إلى الغرماء ليستعملوه أو يؤاجروه، ذكره الشيخ في النهاية بصورة الرواية.

3- إذا لم يكن ذا حرفة خُلِّي سبيله و إن كان ذا حرفة دفعه الحاكم إلى الغريم ليستعمله فما فضُل عن قوته و قوت عياله بالمعروف، أخذ بحقّه و هو خيرة ابن حمزة في قضاء الوسيلة.

4- يخلّي سبيله و لكن إن كان ذا حرفة يجب عليه الكسب لأداء الدين بعد إخراج المؤنة و هو خيرته في كتاب الدين.

أمّا القول الأوّل: فهو المشهور بين الفقهاء تبعاً للذكر الحكيم: (وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ). (البقرة/ 280)

قال المفيد: فإن ظهر بعد حبسه إيّاه أنّه معدم فقير خُلّي سبيله و أمره أن يتمحّل حقّ خصمه و يسعى في الخروج ممّا عليه. «1»

1- قال ابن إدريس: فإن ذكر إعساراً، كشف عن حاله، فإن كان على ما قال، أُنظر و لم يُحبَس، و إن لم يكن كذلك، الزم الخروج إلى خصمه من حقّه. «2»

2- و قال المحقّق: و لو ادّعى الإعسار كشف عن حاله فإن استبان فقره، أنظره.

و في تسليمه إلى غرمائه ليستعملوه أو يؤجروه روايتان أشهرهما الإنظار. «3»

______________________________

(1) المفيد، المقنعة: 723.

(2) ابن إدريس، السرائر: 2/ 160.

(3) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 84.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 360

3- و قال العلّامة: فإن ادّعى الإعسار و عُرف صدقه بالبيّنة أو اعترف خصمه أُنظرَ حتّى يوسِّع الله تعالى عليه. «1»

4- و قال الشهيد: فإن ثبت إعساره فهل يخلّي سبيله أو يسلّم إلى الغرماء؟ المشهور بين الأصحاب هو الأوّل لقوله سبحانه: (وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ). «2»

5- و قال الأردبيلي: فالمشهور بين الأصحاب انّه يُنظر و يخلّى سبيله حتّى يوسّع الله عليه و يقدر على أداء الحقّ أو بعضه فيؤخذ بقدر ما يقدر لقوله تعالى: (وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ). «3»

إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة و يدلّ عليه بعد الذكر الحكيم كما عرفت ما رواه غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه أنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدين فإذا تبيّن له حاجة و إفلاس خلّى سبيله حتى يستفيد مالًا. «4»

و ما رواه السكوني عن علي عليه السلام إن امرأة استعدت على زوجها أنّه لا ينفق عليها و كان زوجها معسراً فأبى أن يحبسه و قال: إنّ مع العسر يسراً. 5

أمّا القول الثاني: فقد نسب إلى الشيخ في النهاية لكن كلامه في باب الدين موافق للقول الأوّل، نعم ذكره في باب القضاء فقد ذكر في آخره أخباراً و منها الخبر الدالّ على التسليم و لم يظهر إفتاؤه به قال في كتاب الدين: فإن حبسه ثمّ ظهر له بعد ذلك إعساره، وجبت تخليته 6 نعم روي في كتاب القضايا و الأحكام عن

السكوني عن جعفر عن أبيه انّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدين ثمّ ينظر فإن كان له

______________________________

(1) العلّامة، إرشاد الأذهان: 2/ 144.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 408.

(3) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 131 و قد خصّ صاحب الوسائل، باباً في كتاب الدين للأنظار فلاحظ: الجزء 13، الباب 25 من أبواب الدين.

(4) 4- 5 الوسائل: الجزء 13، الباب 7 من أبواب الحجر، الحديث 1 و 2.

(5) 6 الطوسي، النهاية، كتاب الدين: 305.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 361

مال أعطى الغرماء و إن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم: اصنعوا ما شئتم. إن شئتم، ف آجروه و إن شئتم استعملوه «1» ذكره في باب أسماه «باب جامع في القضايا و الأحكام» و هو ليس دليلًا على الإفتاء به و حمله في الوسائل على من يعتاد إجارة نفسه و العمل بيده.

و لا يخفى أنّ الرواية مخالفة للذكر الحكيم، من الأمر بالإنظار و ما استفاض به الأخبار في كتاب الدين. «2» و خصوص ما رويناه عن غياث بن إبراهيم عن عليّ عليه السلام كما عرفت، مضافاً إلى بعده عن روح الإسلام من تسليط الدائن على الغريم ليستعمله.

قال المحقّق الأردبيلي: و أنت تعلم أنّه لا يمكن في مثل هذه المسألة العمل بمثل هذه الرواية المخالفة للعقل فإن حبس شخص قبل موجبه غير معقول، و أنّ تسليط شخص على آخر أيّ شي ء شاء يفعل به مع عجزه مما يأباه العقل و النقل من عموم القرآن و خصوص (فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ) و الحديث، و خصوص الرواية المتقدّمة و الشهرة. «3»

أمّا القول الثالث: فهو خيرة ابن حمزة قال: فإذا ثبت إعساره خلّي سبيله

إن لم يكن ذا حرفة يكتسب بها، و أمره بالتمحّل (الصبر)، و إن كان ذا حرفة دفعه إليه ليستعمله ممّا فضل عن قوته أو قوت عياله بالمعروف أخذ بحقّه «4» و هو في الحقيقة أخذ ببعض مضمون الحديث، فَطَرحَ مؤاجرته و اكتفى باستعماله و خصّ به لمن له حرفة، لا مطلق المعسر.

______________________________

(1) الطوسي، النهاية، كتاب الوصايا: 352 و لاحظ الوسائل: الجزء 13، الباب 7 من أبواب الحجر، الحديث 3.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 25 من أبواب الدين.

(3) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 133 و مقصوده من الرواية المتقدّمة رواية غياث بن إبراهيم و لا يخفى أنّ الحبس قبل ثبوت موجبه (اليسار) جائز لأنّه ليس تأديبياً بل استظهاراً للواقع إذ في تخلية سبيله ضرر مظنون كما لا يخفى، و قد مضى الكلام فيه.

(4) ابن حمزة، الوسيلة، كتاب القضاء: 212.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 362

أمّا القول الرابع: فهو أيضاً خيرة ابن حمزة في كتاب الدين قال: و إن كان المستدين معسراً صبر على من له الدين حتّى يجد، فإن كان مكتسباً أمر بالاكتساب و الانفاق بالمعروف على نفسه و عياله و صرف الفاضل في وجه دينه و إن كان غير مكتسب خلّى سبيله حتّى يجب. «1» و هذا القول غير القول الثالث كما لا يخفى و قد زعم العلّامة وحدة القولين فذكر ما يؤيّد القول الرابع لا الثالث الذي هو المشهور عن ابن حمزة، قال: و ما قاله ابن حمزة ليس بعيداً عن الصواب لأنّه متمكّن من أداء ما وجب عليه و إيفاء صاحب الدين فيجب (الكسب) عليه كما يجب عليه السعي في المئونة و لأنّه مع تمكّنه من الكسب لا يكون

معسراً لأنّ اليسار كما يتحقّق بالقدرة على المال، يتحقّق بالقدرة على تحصيله و لهذا منع القادر على الكسب من أخذ الزّكاة. «2»

و لأجل وجود قولين لابن حمزة اعترض المحقّق الأردبيلي على العلّامة بأنّ ما ذكره لا يؤيّد مذهب ابن حمزة من تسليم المدين إلى الغريم ليستعمله، فيمكن كون ذلك كناية عن وجوب الكسب إذا كان ذا كسب و حرفة يقدر معها من تحصيل ما يصرفه في الدين و لكن لا يكون مفوِّتاً لما يجب عليه و لا يكون شاقّاً لا يُتحمَّل مثله عادة فيكون الكسب لتحصيله واجباً كما إذا كان عنده عروض من غير جنس ما يجب عليه، يجب عليه أن يبيع و يحِل ما هو من جنس ما عليه على أيّ وجه كان فيأمره الحاكم بذلك. «3»

الظاهر أنّ القول الرابع هو الحقّ فإنّه إذا كان ذا حرفة لائقة بشأنه آنذاك وجب عليه التكسّب، و تعليق أداء الدين على حصول اليسار، مخالف لإطلاق الأدلّة غاية الأمر خرج العاجز موضوعاً. و إن شئت قلت: إنّ العرف يرى الطبيب

______________________________

(1) ابن حمزة، الوسيلة، كتاب الدين: 274.

(2) العلّامة الحلّي، المختلف، كتاب القضاء، الفصل السادس في توابعه: 159.

(3) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 134.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 363

و أمثاله قادراً على أداء الدين فيجب عليه.

نعم لا يجب عليه ما هو خارج عن شأنه كالاحتشاش و الاصطياد و الاغتنام و التلصّص في دار الحرب و قتل الأبطال و سلب ثيابهم و سلاحهم، كما لا تؤمر المرأة بالتزويج لتأخذ المهر، و لا يؤمر الرجل بخلع زوجته فيأخذ عوضه «1» لأنّ الواجب أداء الدين و هو منصرف إلى الصورة اللائقة بحال الرجل لا الخارج عنه.

و الحاصل

أنّ ما ذهب إليه ابن حمزة في كتاب الدين هو الأقوى و أمّا حمل الحديث عليه، فهو بعيد عن ظاهره و لأجل ذلك يقول في الجواهر: «فإنّ ذلك (قول ابن حمزة) لا يفيد إلّا وجوب التكسّب عليه و هو غير دفعه إليهم و جعلهم أولياء إن شاءوا استعملوه و إن شاءوا آجروه». «2»

السابع: في حبس مدّعي الإعسار حتّى يتبيّن حاله

إذا ادّعى الإعسار و لم يصدّقه الخصم فهل يجوز حبسه حتّى يتبيّن الحال أو لا؟ فيه أقوال:

1- الحبس حتّى تتبيّن حاله و هو الظاهر من المفيد و أبي الصلاح.

2- التفصيل بين ما كان له أصل مال فيُحبس حتّى يثبت الإعسار و ما لم يكن لذلك قبلت دعواه و لا يكلّف البيّنة و للغرماء مطالبته باليمين و هو خيرة المحقّق في كتاب الحجر و المقام. «3»

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط، كما في مفتاح الكرامة: 10/ 74.

(2) النجفي، الجواهر: 40/ 166 و العجب أنّ صاحب المسالك عند تحرير المقام لم تحضره الرواية، و أعجب منه ما احتمله الفاضل الآبي في كشف الرموز، (ج 2/ 449) أنّ مستند هذا الحكم وراء رواية السكوني رواية زرارة عن أبي جعفر التي رواها في الوسائل في الجزء 18، الباب 11 من أبواب كيفيّة الحكم، مع أنّه لا صلة لها بهذا الحكم.

(3) سيأتي مصدره.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 364

3 لا يُحلَّف مدّعي الإعسار، و إن كان بعد اليسار و يخلّى سبيله و لا يتوقّف على إقامة البيّنة، و هو خيرة الأردبيلي. «1»

قال أبو الصلاح: و إن ادّعى المقرّ أو المشهود عليه إعساراً يعلمه الحاكم أو تقوم به بيّنة في الحال لم يحبسه و لكن يقرّر عليه ما يفضل من تكسّبه عن قوته و عياله لغريمه

و إن لم يعلم ذلك من حاله و لا قامت به البيّنة حبسه و كشف عن أمره. «2»

و قال المفيد: «و إن لم يعلم بصحّة دعواه في الإعسار كان له حبسه». «3»

و قال المحقّق: و هل يحبس حتى تتبيّن حاله فيه تفصيل ذكر في باب الفلس و قال فيه: لو لم يكن له مال ظاهر و ادّعى الإعسار فإن وجد البيّنة قضى الحاكم بها و إن عدمها و كان له أصل مال أو كان

أصل الدعوى مالًا حُبس حتّى يثبت إعساره، فإن لم يعلم أصل مال (و لا كانت الدعوى الثابتة عليه مالًا) و ادّعى الإعسار قبلت دعواه و لا يكلّف بالبيّنة و للغرماء مطالبته باليمين. «4»

و قال العلّامة في القواعد: و إن اشتبه فإن عرف ذا مال أو كان أصل الدعوى مالًا حبس حتى يثبت إعساره، و إلّا حلف على الفقر فإن نكل حلف المدّعي على القدرة و حُبس. «5»

و قال في الإرشاد: فإن ادّعى الإعسار و عُرِف صدقُه بالبيّنة أو اعترف خصمه أُنظر حتى يوسّع الله تعالى عليه، و إلّا طولب بالبيّنة إن كان له مال ظاهر أو كان أصل الدعوى مالًا، و إلّا حلف. «6»

و قال الشهيد: فإن ادّعى الإعسار فإن كان له أصل مال قبل ذلك أو كان

______________________________

(1) سيأتي كلامه أثناء القول الثاني.

(2) أبو الصلاح، الكافي، كتاب القضاء: 447.

(3) المفيد، المقنعة، كما في مفتاح الكرامة: 10/ 75.

(4) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 2/ 250.

(5) العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 74، قسم المتن.

(6) العلّامة، إرشاد الأذهان: 2/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 365

أصل الدعوى مالًا كلّف البيّنة على تلفه فإن لم يقمها حبس حتّى تبيّن إعساره و

لو لم يعرف له أصل مال و لا كانت الدعوى مالًا بل كانت جناية أو صداقاً أو نفقة قريب، قبل قوله: بيمينه. «1»

و قبل الخوض في أدلّة الأقوال نذكر مقتضى القاعدة:

هل المتفاهم من الأدلّة أنّ الإعسار شرط الإنظار أو أنّ المتفاهم منها أنّ اليسار شرط جواز الإجبار و الحبس؟

فإن قلنا بالأوّل، فما لم يحرز الشرط و لم يتبيّن كونه معسراً، لا يجب إنظاره، فتكون النتيجة جواز إجباره و حبسه.

و إن قلنا بأنّ اليسار شرط الإجبار و الحبس، فما لم يتبيّن كونه موسراً، لا يجوز التغليظ عليه و تكون النتيجة هو وجوب الإنظار و عدم جواز الحبس.

يدلّ على الأول، ظاهر قوله سبحانه: (وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ) حيث علّق الإنظار على الإعسار، و روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: كما لا يحلّ لغريمك أن يمطلك و هو مؤسر فكذلك لا يحلّ لك أن تعسره، إذا علمت أنّه معسر «2»، فدلّ على أنّ الإعسار شرط لعدم حل التعسر و هو يلازم عدم وجوب الانظار ما لم يحرز الشرط.

و يدلّ على الثاني، قوله: ليّ الواجد يحلّ عرضه و عقوبته 3، حيث علّق العقوبة على كونه واجداً و موسراً و الظاهر أنّ الأدلّة ليست ناظرة إلى هذه الجهة و أنّ الإذعان بأحد الأمرين مشكل، فتصل النوبة إلى الأُصول و سيوافيك أنّ الصور ستّة لأنّ الحالة السابقة إمّا أن تكون الإيسار، أو الإعسار، أو مجهولة أو على كلّ تقدير إمّا أن يقيم المدّعي البيّنة على الإيسار أو لا.

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 401.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 13، الباب 8

من أبواب الدين، القرض، الحديث 5 و 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 366

و إليك أدلّة الأقوال:

أمّا القول الأوّل أي الحبس مطلقاً حتّى يثبت الإعسار فيدلّ عليه خبر غياث بن إبراهيم عن علي عليه السلام أنّه كان يحبس في الدين فإذا تبيّن حاجة و إفلاس خلّى سبيله حتّى يستفيد مالًا. «1»

يلاحظ عليه: أنّه لا ينافي تفصيل المحقّق، لأنّ الظاهر من الدين هو المال المقترض، أو ثمن الجنس المشترى لا مثل مهر الزوجة أو أرش الجناية، و بما أنّه نقل فعل لا يمكن الأخذ بإطلاقه حتّى يعمّ جميع الصور و عندئذ ينطبق على القسم الأوّل المذكور في كلام المحقّق من كون أصل الدعوى مالًا و الاستصحاب يقتضي بقاءه، و ادّعاء الإعسار يخالفه فعليه البيّنة و إلّا يحلف المنكر أي الدائن إلّا إذا تبيّن الإعسار.

و أمّا القول الثاني ففيه شقوق:

1- إذا ادّعى الإعسار و لم يكن له مال ظاهر، و أقام البيّنة قضى بها الحاكم، مطلقاً من غير فرق بين كون الحالة السابقة هي الإعسار أو اليسار أو كانت مجهولة. فيكون حكم الجميع واحداً.

2- إذا ادّعى الإعسار و لم يكن له مال ظاهر و لم يقم بيّنة فهنا صور ثلاث:

أ: إمّا أن تكون الحالة السابقة، اليسار.

ب: أو تكون الحالة السابقة الإعسار.

ج: أو تكون الحالة السابقة مجهولة.

أمّا الصورة الأولى كما إذا كان له أصل مال معهود سابقاً أو كان أصل الدعوى مالًا كالقرض و نحوه، حُبسَ حتّى يثبت إعساره و ذلك لأصالة بقاء المال و لو قيل بكونها أصلًا مثبتاً بالنسبة إلى اليسار، أستصحب نفس وصف اليسار

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 7 من أبواب الحجر، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة

الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 367

حتّى يثبت الاعسار فعلى المدين إقامة البيّنة على عروض الإعسار و إلّا حلف المنكر و حكم عليه بأداء الدين فإن أدّى و إلّا حبس حتى تتبيّن حاله فإن تبيّن يساره، أمر بالأداء، و إلّا قام الحاكم مكانه و إن تبيّن عروض الإعسار خلّى سبيله.

و الحاصل أنّ مدّعي عروض العسر بعد اليسر، يكون مدّعياً، و القول قوله مخالفه و هو بقاء اليسار بيمينه فعلى الأوّل إقامة البيّنة و إلّا يحلف الثاني.

و استشكل فيه المحقّق الأردبيلي «1» بأنّه لا يخلو عن شي ء و قال: إذ قد لا يكون له بيّنة و يكون معسراً و المال تالفاً و لم يكن ظالماً حتى يحلّ عرضه و عقوبته عاجلة من غير ظهور وجهها و مجرّد وجود مال عنده لا يستلزم بقاءه حتّى يحبس لإعطائه فالحبس بعيد خصوصاً إذا كان ظاهر حاله إتلافه مثل أن يستقرض ليُخرِجه في مئونته مع حاجته أو وجد عنده و لكن يحتاج في كلّ يوم إلى نفقة، فالظاهر من حاله أنّه أخرجه و من أنّى يأتي بالبيّنة حين إخراج كلّ درهم درهم فيمكن عدم الحبس بل الإحلاف على عدم بقائه عنده، فتأمّل، و يخلّى سبيله إلى ميسرة. «2»

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مجرّد احتمال لا يقاوم الحجّة و هو الاستصحاب، و إلّا لزم الامتناع عن القضاء في أكثر الموارد لأجل هذه الاحتمالات، نعم لو كان ظاهر حاله إتلافه كما في الاستقراض لأجل الصرف في المؤنة فهو خارج عن مصبّ الكلام بل يجب عندئذ إقامة البيّنة على مدّعي البقاء لما سيوافيك. من أنّ المدّعي و المنكر من المفاهيم العرفية، فعلى مدّعي البقاء مع الاعتراف بأنّه استقرض للصرف في المؤنة، إقامة البيّنة نعم

للعلّامة في المقام كلام قيّم قال: «و مع ذلك، فليس للحاكم حبسه و الغفلة عنه بالكلّية، و لو كان غريباً لا يتمكّن من إقامة البيّنة وكّل القاضي من يبحث عن منشئه و منتقله، و تفحّص عن أحواله بقدر الطاقة فإذا غلب على ظنّه إفلاسه شهد به عند القاضي لئلا تتخلّد عليه

______________________________

(1) بيان للقول الثالث الذي نوّهنا به في صدر البحث.

(2) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 135.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 368

عقوبة السجن. «1»

أمّا الصورة الثانية أعني: إذا لم يكن له مال ظاهر و كانت الحالة السابقة هي الإعسار، كما إذا طلب الزوجة مهرها، ففي هذه الصورة، البيّنة لمن يدّعي اليسار و التمكّن و إلّا يحلف مدّعي الإعسار، و إن ردّ اليمين على مدّعي اليسار و حلف حكم على المدين بأداء الدين فإن أدّى و إلّا حبس حتّى تتبيّن حاله فإن تبيّن يساره أمره الحاكم بالأداء و إلّا يقوم عنه بالأداء و إن تبيّن إعساره خلّى سبيله.

أمّا الصورة الثالثة أعني: إذا جهلت الحالة السابقة، فهل مدّعي اليسار و القدرة يقيم البيّنة و إلّا يحلف الآخر، أو أنّ الأصل في الأموال جواز المطالبة و التضييق عند العقلاء حتّى يثبت الخلاف و عليه عملهم؟ و لعلّ الثاني هو الأقوى و يؤيّده ما حكى من عمل الإمام علي عليه السلام من الحبس من غير فصل بين الحالات.

و أمّا القول الثالث و هو خيرة المحقّق الأردبيلي فقد علم وجهه ممّا نقلناه عنه استشكالًا على المحقّق فلاحظ.

نعم لا يحبس الوالد و لا الوالدة للولد لمنافاة الحبس للمصاحبة بالمعروف كما قال سبحانه: (وَ صٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً) (لقمان/ 15).

و يدلّ عليه خبر الحسين بن أبي العلاء

قال: قلت لأبي عبد الله: ما يحلّ للرجل من مال ولده؟ قال عليه السلام: «قوته بغير سرف إذا اضطرّ إليه» قال: فقلت له: فقول رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم للرجل الذي أتاه فقدم أباه فقال له: أنت و مالك لأبيك فقال عليه السلام: «إنّما جاء بأبيه إلى النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقال: يا رسول الله: هذا أبي و قد ظلمني ميراثي عن أُمي فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه و على نفسه و قال صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنت و مالك لأبيك و لم يكن عند الرجل شي ء أو كان رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يحبس الأب للابن» و يؤيّده سائر

______________________________

(1) العلّامة الحلّي، التذكرة، كتاب الحجر: 2/ 59.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 369

الأخبار الدالّة على أنّ الولد و ماله لأبيه. «1»

قال في القواعد: و يجوز الحبس في دين الولد. «2»

و قال المحقّق الثاني: في رواية الحسين بن أبي العلاء عن الصادق عليه السلام ما يدلّ على عدم الجواز، و إن كان في الحسين قول، لكن ظاهر قوله عليه السلام: «أنت و مالك لأبيك» و مؤكّدات القرآن في حقّ الوالدين مؤيدة لهذا الرواية، و القول بعدم الجواز لا يخلو من قوّة، و اختاره في التذكرة. «3»

و منه يعرف حال المريض، إذا كان الحبس ضررياً أو حرجياً عليه فينظر حتى يبرأ.

هذا كلّه حول الإجابة بالإقرار، بقي الكلام في الإجابة بالإنكار و السكوت أو ب «لا أدري» و إليك البحث عن الجميع واحداً تلو الآخر.

الفصل الثاني في الإنكار
و يقع الكلام في جهات ثلاث:
اشارة

قد تقدّم أنّ المدّعى عليه إمّا أن يقرّ أو ينكر أو

يسكت فقد فرغنا من البحث في الأوّل فيقع الكلام في الإنكار.

ثمّ المنكر إمّا أن يحلف أو يردّ الحلف على المدّعي أو ينكل فالكلام يقع في جهات ثلاث:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 78، من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8 و رواه الكليني و الصدوق و الشيخ.

(2) الإيضاح: 2/ 79 و جامع المقاصد: 5/ 302.

(3) التذكرة: 2/ 59.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 370

الجهة الأولى: إذا حلف المنكر
اشارة

و هنا مسائل:

1- تعريف القاضي للمدّعي بأنّ له أحد الأمرين: إقامة البيّنة أو إحلاف المنكر، جوازاً أو وجوباً.

2- في إحلاف المنكر قبل رضا المدّعي.

3- في توقّف إحلاف المنكر على إذن الحاكم و عدمه.

4- ما يترتّب على حلف المنكر من الآثار: عدم جواز تجديد الدعوى، حرمة التقاص من ماله أو استنقاذ عينه، و حرمة مطالبة إعادة المحاكمة، لا أثر لإقامة البيّنة، أو إقامة شاهد مع اليمين.

5- براءة المنكر متوقّفة على حكم الحاكم أو لا؟

6- إذا اكذب نفسه و أقرّ بالحقّ بعد الحلف.

المسألة الأُولى: هل يجب على القاضي تعريف المدّعي بأحد الأمرين:

إقامة البيّنة أو الإحلاف عند عدمها أو لا يجب؟ لا شكّ في جوازه و ليس من قبيل تلقين الحجّة للخصم المحرّم، و إنّما هو إرشاد، لما أعطاه الشارع من الحق او بيان للحكم الشرعي في المورد، و قال: البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعى عليه. «1» إنّما الكلام في وجوبه إذا لم يكن المدّعي واقفاً بالحكم أو كان واقفاً لكن يحتمل أنّه ليس له إحضارها إلّا إذا طلبها الحاكم منه. و الوجوب لا يخلو من قوّة لأنّه مأمور بالفصل و لا يتمّ إلّا بتعليمه الحكم. قال السيد الطباطبائي: إذا أجاب بالإنكار وجب على الحاكم إذا لم يعلم المدّعي أنّ عليه البيّنة أن يعرّفه بذلك ثمّ يقول: أ لك

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 371

بيّنة فإن لم تكن عنده وجب عليه أن يقول له، لك حقّ الحلف إذا لم يعلم ذلك. «1»

المسألة الثانية: في إحلاف المدّعى عليه قبل إذن المدّعي

إذا رضي المدّعي، بحلف المنكر فلا شكّ في نفوذ حلفه و ترتّب الآثار عليه إنّما الكلام إذا أحلفه القاضي من دون سؤاله و استحصال رضاه فهل ينفذ أو لا؟ اختار الثاني، الشهيد في المسالك «2» و نسب إلى الفاضل في كشف اللثام و هو صريح السيّد علي في الرياض «3»، و استدل الشهيد ما هذا حاصله: وجود الفرق بين تعريف المدّعي بأحد الأمرين، و إحلاف المنكر من دون استحصال رضاه فإنّ التعريف لا يضرّه بل ينفعه، بخلاف تحليف المنكر من دون سؤاله فانّه يضرّ لأنّه يسقط الدعوى و تذهب اليمين بحقّه، و قد يتعلّق غرض المدّعي ببقائها إلى وقت آخر لعلّه يتوفق لإقامة البيّنة

أو يتحرى وقتاً صالحاً لئلا يتجرّي المنكر على الحلف إلى غير ذلك من الأُمور.

و قال السيّد العاملي هذا موضع وفاق بين الأصحاب بل عند العامة أيضاً لأنّه حقّ للمدّعي و مسقط لدعواه و قد لا يريد الإحلاف في الحال ليتذكّر بيّنة أو يعود الخصم إلى الإقرار. «4»

و قال السيّد الطباطبائي: لا يجوز للحاكم أن يحلِّفه من دون سؤاله المدّعي، و كذا لا يجوز تبرّع المنكر به قبل سؤاله بلا خلاف بل بالإجماع الظاهر لأنّه حقّه فيتوقّف على مطالبته و ربّما تعلّق غرضه بأن لا يُحلِّفه توقعاً لوجود شهود أو ارتداع المنكر عن إنكاره أو طيّ الدعوى بالصلح أو نحو ذلك. «5»

أقول: قد مرّ نظير المسألة و هو أنّه إذا طرح المدّعي الدعوى، فهل طلب

______________________________

(1) السيد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 59.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 408.

(3) الجواهر: 40/ 170.

(4) العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 57.

(5) السيّد الطباطبائى، ملحقات العروة: 2/ 59.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 372

الجواب من المدّعى عليه، مشروط بإذن المدّعي أو لا؟ و أيضاً إذا أنهى الحاكم المخاصمة و تبيّن له الحقّ، فهل الحكم مشروط بإذن المدّعي أو لا؟ و قد عرفت انّ الحقّ عدم الاشتراط و أمّا المقام فالحقّ عدم الاشتراط لضعف ما استدلّ به.

أوّلًا: أنّ المقام من باب خلط الحكم بالحقّ فليس اليمين مثل إقامة البيّنة من الحقوق بل من باب الحكم الشرعي و أنّهما من أدوات القضاء، كيف و قد فسّر الحقّ بجعل السلطنة من الشارع للشخص بحيث يوجد الجعل سلطة له و ليس المقام كذلك.

ثانياً: سلّمنا أنّه من باب الحقّ، لكنّه حقّ له على المنكر، لا على القاضي فليس معناه تقييد إطلاقات أدلّة

القضاء و فصل الخصومة به بل معناه أنّ للمدّعي إعماله و إسقاطه. و أمّا أنّ له إيقاف أمر القضاء و تأخيره إلى وقت آخر، فلا يستفاد منه بل غايته أنّه لو أحلف، يقضى به، و إن أسقط، يحكم على المنكر بالبراءة و تكون الدعوى مختومة، و لكن ليس له وراء ذلك أمر ثالث و هو إيقاف المخاصمة و تأخيرها إلى وقت آخر للغايات المذكورة في كلامهم، لأنّها أغراض شخصية لا يكون سبباً لتقييد إطلاقات الأدلّة.

و الحاصل أنّ ما ذكر في المسالك و غيرها لا يخرج عن كونه حقّاً للمدّعي على المدّعى عليه، و أمّا أنّ حكم القاضي مقيّد بإذن المدّعي فلا يستفاد منه. فالأقوى لو لا الإجماع المدّعى، و ما سيوافيك من الروايات، عدم توقّف إحلاف القاضي بإذن المدّعي.

نعم هناك روايات ربّما يستظهر منها اشتراط الإحلاف بإذن المدّعي و هي ثلاث:

1- موثقة «1» ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا رضي صاحب

______________________________

(1) لوجود ابن فضال في السند، و المراد من علي بن عقبة، فيه هو علي بن عقبة بن خالد الأسدي الثقة، و هو يروي عن موسى بن اكيل النميري الثقة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 373

الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدعي فلا دعوى له». «1»

2- خبر خضر النخعي عن أبي عبد الله عليه السلام و فيه: ان استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً و إن تركه و لم يستحلفه فهو على حقّه. «2» فظاهر الفعل (استحلفه) هو قيامه بالإحلاف عن اختيار.

3- خبر عبد الله بن وضّاح و قد جاء فيها: «و لو لا أنّك رضيت

بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك و لكنّك رضيت بيمينه. و قد ذهبت اليمين بما فيها». 3

وجه الاستدلال بالروايات الثلاث هو أنّه إذا كان ذهاب الحقّ باليمين مشروطاً برضى المدّعي، باليمين فيدلّ بالدلالة الالتزامية على اشتراط إحلاف القاضي أيضاً برضاه. إذ لو لم يكن إحلافه مشروطاً، برضا المدّعي، كانت شرطية رضاه بحلف المنكر أمراً لغواً، لأنّ القاضي يحلِّفه، و هو يذهب بحقّ المدّعي و إن لم يكن راضياً بيمينه هذا غاية توضيح للاستدلال بالروايات الثلاث.

و مع هذا ففي دلالة الروايات على القول المشهور إشكال فإنّ كون الحلف واقعاً عن رضاه يتصوّر على وجهين:

1- تصريحه بأنّه راض بحلف المنكر.

2- استدعاؤه من القاضي أن يحكم بينهما بالحقّ و الشرع و يُنهي الخصومة، فمعنى ذلك أنّه راض بكلّ ما يقوم به طبق الضوابط الدينية أو العرفية من الأمر له بإقامة البيّنة و للآخر بالحلف، و الرضا بالكلّ رضاً بالجزء و هو الحلف و لا يتوقّف على رضاً آخر، فالحضور عنده كاف فيما هو المعتبر في الرضا.

و بالجملة: نحن نقول باشتراط الإحلاف بالرضا، لكن ليس المقصود منه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18 الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1- 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 374

شيئاً سوى الحضور لدى القاضي و طلب المحاكمة منه.

المسألة الثالثة: في توقّف إحلاف المنكر على إذن الحاكم

الإحلاف المؤثّر الذي تترتّب عليه آثار القضاء مشروط بإذن المدّعي و الحاكم، و قد مرّ الكلام في الأوّل و إليك البحث في الثاني:

1- قال ابن إدريس «و متى بدأ الخصم باليمين، من غير أن يُحلِّفه الحاكم، لم يبرَّه ذلك من الدعوى و كان متكلّفاً».

«1»

2- قال المحقّق: لو تبرّع هو (المدّعي) أو تبرّع الحاكم بإحلافه لم يعتدّ بتلك اليمين و أعادها الحاكم إن التمس المدّعي. «2» و المقصود من تبرّع المدّعي إحلافه المنكر بلا إذن صادر من الحاكم.

3- و قال العلّامة في القواعد: و كذا الحالف لا يبتدي باليمين من غير أن يُحلِّفه الحاكم فلو تبرّع الحالف أو الحاكم باليمين وقعت لاغية و لم يعتدّ بها و يعيدها الحاكم بعد سؤاله و كذا لو حلّفه من غير حاكم. «3»

4- و قال في الجواهر: نعم ذكر الشهيدان و غيرهما من غير خلاف أجده فيه أيضاً بل في مجمع البرهان نسبته إلى الأصحاب، أنّه لا يستقلّ الغريم باليمين من دون الحاكم و إن كان حقّاً لغيره لأنّه وظيفته. «4»

5- و قال السيّد الطباطبائي: و كذا لا يعتدّ بإحلاف المدّعي من دون إذن الحاكم بلا خلاف لأصالة عدم ترتّب الأثر. و لأنّه المعهود المنصرف إليه الأخبار، و للأخبار المشتملة على قوله: «أضفهم إلى اسمي» كخبر محمد بن قيس أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه كيف أقضي بأُمور لم أخبر ببيانها؟ قال: فقال له: «رُدّهم إليَّ

______________________________

(1) ابن ادريس، السرائر: 2/ 160.

(2) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 84.

(3) مفتاح الكرامة، قسم المتن: 10/ 75.

(4) الجواهر 40/ 171.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 375

و أضفهم إلى اسمي يحلفون به» و نحوه مرسلة أبان، و صحيحة سليمان بن خالد. و الحاصل أنّه يمكن أن يستظهر من الأخبار «1»، أنّ ذلك من وظائف الحاكم و مع قطع النظر عن ذلك ففي الإجماع و الأصل كفاية. «2»

يلاحظ عليه ما استدلّ به من الروايتين «3» لا دلالة لهما على الشرطية و إنّما

وردتا في مورد إحلاف القاضي، و لا يدلّان على لغوية إحلاف ذي الحقّ من دون إذن القاضي كما هو المطلوب و أمّا كونه منصرف الروايات أو الأصل عدم ترتّب الأثر إنّما يصحّ لو لم يكن هناك إطلاق في روايات الإحلاف، فإنّ إطلاق قوله: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر ... ذهبت اليمين بحقّ المدعي» أو قوله: «من حلف لكم فصدِّقوه». 4 يعمّ كلتا الحالتين. و لأجل ما ذكر قال في الجواهر إنّ إقامة الدليل عليه إن لم يكن إجماع في غاية الصعوبة بل لعلّ ظاهر الأدلّة الآتية خصوصاً خبر اليهودي المشتمل على تحليف الوالي المعلوم كونه ليس من أهل الحكومة، خلافه.

و الأحوط لو لم يكن الأقوى سقوط حقّه إذا أحلفه في غير حضرة الحاكم، نعم لا يترتّب عليه أثر الحكم لعدمه بالفرض لو افترضنا أنّ له أثراً في المقام من حرمة النقض و غيرها.

و العجب أنّ السيّد اختار ما نقلناه عنه في المسألة الثانية من الفصل الرابع من كتابه و لكنّه في نفس الفصل في المسألة السادسة بعد استظهار اختصاص الحلف المسقط للحق بما إذا كان باستحلاف الحاكم في المرافعة قال: ما نصّه: «و إن كانت الأخبار مطلقة و الأحوط التعميم بل يستفاد من خبر عبد الله ابن وضّاح المتقدّم عدم اعتبار كون الحلف عند الحاكم الشرعي لكونه عند

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(2) السيد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 60.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 21.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 376

الوالي. «1»

المسألة الرابعة: في ما يترتّب على الحلف:
اشارة

إذا أحلف المنكر يترتّب عليه أُمور:

1- سقوط الدعوى.

2- لو ظفر بمال الغريم

لم تحلّ له المقاصة.

3- و لو أعاد المطالبة أثم و لم تسمع دعواه.

4- و لو أقام بيّنة بما حلف عليه المنكر لم تسمع.

5- و لو أقام شاهداً و ضمّ إليه اليمين لم تسمع.

و إليك دراسة هذه الآثار:

أمّا سقوط الدعوى فإنّه لازم نفوذ حكم القاضي و إلّا يكون لغواً.

و أمّا عدم جواز التقاص فتدلّ عليه مضافاً إلى ما تقدّم من الروايات الثلاث أعني: موثقة ابن أبي يعفور، و خبر خضر النخعي و ابن وضّاح، صحيحة سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه و حلف، ثمّ وقع له عندي مال فآخذه لمكان مالي الذي أخذه و أجحده و أحلف عليه كما صنع قال: إن خانك فلا تخنه و لا تدخل فيما عتبه عليه. «2»

و في مقابل هذه النصوص رواية أبي بكر الحضرمي و قد رويت مضمرة و مسندة أما الأُولى: قال قلت: له رجل عليه دراهم فجحدني و حلف عليها، أ يجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن أخذ منه بقدر حقي؟ قال: فقال: نعم و لكن لهذا كلام

______________________________

(1) السيّد الطباطبائى، ملحقات العروة: 20/ 62.

(2) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 377

قلت: و ما هو؟ قال: تقول: «اللّهمّ إنّي لا آخذه ظلماًةنايخ لا و و إنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي، لم أزدد عليه شيئاً». «1»

أمّا المسندة فروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: رجل كان له على رجل مال، قال: فجحده إيّاه و ذهب به ثمّ صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله

مال قبله. أ يأخذه مكان ماله الذي ذهب به منه ذلك الرجل؟ قال: نعم و لكن لهذا كلام يقول الخ.

و لعلّ الروايتين واحدة و إن كان الدائن في الأوّل نفس الراوي، و في الثانية رجل، غير أنّ الثانية خالية عن الحلف فالتقاص عندئذ لا يكون مخالفاً لما مرّ، و أمّا الأُولى فربّما تحمل على ما إذا كان الحلف تبرّعياً لا في محضر القاضي و لكنّك عرفت عدم كونه شرطاً في تأثير الحلف و الأولى أن يطرح لإعراض الأصحاب عنه، و العمل بالمشهور هو المتعيّن.

نعم يبقى في المقام سؤال و هو أنّه ما هو المقصود من ذهاب الحقّ باليمين فإن أُريد منه الذهاب الظاهري فهو إنّما يصحّ إذا كان المدّعي شاكاً في كون العين له أو كونه مديوناً و أمّا إذا كان قاطعاً بالخلاف فلا موضوع للحكم الظاهري.

و إن أُريد الذهاب الواقعي، فلازمه عدم التأثير إذا أقرّ بالحقّ بعد الإنكار و الحلف، لأنّ المفروض خروج العين عن ملك المدّعي.

و الجواب أنّ الحكم بالذهاب، حكم قضائي بأنّ العين للمنكر، و الحكم القضائي، لا ظاهري حتى لا يتصوّر، جعله في حقّ العالم بالواقع كالمدّعي، و لا واقعي حتّى لا يؤثر الإقرار بعد الإنكار في رجوع العين إلى المالك بل هو قسم ثالث تجب متابعته تكريماً للحلف و احتراماً لمقام القضاء فهو أشبه بالأحكام الواقعية الثانوية كجواز الدخول في الصلاة بالطهارة الترابية و جواز الاقتداء بصلاة

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 378

المخالف عند التقية، فلا يشترط في صحّة جعله الشكّ، بل يصحّ جعله و إن كان أحد الطرفين قاطعاً بالخلاف.

نعم الحكم معتبر، ما لم ينكشف الخطاء لدى القاضي فإذا أقرّ بالحقّ انكشف الخطأ في حكمه، و يرجع كلّ شي ء إلى أصله.

و هل يجوز احتساب ما في ذمّة المنكر خمساً أو زكاة ممّا لا يوجب حقّاً للمدّعي على المنكر أو لا؟ قال السيّد الطباطبائي: إنّ القدر المتيقن من سقوط حقّ المدّعي هو عدم جواز المطالبة و عدم جواز المقاصّة، و عدم سماع الدعوى منه بعد الحلف و نحو ذلك ممّا يعدّ معارضة للمنكر كبيع العين أو هبتها من غيره و بيع الدين أو صلحه من الغير و أمّا ما لا يعدّ معارضة كإبرائه من الدين أو عتق العبد أو احتساب ما عليه خمساً أو زكاة أو مظالم إذا كان من أهلها فلا مانع منه إذ الإطلاقات منصرفة عنه. «1»

و ما ذكره لا يخلو من قوّة لانصراف الروايات إلى أنّه لا يحقّ له المطالبة و أمّا الاحتساب المذكور فلا يعدّ مطالبة بل هو إحسان له بالنسبة و إلّا يلزم عدم صحّة إبراءه و هو كما ترى.

و منه يعلم حكم فرع آخر ذكره السيّد الطباطبائي و هو شراء العين المحلوف عليها من الحالف و التصرّف فيها بعده، في ظاهر الشرع و إن كان الشراء باطلًا لأنّ المفروض أنّها باقية على ملكه و كذا يجوز اتهابها منه بل الظاهر جواز التصرّف فيها بإذنه و رضاه و إن كان إذنه بعنوان أنّها له، و هكذا نحو ذلك مما لا يعدّ معارضة. «2»

أمّا حرمة مطالبة إعادة المحاكمة
اشارة

قال المحقق: و لو عاود المطالبة أثم و لم تسمع دعواه.

______________________________

(1) السيّد الطباطبائى، ملحقات العروة: 2/ 62.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2، المسألة 8/ 63 في الفصل الرابع.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص:

379

إنّ لمطالبة إعادة المحاكمة صورتين:

إحداهما: أن يطالبها مع عدم البيّنة سواء أعادها عند الحاكم الأوّل أو عند حاكم آخر. و ذلك لأنّ المفروض ذهاب حقّه باليمين، فلا حقّ حتّى يطالبه.

ثانيهما: أن يطالبه مع إقامة البيّنة و هذا هو البحث التالي.

إذا أقام المدّعي بيّنة بعد حلف المنكر

المشهور أنّه إذا حلف المنكر لا تسمع بيّنة المدّعي.

1- قال الشيخ في الخلاف: إذا حلف المنكر ثمّ أقام المدّعي البيّنة بالحقّ لم يحكم له بها. و به قال ابن أبي ليلى، و داود و قال باقي الفقهاء إنّه يحكم بها، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

و أيضاً قوله: من حلف فليُصدَّق، و من حلف له فليرض. و من لم يفعل فليس من الله في شي ء. «1»

2- و ذهب في المبسوط إلى خلاف ما في الخلاف و قال: إذا عرض اليمين عليه فلم يخل من أحد أمرين إمّا أن يحلف أو ينكل فإن حلف أسقط الدعوى و ليس للمدّعي أن يستحلفه مرّة أُخرى في هذا المجلس و لا في غيره اللّهم إلّا أن يكون له بيّنة عليه فحينئذ يأتي بالبيّنة. «2»

3- و ذهب المفيد إلى السماع إلّا إذا شرط المنكر سقوط دعواه باليمين. قال: و إذا التمس المدّعي يمين المنكر فحلف له و افترقا و جاء بعد ذلك ببيّنة تشهد له بحقّه الذي حلف له عليه خصمه، ألزمه الحاكم الخروج منه إليه اللهمّ إلّا أن يكون المدّعى عليه قد اشترط للمدّعي أن يمحو عنه كتابه عليه، أو يرضى بيمينه

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف،: ج 3، كتاب الشهادة، المسألة 40.

(2) الطوسي، المبسوط: ج 8، كتاب القضاء/ 158.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 380

في إسقاط دعواه فإن اشترط له ذلك لم تُسمع بيّنته من

بعد، و إن لم يشترط له ذلك سمعت على ما ذكرناه. «1»

4- و قال ابن إدريس: و إن قال المدّعي ليس معي بيّنة، و طلب من خصمه اليمين فحلفه الحاكم ثمّ أقام بعد ذلك البيّنة على صحّة ما كان يدّعيه لم يلتفت إلى بيّنته و أبطلت. «2»

5- و قال المحقّق: و لو أقام بيّنة بما حلف عليه المنكر لم تسمع و قيل يعمل بها ما لم يشترط المنكر سقوط الحق باليمين. «3»

6- و قال العلّامة: و إذا حلف المنكر سقطت الدعوى ... و لا تسمع دعواه و لا بيّنته ثمّ نقل قولين:

أ: يحكم بالبيّنة إلّا أن يشترط سقوط الحقّ باليمين.

ب: و تسمع مع النسيان. «4»

7- و قال في الإرشاد: و لو أقام المدّعي بيّنته بعد إحلاف الخصم، لم تسمع، و إن لم يشترط سقوط الحقّ باليمين أو نسيها. «5»

8- قال في المختلف: اختلف الشيخان فقال المفيد رحمه الله: إذا التمس المدّعي يمين المنكر فحلف له و افترقا فجاء بعد ذلك بيّنة تشهد له بحقّه الذي حلف له عليه خصمه ألزمه الحاكم الخروج منه إليه. اللّهمّ إلّا أن يكون المدّعى عليه قد اشترط للمدّعي أن يمحو عنه كتابه عليه أو يرضى بيمينه في إسقاط دعواه فإن اشترط له ذلك لم تسمع بيّنته من بعد و إن لم يشترط له ذلك سمعت على

______________________________

(1) المفيد، المقنعة: 733.

(2) ابن إدريس، السرائر: 2/ 159.

(3) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 84.

(4) العلامة الحلي، القواعد كما في متن مفتاح الكرامة: 10/ 77.

(5) العلّامة: إرشاد الاذهان: 2/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 381

ما ذكرناه.

و قال الشيخ في الخلاف: إذا حلف المدّعى عليه ثمّ أقام المدّعي البيّنة

بالحق لم يحكم له بها و به قال في النهاية و المبسوط «1» و هو قول ابن الجنيد و نقله عن الباقر و الصادق عليهما السَّلام.

و للشيخ في المبسوط قول آخر أنّه إن كان أقام البيّنة على حقّه، غيره و تولّى ذلك الغير الإشهاد عليه و لم يعلم هو أو تولّى هو إقامة البيّنة و نسي فإنّه يقوى في نفسي أنّه يقبل بيّنته فأمّا مع علمه ببيّنته فلا يقبل بحال و به قال أبو الصلاح و ابن إدريس «2» و قال ابن البرّاج في الكامل بما ذهب إليه المفيد و به قال ابن حمزة أيضاً و المعتمد ما قاله الشيخ في النهاية. «3»

9- و قال المحقق الأردبيلي فلو أقامها بعد إحلاف المدّعى عليه لم تسمع سواء شرط سقوط الدعوى أم لا، و سواء قال: كان لي بيّنة و نسيتها و نحو ذلك و طلبت اليمين أم لا. «4»

10 و قال السيّد الطباطبائي: فإن حلف سقطت الدعوى في ظاهر الشرع، لكن لا يبرأ من الحقّ لو كان كاذباً فيجب عليه التخلّص من حقّ المدّعي، و على ذلك فليس للمدّعي بعد الحلف مطالبة حقّه و لا مقاصّته و لا يجوز له الدعوى و لا تسمع دعواه بالإجماع و النصوص ففي ذيل صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة بعد قوله: «فلا حقّ له: قلت: و إن كان له بيّنة عادلة قال: نعم فإن أقام بعد ما استحلفه بالله، خمسين قسامة ما كان له حقّ و كانت اليمين قد أبطلت كل ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه. قال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «من حلف لكم بالله فصدّقوه و من سألكم

______________________________

(1) قد عرفت نص

المبسوط و هو على خلاف هذا النقل و لعلّه ذكره في موضع آخر منه.

(2) قد عرفت نص السرائر على خلافه و لعلّه ذكره في موضع آخر منه.

(3) العلّامة، المختلف: الفصل الثالث من كتاب القضاء: 147.

(4) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 137.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 382

بالله فاعطوه و ذهبت اليمين بحقّ المدّعي و لا دعوى له». «1»

و حصيلة الأقوال:

1- عدم السماع مطلقاً.

2- السماع مطلقاً

3- السماع إلّا إذا اشترط السقوط.

4- عدم السماع إلّا إذا نسي المدَّعي البيّنة.

5- عدم السماع إلّا إذا تولّى الغير إقامة البيّنة أو نسي المدّعي البيّنة و هو الذي نقله العلّامة عن المبسوط.

هذه هي الأقوال في المسألة و منه يعلم عدم وجود إجماع في المسألة سوى الشهرة من عصر المحقّق و لا بدّ من دراسة أدلة المسألة:

استدل لعدم السماع، بما رواه ابن أبي يعفور، أعني قوله: «نعم و إن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ... «2».

أقول: إنّ مقتضى القاعدة هو السماع خصوصاً إذا كان عدم الإحضار مستنداً إلى عذر مقبول عند العقلاء، كعدم حضورها أو عدم تذكّرها و ذلك بوجهين:

1- أنّ نسبة اليمين إلى البيّنة نسبة الأصل إلى الأمارة، فالشارع ابتكر علاجاً خاصّاً لفصل الخصومة عند فقد الدليل الموصل إلى الواقع، و من المعلوم ارتفاع موضوع الأصل عند وجود الدليل فيكشف عن أنّ القضاء باليمين، لم يكن على الوجه الصحيح و إن كان القاضي معذوراً، فإذا تبيّن الخلاف، ينتهي أمد الحكم الأوّل. هذا هو مقتضى القاعدة. و لا يعدل عنها

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 60، المسألة 3.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من ابواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية

الغراء، ج 1، ص: 383

إلّا بدليل قاطع.

2- أنّ مقتضى إطلاق دليل حجية البيّنة، هو لزوم الأخذ بها مطلقاً، سواء حلف أم لم يحلف و بذلك يعلم ضعف ما في المسالك: «إنّ اليمين حجّة للمدّعى عليه، كما أنّ البيّنة حجة للمدّعي و كما لا يسمع يمين المدّعى عليه بعد حجّة المدّعي كذلك لا يسمع حجّة المدّعي بعد حجّة المدّعى عليه». «1» و ذلك للفرق الواضح بين الحجّتين. كما لا يخفى فعدم سماع يمين المدّعى عليه، عند وجود البيّنة، لا يكون دليلًا على عدم سماعها عند وجود اليمين لكون النسبة بينهما نسبة الأصل إلى الأمارة.

و ليس في مقابلهما سوى موثقة ابن أبي يعفور و العمل بذيلها مشكل حيث قال: «و إن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له» فإنّ القسامة في مورد الدم مقدّمة على الحلف فكيف لا تكون مقدّمة في المقام فإنّ المال ليس بأهم من الدم فاللازم إرجاع علمها إليهم عليهم السَّلام فالأحوط السماع و أولى منه التصالح. كما لا يخفى.

نعم ربّما يستدلّ على السماع بأنّ: «كل حالة يجب عليه الحقّ بإقراره، فيجب عليه بالبيّنة كما قبل اليمين» «2» و أجاب عنه المحقّق الآشتياني: «أنّ المقرّ بإقراره يخرج عن موضوع ما دلّ على عدم جواز ترتّب أثر الحقّ على المحلوف عليه كذباً، بخلاف البيّنة فإنّ الموضوع في صورة قيامها، باق بحاله فلا يجوز سماعها و ترتيب الأثر عليها» «3».

و لكن الإجابة ضعيفة، لما عرفت من أنّ نسبة اليمين إلى البيّنة إنّما هو نسبة الأصل إلى الأمارة فلا يكون الموضوع باقياً في كلتا الصورتين فالتفصيل بين

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 409.

(2) المصدر نفسه.

(3) الآشتياني: القضاء: 112.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة

الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 384

الإقرار و البيّنة مشكل.

و أمّا القول بجواز السماع إلّا إذا اشترط سقوط الدعوى بالحلف، فمنظور فيه، إذ لو كان السماع جائزاً فاشتراط سقوطه يكون على خلاف السنّة إلّا إذا رجع الشرط إلى إلزامه اختيار جانب الترك من الجواز من دون أن يمسّ الاشتراطُ كرامةَ الحكم الشرعي، كما أوضحنا حاله في مبحث الشروط في الخيارات. «1»

و منه يظهر حكم حال النسيان أو تولّي الغير بإقامة البيّنة إذ لا دليل على التفريق بين الذاكر و الناسي، أو بين تولّي النفس و الغير، إذ لو كان المستند في السماع هو إطلاق دليل البيّنة، فلا وجه للتفريق بين الصورتين، كما أنّ الحال كذلك لو كان المستند في عدم السماع هو موثقة ابن أبي يعفور.

نعم ربّما يكون الشمول في صورة النسيان أولى عند العقلاء كما عرفت سابقاً.

ثمّ إنّ صاحب الوسائل قال بعد نقل الموثقة قال: «و تقدّم في الوصايا في إشهاد الذميين عليها، ما ظاهره المنافاة لكنّه مخصوص بتلك الصورة».

و قد أشار بذلك إلى ما رواه في الباب 21 من كتاب الوصايا من مرفوعة علي بن إبراهيم من أنّ الحكم بعد إحلاف المنكر ينقض بيمين المدّعي في مورد خاص، و هو غير ما نحن فيه من ترتّب الأثر على البيّنة بعد إحلاف المنكر، و لا يصحّ إسراء الحكم منه إلى ما نحن فيه إلّا بدعوى الأولوية و هي ممنوعة، لوجود قرائن في مورد الرواية تدلّ على صدق ادّعاء المدّعي حيث وجدوا الآنية و القلادة عند المنكر، كما لا يخفى، بخلاف موضع إقامة البيّنة.

و مما ذكر يظهر حال ما إذا أقام شاهداً و ضمّ إليه اليمين فإنّ حكمه حكم إقامة البيّنة. و الأولى التصالح.

______________________________

(1) المختار في

احكام الخيار: ص 472.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 385

المسألة الخامسة: براءة المنكر متوقّفة على حكم الحاكم أو لا؟

هل يتوقّف سقوط الدعوى على إنشاء حكم من الحاكم بذلك بعد الحلف أو يكفي الحلف بعد طلب المدّعي و أمر الحاكم؟

يظهر من صاحب الجواهر لزوم إنشاء الحكم. قال: «قد يتوهم من ظاهر النصوص سقوط الدعوى بمجرّد حصول اليمين من المنكر من غير حاجة إلى إنشاء حكم من الحاكم بذلك، لكن التحقيق خلافه، ضرورة كون المراد من هذه النصوص و ما شابهها تعليم ما به يحكم الحاكم، و إلّا فلا بدّ من القضاء و الفصل بذلك كما أومأ إليه بقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان» «1» بل لو أخذ بظاهر هذه النصوص و شبهها لم يحتج إلى انشاء الحكومة من الحاكم مطلقاً ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المدعي باليمين و ثبوت الحقّ بالبيّنة و نحوها. «2»

يلاحظ بأنّه في مقام بيان الحكم الشرعي، سواء أ كان هناك تعلم أو لا، و الدليل على ذلك أنّه اعترف به في آخر كلامه حيث قال: «ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المدّعي باليمين، و ثبوت الحقّ بالبيّنة» من دون نظر إلى تعليم الآخرين بكيفية القضاء.

و ذهب السيّد الطباطبائي إلى عدم لزوم إنشاء الحكم في الموارد الثلاثة: الحلف، و الإقرار بالحقّ، و البيّنة و قد تدرج في بيان مقصوده، فجعل محور الكلام اليمين، و أنّ البراءة لا تتوقّف على حكم الحاكم إذا كان اليمين بطلب المدّعي و أمر الحاكم، قائلًا بأنّ لليمين خصوصيّه و أنّها موجبة للبراءة، غاية الأمر أنّ اللازم كونها بأمر الحاكم لا بمجرّد طلب المدّعي. ثمّ عطف عليه، كون الإقرار مثل اليمين و أنّه

______________________________

(1) الوسائل:

الجزء 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) النجفي، الجواهر: 40/ 175.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 386

يثبت به الاشتغال إذا حاز الشرطين من دون حاجة إلى حكم الحاكم، فلو مات الحاكم بعده و قبل الحكم لم يحتجّ إلى شي ء. ثمّ احتمل كون الحكم في البيّنة أيضاً كذلك. قال: «و قد يحتمل كفاية الثبوت حتّى في البيّنة و عدم الحاجة إلى إنشاء الحكم من الحاكم، و كون المراد من الحكم هو الثبوت عنده و يكفي إخباره به». «1»

يلاحظ عليه: أنّه إن أراد من عدم الحاجة إلى إنشاء الحكم من الحاكم، في مجال ترتّب الأحكام الواقعية على موضوعاتها فهو حقّ، فإذا حلف بطلب المدّعي و أمر الحاكم لو قلنا بشرطيتهما و قد عرفت منّا أنّ الأقوى عدمها يترتّب عليه سقوط الدعوى، و حرمة التقاص، لأنّهما أحكام شرعية مترتّبة على اليمين، فعلى المدّعي المؤمن بالشريعة، الالتزام بتلك الأحكام.

و إن أُريد من عدم الحاجة إلى إنشاء الحكم من الحاكم، في مجال الأحكام القضائية أي الأثر المترتّب على حكم القاضي نفسه، فلا ريب في توقّفه عليه لو كان، كفصل الخصومة و حرمة النقض، و منع طرح الدعوى في محكمة أُخرى فالكلّ من آثار الحكم، فما ذكره من باب خلط أثر الحكم الواقعي بأثر الحكم القضائي.

ثمّ إنّ في كلامه خلطاً آخر و هو ما أفاد: «و المراد من الحكم هو الثبوت عنده و يكفي في إخباره به» و ما ذكره مسألة أُخرى لا صلة لها بما ذكرناه و هي أنّه لو قلنا بلزوم حكم الحاكم يقع الكلام في أنّه هل يكفي فيه ثبوته عنده و إخباره بذلك أم لا بدّ من إنشاء الحكم

بمثل قوله «حكمت» و القولان مبنيان على تسليم لزوم الحكم، غير أنّهما يختلفان في كيفية إظهاره، فهل تكفي الجملة الخبرية، أو يتوقّف على الإنشاء.

و قد ظهر بما ذكر في الموارد الثلاثة:

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 64.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 387

1 طلب المدّعي.

2- أمر الحاكم.

3- إنشاء الحكم.

إنّ الأثر الشرعي الواقعي لا يتوقّف على واحد منهما و أمّا الأثر القضائي فربّما يتوقّف على طلب المدّعي، و إذن الحاكم و إنشاء الحكم منه.

المسألة السادسة: إذا أكذب الحالف نفسه

إذا أكذب الحالف نفسه بالإقرار فيسقط ما كان يترتّب على الحلف إذا لم يكذبه من الآثار، فتجوز مطالبته و تحلّ مقاصته ممّا يجده له مع امتناعه من التسليم. و علّله في المسالك بقوله: لتصادقهما حينئذ على بقاء الحق في ذمّة الخصم فلا وجه لسقوطه. «1»

و في مفتاح الكرامة: «لأنّ الإقرار أبطل ما تقدّم لعموم أدلّة الأخذ بالإقرار، لكن تأمّل فيه بأنّ ظاهر الروايات المتقدّمة على خلاف ذلك. «2»

وجه التأمّل، أنّ النسبة بين عموم الأخذ بمقتضى الإقرار، و ما سبق من الروايات من ذهاب الحق بيمينه هو العموم و الخصوص من وجه، لصدق عموم دليل الإقرار و دونها فيما إذا أقرّ، و لم يكن مسبوقاً بالحلف، و صدق الروايات فيما حلف و لم يكذب نفسه، و يصدقان فيما إذا حلف و أكذب نفسه فلا وجه لتقديم عمومه على ما دلّ على ذهاب الحقّ باليمين.

و لكن التأمّل في غير مورده لما عرفت من أنّ ذهاب اليمين بحقّ المدّعي ليس حكماً واقعياً، بل حكم قضائي يثبت ما دام الموضوع باقياً فإذا أقرّ بالخلاف، و صار المنكر مقرّاً فلا معنى لبقائه.

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 409.

(2) السيّد العاملي، مفتاح الكرامة:

10/ 77.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 388

أضف إلى ذلك، أنّ المرتكز لدى العقلاء هو الأخذ بالإقرار، و ذمّ الحالف على حلفه كاذباً و هو كاف في تقديم عموم الإقرار.

فلو كان ما ذكر مقنعاً في تقديم عموم الإقرار و إلّا فيكفي ما رواه الصدوق عن مسمع بن أبي سيّار «1» قال قلت: لأبي عبد الله إنّي كنتُ استودعت رجلًا مالًا فيجحدنيه، و حلف لي عليه ثمّ إنّه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إيّاه فقال: هذا مالك فخذه و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها فهي لك مع مالك، و اجعلني في حلّ فأخذت منه المال و أبيت أن آخذ الربح منه و رفعت المال الذي كنت استودعته و أبيت أخذه حتّى استطلع رأيك فما ترى؟ فقال: «خذ نصف الربح و أعطه النصف و حلّله فإنّ هذا رجل تائب و الله يحب التوّابين». «2»

و الراوي بصفاء ذهنه، أدرك أنّ له أخذ ماله، و إنّما توقّف في أخذ الربح. و مقتضى القاعدة أنّ الربح كلّه لصاحب المال، إذا أجاز ما ترتّب على ما له من العقود و عندئذ يكون دفع نصف الربح إليه حكماً استحبابياً، لأجل تشويقه إلى الصدق و الصفاء و حفظ الأمانة و أمّا كون عمل المسلم محترماً فلا صلة له بالمقام، فإنّ ذلك فيما إذا كان العمل بإذن من صاحب المال، لا ما إذا قام به فضولياً.

و لعلّ ما في فقه الرضا، مأخوذ من هذه الرواية فقد جاء فيه: «و إذا أعطيت رجلًا مالًا فجحدك و حلف عليه ثمّ أتاك بالمال بعد مدّة، و ربّما ربح فيه و ندم على ما كان منه، فخذ رأس مالك و نصف

الربح و ردّ عليه نصف الربح. هذا رجل تائب». «3»

______________________________

(1) سند الصدوق إلى مسمع لم يصحح، و لكن مسمعاً ثقة، وثقه الكشي، ص 262 و المجلسي في الوجيزة: 167 و يظهر المدح في حقّه عن رجال النجاشي. و الرواية معتبرة.

(2) الوسائل: الجزء 16، كتاب الايمان، الباب 48، الحديث 3.

(3) النوري، المستدرك، و هذا و أمثاله دليل على أنّ الكتاب (فقه الرضا)، مأخوذ من الأحاديث المروية عن الأئمّة لكن بتصرف و تلخيص و تقييد و تخصيص.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 389

و الظاهر عدم الفرق في إكذاب نفسه بين حضور الحاكم و عدمه بل يكفي سماع المدّعي كما لا فرق بين كون التكذيب بعنوان التوبة و عدمها. كلّ ذلك لإطلاق دليل الإقرار و كونه المرتكز لدى العقلاء.

و الحقّ أن يقال: إنّ الآثار المترتّبة على الشي ء بوجوده الواقعي يترتّب على التكذيب مطلقاً، كالمطالبة في غير المحكمة و التقاص. و أمّا الآثار المترتّبة على حكم القاضي فهو باق، لأنّه بعد غير منتقض عنده و إنّما ينتقض إذا كان الإقرار في محضر القاضي، حتى ينتهي حكمه بانتفاء الموضوع لدى القاضي.

الجهة الثانية: إذا ردّ اليمين على المدّعي
اشارة

قد عرفت أنّ للمنكر حالات ثلاث، لأنّه إمّا يحلف، أو يردّ اليمين على المدّعي أو ينكل و قد عرفت حكم حلفه و لنبحث عن حكم الثاني ثمّ الثالث، و الكلام يقع في الأُمور التالية:

1- إنّ للمنكر ردّ اليمين على المدّعي.

2- و لو ردّ و حلف ثبت حقّه.

3- و إذا نكل المدّعي، ينتفى حقّه.

4- إنّ الردّ مختصّ بالحقوق المالية.

5- هل يمين المدّعي بمنزلة البيّنة أو كإقرار المنكر؟

6- إنّ للمنكر أن يستمهل مدّة معيّنة.

قد تضافرت النصوص على الأحكام الثلاثة الأُولى، و ادّعى الإجماع لو لا أنّ

الإجماع مستند إلى النصوص. و فيها الصحيح و المعتبر و الضعيف فبعضها يدلّ على الحكم الأوّل، و الأكثر يدلّ على الأحكام الثلاثة. أمّا الأوّل فتدلّ عليه روايات:

1- صحيحة هشام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تُردُّ اليمينُ (بصيغة المجهول)

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 390

على المدّعي. «1» و هل الحديث ظاهر فيما كان الرادّ نفسه أو يعمّ ما إذا كان الرادّ هو الحاكم و لعلّه ظاهر في الثاني.

و أمّا الثاني فتدلّ عليه:

2- صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السَّلام في الرجل يدّعي و لا بيّنة له قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له». «2» فتدلّ على الأوّل و الثالث بالمنطوق و على الثاني بالمفهوم.

3- خبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يُدّعى عليه الحقّ، و لا بيّنة للمدّعي قال: «يُسْتَحْلَفُ أو يُردّ اليمين على صاحب الحقّ فإن لم يفعل فلا حقّ له». 3

و في السند «القاسم بن سليمان و هو في كتب الرجال مهمل لم يوثق» و يدلّ على الحكم الأوّل و الثالث و يستفاد الثاني بالمفهوم، و الظاهر أنّ بناء الفعلين على المجهول، أي يُستحلف الرجل الذي ادّعي عليه، أو تردّ اليمين على المدّعي، و التفكيك بين الفعلين بكون الأوّل مبنيّاً على الفاعل و إن كان صحيحاً، لكن الثاني عندئذ يتعيّن للبناء على المفعول. نعم التفكيك على خلاف الظاهر.

4- مرسلة يونس عمّن رواه قال: استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين. فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان. فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه.

فإن لم يحلف

و ردّ اليمين على المدّعي فهي واجبة عليه أن يحلف و يأخذ حقّه فإن أبى أن يحلف فلا شي ء له». 4

و الرواية تدلّ على الأحكام الثلاثة بالمنطوق. و الوجوب فيها، وجوب وضعي

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(2) 2، 3، 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، 2، 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 391

لا تكليفي كما أنّ اللزوم في عبارة المحقق: «و إن ردّ اليمين على المدّعي لزمه الحلف» وضعيّ بمعنى أنّه لو أراد استيفاء حقّه فعليه اليمين.

5- مرسلة أبان عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يُدّعى عليه الحقّ و ليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: «يستحلف المدّعى عليه، فإن أبى أن يحلف، و قال أنا أردّ اليمين عليك لصاحب الحقّ، فإنّ ذلك واجب على صاحب الحقّ أن يحلف و يأخذ ماله». «1» و هي تدل على الحكم الثاني و الثالث.

6- صحيح جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أقام المدّعي البيّنة فليس عليه يمين و إن لم يقم البيّنة فردّ عليه الذي أدّعي عليه، اليمين، فأبى فلا حقّ له. 2

و الظاهر انّ «ادّعي عليه» مبني للمجهول، و ضمير «أبى» يرجع إلى المدعي.

7- روى عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال قلت: للشيخ خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ، فلم تكن له بيّنة بما له، قال: فيمين المدّعى عليه فإن حلف فلا حقّ له و إن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له .... 3

و في السند، ياسين الضرير البصري و الظاهر أنّه إماميّ و قد أهمل في الأُصول الرجالية،

و نقل المامقاني أنّ صاحب الحاوي ضعّفه و بهذا اللفظ رواية أبي العباس البقباق. 4

ثمّ إنّ هناك مواضع لا يمكن للمدّعي الحلف أو لا يصحّ منه، إمّا لعدم الجزم بالدعوى كما في موارد الظنة و التهمة، أو لا يكون المورد، مجرى لليمين كما إذا حاول إثبات المال للغير بحلفه. كما في الموارد التالية:

1- إذا كان المدّعي غير جازم في دعواه.

______________________________

(1) 1 و 2 نفس المصدر، الحديث 5 و 6.

(2) 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(3) 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 392

2 دعوى الولي لليتيم مالًا على آخر.

3- دعوى الوصي على الوارث أنّ الميت أوصى بخمس أو زكاة أو حجّ و نحو ذلك ممّا ليس له مستحقّ بالخصوص و سيوافيك الكلام في هذه الصور فانتظر.

منصرف الروايات الحقّ المالي

ثمّ إنّ منصرف الروايات هو الحقّ المالي، ففي مثله، يجب على المنكر، الحلف أو الرّد، لا في غيره فلو تنازع رجل و امرأة و ادّعى الأوّل زوجيتها فأنكرت الثانية، فليس لها، ردّ اليمين على الزوج على وجه لو حلف يثبت عندئذ كونها زوجته.

هل يمين المدّعي بمنزلة البيّنة أو كإقرار المنكر؟

هل اليمين المردودة، بمنزلة بيّنة المدّعي أو بمنزلة إقرار المنكر، أو هو أمر مستقل، لا يحكم عليها، بحكم أحدهما إذا كان لكلّ حكم خاصّ؟

وجه الأوّل أنّ الذي يُطلب من المدّعي هو البيّنة، فاليمين المردودة إليه تقوم مقامها في الإثبات.

وجه الثاني: أنّ امتناع المنكر من الحلف، و ردَّه إلى المدّعي مشعر باعترافه بالحقّ فكان كإقراره.

و يتفرّع على القولين بعض الفروع:

1- إذا حلف المدّعي بعد ردّ الحلف إليه ثمّ أقام المنكر بيّنة على أداء المال أو على الإبراء فعلى القول بأنّ يمين المدّعي كبيّنته، لا مانع من قبول بيّنة المنكر و أمّا إذا قلنا بأنّه كإقرار المنكر، فهناك مانع من قبولها لأنّه بإقراره المتقدّم كذّب بيّنته المتأخّرة، و لا بيّنة بعد الإقرار كما مرّ.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 393

2 إذا كانت يمين المدّعي كبيّنته، يتوقّف ثبوت الحق بها على حكم الحاكم، بخلاف كونها بمنزلة إقرار المنكر فثبوته لا يتوقّف عليه. بناءً على التفريق بين البيّنة و الإقرار في ثبوت الحقّ فهو في الأُولى يتوقّف على حكم الحاكم بخلاف الثاني.

وجه الثالث: إنّ الأثر الشرعي في الفرع الأوّل يترتّب على عنوان الإقرار، و ليست اليمين إقراراً، و كونها بمنزلته ثبوتاً لا يكون دليلًا، على إسراء حكم المنزَّل عليه (الإقرار) على المنزّل (اليمين) إلّا إذا كان هناك دليل على التنزيل في مقام الإثبات. و مثله الفرع الثاني، فإنّ الأثر (الحاجة إلى

حكم الحاكم) مترتب على عنوان البيّنة، و ليست اليمين بيّنة و كونها منزلة منزلتها، لا يكون دليلًا على إسراء حكمها إليها إلّا إذا كان دليل على التنزيل في مقام الإثبات.

و على ذلك فيلزم على الفقيه الرجوع إلى القواعد في الفرعين و ما ضاهاهما. ففي الأوّل تُسْمع البيّنة، لعموم حجّية البيّنة، خرج عنه مورد واحد، و هو إذا حلف المنكر. و قد تقدّم قول الفقهاء: «لو أقام المدّعي بيّنة بما حلف عليه المنكر لم تسمع».

و في الثاني، يجي ء ما قلناه من أنّ كل أثر شرعي مرتّب على الواقع المنكشف، يترتّب عليه، دون الأثر المترتّب على حكم القاضي، فلا فرق بين قيام البيّنة و الإقرار بين الأمرين كما تقدّم.

و بهذا تظهر قوّة ما أفاده صاحب الجواهر و تبعه السيد الطباطبائي من كونها أمراً مستقلًا قال السيّد الطباطبائي: و الأقوى أنّها أمر مستقل ففي الفروع التي فرّعوها على القولين لا بدّ من الرجوع إلى سائر الأُصول و القواعد. «1»

ما هو الوجه للترديد بين الأمرين

ثمّ إنّ الداعي للترديد بين الأمرين، و عدم جعله شيئاً مستقلًا برأسه، هو

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 179، ملحقات العروة الوثقى: 2/ 65.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 394

الحصر المستفاد من قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: إنّما أقضي بينكم بالأيمان و البيّنات «1» فلو جعلنا اليمين المردودة كبيّنة المدّعي لتمّ الحصر و إن جعلناه كإقرار المنكر فهو و إن كان خارجاً عن الحصر، لكنّه غير مضرّ لأنّ الحديث في مقام حصر ما به تحسم الخصومة في أمرين و الإقرار ليس حاسماً للخصومة بل هو رافع لموضوعها فلا يضرّ خروجها عن تحت الحصر.

و نظير هذا الاختلاف في تحليل الأُمّة للوطء فهل هو داخل

في التزويج، أو ملك يمين، لحصر الحلّية في أمرين؟ قال سبحانه: (إِلّٰا عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*) (المؤمنون/ 6).

يلاحظ عليه: أنّ عدم دخولها تحت الحصر مبني على تخصيص الأيمان في الرواية، بالمنكر و إلّا فلو قلنا بكونها مطلقة يعمّ مطلق اليمين من كلا الجانبين فاليمين المردودة داخلة في الحصر. و إن أبيت إلّا عن كون المراد من الأيمان، هو يمين المنكر، لا مطلقاً، فنقول إنّ الرواية محمولة على الغالب بشهادة أنّه يصحّ القضاء بيمين المدّعي في موارد لا يعلم إلّا من قبل المدّعي أو كان المدّعي أجيراً، أو أميناً كالمستودع إذا ادّعيا التلف.

على أنّ ماهية اليمين المردودة إنّما هي يمين المنكر لا غير، لكنّه رضي أن يحلف بها المدّعي و أمضاها الشارع فهي مصداق ثانويّ للخبر بعد تضافر الروايات على صحّتها.

ثمّ إنّ هنا وجهاً آخر و هو إلحاقها بالبيّنة من جهة و باليمين من جهة أُخرى فبما أنّه يثبت بها الحقّ تكون أشبه بالبيّنة، و من جهة التزام المنكر على أنّه لو حلف، لخضع على دعواه، يكون أشبه بالإقرار و على ضوء هذا يترتّب عليها أثرهما.

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّه قول ثالث، فإنّ القائل إمّا يلحقها بالبيّنة فقط، أو بالإقرار، لا بكليهما أنّ اجتماع الحيثيتين، لا يكون كاشفاً عن إمضاء

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 395

الشارع لها بكلا الوجهين.

فإن قلت: إنّ مرسلة يونس، جعل استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، و جعل الوجه الرابع اليمين، و من أقسامها، اليمين المردودة على المدّعي. و هذا يقتضي إلحاقها بالبيّنة، لا بإقرار المنكر، لأنّ استخراج الحقوق،

مختصّ بمقام الإنكار و الإخفاء، و الإقرار خضوع و تصديق فلا يستخدم في مورد استخراج الحقوق.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكر، لا يخرج عن حدّ الإشعار، لا يمكن الاحتجاج به.

إذا استمهل المدّعي لإحضار البيّنة

قد عرفت تضافر الروايات على سقوط حقّ المدّعي إذا نكل عن الحلف ففي صحيح محمّد بن مسلم: «فلم يحلف فلا حقّ له». «1» و صحيح جميل: «فأبى فلا حقّ له» إلى غير ذلك. 2

أضف إلى ذلك أنّه لو لا القول بسقوط حقّه لرفع خصمه كل يوم إلى القاضي. و الخصم يردّ عليه اليمين و هو لا يحلف فيعظم الخطب و لا يتفرّغ القاضي من خصومته إلى شغل. و على هذا لا يصحّ له طرح الدعوى في مجلس آخر، أو في محكمة أُخرى، و يكفي في ذلك إطلاق الروايات.

نعم استثنى الشهيد في المسالك ما إذا ذكر سبباً عقلائياً لامتناعه عن الحلف، و استمهل لإحضار البيّنة أو سؤال الفقهاء، أو مراجعة الحساب فلا يسقط حقّه. 3

و ما ذكر هو المتفاهم عرفاً لأنّ منصرفها، هو الممتنع المطلق عن الحلف لا

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1 و 6.

(2) 3 زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 409.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 396

من يحاول تبديلها بحجّة أُخرى، أو يستمهل، حتّى يكون على بصيرة من أمره فما أصرّ عليه صاحب الجواهر من إطلاقات الروايات ليس بتام و لأجل ذلك اختار السيّد الطباطبائي جواز الإمهال و قال: «الظاهر أنّ له ذلك لأنّه لا يصدق حينئذ أنّه لم يحلف لأنّ الظاهر منه ما إذا بنى على عدم الحلف مع عدم الإتيان بالبيّنة، كما أنّه لو كان عدم حلفه استمهالًا ليرى

ما الأصلح لا يكون مسقطاً لحقّه. «1»

و على كلّ تقدير، يلزم أن يكون التأخير محدّداً بمدّة لأنّ التأخير بلا تحديد ضرر أو حرج على المنكر و هو يطلب إنهاء الخصومة بصورة قاطعة.

نعم ربّما يقال، إنّه يجوز الاستمهال بلا تحديد لأنّ اليمين حقّه و له تأخيره إلى أن يشاء كالبيّنة حتى يتمكّن من إقامتها و هذا بخلاف المدّعى عليه فإنّه لا يمهل إذا استمهل لأنّ الحقّ فيه لغيره بخلاف تأخير المدّعي فانّه يؤخر حقّه فيقبل إذا كان له عذر مسموع. «2»

يلاحظ عليه: أنّ المتبادر كون الاستحلاف حكماً شرعياً لغاية إنهاء الخصومة، لا حقّاً للمدّعي. كما أنّ الحكم الشرعي هو الإتيان بالبيّنة، و الإسلام بنى صَرْح القضاء على هذين الأمرين و قال: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان، فأراد رفع الخصومة و إنهائها بهذين الأمرين لا أنّ ادعاء المدّعي، يورث حقّاً له على المدّعى عليه و هو الحلف على المدّعي، حتى يكون حلفه إذا ردّ عليه حقّاً له على المنكر و يكون له حقّ التأخير.

***

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 65. و لاحظ المغني لابن قدامة: كتاب الأقضية: 11/ 124، الطبعة الجديدة بالأُفست لدار الكتاب العربي.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 409.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 397

الجهة الثالثة إذا نكل المنكر
اشارة

قد سبق أنّ المنكر مقابل المقرّ و الساكت إذا عُرِضَ عليه الحلف، إمّا أن يَحلف، أو يردّ الحلف على المدّعي، أو يَنكُل، بمعنى أنّه لا يحلف و لا يردّ و المقصود في المقام هو الثالث. و النكول في اللغة هو الامتناع. و هو في كلام الفقهاء، موضوع لحكمين:

1- إذا لم يحلف و لم يردّ قال له الحاكم أن حلفتَ أو رددت و إلّا جعلتك

ناكلًا ثلاث مرّات.

2- يقضى عليه بمجرد النكول أو بعد ردّ القاضي اليمين على المدّعي فإن حلف ثبت حقّه أو إن امتنع سقط حقّه.

و على كلّ تقدير فالنكول عبارة عن الامتناع عن أمرين أن لا يحلف، و لا يردّه على المدّعي و إليك كلمات الأصحاب في المقام:

1- قال الشيخ في النهاية: فإن أقرّ الخصم بدعواه، ألزمه الخروجَ إليه من الحقّ و إن حلَف، فرّق بينهما، و إن نكلَ عن اليمين، ألزمه الخروجَ إلى خصمه ممّا ادّعاه عليه. «1»

و مقصوده من النكول عن اليمين، هو الامتناع عن الحلف و الردّ، لا الأوّل وحده.

2- قال في المبسوط: «و إن لم يحلف و نكل عن اليمين قال له الحاكم إن حلفت و إلّا جعلتك ناكلًا و رددت اليمين على خصمك فيحلف و يستحقّ عليك، يقول هذا ثلاثاً فإن حلف فقد مضى و إن لم يحلف ردّت اليمين على

______________________________

(1) الطوسي: النهاية، كتاب القضايا و الأحكام/ 340.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 398

المدّعي فيحلف و يثبت له الحقّ. «1»

3- قال في الخلاف: إذا نكل المدّعى عليه، رُدّت اليمين على المدّعي في سائر الحقوق و به قال الشعبي و النخعي و الشافعي، و قال مالك: إنّما تردّ اليمين فيما يُحكم به بشاهد و امرأتين دون غيره من النكاح و الطلاق و نحو ذلك. ثمّ استدل على عموم الحكم بما روي عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم (عند ما قتل عبد الله بن رواحة بخيبر) أنّه قال للمسلمين: «تحلفون خمسين يميناً و تستحقّون دم صاحبكم» فقالوا من لم نشاهده كيف نحلف عليه؟ فقال: يحلف لكم اليهود خمسين يميناً فقالوا إنّهم كفّار» فنقل النبيّ اليمين

من جانب المدّعي إلى جانب المدّعى عليهم و هذا حكم بردِّ اليمين عند النكول و كانت الدعوى في قتل العمد، و الدماء لا يحكم فيها بشاهد و امرأتين. «2»

و قد اكتفى الشيخ في النهاية بمجرّد النكول، بخلاف المبسوط فرأى لزوم ردّها إلى المدّعي.

4- قال القاضي: فإن لم يحلف (المنكر) قال له الحاكم: إن حلفت، و إلّا جعلتك ناكلًا و ردّدت اليمين على خصمك فيحلف فيستحقّ عليك يقول هذا ثلاثاً. «3»

5- قال ابن إدريس: فإذا عرض اليمين عليه، لم يخل من أحد أمرين: إمّا أن يحلف أو ينكل فإن حلف أسقط الدعوى و ليس للمدّعي أن يستحلفه مرّة أُخرى في هذا المجلس أو في غيره، فإن لم يحلف و نكل عن اليمين قال له الحاكم إن حلفت و إلّا جعلتك ناكلًا و ردّدت اليمين على خصمك فيحلف و يستحقّ عليك

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط، كتاب آداب القضاء: 8/ 159.

(2) الطوسي. الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 39. و لا يخفى أنّ الكلام في نكول المدّعى عليه و نقل يمينه إلى المدّعي، لا نكول المدّعي و إن استحقّ اليمين كما في مورد القسامة.

(3) ابن البرّاج، المهذب: 2/ 585.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 399

إلى أن قال: و لا يجوز أن يحكم عليه بالحقّ بمجرّد النكول بل لا بدّ من يمين المدّعي ليقوم النكول و اليمين مقام البيّنة و قد يشتبه هذا الموضوع على كثير من أصحابنا فيُظنّ أنّ بمجرّد النكول يثبت الحقّ و هذا خطأ محض. «1»

6- و قال المحقق: و إن نكل المنكر بمعنى أنّه لم يحلف و لم يردّ قال الحاكم: إن حلفتَ و إلّا جعلتك ناكلًا و يكرّر ذلك ثلاثاً استظهاراً

لا فرضاً فإن أصرّ قيل: يقضي عليه بالنكول و قيل: يردّ اليمين على المدّعي فإن حلف ثبت حقّه و إن امتنع سقط، و الأوّل أظهر. «2»

7- و قال ابن سعيد: فإن قال لا بيّنة لي، و طلب اليمين، أحلفه له فإن نكل حكم عليه بالدعوى. «3»

8- و قال العلّامة في القواعد: و لو نكل المنكر بمعنى أنّه لم يحلف و لم يرد قال له الحاكم: إن حلفت و إلّا جعلتك ناكلًا ثلاث مرّات استظهاراً لا فرضاً فإن أصرّ فالأقرب أنّ الحاكم يردّ اليمين على المدّعي فإن حلف ثبت حقّه و إن امتنع سقط و قيل يُقضى بنكوله مطلقاً. «4»

9- و قال أيضاً في إرشاد الأذهان: و لو امتنع المنكر من اليمين و الردّ قال له الحاكم: إن حلفت و إلّا جعلتُك ناكلًا ثلاثاً فإن حلف و إلّا أحلف المدّعي على رأي، و قضى عليه بالنكول على رأي. «5»

10 و قال الشهيد الثاني: و إن أصرّ على النكول ففي حكمه قولان:

أحدهما: و هو ما اختاره المصنّف (المحقق) و قبله الصدوقان و الشيخان و الأتباع منهم القاضي في الكامل أنّه يقضى عليه بمجرّد نكوله. و ثانيهما: أنّه يردّ

______________________________

(1) ابن إدريس، السرائر: 2/ 165.

(2) الشرائع: 4/ 85.

(3) ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 524.

(4) مفتاح الكرامة: 10/ 80، قسم المتن.

(5) العلّامة، الإرشاد: 2/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 400

اليمين على المدّعي ذهب إليه الشيخ في المبسوط و الخلاف و القاضي في المهذّب و ابن الجنيد و ابن إدريس و العلّامة في أكثر كتبه و سائر المتأخرين إلى أن قال: فلا ريب أنّ ردّ اليمين على المدّعي أولى. «1»

1- 1 و تبعه الأردبيلي

و قال: و يمكن الجمع بين الأدلّة بكون القضاء بالنكول جائزاً و الأولى الردّ. «2» و سيوافيك كلامه.

2- 1 و ذهب سيّدنا الأُستاذ إلى ثبوته بالنكول مع ضمّ حكم الحاكم. «3»

قال ابن قدامة: و إن قال ما أُريد أن أحلف أو سكت فلم يذكر شيئاً نظرنا في المدّعى فإن كان مالًا أو المقصود منه المال، قضي عليه بنكوله و لم تردّ اليمين على المدّعي نصَّ عليه أحمد فقال: أنا لا أرى ردّ اليمين إن حلف المدّعى عليه و إلّا دفع إليه حقّه و بهذا قال أبو حنيفة.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 1، ص: 400

و اختار أبو الخطاب انّ له ردّ اليمين على المدّعي، إن ردّها حلف المدّعي و حكم له بما ادّعاه. قال و قد صوّبه أحمد فقال: ما هو ببعيد يحلف و يستحقّ، و قال: هو قول أهل المدينة روى ذلك عن علي رضي الله عنه و به قال شريح و الشعبي و النخعي و ابن سيرين و مالك في المال خاصة و قاله الشافعي في جميع الدعاوي لما روي عن نافع عن ابن عمر أنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ردّ اليمين على طالب الحقّ رواه الدار قطني و لأنّه إذا نكل ظهر صدق المدّعي، و قوى جانبه فتشرع اليمين في حقّه كالمدّعى عليه قبل نكوله و كالمدّعي إذا شهد له شاهد واحد.

و لأنّ النكول قد يكون لجهله بالحال، و تورّعه عن الحلف على ما لا يتحقّقه أو للخوف من عاقبة اليمين

أو ترفُّعاً عنها مع علمه بصدقه في إنكاره و لا يُتعيّن بنكوله صدق المدّعي، فلا يجوز الحكم له من غير دليل فإذا حلف كانت يمينه

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 410409.

(2) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 148.

(3) الإمام الخميني، التحرير: 2، كتاب القضاء، المسألة 16.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 401

دليلًا عند عدم ما هو أقوى منها كما في موضع الوفاق و قال ابن أبي ليلى: لا أدعه حتّى يقرّ أو يحلف. «1»

و قبل الخوض في دراسة أدلّة القولين نذكر أُموراً:

1- إنّ الظاهر أنّ قول الحاكم للمنكر: إن حلفتَ أو رددت و إلّا جعلتك ناكلًا ليس بواجب و لا مستحبّ و إنّما هو لأجل الوقوف على حاله، و أنّه هل ناكل أو لا، إذ ربّما يكون الامتناع موقتاً لأجل التفكير في م آل الأمر و لأجل ذلك لو علم أنّه ممتنع من الأمرين على وجه الإطلاق، لا وجه لتذكّر الحاكم. و مع ذلك فالأقوى إعلامه على ما يترتّب على نكوله شرعاً و ذلك لعدم وجود إطلاق في دليل القضاء حتّى يعمّ كلتا الصورتين فيجب الأخذ بالقدر المتيقّن و هو أنّه لو كان جاهلًا بما يترتّب على نكوله شرعاً يلزم على القاضي إعلامه به و لأجل ذلك نأخذ بالمتيقّن في أكثر الموارد الآتية و ستأتي الإشارة إليه في آخر البحث.

2- يجب على القاضي، تفهيم ما على المنكر، من الحلف أو الردّ، فلو علم بالأوّل دون الثاني فتوقّف عن الحلف، لا يكون داخلًا في المقام.

و بذلك يعلم أنّ تفصيل المحقق الأردبيلي غير تام لأنّه فصّل بين ما إذا علم المدّعى عليه أنّ له الردّ و لكنّه تركه تحرزاً عن إحلاف شخص حيث يُخيّل أنّه قد يضرّه في الدنيا و

الآخرة فيقضى بالنكول، و بين ما إذا لم يعلم ذلك فيقضى بالردّ إلى المدّعي و بذلك حاول التوفيق بين أدلّة القولين. «2»

و ذلك لأنّ القضاء بالنكول مع جهله بأنّ له الردّ، حكم ضرري، خارج عن محلّ البحث و موضع البحث إثباتاً و نفياً ما إذا وقف المنكر على أنّه مخيّر بين الحلف و الردّ، و مع ذلك نكل.

______________________________

(1) ابن قدامة، كتاب الأقضية: 12/ 124. و السكوت في صدر كلامه، هو السكوت عن الحلف بعد الإنكار، و لا صلة له بما يأتي من القسم الثالث للمدّعى عليه.

(2) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 148.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 402

3 إنّ البحث فيما إذا أمكن إحلاف المدّعي و لم يكن من المستثنيات مثل دعوى الظن و التهمة، أو فيما لا يصحّ اليمين هناك كالأولياء و الأوصياء و الوكلاء بناء على عدم صحّة أيمانهم و إلّا فلا محيص عن القضاء بالنكول. و سيوافيك أنّ الأقوى جواز تحليفهم في خاتمة البحث.

4- إنّ ظاهر صحيحة هشام بن الحكم، أنّ محور القضاء هو البيّنات و الايمان «1»، كما أنّ الظاهر من صحيح جميل و هشام أنّ البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعى عليه «2» و على ذلك يجب أن يدور القضاء حول ذينك الأمرين ما لم يدلّ دليل على خلافهما، و على ذلك تكون الروايات الدالّة على صحّة القضاء بيمين المدّعي إذا ردّت إليه حاكمة على صحيحهما و مفسرة لهما. و أنّ المراد من يمين المدّعى عليه الأعم من يمين نفسه أو المردودة إلى المدّعي من جانبه و على كلّ تقدير فاليمين يمين المدّعى عليه إمّا يقوم بها بنفسه أو يردّها إليه نعم لولاهما

لاقتصرنا بالأوّل.

5- دلّت مرسلة يونس على أنّ استخراج الحقوق بأربعة، ثلاثة منها يرجع إلى أقسام الشاهد المذكورة في الحديث و واحد منها يرجع إلى اليمين لكن بهذا الترتيب:

الف: يمين المدّعى عليه.

ب: يمين المدّعي عند الردّ إليه.

ج: نكول المدّعي عن اليمين عند الردّ.

ففي المورد الثالث يقضى بنكول المدّعى عن اليمين على براءة المنكر. مع أنّه ليس هناك بيّنة و لا يمين فكيف يصحّ القضاء بالنكول، مع قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: إنّما أقضي

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1 و الباب 25، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 403

بينكم بالبيّنات و الايمان؟

و الإجابة سهلة، لأنّه إذا كان الادّعاء فارغاً عن البيّنة و الحلف، فلا يقضي الحاكم بشي ء بل يأمر بتركهما مجلس القضاء لا أنّه يحكم بالبراءة، إذ الأصل قبل القضاء أيضاً هو البراءة فلا حاجة معه إلى القضاء و لو سلّم أنّه يقضي بالبراءة، و أنّ الحكم الكلّي لا يكفي ما لم يصغ في قالب الحكم القضائي فهو أشبه بعدم القضاء بشي ء و بذلك يعلم أنّ القضاء على الاشتغال بمجرّد نكول المدّعى عليه، بلا ضمّ يمين المدّعي إليه يحتاج إلى دليل قاطع و حاسم ليخصّص به، عموم ما دلّ على أنّ محور القضاء هو البيّنات و الايمان، و لا يقاس بنكول المدّعي من اليمين. فإنّ الثاني أشبه بعدم القضاء بشي ء، و الأوّل قضاء على الاشتغال.

6- إنّ المسألة خالية عن النصّ الصريح كما اعترف به الأردبيلي و إنّما يحاول أصحاب كلّ من القولين تطبيق بعض الروايات على المقام و أمّا مقتضى

الأصل مع قطع النظر عن الأدلّة الاجتهادية فهو عدم صحّة القضاء بالنكول فإنّ القضاء أمر شرعي يتوقّف حصوله على تحقّق سببه الشرعي و كونه سبباً مشكوك فيه. و الأصل من حيث التكليف و إن كان براءة ذمّة المنكر عن الحقّ لكن التمسّك به تمسّك بالأصل المسببي مع وجود الأصل السببي لأنّ الشك في البراءة و الاشتغال ناش من سببية النكول و عدمها، فإذا رفعت سببيّته بالأصل، فلا يبقى مجال للأجل المسببي و إن كانا متوافقي المضمون.

هذا نظير ما إذا لم يكن لدليل السببية إطلاق، و شككنا في تأثير السبب على وجه الإطلاق أو مع قيد آخر، فالأصل عدم التأثير و النفوذ إلّا مع القيد المشكوك.

نعم لو كان لدليل السببية إطلاق أو عموم، فهما مقدّمان على أصالة عدم التأثير.

و أمّا التمسّك ببراءة ذمّة المدّعى عليه ما لم يحلف المدّعي، فلا يثبت كون النكول مع يمين المدّعي موضوعاً تامّاً للقضاء إلّا على القول بالأصل المثبت نعم

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 404

ذكر السيّد الطباطبائي أُصولًا مختلفة غير مجدية فلاحظ. «1»

إذا عرفت ما ذكرنا فلنذكر أدلّة القولين:
دليل [القول الأول] القضاء بالنكول
اشارة

هذا هو الذي جعله بعضهم أظهر القولين. و هو خيرة الشيخ في النهاية، و المحقّق في الشرائع، و ابن سعيد في الجامع، و مال إليه الشهيد في المسالك على ما عرفت و إن جعل الأُولى ردّ اليمين على المدّعي و استدل له بوجوه:

1- قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: البيّنة على من ادّعي و اليمين على من ادّعى عليه.

«2» وجه الاستدلال أنّه جعل اليمين في جانب المدّعى عليه كما جعل البيّنة في جانب المدّعي و التفصيل قاطع للاشتراك. و لا ينقض ذلك بردّ اليمين على المدّعي من دون نكول حيث حكم عليه باليمين، و ذلك لما عرفت أنّه جاء من قبل الردّ لا بأصل الشرع المتلقّى من الحديث. أو يقال إنّه يمين المدّعى عليه، حيث رضي أن يحلف خصمه و يدفع جريمة الردّ. و إن أبيت نقول: إنّ مخالفة ذلك الأصل المحكم يتوقّف على دليل قاطع، و هو موجود فيما إذا لم ينكل و ردّ اليمين دون ما إذا نكل و لم يردّ فلا قيمة ليمين المدّعي عندئذ إذا لم يردّها بل قام الحاكم بردّه.

يلاحظ عليه: بأنّ الرواية بصدد بيان الوظيفة الأصلية و أنّ طبع القضية يقتضي أن يتمسّك المدّعي بالبيّنة و المنكر باليمين و هذا لا ينافي العدول عنه في بعض الأحايين، و سيوافيك بعض الموارد التي يحلف فيها المدّعي «3» مع أنّ وظيفته

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي في ملحقات العروة: 2/ 66.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1 و في الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3. البيّنة على من ادّعى و اليمينُ على مَنْ أنكر.

(3) كدعوى الدين على الميّت إذا أثبته بشهود حيث يحلّف الحاكم المدّعي على أنّه لم يستوفه هو بنفسه أو بوكيله من الميّت و لا أبرأه و لا أحاله

و لا رضي عليه. و له نظائر.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 405

البيّنة.

على أنّ الاستدلال بها، إنّما يتمّ لو لم يَقُم في المقام دليل على لزوم الحلف كما قام بالاتّفاق في صورة ردّ المنكر إلى المدّعي من دون نكول، على أنّ الصورتين غير مختلفتين جوهراً و الردّ تارة يقوم به المنكر، و أُخرى ينوب عنه الحاكم فيردّه على المدّعي و لعلّ العرف يستأنس بما ورد فيه النص، لما لم يردّ فيه.

2- صحيح محمد بن مسلم
اشارة

قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين و أنكر و لم يكن للمدّعي بيّنة؟ فقال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أُتِي بأخرسَ فادّعى عليه دين، و لم يكن للمدّعي بيّنة إلى أن قال: كتب أمير المؤمنين: و الله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب و الشهادة ... ثمّ غسله و أمر الأخرس أن يشربه فامتنع فألزمه الدين». «1»

و المتبادر منه أنّه لم يردّ اليمين على خصمه و إلّا لنقل و لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب بل عن وقت الحاجة و أيضاً فقوله: «فامتنع فألزمه» يدلّ على تعقيب الإلزام للامتناع بغير مهلة لمكان الفاء و هو ينافي تخلّل اليمين بينهما و فعله عليه السلام كقوله حجّة. و توهم أنّه مخصوص بالأخرس كما ترى مع أنّه أحقّ للترحّم بأن لا يقضي عليه بمجرّد النكول بل يردّ على خصمه.

يلاحظ عليه بوجوه:

أ: أنّ الرواية كما يدلّ عليه قوله: «كيف يحلف الأخرس إذا ادّعي عليه دين، و أنكر و لم يكن للمدّعي بيّنة» بصدد بيان كيفية تحليف الأخرس، لا بصدد بيان كيفية ثبوت الحقّ على المنكر، فلا يعدّ عدم ذكر الردّ على المدّعي، تأخيراً للبيان و إلى ما ذكرنا أشار الأردبيلي و قال: «و يكون الغرض بيان تحليفه، كما هو المتبادر من أوّل الخبر ...». «2»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 33 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 406

ب: أنّ القضاء بالنكول مشروط بالامتناع عن الحلف و الردّ، و المذكور هو الأوّل دون الثاني، فتأخّر البيان عن وقت الحاجة لازم على كلّ تقدير. و هذا الإشكال وارد

على مجموع ما استدلّ له على القول الأوّل، حيث اكتفي فيه بالامتناع عن الحلف، دون الحلف و الردّ مع أنّ النكول متحقق بالامتناع عن الأمرين.

ج: إنّ الرواية بصدد بيان عدم سقوط الحقّ بامتناعه عن الحلف و أمّا أنّه لا يشترط في القضاء شي ء آخر وراء النكول و هو ردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي، فلا تدلّ عليه.

3- خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله:
اشارة

قلت للشيخ عليه السلام خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحق، فلم تكن له بيّنة بما له؟ قال: «فيمين المدّعى عليه.

فإن حلف فلا حقّ له.

و إن لم يحلف فعليه». «1»

إنّ الشقّ الثاني من كلامه يدلّ على ثبوت الحقّ، بمجرّد امتناعه من الحلف و هو معنى القضاء بالنكول.

يلاحظ عليه بوجهين:

1- إنّ الموضوع للقضاء بالنكول، ليس الامتناع عن الحلف، بل الامتناع منه و من الردّ و المذكور في الرواية هو الأوّل دون الثاني. فكما أنّ عدم ذكر الامتناع عن الردّ لا يضرّ بكونه في مقام البيان فكذلك عدم ذكر ردّ الحاكم على المدّعي فلعلّه ردّه عليه و لم يذكر لعدم العناية به.

2- إنّ المقصود منها، عدم سقوط الحقّ بامتناعه و أمّا أنّه لا يشترط في القضاء شي ء آخر و هو إحلاف المدّعي، من جانب القاضي فلا يدّل على عدم اعتباره بل هو ساكت عنه.

______________________________

(1) الكليني، الفروع: 7/ 416415 و وافقه الشيخ في التهذيب في كيفية النقل: 6/ 229.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 407

على أنّ الرواية ضعيفة سنداً لأجل قاسم بن سليمان لما عرفت من أنّه مهمل في الرجال ثمّ الرواية مضطربة متناً فنقلها الكليني حسب ما نقلناه، و نقلها الصدوق. بصورة أُخرى فابدل قوله: «و إن لم يحلف فعليه» بقوله: و إن ردّ اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حقّ» «1» و في الوسائل «2»، جمع بين المتنين. و على ما نقله الصدوق فلا صلة للرواية بالمقام.

و هناك احتمال آخر و هو أنّ الضمير المجرور في قوله: «و إن لم يحلف فعليه» يعود إلى المدّعي، و معنى الجملة: إن لم يحلف المدّعى عليه، «فاليمين على المدّعي» و يكون مفاد النقلين أمراً واحداً

و تكون الرواية متعرضة لصورتين:

1- حلف المدّعى عليه.

2- عدم حلفه و حلف المدّعي. على وجه الإجمال من دون يكون ذكر لمستند حلف المدّعي و هل هو ردّ المدّعى عليه، أو الحاكم؟

و على هذا التفسير، يختلف مرجع الضمير المجرور و المبتدأ المقدّر، فعلى التفسير الأوّل يرجع الضمير إلى المدّعى عليه و المبتدأ المقدّر عبارة عن الحقّ و المعنى و ان يحلف المدّعى عليه، فالحقّ على ذمّته و يكون شاهداً للقول.

و على الثاني، يرجع الضمير إلى المدّعي (الرجل) و المبتدأ المقدّر هو الحلف: أي إن لم يحلف المدّعى عليه، فالحلف على المدّعي و يكون ناظراً للقول الثاني.

هذا ما ذكره بعض حضار بحثنا و نبّه به أيضاً السيّد الطباطبائي. «3»

و الغريب انّ المحقّق الآشتياني نقل عن بعضهم أنّ الرواية أخذت من كتاب «أحمد بن محمّد بن عيسى» الذي أخرج جماعة من الرواة عن قم، منهم

______________________________

(1) الصدوق، الفقيه: 3/ 38.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(3) ملحقات العروة الوثقى: 2/ 67.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 408

البرقي لأجل روايتهم عن الضعفاء و بذلك حاول أن يثبت إتقان الرواية، لأنّ من يعترض على من يروي عن الضعفاء لا ينقل عنهم.

يلاحظ عليه: مع أنّ اعتراضه لم يكن على أصل النقل عن الضعفاء بل لكثرة روايتهم عنهم و إلّا فالثقة قد يروي عن الضعيف، إنّ الواقع في السند، هو محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، لا أحمد بن محمّد بن عيسى.

هذا كلّه حول الصدر و أمّا ذيلها فيمكن أن يتمسّك به القائل بكفاية النكول و ذلك لأنّه قال: «و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فاقيمت عليه البيّنة. فعلى المدّعي اليمين

إلى أن قال: لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ و لو كان حيّاً لألزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه و من ثمّ لم يثبت الحق».

وجه الاستدلال للقول بكفاية النكول أنّه قال: «يردّ اليمين» بصيغة المعلوم و لم يذكر ردّ اليمين من الحاكم إذا امتنع عن الجميع، بل ذكر ردّ المدّعى عليه فقط.

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّه من المحتمل أنّه بصيغة المجهول فلا يتعيّن الرادّ فيعم المدّعى عليه و القاضي.

و ثانياً: نفترض أنّه بصيغة المعلوم، و لكن القاضي وليّ الممتنع، فردّه ردّ تسبيبيّ للمدّعى عليه، فيصدق اعتباراً أنّه ردّ اليمين إلى المدّعي. على أنّ عدم الذكر لا يكون دليلًا على التشريع.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّه ليس للقول بكفاية النكول عن ردّ اليمين على المدّعي دليل واضح فالمرجع هو الأصل و هو عدم سببيته إلّا إذا ضمّت إليه يمين المدّعي، ليكون النكول عن الأمرين مع يمين المدّعي قائماً مكان البيّنة كما صرّح به ابن إدريس في كلامه المتقدّم.

استدل للقول الثاني [أي رد الحاكم اليمين على المدعي] بوجوه غير نقيّة.
اشارة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 409

1 ما رواه أهل السنّة من أنّ النبي ردّ اليمين على طالب الحقّ. «1»

يلاحظ عليه: أنّ السند غير نقي، و الرواية ليست صريحة في المورد و لعلّ ردّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان في صورة رضى المدّعى عليه، بيمين المدّعي فيصدق أنّه ردّ اليمين على المدّعي.

2- ما في رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: في الرجل يُدّعى عليه الحقّ و لا بيّنة للمدّعي قال: «يُسْتَحْلَف أو يُردُّ اليمين على صاحب الحقّ فإن لم يفعل فلا حقّ له». «2»

و الاستدلال مبني على كون الفعلين مبنيين للمجهول: و المعنى أنّه يُسْتَحْلَفُ المدّعى عليه

و إن امتنع يُردُّ اليمين على صاحب الحقّ فيكون نصّاً في المورد.

نعم لو كان الفعل الأوّل مبنيّاً للمجهول دون الثاني تكون العبارة ناظرة إلى الصورة السابقة و هو ردّ المنكر اليمين إلى المدّعي و المعنى يُسْتَحلَفُ المدّعى عليه، أو يردّ هو اليمين على المدّعي و احتمال كون الرادّ، هو الأعم من المدّعى عليه أو القاضي لأنّ له ولاية على الممتنع و إن كان له وجه كما مرّ في توضيح ذيل رواية عبد الرحمن البصري، لكنّه مجرد احتمال لا ظهور.

3- صحيح هشام عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: تردّ اليمين على المدّعي. «3» وجه الاستدلال التمسك بإطلاقه الشامل للمقام. «4»

يلاحظ عليه: أنّ الرواية جواب عن سؤال غير مذكور و لعلّه كان في مورد رضى المدّعى عليه أن يحلف المدّعي ففي هذا المورد ورد يُردّ اليمين على المدّعي.

______________________________

(1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال: 5/ 14545، الدار قطني، السنن: 4/ 213.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(4) النجفي، الجواهر: 40/ 183 لكن نكول المدّعي سبب لسقوط حقّه، و نكول المنكر سبب لإثباته يجمعها أنّه من أدوات القضاء.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 410

4 و قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «المطلوب أولى باليمين من الطالب». «1» وجه الاستدلال أنّ صيغة التفضيل تدلّ على وجود المبدأ في كلا الطرفين غاية الأمر وجوده في المطلوب آكد من وجوده في الطالب.

يلاحظ عليه: مع أنّ السند غير نقيّ و مع احتمال كون «أولى» في المقام مثل ما ورد في آية الميراث: (وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ

فِي كِتٰابِ اللّٰهِ). (الأنفال/ 75) فيكون المقصود تعيّن اليمين على المطلوب و عدم جوازه للطالب، أنه لا إطلاق في الحديث، فلعلّه ناظر إلى ما إذا رضي المطلوب، بيمين الطالب لاما إذا امتنع من الحلف و الردّ.

5- خبر ضمرة بن أبي ضمرة عن أبيه عن جدّه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى». «2»

وجه الاستدلال أنّ القضاء بالنكول ليس بواحد منها.

يلاحظ عليه بوجهين:

الأوّل: أنّه و ما شابهه ناظرا إلى الطوارئ الأوّلية، و لا يعمّ الطوارئ الثانوية، مثل ما إذا أنكر، و امتنع من الحلف و الردّ، فلو قلنا بالقضاء بالنكول لا يكون مخالفاً له.

الثاني: الجواب بالنقض، لاتّفاقهم على صحّة القضاء بنكول المدّعي إذا ردّت إليه اليمين.

و لكن الملاحظة الثانية، غير تامّة، لما عرفت من الفرق بين النكولين. أي فرق بين القضاء بنكول المدّعي، و القضاء بنكول المدّعى عليه، فانّ الأوّل أشبه

______________________________

(1) الدار قطني، السنن: 4/ 219.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 411

بعدم القضاء عند نكول المدّعي، و اعترافه بعدم البيّنة، فإنّ القاضي يرخّصهما عن مجلس القضاء و يشتغل بسائر المرافعات بخلاف القضاء بنكول المنكر، فإنّه قضاء بالمعنى الحقيقي و حكم باشتغال ذمّته بالحقّ، فلا يصحّ قياس أحدهما بالآخر.

و عندئذ ينحصر الجواب بما قلناه من أنّه ناظر إلى الحالات الابتدائية دون الثانوية.

و أمّا التمسّك بآية الوصية الواردة في سورة المائدة/ 108، فلا صلة له بالمقام.

إلى هنا تبيّن أنّه ليس لأحد القولين دليل اجتهاديّ قاطع، و المرجع، هو الأصل الذي عرفته.

بقي هنا شي ء و هو ما أفاده

صاحب الجواهر عند ذكر أدلّة كفاية النكول: حيث قوّاه بوجهين:

1- إنّ ظاهر الإحلاف أنّه حقّ المنكر فلا يستوفى إلّا بإذنه كما أنّه لا يحلف المنكر إلّا بإذن المدّعي.

2- انّه كنكول المدّعي عن اليمين التي هي ليست إلّا يمين المنكر فنكوله عنها إن لم يكن أولى في تسبّب القضاء فهو مساو له».

يلاحظ على الأوّل: ما عرفت من أنّ الاحتجاج بالبيّنة و اليمين من الأحكام الشرعية و من أدوات القضاء، و ليس من مقولة الحقّ الاصطلاحي، و إذا كان حكماً شرعياً مفيداً لحال بعض المكلفين يقوم به الحاكم، إذا امتنع عنه المكلّف، لأنّه ولي الممتنع و العجب أنّه أشار بما ذكرناه في ثنايا البحث. «1»

و أمّا الثاني فهو أشبه بالقياس، لأنّ القضاء بنكول المدّعي لا يكون دليلًا على القضاء بنكول المدّعى عليه و إن اشتركا في ترك الإقدام على الحلف و قد عرفت

______________________________

(1) النجفي، الجواهر: 40/ 185.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 412

الفرق بين النكولين في الأمر الخامس من المقدّمات عند البحث في مرسلة يونس فلاحظ.

ثمّ إنّه استدل للقول الآخر أي ردّ الحاكم اليمين على المدّعي بوجه آخر: أنّ الإحلاف هنا ليس إلّا لمصلحة المنكر بانقطاع الدعوى عنه. و ربّما جاز بدون إذنه مضافاً إلى معلومية ولاية الحاكم على كلّ ممتنع فيقوم مقامه حينئذ في الردّ الذي يمكن نكول المدّعي معه فيسقط حقّه.

يلاحظ عليه: أنّ الردّ كما يمكن أن يتمّ لصالح المنكر بأن ينكل عن الحلف، يمكن أن يتم لصالح المدّعي، حيث يحلف و يأخذ حقّه و معه كيف يمكن وصفه بأنّه لصالح المنكر فقط.

بقيت هنا كلمة: و هو أنّه لو قلنا بجواز القضاء بالنكول فالمتيقّن منه، ما إذا عرض حكم

النكول عليه، و لو قضى بنكوله من غير عرض فادّعى الخصم الجهل بحكم النكول و دلّت القرائن على صدق قوله فالحكم بالنكول مشكل جدّاً لما عرفت من عدم وجود إطلاق في دليل القضاء حتّى يُنفى وجوبُ العرض بأصالة البراءة و المرجع هو الأصل أعني: عدم النفوذ إلّا إذا كان نفوذه متيقّناً.

و يعرب عمّا ذكر أنّ الدّليل المهم لجواز القضاء بالنكول هو رواية عبد الرحمن البصري ببيان: أنّ قوله: «و لو كان حيّاً لألزم باليمين، أو الحقّ أو يردّ اليمين (بناء على كون الفعل (يردّ) مبنياً للفاعل) يدلّ على أنّه إذا انتفى الأمرين أي لم يحلف و لم يردّ لألزم بالحقّ»، و لكن الرواية ليست في مقام بيان شرائط القضاء بالنكول و الإلزام بالحقّ، فلعلّ نفوذ القضاء مشروط بعلم المنكر، بالموضوع و حكمه.

و المقصود من وجوب العرض هو الوجوب الشرطي لا النفسي، كما لا يخفى.

***

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 413

إذا بذل المنكر اليمينَ بعد النكول

إنّ للمسألة صوراً يختلف حكم بعضها حسب اختلاف المبنى في المسألة السابقة، و إليك الصور:

1- إذا بذل بعد النكول و الامتناع عن الحلف و الردّ.

2- إذا بذل بعد النكول و حكم القاضي بالحقّ بعده.

3- إذا بذل بعد النكول، و ردّ القاضي اليمين إلى المدّعي و قبل حلفه.

4- تلك الصورة و لكن بعد حلفه.

و البحث عن الصورتين الأولتين على القول بكفاية النكول في الحكم، بخلاف الأخيرتين فإنّما يطرحهما من يقول بعدم كفاية النكول و لزوم ردّ اليمين.

لا شكّ في لزوم الالتفات في الصورة الأُولى (قبل صدور الحكم) و إن قلنا بأنّ النكول موضوع تام له و لأجل ذلك أدخل صاحب الجواهر لفظ الحكم في عبارة الشرائع حتّى تتمحض في الصورة الثانية.

و

أمّا الثانية، فالحكم بعدم الالتفات مبني، على ما هو المختار في المسألة السابقة، من جواز الحكم بالنكول فلا يلتفت لحرمة نقض حكم القاضي.

و أمّا الصورة الثالثة أي إذا بذل قبل حلف المدّعي اليمينَ المردودة فالظاهر لزوم الالتفات من غير فرق بين كون الردّ منه أو من الحاكم خصوصاً إذا كان مع رضا المدّعي، لأنّ قول الحاكم له «احلف» ليس قضاء بل تمهيد له، فإذا لم يحلف و رضي فلا وجه لعدم الالتفات.

بل و لو لم يرض و حلف، مع كون المنكر مستعدّاً للحلف و ذلك لما عرفت من خلوّ دليل مطلق يدلّ على القضاء في هذه الصورة إلّا الأصل الحاكم بالأخذ بالقدر المتيقّن، و لازمه هنا، هو الالتفات بيمين المنكر، لأنّ المقطوع بالقضاء بيمين

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 414

المدّعي إذا بقي المنكر على نكوله حتّى يتمّ حلف المدّعي لا مطلقاً و إن رجع قبل يمين المدّعي.

و أمّا الصورة الرابعة فعدم الالتفات هو المتعيّن، لكونه هو القدر المتيقّن.

مسائل
اشارة

الأُولى: إذا كانت للمدّعي بيّنة فهل يجوز للحاكم أن يقول احضرها أو لا يجوز؟

الثانية: إذا كانت البيّنة حاضرة فهل يجوز سؤالها قبل التماس المدّعي، أو لا يجوز؟

الثالثة: فإذا سألها و تبيّن الواقع فهل يجوز الحكم قبل التماس المدّعي، أو لا يجوز إلّا بعد التماسه؟

أمّا الأُولى: [إذا كانت للمدّعي بيّنة فهل يجوز للحاكم أن يقول احضرها أو لا يجوز؟]

فقد نقل عن جماعة الجواز مطلقاً، و عن جماعة أُخرى عدمه كذلك و عن بعضهم التفصيل بين علم الحاكم بمعرفة المدّعي بكون المقام مقام بيّنة فلا يجوز، و جهله بذلك فيجوز. و استحسن المحقّق الجواز.

أمّا الثانية: [الثانية: إذا كانت البيّنة حاضرة فهل يجوز سؤالها قبل التماس المدّعي، أو لا يجوز؟]

فقد اختار المحقّق عدم الجواز و قال: «و مع حضورها لا يسألها الحاكم ما لم يلتمس المدّعي» و علّله صاحب الجواهر بقوله: «لأنّه حقّه فلا يتصرّف فيه من غير إذنه» «1» و قال العلّامة في القواعد: «إذا أراد السؤال فليقل من كانت عنده شهادة فليذكر إن شاء و لا يقول لهما اشهدا. 2 و علّله في

الجواهر بأنّه أمر لهما بالشهادة و قد لا تكون عندهما شهادة. 3

أمّا الثالثة: [فإذا سألها و تبيّن الواقع فهل يجوز الحكم قبل التماس المدّعي، أو لا يجوز إلّا بعد التماسه؟]

فقال المحقّق: «لا يحكم إلّا بمسألة المدّعي أيضاً» و علّله في

______________________________

(1) 1 و 2 الجواهر: 40/ 192.

(2) 3 مفتاح الكرامة، قسم المتن: 10/ 88.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 415

الجواهر بأنّ ذلك حقّ له، و ربّما كان له غرض في عدم الحكم و لو فرض جهل المدّعي بتوقف حكم الحاكم على طلبه بيّنه له، و نقل عن بعضهم: أنّ له الحكم و إن لم يسأله المدّعي لأنّ ذلك منصبه و وظيفته و مفروض المسألة عدم رفع يد المدّعي عن دعواه.

أظنّ أنّ حكم المسائل الثلاث من الوضوح بمكان، و ذلك ببيان أمرين:

الأوّل: إنّ الاحتجاج بالبيّنة، أو دفع الدعوى باليمين من أدوات القضاء في الإسلام. و من الأحكام الشرعية فقد أوجب سبحانه على القاضي أن يحكم بكذا و كذا، و ليس من الحقوق و إن كانت البيّنة لصالح المدّعي، و اليمين لصالح المنكر، و ليس كلّ ما تمّ لصالح الإنسان معدوداً من الحقوق، فقد أحلّ الله البيع و الطيّبات، مع أنّ الحليّة فيهما ليست من الحقوق.

الثاني: إنّ القضاء أمر عرفي و قد كان رائجاً قبل الإسلام بين الناس، و إيقاف القضاء بهذه الأُمور ربّما يعرقل أمر القضاء و يأخذ من وقت القاضي شيئاً

كثيراً. نعم ليس للقاضي دعوة الناس إلى الترافع و إنهاء الخصومة ما لم يرفع المترافعان الأمر إليه، فإذا رفعا، يصير القاضي مخاطباً بالقضاء و إنهاء الخصومة، و كلّما يعدّ مقدّمة لرفع المخاصمة يكون جائزاً له فيسأل عن بيّنته، و على فرض وجودها يأمر بالإحضار، و إذا حضر يسألها عن حقيقة الحال و إذا تمّت المقدّمات، يحكم، و يُنهي القضاء و يُرخص المترافعين و إن أرادا أو أراد أحدهما تحرير المحضر، يكتب لهما محضراً. و جواز كلّ ذلك يعلم من الخطاب المتوجّه إلى القاضي بفصل الخصومة.

و ما ذكر في مقالة القائل بالتوقّف من أنّه ربّما يكون للمدّعي غرض في عدم الحكم غير تامّ لأنّ القاضي أُمر بإنهاء الخصومة، لا بتأمين غرض المدّعي، على أنّه ربّما يتعلّق غرض المنكر بالحكم، و فصلها و إن كان غرض الآخر إبقاءها بحالتها فلا وجه لتقديم أحد الغرضين على الآخر.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 416

الرابعة: في إحلاف المنكر مع إمكان إقامة البيّنة

إنّ القضاء باليمين (مع وجود البيّنة للمدّعي سواء أ كانت حاضرة في مجلس القضاء أم لا و لكن أمكن إحضارها بسهولة)، يحتاج إلى إطلاق في دليل القضاء باليمين و إلّا فشأن المدّعي، إقامة البيّنة، لا التحليف، و القدر المتيقّن منه ما إذا لم تكن له بيّنة.

إنّ ما ذكرناه هو مقتضى القاعدة و مع ذلك ذهب المحقّق النراقي في المستند إلى خلاف ما ذكرناه فقال:

لا يتعيّن على المدّعي إذا كانت له بيّنة، إحضارُها، و لا حاضرة، إقامتُها، بل يجوز له الإحلاف حينئذ أيضاً بمعنى أنّ المدّعي الذي له بيّنة، مخيّر بين إقامة البيّنة و التحليف، و للحاكم تخييره و صرّح به في التحرير، و نفى بعض مشايخنا عنه الخلاف في صورة

عدم حضور البيّنة ثمّ قال: بل ذكر جماعة من دون خلاف بينهم ثبوت الخيار للمدّعي بين إحلافه و إقامة البيّنة و لو كانت حاضرة لأنّ الحقّ له، فله أن يفعل ما يشاء منها. و نسب بعض فضلائنا المعاصرين تخييره مطلقاً إلى المستفادة من الأدلّة قال: فلا يتوهّم أنّه مع إمكان البيّنة لا يجوز التحليف. «1»

أقول: إنّ المستدل جعل المدّعى نفس الدليل. فمن أين ثبت أنّ للمدّعي حقّ التحليف مع إمكان إقامة البيّنة. و قد سبق منّا مراراً بأنّ قولهم: «البيّنة للمدّعي و اليمين على من ادّعى عليه» في مقام بيان وظيفة القاضي، لا بصدد بيان حقّ المدّعي فقد ورد في غير واحد من الروايات أنّ نبيّاً اشتكى إلى ربّه فقال: يا ربّ! كيف أقضي بما لم تر عيني و لم تسمع أُذني؟! فقال: اقض عليهم بالبيّنات و أضفهم إلى اسمي يحلفون به. «2»

______________________________

(1) النراقي، مستند الشيعة: 2/ 529.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 417

نعم استدلّ النراقي بإطلاق روايات أُخرى، و تبعه السيّد الطباطبائي في ملحقات العروة و إليك تبيين دلالتها:

1- صحيحة ابن أبي يعفور: «إذا رضى صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوى له، قلت له: و إن كانت له بيّنة عادلة؟ قال: نعم و إن أقام بعد ما استحلفه بالله، خمسين قسامة ما كان له، و كانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا استحلفه عليه». «1» و الاستدلال مبني على وجود إطلاق في قوله: «و إن كانت له بيّنة» شامل لما كانت له بيّنة قبل

الحلف و بعده.

يلاحظ عليه: بأنّ الذيل دليل على أنّ المراد ما إذا تمكّن منها بعدها لا ما إذا كانت موجودة من أوّل الأمر، بشهادة قوله: «و إن أقام بعد ما استحلفه بالله ... فإنّ الإقامة كناية عن التمكّن منها بعد ما لم يكن متمكّناً منها» ضرورة أنّه لو كانت له بيّنة حين القضاء، لما عدل عنها إلّا في الفرض النادر الذي تنصرف عنه الرواية.

2- إطلاق رواية محمّد بن قيس في حديث اشتكى نبي إلى ربّه إلى أن قال له: «ردّهم إليّ و اضفهم إلى اسمي يحلفون به». «2»

يلاحظ عليه: أنّ الحديث ليس في مقام البيان حتّى يؤخذ بإطلاقه و إنّما هو بصدد بيان كيفية القضاء و الإجابة على سؤال النبي بأنّه كيف يقضي فيما لم تره عينه و لا سمعه أُذنه.

و مع ذلك فإنّ هنا روايات تردّ القول بالتخيير و إن حاول النراقي تأويلها و إليك الإشارة العابرة إليها:

1- صحيحة سليمان بن خالد في اشتكاء بعض الأنبياء و ما أُجيب به فقد

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 418

جاء فيها: «أضفهم إلى اسمي فحلِّفْهم به و قال هذا لمن لم تقم له بيّنة». «1» وجه الاستدلال، أنّ الظاهر أنّ مرجع اسم الإشارة في هذا هو مشروعيّة القضاء باليمين لا تعيّنه، فما احتمله النراقي من كونها بصدد بيان أنّ تعيّنه لمن لم تقم له البيّنة غير تام.

و قد عرفت أنّ عدم قيام البيّنة كناية عن عدم وجودها، لا وجودها و عدم إحضارها فما احتمله النراقي في هذا المورد من

أنّ الشرط أعم من عدم الوجود أو عدم الإقامة غير تامّ. لأنّ غاية ما يمكن أن يقال أنّ قوله: «لم تقم له البيّنة» يراد منه الأعم من عدم الوجود أو عدم الوصول إليه، لا ما إذا كانت متيسّرة حاضرة في المحكمة أو خارجها لكن يمكن إحضارها.

2- مرسلة يونس فجاء فيها: «فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدَّعى عليه». «2» فالظاهر تبيين مشروعيّة القضاء بها بمعنى أنّه لا تصل النوبة إليها إلّا بعد عدم الشاهد. و بذلك يعلم ضعف ما يقال بأنّ جزاء الشرط هو كون اليمين متعيّناً أو لازماً على المدّعى عليه.

3- ما في تفسير الإمام: «و إن لم يكن له بيّنة حلف المدّعى عليه» «3» و بذلك يعلم أنّ المراد من قوله في صحيحة سليمان بن خالد 4: «لم تقم له بيّنة» هو عدم وجودها، كما في هذه الرواية.

و بذلك تقف على مدى صحّة قول السيّد الطباطبائي حيث يقول بعد ما نقل لبّ ما ذكره النراقي: و بالجملة لا ينبغي التأمّل في تخيير المدّعي بين إقامة البيّنة و إحلاف المنكر خصوصاً إذا كان في إقامتها صعوبة عليه أو لم يعلم أنّ الحاكم يقبل بيّنته أم لا، نعم يشكل العدول عن البيّنة المعتبرة بعد إقامتها إلى

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 419

الحلف مع عدم البعد فيه أيضاً. «1»

الخامسة: سؤال القاضي المدّعى عليه عن الجارح

إذا أقام المدّعي البيّنة و زكّاها عدلان فهل يجب على القاضي سؤال المدّعى عليه عن

الجارح أو لا؟

قال الشيخ: قال الحاكم للمدّعى عليه قد عُدِّلا عندي هل عندك جرح؟ فإن قال: نعم أنظَره لجرح الشهود ثلاثة. «2»

قال المحقّق: «بعد أن يعرف القاضي عدالة البيّنة يقول: هل عندك جرح».

و الظاهر من العلمين كونه من وظائف القاضي و لأجل ذلك، استدرك صاحب الجواهر على المحقق و قال: «و في وجوب ذلك إشكال»، و هناك من فصّل بين علم القاضي بعدالة البيّنة و ثبوت عدالتها بالتزكية فلا يجب في الأوّل بخلاف الثاني و هو خيرة السيّد الطباطبائي، قال في المسألة الرابعة: «إذا علم عدالتها و جامعيتها للشرائط لم يحتج إلى التزكية لجواز العمل بعلمه خصوصاً في مسألة عدالة الشاهد و لا يلزم سؤال المدّعى عليه في أنّه هل له جارح أو لا»، و قال في المسألة التاسعة: «إذا أقام المدّعي على التزكية بيّنة مقبولة وجب على الحاكم أن يبيّن للمدّعى عليه أنّ له حقّ الجرح إذا لم يكن عالماً به». «3»

و الظاهر وجوب السؤال مطلقاً إذا لم يكن عالماً بأنّ له حقّ الجرح، لأنّه القدر المتيقّن من دليل القضاء و ليس له إطلاق يعمّ صورة جهل الخصم بجواز الجرح بل اللازم أوسع في ذلك، إذ يلزم سؤاله عن كلّ ما أُقيم عليه، من الأسناد و المحاضر و التقارير المكتوبة بخطّه، لاحتمال كونه مزوّراً و أنّ له المقدرة على

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 70، المسألة 2.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 159.

(3) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2، المسألة 4 و 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 420

إثبات التزوير و عليه يدور القضاء في المحاكم العالمية و أمّا علم القاضي بعدالتهما شخصيّاً، فلا ينفي وجوب السؤال، لأنّ العلم بعدالتهما لا

ينافي وجود الاشتباه في شهادتهما و لعلّ في وسع الخصم أن يثبت خطئهما في الشهادة.

السادسة: إذا استمهل المدّعى عليه في إحضار الجارح

إذا استمهل المدّعى عليه في إحضار الجارح فهل يجب الإنظار أو لا، و على فرض الوجوب فهل المدّة محدّدة بثلاثة أيّام أو لا؟

أمّا الأوّل فقد استدل له باحتمال صدق الخصم، و الأولى الاستدلال، بأنّ القضاء أمر عرفي و الإطلاقات ناظرة إلى المتعارف منه و المتعارف هو الإمهال على وجه لا ينتهي إلى الإهمال في أمر القضاء و المسامحة فيه و ما نقله عن كاشف اللثام من أنّ الحاكم ينفّذ حكمه و الخصم على حجّته إذا ثبت الفسق «1» غير تام. و ذلك لأنّ صحّة القضاء فرع تماميّة ميزان القضاء لأنّه إذا كان احتمال المعارض أمراً عقلائياً فالقول بتماميّة ميزان القضاء أمر مشكل خصوصاً إذا كان إحضار الجارح أمراً سهلًا، لا يعدّ تعطيلًا للقضاء، و لا مسامحة فيه، بل إمعاناً و دقّة.

و أمّا مدّة الإنظار فقد نسب إلى المشهور أنّه ثلاثة أيّام من غير تفصيل بين بعد المسافة و قربها.

ثمّ إنّ الدليل على وجوب الإنظار ما ذكرناه من انصراف دليل القضاء إلى المتعارف نعم استدل للإمهال بمرسلة سلمة بن كهيل عن علي عليه السلام: «و اجعل لمن ادّعى شهوداً غُيّباً أمداً بينهما فإن أحضرهم أخذت له بحقّه و إن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية». «2»

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 193، نقلًا عن كشف اللثام.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 421

و مورد الحديث في إمهال المدّعي لأن يحضر الشهود الغُيّب و العرف يساعد، إلغاء الخصوصية و شموله لإمهال المدّعى عليه لإحضار شهوده الغُيّب للجرح و عدم التقييد بثلاثة

دليل على أنّه تختلف مدّة الإنظار حسب بعد المسافة و قربها و إمكان التوصّل بها. اللّهمّ إلّا أن يقال بتوقف الإحضار على مرور زمان، لا يتحمل به عادة ففي مثله يصحّ أن يقال أنّه يقضي، و الخصم على حجّته.

السابعة: لا حلف مع إقامة البيّنة
اشارة

اتّفق الأصحاب على أنّه لا يُستحلف المدّعي مع البيّنة القابلة لإثبات الحقّ.

قال الشيخ: و لم يستحلف المدّعي مع بيّنته و قال بعض من تقدّم: لا يحكم له بالبيّنة حتّى يستحلفه معها. «1»

و يكفي في ذلك ما تضافر عن رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أنّ البيّنة للمدّعي و اليمين على من ادّعى عليه أو من أنكره و التفصيل قاطع للشركة. و يدلّ على الحكم مضافاً إلى ما عرفت غير واحد من الروايات. «2»

نعم ورد في مرسلة سلمة بن كهيل: «و ردّ اليمين على المدّعي مع بيّنته فإنّ ذلك أجلى للعمى و أثبت للقضاء» «3»، و هذا الموضع منها مرفوض لم يعمل به أحد، و سلمة بن كهيل زيدي بتري، لا يؤخذ بما تفرّد به.

نعم يستثنى منه، ما إذا كانت الدعوى على ميّت فقد تفرّد اثنان من القدماء على ضمّ اليمين إلى البيّنة أحدهما الصدوق فقد عقد باباً لهذا و قال: «باب الحكم

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 159.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 21.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 422

باليمين على المدّعي على الميّت هنا بعد إقامة البيّنة» «1» و الآخر الشيخ في المبسوط. «2» و لم نجد من نصّ على الحكم من عصر الشيخ (460385 ه) إلى عصر المحقّق (676602 ه) نعم

اشتهر القول به من عصره و إليك بعض الكلمات:

قال المحقّق: و لا يُستحلف المدّعي مع البيّنة إلّا أن تكون الشهادة على ميّت فيُستَحلف على بقاء الحقّ في ذمّته استظهاراً. «3»

و قال العلّامة: و لا يستحلف المدّعي مع البيّنة إلّا أن تكون الشهادة على ميّت أو صبيّ أو مجنون أو غائب فيُستحلَف على بقاء الحقّ استظهاراً يميناً واحدة و إن تعدّد الوارث. «4»

و قال الشهيد الثاني: و إن كانت الدعوى على ميّت فالمشهور بين الأصحاب لا يظهر فيه مخالف أن المدّعي يستحلف مع بيّنته على بقاء الحقّ في ذمّة الميّت و لكن تردّد في كون الحكم إجماعياً. «5»

و قريب منه في مجمع الفائدة و إن ناقش في مستند الحكم سنداً و دلالة و خرج باستحباب الحلف في النتيجة كما سيوافيك. «6»

و الغور في كتب الأصحاب يوقفنا على مكانة المسألة و أنّه ليس هناك إجماع و من العجب ادّعاء صاحب الجواهر فيها الإجماع حيث قال: لم يصرّح به أحد قبل المصنف غير الشيخ إلّا أنّ ذلك غير قادح في تحصيل الإجماع على بعض طرقه المقرّرة في الأُصول و لذا حكاه الصيمري عليه هنا فلا ريب في الاستدلال به بناء على حجّية مثله. «7»

______________________________

(1) الصدوق، الفقيه: 3/ 38، الباب 26.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 159.

(3) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 85.

(4) العلامة، إرشاد الأذهان: 2 و قريب منه عبارة القواعد لاحظ مفتاح الكرامة: 10/ 89.

(5) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 410

(6) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 160156.

(7) النجفي، الجواهر: 40/ 195194.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 423

أقول: إنّ ادّعاء الإجماع لا يصحّ على تمام المباني في ادّعائه إلّا الادّعاء على وفق القاعدة، و أنّهم قدّس

الله أرواحهم لو كانوا ملتفتين لمصدر الحكم كما التفتنا، لأفتوا به و هو كما ترى و هذا ممّا يسيئ الظنّ بكثير من الإجماعات المدّعاة.

و الدليل عليه روايات ثلاث:
الأُولى: خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن البصريّ

قال: «و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات، فأُقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي، اليمين بالله الذي لا إله إلّا هو لقد مات فلان و أنّ حقّه لعليه، فإن حلف و إلّا فلا حقّ له لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها أو غير بيّنة قبل الموت فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ، و لو كان حيّاً لأُلزِمَ اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه، فمن ثمّ لم يثبت الحق». «1»

و قد أمعن النظر فيها المحقّق الأردبيلي و ذكر انّه يستفاد منها أحكام (ثمانية) على خلاف القاعدة ثمّ ضعف الرواية بالوجوه التالية:

1- في سندها محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطينيّ.

2- و ياسين الضرير المهمل في الرجال.

3- من أين نعلم أنّ المراد من الشيخ هو الإمام الكاظم عليه السلام؟

4- عدم التصريح بتعدّد البيّنة. «2»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) عبارة المجمع في المطبوع هكذا: لعدم التصريح يتعذّر البينة و هو تصحيف «تعدّد» البينة كما هو كذلك في مفتاح الكرامة و عبّر عن الإشكال في الجواهر بقوله: «لاحتمال إرادة غير الشاهدين من البيّنة».

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 424

5 ظاهرها وجوب اليمين المغلّظ و لا قائل به.

6- يمكن حمل اليمين على التقية أو الاستحباب. «1»

و الحقّ أنّ هذه المناقشات دون مقام الأردبيلي و لأجل ذلك قال صاحب الجواهر: لا يستأهل للردّ فإنّ دفعها واضحة جدّاً و أجاب

عنها في مفتاح الكرامة على وجه التفصيل. «2» فلاحظ.

الثانية: صحيحة محمّد بن الحسن الصفار:
اشارة

كتب إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليهما السَّلام.

أ: هل تقبل شهادة الوصيّ للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع عليه السلام: «إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي اليمين».

ب: و كتب أ يجوز للوصيّ أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً و هو القابض للصغير و ليس الكبير بقابض؟ فوقّع عليه السلام: «نعم و ينبغي للوصيّ أن يشهد بالحقّ و لا يكتم الشهادة».

ج: و كتب أو تُقبل شهادة الوصيّ على الميّت مع شاهد آخر فوقّع: «نعم من بعد يمين». «3»

و الاستدلال يتوقّف على دراسة الأسئلة الثلاثة الواردة فيه.

تحليل السؤال الأوّل:

الظاهر من قوله: «للميّت بدين له على رجل» أنّ الميّت من له الدين،

______________________________

(1) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 160.

(2) السيّد العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 90.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 28 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 425

و الرجل الظاهر في كونه حيّاً من عليه الدين، و قام شاهدان أحدهما الوصي و الآخر غيره. ففي مثله، فرض اليمين على المدّعي، و هل المدّعي هو الوصيّ، أو أولاد الميّت و ورّاثه، الظاهر هو الثاني، و على كل تقدير فلا يخلو هذا الشق من تأملات:

1- كيف تقبل شهادة الوصي فيما هو وصيّ فيه خصوصاً إذا كان وصياً للميّت و قيّماً للصغير فإنّ الشهادة عندئذ تجرّ نفعاً لجواز أكل الوصيّ من ماله حسب الحاجة؟ «1»

أقول: يمكن أن يقال: إنّ الوصيّ ليس من الشهود و ذلك بوجهين:

أ: احتمال رجوع ضمير «معه» في كلام الإمام إلى «الشاهد الآخر العدل» الوارد في كلام الراوي و عندئذ يخرج الوصي عن كونه شاهداً.

ب: نفترض أنّ الضمير في «معه» يرجع إلى الوصي، و المعنى إذا

كان مع الوصي، شاهد آخر عدل «فعلى المدّعي اليمين» و ذلك لعدم الاعتبار بشهادة الوصيّ بل الاعتبار بالشاهد الآخر، و يمين المدّعي. نعم عند ذاك تصير لفظة «معه» زائداً و مستدركاً لعدم العبرة بشهادة الوصيّ بل بيمين المدّعي سواء كان وصيّاً أو ولد الميّت.

2- إذا قامت البيّنة على الدين، فما الحاجة إلى يمين المدّعي، مع كون المدّعى عليه حيّاً؟

أقول: الإشكال متوجّه على ما افترضناه في الفرض الأوّل و هو العبرة بشهادة الوصي و العدل الآخر و أمّا على الفرض الثاني، من كون الحجّة هو العدل و اليمين فلا.

______________________________

(1) لقوله سبحانه: (وَ ابْتَلُوا الْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ وَ لٰا تَأْكُلُوهٰا إِسْرٰافاً وَ بِدٰاراً أَنْ يَكْبَرُوا، وَ مَنْ كٰانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كٰانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء/ 6).

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 426

على انّه يمكن تصحيحه على الفرض الأوّل، إذا افترضنا، كون المديون ميّتاً و اليمين للاستظهار إذ لعلّه وفى دينه فيكون دليلًا على المقام أيضاً.

تحليل السؤالين: الثاني و الثالث

أمّا السؤال الثاني فهو يشمل على جواز شهادة الوصي فيما هو وصي فيه. و هي غير معتبر لجرّ النفع كما عرفت.

و أمّا الثالث: فالمفروض فيه خلاف الصورة الأُولى، فقد افترض الميّت مديوناً لدائن فلا تقبل الشهادة على الميّت إلّا بعد يمين.

و عندئذ يتوجّه السؤال التالي:

المشهور أنّ للوصي قضاء دين الميّت إذا كان عالماً به مع أنّ ظاهر الرواية (الجواب الثالث) عدم جوازه إلّا مع يمين المدّعي.

و يمكن أن يكون وجه التعليق على يمين المدّعي عدم علم الوصيّ بالبقاء، و الظاهر أنّ المراد من اليمين هو يمين المدّعي و هو في المقام غير المدّعي في الأوّل.

و بذلك

يندفع ما ربّما يقال من أنّ ظاهرها انّه لا يجوز للوصي أن يقضى دين الميّت مع علمه به و إن كان مع عدل إلّا مع يمين المدّعي و هو خلاف ما تقرّر. «1»

و ذلك لاحتمال عدم علمه بالبقاء أو لدفع التهمة عن نفسه و على كلّ تقدير يمكن أن يكون مؤيداً لهذا الاستثناء.

ثمّ إنّ للصفّار صحيحة أُخرى جاء فيها تنفيذ الشهادة على الميّت من دون ضمّ يمين فتكون مخالفة لما ذكر.

روى أنّه كتب إلى أبي محمّد عليه السلام رجل أوصى إلى ولده و فيهم كبار قد أدركوا و فيهم صغار أ يجوز للكبار أن ينفذوا وصيته و يقضوا دينه لمن صحّ على الميّت

______________________________

(1) مجمع الفائدة: 12/ 161.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 427

بشهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار فوقّع عليه السلام: «نعم على الأكابر من الولد أن يقضوا دين أبيهم و لا يحسبوه بذلك». «1»

و يمكن الجواب بأنّه إذا كان التعارض، تعارض الإطلاق و التقييد، تقيد الثانية بالأُولى و لا إشكال. و لا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

الثالثة: سليمان بن حفص المروزي

إنّه كتب إلى أبي الحسن عليه السلام في رجل مات و له ورثة فجاء رجل فادّعى عليه مالًا و أنّ عنده رهناً فكتب عليه السلام:

1- «إن كان له على الميّت مال و لا بيّنة له عليه فليأخذ ماله بما في يده و ليردّ الباقي على ورثته».

2- «و متى أقرّ بما عنده، أُخذ به و طولِب بالبيّنة على دعواه و أُوفيَ حقّه بعد اليمين».

3- «و متى لم يقم البيّنة و الورثة ينكرون، فله عليهم يمين علم يحلفون بالله ما يعلمون انّ له على ميّتهم حقّاً». «2»

إنّ الإمام في الفقرة الأُولى

يرشده إلى كيفية استنقاذ ماله.

كما أنّه في الفقرة الثانية، يبيّن الحكم الشرعي و أنّ من أقر بمال عنده للغير يؤخذ منه المال، و يُطالب بالبيّنة بالنسبة إلى الدين الذي يدّعيه و عندئذ شقان:

1- إن أقام البيّنة، فلا بدّ من ضمّ اليمين إليه و هو ظاهر قوله في الفقرة الثانية: «و أُوفي حقّه باليمين» بالبناء على المجهول.

2- إذا لم يقم البيّنة، فهذا ما جاء في الفقرة الثالثة و حاصله أنّه ليس للمرتهن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 50 من كتاب الوصايا، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 20 من أبواب الرهن، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 428

على الورثة سوى التحليف بنحو يمين علم، لا حلفاً على أنّ الواقع كذلك لأنّ المفروض عدم علمهم به.

و بعد دراسة الروايات الثلاث، تبيّن لزوم اليمين و وجوبه، و إن ذهب الأردبيلي إلى خلافه. و حمله على الاستحباب أو التقية، و الثاني لا وجه له و الأوّل على خلاف الظاهر فتدبّر.

و ليعلم أنّ محلّ البحث ما إذا ادّعى المدّعي اشتغالَ ذمّة الميّت بالدين إلى زمان الموت، و لكن شهدت البيّنة على أصل الاشتغال، لا على بقائه إلى حينه. و أمّا إذا قامت البيّنة على الاشتغال إلى زمانه فهو خارج عن موضوع الروايات، لقيام الحجّة الشرعية على الاشتغال إلى حينه و لا موضوع للاستظهار حتّى يُكلّف باليمين فقوله في رواية البصري: «لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا يعلم موضعها، أو غير بيّنة قبل الموت» غير صادق في هذه الصورة و ليكن هذا ببالك فإنّه يفيدك في المستقبل ففي كثير من الكلمات خلط بين الصورتين.

التعدّي عن مورد النصوص إلى غيره
اشارة

إنّ هنا موارد للمسألة غير منصوصة يجب استنباط حكمها منها أو من

غيرها و ذلك لأنّ المنصوص في السؤال الثالث يشتمل على قيود يكفي في كون المورد خارجاً عن النصوص، ارتفاع قيد منها فالقيود الواردة فيه عبارة:

1- احتمال براءة ذمّة الميّت لأجل احتمال الايفاء فهل يتعدّى منه إلى ما إذا كان احتمال البراءة مستنداً إلى غير الإيفاء، كالإبراء و محاسبته من باب الحقوق؟

2- إنّ المدَّعي في النصّ هو صاحب الحقّ، فهل يتعدّى فيه إلى وارثه أو وصيّه؟

3- انّ المدّعى به في النصّ هو الدين فهل يتعدّى منه إلى ما إذا كان العين؟

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 429

4 إنّ المثبت للحقّ في النصّ هو الشاهدان فهل يتعدّى منه إلى ما كان المثبت هو الشاهد و اليمين؟

5- إنّ المدّعى عليه في النصوص هو الميّت فهل يتعدّى منه إلى من هو بمنزلته كالمجنون و الصغير و الغائب؟ و إليك البحث عن هذه الموارد واحداً بعد الآخر.

6- إذا استمهل المدّعي لإحضار البيّنة.

الأوّل: إذا احتمل الإبراء

إذا علم عدم الوفاء و لكن يحتمل الإبراء أو أداء الغير أو الوصية بإيفاء الورثة، مع وفاتهم. و بعبارة أُخرى: إذا علم عدم الوفاء و لكنّه يحتمل أنّ المدّعي قد أبرأه في زمان أو حاسبه من باب الحقوق الواجبة أو غيره فالظاهر لزوم اليمين بنفس العلّة الواردة في رواية عبد الرحمن البصريّ و احتمال الوفاء من باب المثال.

الثاني: إذا كان المدّعي وارثَ الميّت

إذا كان المدّعي على الميّت وارث صاحب الحقّ أو وصيّه فله صور أربع حسب اتّفاقهما على أصل الدين أو على بقائه إلى زمان الموت أو اختلافهما في ذلك.

أ: أن يدّعى أصل الدين، و شهدت البينة على أصل الدين.

ب: أن يدّعى بقاء الدين إلى زمان الموت و شهدت البيّنة على بقائه إلى حين الموت.

ج: إذا ادّعى الوارث بقاءه إلى حين الموت و شهدت البيّنة على أصل الدين.

د: عكس الصورة الثالثة.

يعلم حكم الأوّلين ممّا ذكرنا في الفرع الأوّل فلا يقضى في الأُولى إلّا باليمين

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 430

دون الثانية لقيام الحجّة التامّة على الاشتغال فيها فلا حاجة إلى اليمين.

إنّما الكلام في كيفية الحلف في الصورة الأُولى، فهل يحلف الوارث حلفاً بتّيّاً اعتماداً على الاستصحاب و الحكم الظاهري أو يحلف على نفي العلم بالوفاء، و الإبراء، أو تسقط اليمين و يدخل تحت عمومات حجّية البيّنة، أو يدخل تحت روايات المسألة غاية الأمر لا يقضى بشي ء لعدم التمكّن من الحلف و إن كان فيه معذوراً، وجوه.

احتمل صاحب الجواهر أن يكون له الحلف على البَتّ، على مقتضى الاستصحاب، كما يجوز الحلف على مقتضى اليد لأنّ سقوط الحقّ مع وجود البيّنة مناف لمذاق الفقه. «1» و لكنّه غير تام كما اعترف به لانصراف الروايات إلى

الحلف مع العلم، لا الحلف مع الشك.

و مثله الصورة الثانية، إذ ليس في عدم علمه بالوفاء و عدمه، اختلاف بين الطرفين فتكون اليمين بهذا النحو لغواً، نعم لو ادّعى على الوارث بعلمه بالوفاء لكان له وجه، لكنّه خلاف المفروض.

و الظاهر هو الاحتمال الثالث لبعد سقوط الحقّ مع وجود البيّنة، و اليمين في جانب المدّعي على خلاف القاعدة فتختصّ بمورد الإمكان فيكون المرجع هو إطلاق حجّية البيّنة، و اختار السيّد الطباطبائي الوجه الرابع قائلًا بأنّ حاله حال مورّثه، فكما أنّه لو لم يجزم ببقاء الحقّ و عدم الوفاء لا يجوز له أن يحلف و لا يَثبت حقّه، فكذا لا يجوز له و حينئذ لا يثبت الحقّ لعدم تمامية الحجّة. «2»

يلاحظ عليه: أنّ القدر المتيقّن في المخصّص لدليل حجّية البيّنة فيما إذا أمكن له الحلف، كما في المورّث، دون ما لا يمكن فالأخذ بإطلاق الأدلّة أولى من إهمالها. و إن كان التصالح أحسن.

______________________________

(1) النجفي، الجواهر: 40/ 198.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 82.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 431

و في الصورة الأولى هل تكفي يمين واحدة أو تتعدّد حسب تعدّد المورد؟ وجهان: اختار صاحب الجواهر كفاية اليمين الواحدة قائلًا بأنّ مقتضى إطلاق النص، اعتبار يمين واحدة في تمامية حجّية البيّنة. «1» و ذهب السيّد الطباطبائي إلى تعددها و أنّه لا بدّ من حلف كلّ منهم على بقاء مقدار حقّه من الإرث و لا يكفي حلف بعض منهم عن الجميع نظير إثبات الحقّ بالشاهد و اليمين مع تعدّد المدّعين فلو لم يحلف بعضهم لعدم علمه لم يثبت مقدار حقّه. «2» و الحاصل أنّ صاحب الجواهر اختار أنّ اليمين متمّم لحجّية البيّنة و ليست

جزء مثبتاً للحقّ، بخلاف السيّد فإنّه جعله جزءاً للحجّة.

و الظاهر عدم الفرق بين المبنيين، إذا كانت لليمين مدخلية في الإثبات سواء كان جزء مثبتاً أو متمّماً، و الأولى أن يقال إنّه تكفي يمين واحدة، لأجل كونها استظهارية، تحرّزاً من إيفائه من دون أن تطلع عليه البيّنة. و إلّا فالبيّنة، حجّة تامّة، و تكفي في الاستظهار يمين واحدة و إن كان الأولى التعدد.

و ممّا ذكرنا يعلم حكم الصورة الثالثة فيحلف المدّعي على وجه البتّ و في الصورة الرابعة يقضى بلا يمين لتمامية الحجّة.

الثالث: هل يقتصر على الدين أو يتعدّى إلى العين؟

هل يختصّ الحكم بالدين أو يشمل العين أيضا بل كلّ دعوى على الميّت سواء كانت عيناً أو ديناً، أو منفعة أو حقّاً كحقّ الرهانة و حقّ الخيار؟ قال الشهيد: يجب الاقتصار على ما دلّ عليه من كون الحلف على المدّعي مع دعواه الدين على الميّت كما يدلّ عليه قوله: «و أنّ حقّه لعليه و إنّا لا ندري لعلّه أوفاه»، فلو كانت الدعوى عيناً في يده بعارية أو غصب، دفعت إليه مع البيّنة من غير يمين. و لو لم يوجد في التركة و حكم بضمانها للمالك ففي إلحاقها حينئذ بالدين نظراً

______________________________

(1) النجفي، الجواهر: 40/ 198.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 197.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 432

إلى انتقالها إلى الذمّة أو العين نظراً إلى أصلها وجهان: أجودهما الثاني «1» و تبعه النراقي في المستند و نسبه إلى العلّامة في القواعد، و الفاضل المقداد في التنقيح، لاختصاص النصّ بالدين قال:

أمّا الصحيحة (صحيحة الصفار) فلتصريحها بالدين و أمّا الرواية (عبد الرحمن بن أبي عبد الله) فلظهورها فيه لمكان لفظ «الحقّ»، و «لعليه» و «أوفاه»، نعم رويت الصحيحة في الكافي مجرّدة

عن لفظ «بدين» و أمّا النسخ المصححة عندي فكلّها مشتملة على لفظ «بدين» و أمّا ما قيل «انّ النصّ و إن كان مخصوصاً بالدين إلّا انّ مقتضى التعليل المنصوص و هو الاستظهار، العموم» ففيه انّ العلّة هي احتمال الإيفاء و هو في العين التي بيده غير جار بل الجاري فيه احتمال النقل و نحوه. و غير ذلك من التعليل، مستنبط لا يعبأ به. «2»

و إليه ذهب صاحب الجواهر و حاصل النزاع أنّ المرجع هو عموم حجّية البيّنة، أو الأخبار الثلاثة الخاصّة فالمشايخ يرجّحون كون المرجع، هو عموم أدلّة حجّية البيّنة و لكن يمكن ترجيح القول الثاني بأنّ ذكر الوفاء في رواية البصري من باب المثال، كالدين في صحيحة الصفار، و أنّ الميزان، احتمال أمر، موجب لبراءة ذمّة الميّت من وفاء أو نقل جديد و قد تقدّم أنّه لو احتمل الإبراء أو المصالحة، فهما أيضاً يلحق باحتمال الوفاء و أنّه جي ء به بعنوان المثال لكونه الغالب. و التعليل بأمر ارتكازي لا تعبديّ فيكون جميع الاحتمالات المتشابهة سواسية من غير فرق بين بقاء العين أو تلفه و من غير فرق عند التلف بين تلفه في حياة القابض، أو بعد موته، و ما يظهر من صاحب الجواهر «3» من التفريق بين التلفين و أنّه لو تلف في زمانه فهو داخل تحت الخبر (البصري و الصفار) و لو تلفت بعده فالخبران قاصران عن شموله، غير تام.

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 411.

(2) النراقي، المستند: 2/ 521.

(3) النجفي، الجواهر: 40/ 98.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 433

و مع ذلك كلّه فالحقّ هو عدم الإلحاق مطلقاً و ذلك لأنّ البيّنة لا تخلو إمّا أن تشهد على

كون العين باقية على ملك المدّعي إلى حين موت القابض أو تشهد على أنّها كانت ملكاً له. من دون الشهادة، على بقائها إلى حينه، فعلى الأوّل يقضى بها من دون يمين لعدم الحاجة إلى الاستظهار بعد قيام البيّنة على كونها باقية في ملك المدّعي، و أمّا على الثاني فلا تفي البيّنة بإثبات بقائها ملكاً للمدّعي إلّا بضم اليمين اعتماداً على الاستصحاب و هو محكوم بقاعدة اليد و ليس للقاضي الاعتماد على الاستصحاب و القضاء به، مع كون المدّعى عليه ذات اليد. و توهم عدم حجّية اليد في تلك الموارد كما ترى.

فتحصل أنّ العين لا يلحق بالدين، إمّا لعدم الحاجة إليه، و إمّا لعدم تماميّة ميزان القضاء كما لا يخفى.

الرابع: هل يقتصر على الشاهدين أو يتعدّى منه إلى الشاهد و اليمين؟

الظاهر من المحقّق الآشتياني أنّ القضاء بالشاهد و اليمين على الميّت ممّا لا غبار عليه إنّما الكلام في كفاية اليمين الواحدة أو لزوم الحاجة إلى يمينين قال: «ثمّ الكلام فيهما ليس من حيث كونهما كالبيّنة في ثبوت الحقّ بهما فإنّه ممّا لا إشكال فيه و إنّما الكلام فيها من حيث الاحتياج إلى يمينين أو كفاية يمين واحد فقد يقال بلزوم تعدّد يمينين نظراً إلى تعدّد موجبهما و الأصل عدم التداخل و قد يقال بكفاية اليمين الواحدة نظراً إلى تأتي المقصود منها لها فلا داعي للتعدد.

و قد يفصّل في المسألة بين ما إذا شهد الشاهد بالحقّ الفعلي و باشتغال الذمّة فعلًا، و بين ما إذا شهد باشتغال الذمّة سابقاً كما إذا شهد على سبب الاشتغال فيحكم في الثاني بالتعدّد و في الأوّل بكفاية الواحد. «1»

______________________________

(1) الآشتياني: القضاء 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 434

و اختاره السيّد الطباطبائي و قال: الأظهر وجوب الضمّ

إذا كانت اليمين مع الشاهد، على أصل ثبوت الحقّ من غير تعرّض لبقائه لأنّ اليمينين متغايران إحداهما على أصل الاستحقاق و الأُخرى على بقائه، و إن كانت على الاستحقاق فعلًا ففيه وجهان من تغايرهما من حيث هي، و من عدم الفائدة في تكرارهما. و الأظهر الأوّل و هو الأحوط إذ يكفي في تغايرهما في حدّ نفسهما فلا وجه للتداخل. «1»

يلاحظ على ما ذكراه من أنّه إذا شهد بالحقّ الفعلي، فهو خارج عن موضوع الروايات، إذ بعد تماميّة الحجّة التامّة على الاشتغال بالفعل لا حاجة إلى الاستظهار باليمين.

ثمّ إنّ كفاية الشاهد و اليمين مطلقاً حتّى في مورد الدعوى على الميّت، يتوقّف على وجود الإطلاق في الروايات و هو غير بعيد فقد تضافر عن رسول الله انّه قضى بشاهد و يمين. «2»

و بما أنّ اليمين في المقام استظهاري و اليمين الواحدة تفيد فائدة الاثنتين، فلا وجه للتكرار و إن كان الأحوط عدم التداخل.

الخامس: إذا شهدت البيّنة على صبيّ أو مجنون أو غائب

إذا شهدت البيّنة على صبيّ أو مجنون أو غائب فهل تُضّمُ اليمين إلى البيّنة أو لا؟ فقال المحقّق: «أشبهه انّه لا يمين» «3» و استقرب العلّامة في القواعد ضمّها و قال: «و لو كانت الشهادة على صبيّ أو مجنون أو غائب فالأقرب ضمّ اليمين

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 86.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم.

(3) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 85.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 435

و يَدْفع الحاكم من مال الغائب بعد التكفيل». «1» و ذكر الشهيد في المسالك، أنّ في المسألة قولين أشبههما عند المصنّف العدم وقوفاً فيما خالف الأصل على موضع النصّ و ذهب الأكثر إلى تعدّي الحكم لمشاركتهم للميّت في

العلّة، و هو أنّه ليس للمدّعى عليه لسان يُجيب به فيكون من باب منصوص العلّة، و لأنّ الحكم في الأموال مبنيّ على الاحتياط التام و هو يحصل بانضمام اليمين، ثمّ اختار هو القول الأوّل. و قد استدل على عدم الإلحاق بوجوه:

1- ما ذكره صاحب المسالك من أنّ مورد النصّ و هو الميّت أقوى من الملحق به لأنّ جوابه قد انتفى مطلقاً و ليس في دار الدنيا و الصبيّ و المجنون و الغائب لهم لسان يرتقب جوابهم. «2»

يلاحظ عليه: أنّ الموضوع الواقعي من لا يستطيع على الدفاع حين القضاء لا بعده و الميّت ذكر بعنوان المثال و الغائب على فرض تسليم الحكم فيه خرج بالدليل كما سيوافيك و عندئذ يكون الملحق و الملحق به في التعليل سيّان إذ ليس التعليل خروجه من الدنيا، أو لا يرجى جوابه حتّى يصحّ ما ذكره من الفرق، بل الحكم على شخص غير قادر على الدفاع في مجلس القضاء.

2- إنّ التعليل عبارة عن احتمال صدور عمل من الميّت صار موجباً لفراغ ذمّته، و هو غير متصوّر في حقّهما.

يلاحظ عليه: أنّ الوفاء من باب المثال و المقصود سبق عمل موجب للبراءة و إن لم يكن مستنداً إلى المدّعى عليه، كالإبراء و المحاسبة من باب الحقوق.

و الحاصل أنّه يجب أن يكون التعليل بأمر ارتكازي و هو في المقام مركّب من أمرين صدور شي ء من الطرفين موجب للبراءة سواء كان إبراءً أو وفاءً، مع كون

______________________________

(1) السيّد العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 92، قسم المتن.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 411.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 436

المحكوم عليه غير قادر على الدفاع في مجلس القضاء و بذلك يندفع كلا الدليلين.

هذا

كلّه في المجنون و الصغير و أمّا الغائب فقد ورد فيه النصّ من القضاء بالبيّنة بلا ضمّ يمين، فعطفه عليها، في غالب الكلمات غير صحيح.

روى الشيخ بسند صحيح عن جميل بن درّاج عن جماعة من أصحابنا، عنهما عليهما السلام قال: الغائب يُقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة و يباع ماله، و يُقضى عنه دينه و هو غائب و يكون الغائب على حجّته إذا قدم. قال: و لا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلّا بكفلاء. «1» و المراد من الكفلاء هو مطلق الضامن و لا يشترط فيه التعدّد كما هو المتبادر في المقام.

و رواه الشيخ أيضاً عن محمّد بن مسلم و زاد: «إن لم يكن ملياً» و مقتضى التعليل المنصوص هو ضمّ اليمين، لأنّه قضاء على إنسان غير مستطيع على الدفاع، غير أنّ الكفيل قام مقام اليمين كما أنّ قوّة حضور الغائب، في المحكمة في المستقبل و الاعتراض على الحكم، هوّن الأمر و لم يقيّد باليمين على خلاف المجنون لاحتمال عدم إفاقته، و الصبي لاحتمال عدم ذكره.

إنّ هذا كلّه إذا ادّعى شخص ديناً له على هؤلاء و أمّا إذا ادّعى وليّ الطفل و المجنون ديناً لهما على ميّت، فلا يقضى إلّا ببيّنة و يمين لأنّه ادّعاء على الميّت فيدخل في المنصوص و قد عرفت أنّ المراد بصاحب الحقّ هو الأعم من الأصيل و غيره فاليمين على الوليّ كما أنّ عليه إقامة البيّنة.

***

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 26 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، و في السند جعفر بن محمّد بن إبراهيم، و هو من مشايخ الإجازة، و عبد الله بن نهيك و هو عبد الله بن أحمد بن نهيك الثقة ذكره في مفتاح الكرامة لاحظ:

10/ 94 و بذلك يندفع تضعيف المحقّق الأردبيلي.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 437

السادس: إذا استمهل المدّعي لإحضار البيّنة

إذا رفع الشكوى إلى القاضي و قال القاضي له: هل لك بيّنة؟ فقال: نعم لي بيّنة غائبة، فهل يجب الإمهال، أو يُقضى بيمين المنكر أو خُيّر بينهما؟ و لو اختار الإنظار، فهل تلزم على القاضي مطالبة الكفيل من المدّعى عليه أو لا؟

قال الشيخ في الخلاف: إذا ادّعى على غيره حقّاً فأنكر المدّعى عليه، فقال المدّعي لي بيّنة غير أنّها غائبة، لم يجب له ملازمة المدّعى عليه و لا مطالبته بكفيل إلى أن تحضر البيّنة و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: له المطالبة بذلك و ملازمته ثمّ استدل الشيخ على مختاره بأنّ الأصل براءة الذمة و من أوجب ذلك فعليه الدلالة، و روى سمّاك عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه أنّ رجلًا من كندة، و رجلًا من حضرموت أتيا النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقال الحضرمي: «هذا غلبني على أرضي و ورثتُها من أبي و قال الكندي في يدي أذرعها، لا حقّ له فيها فقال النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم للحضرمي: أ لك بيّنة؟ قال: لا، قال: لك يمينه، قال: إنّه فاجر لا يُبالي على ما حلف، إنّه لا يتورّع من شي ء فقال النبيّ: ليس لك منه إلّا ذاك» فمن قال له الملازمة و المطالبة بالكفيل فقد ترك الخبر. «1»

و قال في المبسوط: و إن كانت البيّنة غائبة قال له الحاكم: ليس لك ملازمته، و لا مطالبته بالكفيل، و لك يمينه أو يرسلَ حتّى يحضر البيّنة و قال قوم له ملازمته و مطالبته بالكفيل حتّى يحضر البيّنة

و الأوّل أصحّ و الثاني أحوط لصاحب الحقّ. «2»

و قال المحقّق في الشرائع: و لو ذكر المدّعي أنّ له بيّنة غائبة خيّره الحاكم بين

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف، كتاب القضاء، المسألة 36؛ لاحظ صحيح مسلم، كتاب الأيمان: الجزء الأوّل، الباب 61، برقم 33 و 224.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 140.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 438

الصبر و إحلاف الغريم و ليس له ملازمته و لا مطالبته بكفيل. «1»

و في النافع اختيار الإمهال و قال: لو قال: البيّنة، غائبة أُجِّل بمقدار إحضارها و في تكفيل المدّعى عليه تردّد، و يخرج من الكفالة عند انقضاء الأجل. «2»

أمّا التخيير بين الصبر و القضاء بالبيّنة، و إحلاف الخصم فقد عرفت خلافه و أنّه مع إمكان الاحتجاج بالبيّنة لا يحتجّ بالحلف، إلّا أن يكون الإحضار أمراً حرجياً للمدّعي فيحتج بالحلف، و تؤيده رواية سلمة بن كهيل «و اجعل لمن ادّعى شهوداً غُيّباً أمداً بينهما فإن أحضرهم أخذت له بحقّه و إن لم يحضرهم أوجبتَ عليه». «3»

إنّما الكلام في أخذ الكفيل و الضامن، فربّما يقال بلزوم أخذه، لأنّ في إطلاقه ضرراً على المدّعي.

يلاحظ عليه: أنّ معنى حكومة لا ضرر، أنّه يرفع الحكم الشرعي الضرري في المورد و ليس الحكم بجواز إطلاقه حكماً ضررياً، بل فيه احتمال الضرر، و مثله ما لو فسّر بما هو المختار عندنا من أنّ النفي بمعنى النهي و أنّه ليس لأحد، الإضرار على الغير، إذ ليس فيه إلّا احتمال الإضرار على المدّعي، مضافاً إلى أنّ في حبسه و ملازمته ضرراً حتمياً على الخصم.

و ربّما يقال بأنّ الأمر دائر بين أحد الضررين، امّا ضرر المدّعي بإطلاق الخصم، و إمّا ضرر المدّعى عليه، بحبسه أو طلب

الضمان أو الكفالة منه فتجب على القاضي مراعاة أقلّ الضررين.

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 85.

(2) المختصر النافع: 281 ط مصر.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 10.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 439

يلاحظ عليه: أنّ مورد المراعاة إذا أُكره الإنسان بالإضرار على شخص بأحد أمرين لا تساوي قيمتهما فعلى المورد، ارتكاب أقلّهما، لاما إذا كان هناك ضرر يدور أمره بالإيراد على أحد الشخصين، فلا يصحّ تحميل الضرر القليل على شخص، لدفع الضرر الكثير عن الآخر. بل لا بدّ من ملاحظة ضابط آخر محرّر في مبحث لا ضرر.

نعم لو دلّت القرائن على صحّة مقالة المدّعي و كان الضرر المحتمل، معظماً و كان الخصم في مظنّة الهرب و الفرار، كان له أخذ الضمان ولاية و إلى ما ذكرنا يشير الفاضل المقداد قال: و يقوى أنّ التكفيل موكول إلى نظر الحاكم فإنّ الحكم يختلف باختلاف الغرماء فإنّ الغريم قد يكون مطلقاً غير مأمون فالمصلحة حينئذ تكفيله و إلّا لزم تضييع حقّ المسلم و قد لا يكون كذلك بل يكون ذا مروّة و حشمة و مكنة فلا حاجة إلى تكفيله لعدم ثبوت الحقّ و الأمن من ضياعه و ربّما يكون المدّعي محتالًا يكون طلبه للتكفيل وسيلة إلى أخذ ما لا يستحقّه. «1»

لا شكّ أنّ أخذ الضامن قبل ثبوت الحق، حكم ضرريّ لكن هذا المقدار من الضرر أمر لا بدّ منه في باب القضاء، و الأدلّة منصرفة عنه و لأجل ذلك لا يعدّ إحضار المنكر إلى المحكمة و السؤال عن الموضوع أمراً ضررياً لأنّ القاضي مأمور بإحقاق الحقوق و ليس له طريق إلّا هذه الأُمور. و بالجملة باب القضاء في

الإسلام موضوع على هذا النوع من الضرر فلا يرتفع بالقاعدة.

و منه يعلم حكم ما لو أقام شاهداً و استمهل إلى إقامة شاهد آخر فمقتضى القاعدة عدم وجوب أمر على الخصم إلّا ما عرفت.

***

______________________________

(1) الفاضل المقداد، التنقيح الرائع: 4/ 253252.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 440

الفصل الثالث: في سكوت المدّعي
اشارة

قد تقدّم أنّ المدّعى عليه، إمّا أن يُقرّ، أو يُنكر أو يسكت، و قد مضى الكلام في الأوّلين و بقي الكلام في الثالث،

فإذا سكت و لم يجب بإثبات و لا نفي فهو على قسمين:
اشارة

إمّا أن يسكت عمداً و عناداً أو يسكت لآفة فيه من طرش أو خرس. و الكلام في القسم الأوّل.

[القسم الأول السكوت عمدا أو عنادا]
اشارة

ثمّ إنّ السكوت إمّا مع وجود البيّنة للمدّعي أو مع عدمها، لا خلاف فيما إذا أقام بيّنة فإنّ القاضي يحكم بها و إن سكت المدّعى عليه إذ مع قيام الحجّة يجب القضاء على القاضي، غاية الأمر يلزم عليه إلفات نظر المدّعى عليه إلى أنّ له جرح بيّنة المدّعي أو نقد ما أقام من دليل فإذا سكت فقد عمل القاضي بواجبه فيتمحض الكلام في السكوت عن عمد، مع عدم البيّنة للمدّعي.

ثمّ الأقوال فيه مختلفة:

1- يُلزم بالجواب فإن أصرّ حُبِس حتّى يجيب.

2- يُجبر حتّى يجيب من غير حبس بل يضرب و يبالغ معه في الإهانة إلى أن يحصل الغرض.

3- يقول له الحاكم ثلاثاً: إن أجبت و إلّا جعلتك ناكلًا و رددت اليمين على خصمك. على القول بعدم القضاء بمجرّد النكول، و إلّا فيقضى عليه بلا حاجة إلى ردّ اليمين.

و الأوّل هو المشهور، و الثاني لا قائل به و الثالث خيرة الشيخ في المبسوط و ابن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 441

إدريس في السرائر. «1»

و يظهر من العلّامة قول رابع في التحرير و هو أنّه قيد الحكم بالنكول بالقول عليه باللطف و الغلظة أوّلًا حتّى ينتهي إلى القضاء بالنكول. «2»

كما أنّه يظهر من الشهيد في الروضة «3» قول خامس و هو التخيير بين الحبس و النكول بردّ اليمين على المدّعي و هو خيرة ابن البرّاج أيضاً. «4»

ثمّ الظاهر من كلمات الفقهاء أنّه يكفي الحبس من دون شي ء معه، لكن صاحب الرياض قدّم اللطافة بالرفق، ثمّ بالإيذاء و الشدّة متدرّجاً من الأدنى إلى الأعلى على حسب مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فإن أجاب و إلّا حبسه. «5» و هذا يكون قولًا سادساً و

ليس نفسَ القول الثاني، فإنّه مبني على الضرب حتّى يجيب. و إليك نقل بعض الكلمات:

1- قال المفيد: إن كان صحيحاً و إنّما يتجاهل، و يعاند بالسكوت، أمر بحبسه حتّى يُقِرّ أو ينكر إلّا أن يعفو الخصم عن حقّه عليه. «6»

2- قال الشيخ الطوسي: إذا ادّعى على غيره دعوى فسكت المدّعى عليه أو قال: لا أُقرّ و لا أُنكر فإنّ الإمام: يحبسه حتّى يجيبه بإقرار أو بإنكار و لا يجعله ناكلًا و به قال أبو حنيفة و قال الشافعي: يقول له الحاكم ثلاثاً إمّا اجبتَ على المدّعي و إلّا جعلناك ناكلًا و رددنا اليمين على خصمك، و قال: دليلنا أنّ الأصل البراءة و ردّ اليمين في هذا الموضع و جعله ناكلًا يحتاج إلى دليل و ليس في الشرع ما يدلّ عليه. «7»

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8، آداب القضاء 16؛ ابن إدريس، السرائر: 2/ 162.

(2) العلّامة، تحرير الأحكام: 2/ 189.

(3) زين الدين العاملي، الروضة البهية: 1/ 285، كتاب القضاء، ط عبد الرحيم.

(4) ابن البرّاج، المهذَّب: 2/ 586.

(5) السيّد علي الطباطبائي، الرياض: 2/ 343.

(6) المفيد، المقنعة: 725.

(7) الطوسي، الخلاف: كتاب القضاء، المسألة 37.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 442

3 و قال في نهايته: أمر بحبسه حتّى يُقر أو يُنكر إلّا أن يعفو الخصم. «1»

4- و قال ابن حمزة: إذا سكت عن الجواب تعنّتاً يحبسه الحاكم حتّى يُقرّ أو يُنكر إلّا أن يعفو الخصم. «2»

5- و قال ابن سعيد: «و إن لم يجب و هو صحيح حبس حتّى يجيب». «3»

6- و قال ابن البرّاج بالتخيير بين جعله ناكلًا و الحبس و إن كان الأوّل أولى قال: فإن سكت أو قال: لا أقرّ و لا أُنكر،

قال الحاكم له أن أجبت عن الدعوى و إلّا جعلتك ناكلًا و رددّت اليمين على خصمك، و ذُكر أنّه يحبسه حتّى يجيب إمّا بإقرار أو بإنكار و لا يجعله ناكلًا و ما ذكرناه أوّلًا هو الظاهر من مذهبنا و لا بأس بالعمل بالثاني. «4»

7- و قال الشيخ في المبسوط بالقول الثالث أي جعله ناكلًا. «5»

8- و قال ابن إدريس: و الصحيح من مذهبنا و أقوال أصحابنا و ما يقتضيه المذهب أنّه في المسألتين (إذا سكت أو أقرّ بشي ء و لم يبيّن) أنّه يجعله الحاكم ناكلًا و يردّ اليمين على المدّعي. «6»

دليل القول بالحبس

استدل للقول الأوّل بوجهين:

1- إنّ الجواب حقّ للمدّعي فيتوصّل في تحصيله إلى حبسه كما إذا ثبت الحقّ بإقراره أو ببيّنة، مع إنكاره فيحبس حتّى يؤدّى.

يلاحظ عليه: أنّه ممنوع صغرى و كبرى.

______________________________

(1) الطوسي، النهاية: كتاب القضاء و الأحكام.

(2) ابن حمزة، الوسيلة: 212.

(3) ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 254.

(4) ابن البرّاج، المهذّب: 2/ 586.

(5) الطوسي، المبسوط: 8، في آداب القضاء 16.

(6) ابن ادريس، السرائر: 2/ 162.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 443

أمّا الأُولى فإنّ كون الجواب حقّاً، يتوقّف على وجود دليل عليه من شرع أو عرف، و الأوّل غير موجود و الثاني إنّما يصحّ إذا ترافعا إلى القاضي بالرضا و الرغبة، أو كانت بين الشخصين صلة تجارية أو غير ذلك بما يُصحِّحُ في نظر العرف لزومَ الإجابة على المدّعى عليه.

و أمّا الثاني: فلو سلّمنا أنّه حقّ و لكن لا دليل بوجه كلّي يدلّ على جواز حبس من عليه الحقّ إذا أمسك عن مثل هذا الحقّ (الجواب) خصوصاً إذا أمكن للمدّعي التوصّل إلى تحصيله بطريق أسهل و أخف كما في كلام سيّد

الرياض.

2- النبوي المعروف: «ليّ الواجد أو مطله يُحِلُّ عقوبته و عرضَه» و في آخر «حبسه» المعتضد بما في النصوص الواردة حول حبس أمير المؤمنين عليه السلام الغريمَ بالليّ و المطل من دون ضرب أو إهانة.

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّ الوارد من طرقنا هو «ليّ الواجد بالدين يُحِلُّ عرضه و عقوبته» «1»، أنّ لفظ الواجد منصرف عن هذا النوع من الوجدان. و الظاهر أنّ المراد واجد المال.

دليل القول بالإجبار

استدل للقول الثاني أي الإجبار بالضرب بأنّه مقتضى الأمر بالمعروف.

يلاحظ عليه: أنّه لو تمّ لدلّ على قول صاحب الرياض من تقديم اللطافة بالرفق ثمّ الإيذاء و الشدّة متدرّجاً من الأُولى إلى الأعلى و أين هو من الابتداء بالضرب؟!

دليل القول بجعله ناكلًا
اشارة

استدل للقول الثالث برواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله تارة بصدرها

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 8 من أبواب القرض، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 444

و أُخرى بذيلها.

أمّا الصدر قال: خبّرني عن الرجل يدعي قِبَل الرجلِ الحقَّ فلم تكن له بيّنة بما له، قال فيمين المدّعى عليه فإن حلف فلا حقّ له. و إن لم يحلف فعليه. «1»

و قد تقدّم انّ للحديث تفسيرين:

1- إن لم يحلف المدّعى عليه فعليه «الحقّ»، فضمير المجرور يرجع إلى المدّعى عليه،، و المبتدأ المحذوف، هو الحقّ و عليه لا يحتاج إلى ردّ اليمين بل يقضى بالنكول.

2- إن لم يحلف المدّعى عليه، فعلى المدّعي اليمين و هذا يدلّ على عدم كفاية النكول بل يتوقّف على الردّ إلى المدَّعي.

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلًا: أنّ الصدوق نقل مكان الفقرة الثانية قوله: «و إن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلاحق». «2» و على هذا فلا دلالة للحديث للمقام على وجه القطع.

و ثانياً: أنّ منصرف الحديث المنكر و لا يعمّ الساكت.

و أمّا الذيل: فقوله: «و لو كان حيّاً لأُلزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين.

فانّه يدلّ على أنّه يجب على المدّعى عليه أحد الأُمور الثلاثة:

1- اليمين، أو الإلزام بالحق (المدّعى به) أو الإلزام بردّ اليمين، و حيث امتنع الأوّل و الثالث بسكوته، يتعيّن الإلزام بالحقّ هذا كلّه على أنّ الفعل (يرد) مبني للفاعل، و إلّا فيتوقف على ردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) الصدوق، الفقيه: 3/ 38.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 445

و قد اختاره من المتأخرين السيّد الطباطبائي قال: فإنّه (ذيل الحديث) يدلّ

على إلزامه بالحقّ إذا سكت و لم يحلف و لم يردّ بل الظاهر من الموضعين (الصدر و الذيل) من الخبر، الإلزام بالحقّ، بمجرّد عدم الحلف و عدم الردّ من غير حاجة إلى ردّ الحاكم اليمينَ على المدّعي. «1»

يلاحظ عليه: مضافاً إلى انصرافه عن الساكت، أنّه مبني على تفسير قوله: «بالحقّ» بالذي ادّعى عليه، مع أنّه من المحتمل أنّه يُلْزم بالحقّ الذي اعترف به و يدلّ على ذلك أنّه لو كان المراد منه الحقّ الذي ادّعي عليه يجب تأخيره عن قوله: «يردّ اليمين» لأنّ إلزام القاضي إيّاه بدفع الحقّ إنّما يصحّ إذا لم يحلف و لم يردّ و طبع الحال حينئذ يقتضي أن يقال:

يلزم على المدّعى عليه، إمّا أن يحلف أو يردّ اليمين على المدّعي و إلّا فعليه الحقّ الذي ادّعى عليه، و بعبارة أُخرى: يجب عليه أن يدافع عن نفسه بأحد الحلفين و إلّا فيدفع ما ادّعي عليه مع أنّه ذكر بين الحلفين و هذا يدلّ على أنّ المراد هو الحقّ الذي اعترف به.

و ربّما يستدلّ على هذا القول بأنّ الساكت في قلبه إمّا مقرّ أو منكر فلو كان مقرّاً فلا إشكال في إلزامه بالحقّ، و إن كان منكراً فهو بسكوته ممتنع عن الحلف و الردّ فيلزم بالحقّ إذا كان النكول كافياً أو بعد ردّ اليمين إلى المنكر إذا لم يكن الردّ كافياً.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يتمّ لو كان الموضوع هو الأعم من الظاهري و القلبي فيكون حكم الإقرار و الإنكار القلبيين، حكم الظاهريين منهما و أمّا لو قلنا بأنّ الموضوع هو الظاهري منهما فيكون الساكت قسماً ثالثاً فلو ثبت للمنكر و المقرّ حكم فلا يثبت للساكت. و بما أنّ العنوان غير محرز و الموضوع

غير معلوم فلا يمكن

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 103.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 446

القطع بالحكم.

ثمّ إنّه قد يعترض على القول الثالث بأنّه لو اقتضى السكوتُ ردَّ اليمين على المدّعي لاقتضى ذلك في الصغير و المجنون و الغائب و الميّت و عندئذ يلزم صحّة القضاء على هؤلاء بدون البيّنة و الاكتفاء باليمين المردودة. «1»

يلاحظ عليه: أنّ الفارق وجود النصّ في الادّعاء على الميّت حيث دلّ على لزوم البيّنة مع يمين المدّعي دون المقام، أضف إليه وجود الفرق بين المقام و الميّت و ما أشبهه و هو أنّ المدّعى عليه في المقام قادر على الإجابة و لكنّه لا يجيب و هذا بخلاف هؤلاء فإنّهم بين غير قادر كالميّت و الغائب و من لا يترتّب الأثر على جوابه كالصبيّ و المجنون.

و الأولى أن يقال: بعد عدم دليل واضح لواحد من هذه الأقوال إنّ الظاهر تفويض الأمر إلى القاضي في انتخاب الأُسلوب الناجح في حمل الساكت إلى التكلّم و هو يختلف حسب اختلاف الظروف و تعيين الطريق الخاصّ في ذلك المجال لا يلائم أُصول مذهبنا. و ذلك لأنّ الإسلام دين عالمي و خاتم لعامّة الشرائع، فلازم ذلك بيان اللب و ترك القشر و لباس الحكم و كيفية إجرائه على مقتضى الزمان، و ربّما يقتضي الورود من باب اللطف و أُخرى من باب الخشونة و لكلّ أقسام.

نعم القضاء على الساكت بالنكول أو بعد ردّ اليمين على خلاف القاعدة فيكون منحصراً بمورده و لا يتجاوز عنه إلّا بدليل.

القسم الثاني: السكوت المستند إلى الآفة

إذا كان السكوت لأجل آفة في المدَّعى عليه من طرش أو خرس قال

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 210.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1،

ص: 447

المحقّق: «تُوصل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفيدة لليقين» أي اليقين بكونه مقرّاً أو منكراً.

وجهه: انّ اشارته قائمة مقام اللفظ لغير ذوي الآفة و لا يصحّ القضاء في غير ذوي الآفة إلّا بعد القطع بالمراد من كلامهم و لا يكفي الظنّ به و المقصود من القطع بالمراد، هو المراد الاستعمالي منه، لا المراد الجديّ إذ ليس للّفظ دور، سوى الدلالة على المراد الاستعمالي، لا المراد الجدّي إذ الوقوف عليه على عاتق سائر الأُصول و القرائن و لذلك ذهبنا في الأُصول عند البحث عن حجّية الظواهر إلى أنّ دلالتها على المراد الاستعمالي قطعية لا ظنيّة و المجمل و المتشابه خارجان موضوعاً عن الظواهر و التفصيل في محلّه. و بذلك يعلم عدم تمامية ما أفاده صاحب الجواهر من إلحاق إشارة الأخرس باللفظ الذي يكتفى بالظن بالمراد منه. «1»

قال المحقّق: «و لو استغلقت إشارته بحيث يحتاج إلى المترجم لم يكف الواحد و افتقر في الشهادة بإشارته إلى مترجمين عدلين» و ما ذكره مبنيّ على أنّ الترجمة من باب الشهادة لكن متلقّى العرف غير ذلك بل يراه نقلًا لكلام الغير فيعتبر أن يكون عارفاً بلسانه و ثقة كالوسائط الواردة في أسانيد الحديث. نعم لا يكون قول المترجم حجّة إلّا إذا ادّعى القطع بالمراد من الإشارة.

الجواب بلا أدري و لا أعلم

إذا أجاب المدّعى عليه بقوله: «لا أدري» و هو بظاهره قسم رابع من الجواب، ليس إقراراً و لا إنكاراً و لا سكوتاً بل يدّعي عدم العلم بصحّة ما يدّعيه المدّعي.

و أمّا الأقوال فلا تتجاوز عن أربعة:

1- إنّه منكر و يحلف بعدم العلم يظهر من المحقّق الأردبيلي، حيث

______________________________

(1) النجفي، الجواهر: 40/ 211.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 448

قال:

و يحتمل الاكتفاء في الإسقاط، بيمينه على عدم علمه بذلك للأصل و عدم ثبوت ما تقدّم و التأمّل فيه، فتأمّل. «1» و صرّح صاحب الجواهر و قال: فهو منكر، ضرورة عدم كونه إقراراً، كضرورة عدم كونه سكوتاً فليس إلّا الإنكار. «2»

2- يعامل معه معاملة الناكل فيؤخذ منه الحقّ مطلقاً، أو بعد ردّ اليمين إلى المدّعي و حلفِه و إن لم يردّ، فالحاكم يردُّها لأنّه ولي الممتنع ذكره الأردبيلي و قال: لو قال المنكر: إنّي ما أحلف على عدمه فانّي ما أعلم بل أحلف على عدم علمي بثبوت حقّك في ذمّتي، لا يكفي، بل يؤخذ بالحقّ بمجرّد ذلك حينئذ، إن قيل بالقضاء بالنكول أو بعد ردّ اليمين على المدّعي إن لم نقل به «3» و هو خيرة المحقّق الآشتياني و قال: الذي يظهر من الأكثر حتّى من كثير ممن يقول بالقضاء بالنكول، القضاء عليه بعد ردِّ اليمين إلى المدّعي إمّا من المدّعى عليه أو من الحاكم بعد امتناعه من الردّ، من غير أن يكتفي عنه بالحلف على نفي العلم من دون ادّعاء العلم عليه. «4»

3- إيقاف الدعوى إن لم يدّع عليه العلم و إلّا فيجب عليه اليمين على نفي العلم بمثل ما حكموا في الدعوى على فعل الغير كالدعوى على الوارث و غيره و هو خيرة السيّد الطباطبائي في ملحقات العروة. «5»

4- يحلف على نفي الاستحقاق لا على نفي علمه به نظراً إلى الأصل و هو مبني على جواز الحلف اعتماداً على الأصل، كالشهادة و الحلف استناداً إلى اليد، و لكن الفرق بين الأصل و الأمارة واضح و القياس بجامع وجود الحجّة باطل.

هذه هي الوجوه المذكورة في كلماتهم و لندرس بعضها:

______________________________

(1) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 191.

(2)

النجفي، الجواهر: 40/ 212.

(3) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 191.

(4) الآشتياني، القضاء: 154.

(5) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 104، الفصل الثامن، المسألة 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 449

أمّا الوجه الأوّل فقد حاول صاحب الجواهر إدخال هذا القسم تحت عنوان المنكر و حاصل ما أفاده بتوضيح منّا: أنّه بالإضافة إلى الواقع و إن لم يكن منكراً لعدم علمه به و لكنّه بالإضافة إلى استحقاق المدّعي فعلًا، منكر له لأنّ الاستحقاق الفعلي فرع العلم، و المفروض عدمه و بذلك يكون منكراً لا يتوجّه إليه إلّا اليمين لموافقته الأصل و غيره و أمّا ما يظهر من الأصحاب من اعتبار الحلف على البتّ فهو منزّل على الصورة الغالبة و الشاهد عليه أنّه قد يحلف على عدم العلم نحو يمين الوارث بالنسبة إلى ديون الميّت.

يلاحظ عليه: أنّه يجب أن يتوارد الادّعاء و الإنكار على شي ء واحد. حتّى يقال إنّه مدّع لما ينكره الآخر و على هذا فإن ادّعى المدّعي علم الآخر بالدين فعندئذ يتواردان على موضوع فهو مدّع لما ينكره الآخر، فيكون منكراً حقيقة فيحلف على عدم العلم و إلّا فيردّها إلى المدّعي، أو يردّها الحاكم. و يترتّب عليه كل ما يترتّب على الحلف من الآثار المذكورة، فيما سبق من عدم سماع البيّنة بعد الحلف، أو عدم جواز التقاصّ من ماله أو تجديد المحاكمة ممّا مرّ.

و على ذلك إذا كان متعلّق الادّعاء و الإنكار، هو العلم و عدمه يكون المدّعي عليه منكراً حقيقة، لا تأويلًا و لا بملاحظة انّه ينكر الاستحقاق الفعلي كما ارتكبه صاحب الجواهر. و بالجملة فهذا القسم من المسألة يعمّه ما دلّ على أنّ البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر

و إنّما الكلام في القسم الآتي أعني إذا صدّقه في عدم علمه بالواقع أو سكت عنه. فالادّعاء و الإنكار لا يتواردان على موضع واحد. فالمدّعي يدّعي كونه مديوناً في الواقع، و المدّعى عليه، يدّعي عدم علمه به و أمّا الواقع فهو لا يثبته و لا ينكره فيكف يدخل في عداد المنكرين. و يترتّب عليه أثر المنكر.

و بالجملة ما اختاره صحيح فيما ادّعى عليه العلم بالواقع لاما إذا وافقه في عدم العلم أو لم يذكر فيه شيئاً و على هذا فلا يتوجّه إليه الحلف، و لا يصحّ له

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 450

الردّ، لعدم تمكنه منه حتّى يرد، فلا محيص عن إيقاف الدعوى حتّى يأتى بالبيّنة كما سيوافيك في البحث الثاني.

و أمّا الوجه الثاني أي إجراء حكم النكول عليه و هو الذي ذكره المحقّق الأردبيلي و اختاره الآشتياني فهو غير تامّ بوجهين:

1- إنّ التفصيل في الحديث النبويّ قاطع للشركة و عليه، فوظيفة المدّعي، البيّنة و واجب المنكر هو اليمين، و قيام يمين المدّعي منزلة بيّنته، يردّه التفصيل القاطع للشركة، فلا يعدل عنه إلّا بدليل، كما في غير هذا المورد.

2- إنّ الظاهر من روايات ردّ اليمين، هو الردّ إذا أمكن له الحلف و بعبارة أُخرى إذا كان مخيّراً بين الأمرين: الحلف و الردّ، و أمّا إذا لم يتمكّن من الحلف، فلا و المقام من هذا القبيل فإنّه لأجل عدم علمه، ممنوع من الحلف فكيف يكون مجازاً في الردّ، نعم لا بأس به إذا ادّعى عليه العلم بالواقع و هو ينكره، فإنّ الحكم فيه لا يفترق عن سائر الموارد.

و الذي ينبغي أن يقال و ربّما يستفاد ممّا سبق هو أنّه إذا

ادّعى عليه العلم بالدين و هو ينكره، ينطبق عليه أصل المدّعي و المنكر، فلو حلف، و إلّا يردّ اليمين على المدّعي، أو ينوب عنه الحاكم إذا امتنع.

و أمّا إذا صدّقه في عدم العلم أو شكّ في صدقه و كذبه، فلا مجال للحلف، لاتّفاقهما على أنّه لا علم له بالواقع و مع التسليم، لا موضوع للحلف، فتكون الدعوى غير مسموعة، و يُلف الملَفّ إلى أن يأتي بالبيّنة. و يؤيده بعض الروايات:

1- صحيحة عبد العزيز بن المهتدي «1» سألت الرضا عليه السلام قلت: جعلت فداك أنّ أخي مات و تزوجتُ امرأته فجاء عمّي فادّعى أنّه كان تزوّجها سرّاً فسألتها عن ذلك فأنكرت أشدَّ الإنكار و قالت ما كان بيني و بينه شي ء، فقال:

______________________________

(1) قال النجاشي: عبد العزيز المهتدي الأشعري القمي ثقة روى عن الرضا عليه السلام له كتاب.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 451

«يلزمك إقرارها، و يلزمه إنكارها». «1»

2- صحيح زرعة بن محمّد، عن سماعة قال: سألته عن رجل تزوّج جارية أو تمتّع بها فحدّثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال: إنّ هذه امرأتي و ليس لي بيّنة فقال: «إن كان ثقة فلا يقربها، و إن كان غير ثقة فلا يقبل منه». 2

3- خبر يونس قال: سألته عن رجل تزوّج امرأة في بلد من البلدان فسألها، لك زوج؟ فقالت: لا فتزوّجها ثمّ إنّ رجلًا أتاه فقال: هي امرأتي فأنكرت المرأة ذلك، ما يلزم الزوج؟ فقال: «هي امرأته إلّا أن يقيم البيّنة». 3

وجه الاستدلال بهذه الروايات أنّ الزوجة و إن كانت منكرة على وجه البتّ، و لكن الزوج غير عالم بالواقع فلم يُكلَّف بشي ء من اليمين. هذا و تمام الكلام يأتي في البحث

الثاني عند البحث عن يمين المنكر و المدّعي.

إذا كان متعلّق الدعوى عيناً

هذا كلّه إذا كان متعلّق الدعوى ديناً و أمّا إذا كان متعلّقه عيناً في يده منتقلة إليه بشراء أو إرث من ذي يد متصرّف فيها بدعوى الملكية. فإنّ للمسألة صورتين:

الأُولى: أن يذكر مصدرَ مالكيّته و أنّه اشتراه من زيد أو اتّهبه منه أو ورثه من مورِّثه إلى غير ذلك من أسباب النقل ففي مثله يحلف على عدم كون المدّعي مالكاً اعتماداً على يد من انتقلت منه إليه. و يدلّ عليه خبر حفص بن غياث الدال على جواز الحلف على مالكية ذي اليد. روى حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: «نعم»، قال الرجل: اشهد أنّه في يده، و لا أشهد انّه له فلعلّه لغيره فقال أبو عبد الله عليه السلام: «أ فيحلّ الشراء منه؟» قال: نعم فقال أبو عبد الله عليه السلام: «فلعلّه لغيره من أين جاز

______________________________

(1) 1 و 2 و 3 الوسائل: الجزء 14، الباب 23 من أبواب عقد النكاح و اولياء العقد، الحديث 31.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 452

لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك» ثمّ قال أبو عبد الله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». «1»

فقوله: «تقول بعد الملك هو لي و تحلف عليه» يدلّ على جواز الحلف على الملك إذا كان تحت اليد. غاية الأمر انّه إذا ادّعى المدّعي أنّه له، يحلف على أنّه

ليس له، لا أنّه له، حفظاً لوحدة الموضوع في الادّعاء و الإنكار. و يتوارد النفي و الإثبات على مكان واحد.

الثانية: إذا كانت في يده و لم يذكر مبدأ مالكيّته، و أنّها له فعلًا أو لا، بل يرى نفسه مستولياً على العين فله أيضاً أن يحلف على عدم كونه ملكاً للغير أخذاً بإطلاق الخبر. نعم استشكل النراقي في المستند في جواز الحلف قائلًا بأنّه يشترط في دلالة اليد على الملكية عدم اعتراف ذيها بعدم علمه بأنّه له أو لا. «2»

أقول: لا دليل على هذا الشرط و إطلاق قوله: «و من استولى على شي ء منه فهو له» «3» و غيره من روايات حجّية اليد، يشمل هذه الصورة و إنّما ذهب المحقّق النراقي إلى هذا الشرط في العوائد «4» مستدلًا بالانصراف و بروايات أهمل الإمام فيها اليد، و لم يترتّب عليه الأثر و لكن الانصراف مع كثرة الابتلاء به ممنوع، و أمّا الروايات التي استدل بها، فهي واردة في المنازل التي يتردّد عليه، غير المالك كثيراً كبيوت مكّة، و الصندوق الذي، يدخل يد غيره فيه و لو بوضع شي ء فيه أمانة و لا يعمّ ما ليس كذلك. و قد أوضحنا حال هذه الروايات في الأُصول عند البحث عن قاعدة اليد فلاحظ. «5»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(2) النراقي، المستند: 2/ 537.

(3) الوسائل: الجزء 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.

(4) النراقي، العوائد: 258.

(5) المحصول في علم الأُصول: 4/ 278277.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 453

مسائل في الحكم على الغائب
المسألة الأُولى: إذا حضر الخصمان و ترافعا عند القاضي و تمّ الترافع و لكن أخّر القاضي الحكمَ إلى موعد آخر

فحضر أحد المتخاصمين دون الآخر، فانّه يجوز الحكم على الغائب بلا خلاف لتمامية موازين القضاء و التأخير في الحكم لا

يحدث شيئاً.

إنّما الكلام إذا رفع أحد الخصمين الخصومَة إلى القاضي دون الآخر، و أقام بيّنة فلا شك أنّه يجوز الحكم في الجملة و إليك كلماتهم:

1- قال الشيخ في الخلاف: القضاء على الغائب جائز و به قال الشافعي و مالك و الأوزاعي و الليث بن سعد و ابن شبرمة، و قال ابن شبرمة: أحكمُ عليه و لو كان خلف حائط و به قال أحمد و اسحاق، و قال الثوري و أبو حنيفة و أصحابه: لا يجوز القضاء على الغائب حتّى يتعلّق الحكم بخصم حاضر شريك أو وكيل له و الحاكم عندهم يقول: حكمت عليه بعد أن ادّعى على خصم ساغ له الدعوى عليه.

و تحقيق هذا، أنّ القضاء على الغائب جائز بلا خلاف و لكن هل يصحّ مطلقاً من غير أن يتعلّق بخصم حاضر أم لا؟ عندنا يجوز مطلقاً و عندهم لا يجوز مطلقاً حتّى قال أبو حنيفة: من ادّعى على عشرة، واحد حاضر و تسعة غُيّب و أقام البيّنة قضى على الحاضر و على غيره من الغائبين.

ثمّ استدل الشيخ مضافاً إلى الأخبار المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام بما روى أبو موسى الأشعري قال: إذا حضر عند رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم خصمان فتواعدا لموعد فوفى أحدهما و لم يف الآخر قضى للذي وفى، على الذي لم يف. و معلوم أنّه ما قضى عليه بدعواه، ثبت أنّه قضى عليه بالبيّنة. «1»

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف، كتاب القضاء، المسألة 38.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 454

2 و قال الشيخ في المبسوط: إذا حضر رجل عند الحاكم فادّعى على غائب حقّاً سمع الحاكم دعواه لجواز صدقه فيما يدّعيه كما لو

كان حاضراً فإن أقام البيّنة بما يدّعيه سمعها الحاكم إلى أن قال: فأمّا إن سأله أن يقضي له على هذا الغائب بما ثبت عنده، أجابه إلى ذلك بعد أن يستحلفه عن حقّه الذي شهد الشاهدان أنّه ثابت إلى وقتنا هذا فإذا حلف حكم عليه و كتب به كتاباً و هكذا قولهم في القضاء على الصبي و المجنون و الميّت و الكل واحد. لأنّ كلّ واحد لا يعبر عن نفسه إلى أن قال: و أمّا إن كان حاضراً في البلد غير ممتنع من الحضور فهل له أن يقضي عليه و هو غائب عن مجلس الحكم أم لا؟ قال قوم: له ذلك لأنّه غائب عن مجلس الحكم و الصحيح أنّه لا يُقضى عليه لأنّه مقدور على إحضاره و القضاء على الغائب إنّما جاز لموضع الحاجة و تعذّر إحضاره فالقضاء على الغائب يجوز عندنا في الجملة و عند جماعة. «1»

3- و قال ابن البرّاج: «و إن كان (المستعدى عليه) غائباً في غير ولايته، مثل أن يكون الحاكم ببغداد فغاب إلى البصرة، و هي في غير ولايته فإنّه يقضي على غائب». «2»

4- و قال ابن حمزة: «إذا ادّعى المدّعي على حاضر يعبر عن نفسه أو على غائب أو ميّت أو حاضر لا يعبر عن نفسه مثل المولّى عليه فالأوّل قد ذكر حكمه و الثاني يحكم له بشرطين إقامة بيّنة عادلة الخ». «3»

5- و على ذلك تضافرت الفتوى غير أنّ ابن سعيد، شرط كون الغائب في مسافة تقصّر فيه الصلاة قال: و يجوز الحكم على الغائب (و حدّ الغيبة ما يقصر في مثله) من غير وكيل حاضر و يحلف خصمه مع البيّنة. «4»

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 162، باب القضاء على

الغائب.

(2) ابن البرّاج، المهذّب: 2/ 584.

(3) ابن حمزة، الوسيلة: 214.

(4) ابن سعيد، الجامع للشرائع: 27.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 455

6 و قال المحقّق: يُقضى على من غاب عن مجلس القضاء مطلقاً مسافراً كان أو حاضراً و قيل يعتبر في الحاضر تعذّر حضوره مجلس الحكم. «1» و القائل هو الشيخ و تقدم كلامه في المبسوط و نسب إلى تعليق الإرشاد.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 1، ص: 455

7- و قال الشهيد الثاني: «مذهب أصحابنا جواز القضاء على الغائب في الجملة و هو مذهب أكثر العامة كالشافعي و مالك و أحمد و جماعة من الفقهاء و خالف فيه أبو حنيفة إلّا أن يتعلّق بخصم حاضر كشريك أو وكيل و الحجّة على جوازه فعل النبيّ و هو حجّة كقوله في الخبر المستفيض عنه أنّه قال لهند زوجة أبي سفيان الخ». «2»

فتلخّص أنّ الأقوال بين أهل السنّة، لا تتجاوز عن اثنين فغير الاحناف يقول بالجواز مطلقاً، و هؤلاء لا يجوزون مطلقاً، إلّا إذا حضر في المحكمة من يتعلّق بالخصم كالوكيل أو واحد من المدّعى عليهم و أمّا أقوال أصحابنا فهي ثلاثة:

1- يجوز الحكم على الغائب عن مجلس الحكم مطلقاً، سواء كان مسافراً أم حاضراً في البلد، أمكن إحضاره أم تعذّر و هو المشهور.

2- يجوز إذا كان الغائب في مسافة تقصر فيها الصلاة و هو قول ابن سعيد.

3- يجوز مطلقاً سواء كان الغائب عن مجلس الحكم، مسافراً أم حاضراً في البلد و لكن تعذّر حضور الحاضر فيه

في مجلس الحكم و هو كلام الشيخ في المبسوط.

أقول: ما اعتمد عليه الشيخ في الخلاف من حديثي امرأة أبي سفيان و أبي موسى الأشعري، غير تامي الدلالة و لو افترضنا صحّة سندهما.

أمّا الأوّل فقد أجاب النبيّ عن مسألة فقهية من دون أن يكون هنا نزاع و قضاء و أنّه يجوز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها و أما أنّ زوجته هل كانت صادقة

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 86.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 411.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 456

أو لا، و هل كانت لها بيّنة أو لا؟ فلم يكن هذا الأمر مطروحاً في زمن السؤال فالاستدلال به على مورد القضاء غير صحيح.

و أمّا ما رواه أبو موسى فمن المحتمل أنّ الخصمين حضرا عند النبيّ مرّة، و أنّ النبي سمع كلامهما و أقام المدّعي البيّنة غير أنّ النبيّ أخّر إصدار الحكم إلى موعد آخر، و مثل هذا لا يكون دليلًا لما لم يحضر أحد الخصمين مطلقاً عند القاضي. فانحصر الدليل لما روى من طريقنا و هو: صحيح جميل عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة و يباع ماله و يقضى عنه دينه و هو غائب و يكون الغائب على حجّته إذا قدم و لا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلا بكفلاء» «1» و هذه هي الحجّة الفريدة في المسألة و لكن تجب دراسة مقدار دلالتها على الجواز لكن بعد ملاحظة أمر، و هو:

أنّ القضاء كان أمراً دارجاً بين العقلاء قبل الإسلام و بعده و الأمر به في الروايات منصرفة إلى الصورة الدارجة بينهم و من المعلوم أنّ

القضاء نوع اجتهاد من القاضي في تشخيص الحقّ و هو فرع سماع كلام المتخاصمين عن كثب، ثمّ الاجتهاد في الوصول إلى الحقّ و هو لا يتحقق إلّا بحضورهما عند القاضي و الإدلاء بحجّتهما. هذا من جانب، و من جانب آخر، ربّما تقضى الضرورةُ القضاءَ على الغائب و لو أخّر القاضي القضاء يكون هناك ضرر على المترافع أضف إلى ذلك أنّه لو كانت الغيبة مسوِّغة لإيقاف القضاء، لسلك المتخلّف هذا الطريق و غاب عن أعين القاضي.

و مقتضى الجمع بين الأمرين هو الأخذ بالقول الوسط الذي لا تتجاوز عنه صحيحة جميل عن محمّد بن مسلم فإنّ قوله: «و يكون الغائب على حجّته إذا قدم» ظاهر في أنّ الخصم الآخر كان مسافراً و غائباً من البلد، لا حاضراً فيقتصر على الغائب عن البلد و من الغائب من تطول غيبته، بحيث يؤدي

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 26 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 457

تأخير الحكم إلى تضرّر المدّعي فيحكم عليه بأخذ الكفيل كما في الرواية إذ من المحتمل أن يكون للمنكر حجّة في الخروج عن الدين المدّعى عليه، فمقتضى الجمع بين الحقّين، هو الدفع من ماله بشرط أخذ الضامن.

و يلحق بالمسافر، مجهول المكان، أو الحاضر المتواري في بيوت البلد الهارب من القضاء عليه، بإلغاء الخصوصية و أمّا الغائب الذي سيعود إلى البلد، أو الحاضر المستعدّ للحضور عند القضاء فلا تعمّه الروايات لا دلالة و لا ملاكاً و ما قاله ابن شبرمة من أنّه يحكم على الغائب و إن كان خلف حائط فليس بشي ء و لعل خيرة الشيخ في المبسوط أقرب من جميع الأقوال و الأقرب منه ما ذكرناه.

و

الفرق بين ما ذكره في المبسوط و ما ذكرناه هو أنّه إن جوَّز في المسافر مطلقاً و في الحاضر إذا تعذّر، و نحن نخص الجواز بالمسافر الذي تطول غيبته بحيث تورث الضرر على المدّعي.

و لعلّ ما روي عن أبي البختري عن علي «لا يقضى على غائب» «1» محمول على من لا تطول غيبته، أو يسهل إعلامه للحضور.

ثمّ إنّ موضع النصوص ما إذا كان هناك جحود و إنكار و أمّا لو كان هناك اعتراف بكونه مديوناً، فلا موضوع للقضاء فليس عليه إلّا الصبر إلّا إذا كان ضرريّاً أو حرجياً، فيرجع إلى الحاكم و هو يقوم بواجبه.

و في نهاية المطاف نقول: ربّما يستدلّ في المقام بصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كان علي عليه السلام يقول: لا يحبس في السجن إلّا ثلاثة: الغاصب و من أكل مال اليتيم ظلماً و من ائتمن على أمانة فذهب بها و إن وجد له شيئاً باعه غائباً كان أو شاهداً». 2 و لا صلة لها بما نحن فيه. إذ لا نزاع فيها بين الشخصين و قد ثبت الموضوع لدى القاضي بنحو من الأنحاء و لعلّهما ترافعا إليه و حكم على

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 26 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 24.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 458

المدّعى عليه بشهادة أنّه سجنه و عندئذ يجوز بيع ماله و هو في السجن.

المسألة الثانية: يقضى على الغائب في حقوق الناس دون حقوق الله
اشارة

يظهر من كلام غير واحد من الأصحاب من أنّ القضاء على الغائب مختصّ بحقوق الناس و لا يعمّ حقوق الله. قال المحقّق: يُقضى على الغائب في حقوق الناس كالديون و العقود و لا يقضى في حقوق الله كالزنا و اللواط.

و علّله المحقّق بأنّ الأُولى غير مبنيّة على التخفيف بخلاف الثانية.

أقول: هنا بحثان:

الأوّل: في عموم الحكم لمطلق حقوق الناس.

الثاني: ما هو الوجه لعدم شموله لحقوق الله؟

أمّا الأوّل، فنقول الحكم على الغائب على خلاف الأصل فيقتصر على موضع النصّ و هو الديون. حيث قال: «يقضى عنه دينه» فإسراء الحكم إلى مطلق حقوق الناس مثلًا إذا أقام البيّنة على أنّ رجوعه إلى زوجته المطلّقة كان في أيام العدّة، أو أنّ المال المعيّن عنده رهن للدين المحرز، يحتاج إلى دليل و ليس إلّا ادّعاء إلغاء الخصوصية بين الدين و سائر الحقوق فلو ساعده العرف و إلّا فللتوقّف مجال.

و أمّا عدم شمولها لحقوق الله كالحدود، فليس الوجه ما ذكره المحقّق و أوضحه صاحب المسالك و غيره من أنّ حقوق الله مبنية على التخفيف، و ذلك لأنّ ابتنائها عليه لا يدلّ على الإغماض إذا ثبتت حسب الموازين كما في صورة إقامة البيّنة عليها، بل الوجه ما ذكرنا من اختصاص الدليل بحقوق الناس، كما عرفت.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 459

نعم عدّ الزنا و اللواط من حقوق الله مطلقاً قابل للتأمّل بل ربّما يكون من حقوق الناس كما إذا ادّعت المرأة أنّ رجلًا زنا بها عن عنف أو ادّعى ولي الصغيرة انّ رجلًا زنا بها فيأتي ما ذكره الأصحاب في مثل السرقة.

إذا كان الحكم مشتملًا على حقّين

قال المحقّق: و لو اشتمل الحكم على الحقّين قُضي بما يخصّ الناس كالسرقة يقضى بالغرم و في القضاء بالقطع تردّد «1» و لكن غيره لم يتردّد في عدم الثبوت قال في المسالك: و باقي الأصحاب قطعوا بالفرق و انتفاء القطع نظراً إلى وجود المانع من الحكم بأحدهما دون الآخر. «2»

و التعبير بوجود المانع غير

جيّد بل الأولى التحليل بفقد المقتضي، لما عرفت من عدم الدليل.

و لعلّ وجه تردّد المحقّق في التفريق بين الغرم و القطع لأجل أنّهما معلولا علّة واحدة و هو ثبوت السرقة و المفروض ثبوتها فلا وجه للتبعيض.

و ربّما يجاب عنه بأنّ العلل الشرعية معرّفات لا علل حقيقيه و هو و إن كان صحيحاً، لكنّه لا يدفع الإشكال لأنّه إذا جعل شي ء موضوعاً للحكمين فإثبات أحدهما دون الآخر، يرجع إلى التناقض في الاعتبار و هو لا يصدر عن العاقل.

و الأولى أن يقال: إنّ وجود الدليل في القضاء على الغائب في حقوق الناس دون غيرها يكشف عن كون الموضوع للغرم هو ثبوت السرقة و للقطع هو الثبوت بحضور المدّعى عليه، فليس الموضوع واحداً.

______________________________

(1) نجم الدين الحلي، شرائع الإسلام: 4/ 86.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 412.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 460

المسألة الثالثة: لو كان صاحب الحقّ غائباً، و له وكيل فطالب الوكيل الغريمَ فادّعى الغريمُ التسليمَ إلى نفس الموكّل

فلو أقام البيّنة على التسليم فلا كلام، إنّما الكلام إذا ادّعى التسليم و ليست له بيّنة قال المحقّق ففي الإلزام تردّد.

1- الوقوف في الحكم، لاحتمال الأداء.

2- الحكم و إلغاء دعواه لأنّ التوقّف في الحكم يؤدّي إلى تعذّر طلب الحقوق بالوكلاء.

ثمّ قال المحقّق: و الأوّل أشبه و الظاهر أنّ مراده من الأوّل هو أوّل الوجهين فينطبق على التوقف في الحكم، لكن صاحب المسالك و تبعه صاحب الجواهر فسّره بالإلزام الوارد في قوله: ففي الإلزام، لكنّه خلاف الظاهر.

و لا بدّ من فرض المسألة فيما إذا كان وكيلًا في إقامة الدعوى و إلّا فليس له ذلك الحقّ.

و الظاهر: أنّ الوجه الثاني في كلامه أشبه و ذلك لأنّ الوكيل في إقامة الدعوى بمنزلة نفس الموكّل، فكما أنّه لا يسمع الدفع إليه بعد الاعتراف بأصل الدين،

فهكذا المقام. و على ذلك فغاية الأمر أنّ لمدّعي الدفع، حلفاً على الوكيل و حلفاً على الموكّل. أمّا الأوّل فإن ادّعى علم الوكيل بالدفع و انكر، يحلّف الوكيل على عدم العلم، و إلّا فيسقط إحلافه لاتّفاقهما على عدم علمه بالدفع. و أمّا الثاني فهو ما إذا جاء فإن اعترف بالأخذ يرجع الدافع إلى الوكيل و إن أنكر و حلف، فهو و إن نكل عن اليمين أو أقام الدافع البيّنة استعيد المال. و الأحوط أخذ الضامن عند الدفع إلى الوكيل كما مرّ في الدعوى على الغائب لوحدة الملاك و إن كانت المسألتان مختلفتين موضوعاً لأنّ الغائب فيما سبق من عليه الحكم و في هذه المسألة من له الحكم و لكن الملاك واحد.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 461

المقصد الرابع: في كيفيّة الاستحلاف

اشارة

و فيه بحوث ثلاثة:

البحث الأوّل: في اليمين و أحكامها
و قبل الخوض في المقصود نذكر أقسام اليمين الوارد في الكتاب و السنّة:
الأوّل: اليمين لجلب تصديق المخاطب لما يقوله الحالف

كأن يقول: «و الله كان الأمر كذا و كذا».

الثاني: الحلف على فعل شي ء أو تركه

كأن يقول: و الله لأفعلنّ كذا أو لا أفعلنّ كذا.

الثالث: اليمين اللغو و هو الذي لا يقصد صاحبه منها شيئاً

كقوله: لا و الله بلى و الله.

الرابع: الحلف في مقام المرافعة.
اشارة

و تحقيق الكلام يتوقّف على البحث في مقامين:

1- حكم الحلف بغير الله تكليفاً في المواضع الأربعة.

2- حكم الحلف بغير الله وضعاً أي في إيجاب الحقّ و إسقاطه.

و إن كان البحث عن المقام الأوّل في كلمات الأصحاب جانبياً، غير أنّ المحقّق النراقي، طرحه مستقلًا، كما بحث عنه الآشتياني كذلك أمّا الأوّل فلنذكر كلمات الفقهاء.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 462

المقام الأوّل: حكم الحلف بغير الله تكليفاً
اشارة

أمّا فقهاء أهل السنّة فالمعروف بينهم هو الكراهة إلّا الحنابلة فإنّهم يذهبون إلى الحرمة. قالوا:

«لا ينعقد اليمين بغير الله تعالى كالحلف بالنبيّ و الكعبة و جبريل و الوليّ و إذا قصد الحالف بذلك إشراك غير الله معه في التعظيم، كان ذلك شركاً، و إذا قصد الاستهانة بالحلف بالنبيّ كفر، أمّا إذا لم يقصد شيئاً من ذلك، بل قصد اليمين ففي حكمه تفصيل في المذاهب».

الحنفية قالوا: يكره الحلف بنحو أبيك و لعمرك و نحو ذلك.

الشافعية قالوا: يكره الحلف بغير الله تعالى، إذا لم يقصد شيئاً ممّا ذكر.

المالكية قالوا: الحلف بمعظم كالنبي و الكعبة و نحوهما فيه قولان: الحرمة و الكراهة، و المشهور الحرمة.

و قال الحنابلة: و يحرم الحلف بغير الله تعالى و صفاته و لو نبيّ أو ولي. «1»

و قال القسطلاني: المشهور عند المالكية الكراهة و عند الحنابلة التحريم و جمهور الشافعية أنّه للتنزيه و قال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة و قال: غيره بالتفصيل، فإن اعتقد فيه من التعظيم ما يعتقده في الله، حرم و كفر بذلك الاعتقاد، و إن حلف لاعتقاد تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر. «2»

و أمّا فقهاء الشيعة فقد اختلفت كلماتهم في الجواز و المنع و إليك بعض نصوصهم:

قال الشيخ في المبسوط:

تكره اليمين بغير الله كاليمين بالمخلوقات: النبي،

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 1، كتاب اليمين، ص 75.

(2) القسطلاني: إرشاد الساري، الجزء التاسع، ص 358.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 463

و الكعبة و نحوها و كذلك بالآباء كقوله: و حقّ أبي، و حقّ آبائي و نحو ذلك كلّ ذلك مكروه.

و روي أنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «لا تحلفوا بآبائكم و لا بالأنداد، و لا تحلفوا إلّا بالله و لا تحلفوا إلّا و أنتم صادقون».

و روي أنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم سمع عمر بن الخطاب يحلف بأبيه فقال النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» قال عمر: فوالله ما حلفت بها بعد، ذاكراً و لا أثراً يعني و لا رواية عن غيري و حكاية عنه.

و روي عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «من حلف بغير الله فقد أشرك و في بعضها فقد كفر بالله».

و قيل في قوله: «فقد أشرك» تأويلان: أحدهما الشرك الحقيقي و هو أن يعتقد تعظيم ما يحلف به و يعتقده لازماً كاليمين بالله فمن اعتقد بهذا فقد كفر و التأويل الثاني لا يكفر به و هو أن يشارك في اليمين فيحلف بغير الله كما يحلف بالله.

و قوله: «فقد كفر» لا تأويل له غير الكفر الحقيقي و أن يعتقد تعظيم ما يحلف به كما يعتقده في الله تعالى ذكره. «1»

أقول: الظاهر أنّه لا حاجة إلى التأويلين، أمّا النهي عن الآباء فكانت قضية خارجية كان آباؤهم مشركين فالحلف بهم، كان تعظيماً للشرك فنهى عنه بقوله: «لا تحلفوا بآبائكم و لا بالأنداد» يريد من

الأنداد، الأوثان و الأصنام.

و أمّا النهي عن الحلف بغير الله فالظاهر هو الحلف بالآلهة المكذوبة للعرب فإنّ الحلف بها كاشف عن كون الحالف معتقداً بعظمتها و ليس معنى لها إلّا الاعتقاد بأنّها الآلهة و الأنداد. قال سبحانه: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّٰهِ

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 6، كتاب الإيمان، ص 192191.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 464

أَنْدٰاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّٰهِ) (البقرة/ 165). «1»

و على كلّ تقدير فحكم الحلف بغير الله عند الشيخ هو الكراهة كما صرّح به في بدء كلامه.

2- قال المفيد: و لا يجوز أن يحلف الإنسان برسول الله و لا بأمير المؤمنين و لا بأحد من الأئمّة فإن حلف بواحد ممّن ذكرناه فقد أخطأ و عليه أن يفي بما حلف إلّا أن يكون باطلًا أو غيره أفضل منه و إن لم يف فليستغفر الله عزّ و جلّ و لا كفارة عليه. «2»

3- قال ابن البرّاج: اليمين الشرعيّة عند أهل بيت رسول الله لا تكون إلّا بالله أو بأحد أسمائه و كلّ يمين كانت بغير ما ذكرناه فليست يميناً صحيحة و لا يستقرّ لها حكم من حنث و لا كفارة فلو حلف بالنبي أو بالكعبة أو بما أشبه ذلك من المخلوقات كلّه أو بالبراءة من الله تعالى أو من النبيّ أو الأئمّة أو أحدهم أو من القرآن أو ما يجري مجرى ذلك لم يكن يميناً صحيحة. «3»

و كلامه ظاهر في المقام الثاني أي اليمين لفصل الخصومة و لعلّ الذيل دالّ على حكم المقام الأوّل أيضاً أي عدم الحرمة تكليفاً فإنّ نفي الصحّة دليل على الجواز التكليفي، فتأمّل.

4- قال يحيى بن سعيد: فإن حلف بالكعبة و النبي صلَّى الله

عليه و آله و سلَّم و المسجد أثم و لم ينعقد يمينه و كذلك سائر المخلوقات. «4»

5- و قال المحقّق: و لا يجوز الإحلاف بغير أسماء الله سبحانه كالكتب المنزّلة و الرسل المعظّمة و الأماكن المشرّفة ... «5» و هل يريد عدم الاعتداد بالحلف بها و عدم صحّتها و جواز الفعل في نفسه كما استظهره في المسالك أو يريد الحرمة التكليفية؟

______________________________

(1) لاحظ البقرة: 22، إبراهيم: 30، سبأ: 33، الزمر: 8، فصلت: 5.

(2) المفيد، المقنعة، كتاب الأيمان: 558.

(3) ابن البرّاج، المهذّب: 2، كتاب الأيمان، 403.

(4) ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 415.

(5) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 876.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 465

6 و قال العلّامة: و كذا لا ينعقد بالطلاق و لا بالعتاق و لا بالظهار و لا بالتحريم و لا بالكعبة و لا بالمصحف و لا بالنبي. «1»

7- قال العلّامة في التحرير: و لا يجوز الإحلاف بشي ء من ذلك لأنّه بدعة و كذا لا يجوز بالقرآن و لا بالبراءة من الله و لا من رسوله و لا من أحد من الأئمة .... «2»

8- قال الشهيد عند التعليق على قول المحقّق: «و لا يجوز الإحلاف بغير أسماء الله» و المراد بعدم الجواز هنا بالنظر إلى الاعتداد به و في إثبات الحقّ أمّا جواز الحلف في نفسه بمعنى عدم الإثم به ففيه وجهان: من إطلاق الأخبار المنهي عنه المقتضي للتحريم و من إمكان حمله على الكراهة. «3»

9- و قال في الجواهر: الانصاف عدم وجه معتدّ به للتردّد في ذلك (الحلية) خصوصاً بعد السيرة المستمرّة في سائر الأعصار و الأمصار من العلماء و العوام من القسم بغير الله في نحو ذلك. «4»

10

قال السيّد الطباطبائي: يظهر من جملة من الأخبار أنّ الحلف بغير الله مضافاً إلى عدم الأثر عليه في قطع الدعوى و وجوب الكفارة، يكون حراماً مطلقاً، بل أسنده في المستند إلى الأشهر بين الطائفة قال: بل قيل إنّه مقتضى الإجماعات المنقولة و صرّح به جماعة منهم المحقّق الأردبيلي و صاحب المفاتيح و شارحه و بعض مشايخنا المعاصرين، لكن يظهر من صاحب الجواهر عدم القائل بالحرمة حيث إنّه بعد نقل الأخبار الدالّة على المنع قال: «و لذا تردّد بعضهم في أصل جواز الحلف بغير الله تعالى لكنّه في غير محلّه للسيرة القطعية على جوازه مضافاً إلى الأصل و وجوده في النصوص» ثمّ نقل جملة من الأخبار المشتملة على حلف بعض الأئمّة عليهم السَّلام و بعض الأصحاب في حضور الإمام عليه السلام بغير الله «قلت» و الأقوى عدم الحرمة كما قال (و) لما قال، فالأخبار المانعة محمولة على الكراهة و يشعر بها اشتمال

______________________________

(1) العلّامة الحلي، إرشاد الأذهان: 2/ 85.

(2) الجواهر: 40/ 227، نقلًا عن التحرير.

(3) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 412.

(4) الجواهر: 40/ 228.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 466

بعضها على قوله عليه السلام: «و لو حلف الناس بهذا و أشباهه لترك الحلف بالله» و يمكن حمله على محامل أُخر. هذا، و أمّا مثل قوله: سألتك بالقرآن أو بالنبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أو بأمير المؤمنين عليه السلام أن تفعل كذا، فلا إشكال في عدم حرمته لأنّه ليس حلفاً بل هو من باب الاستشفاع و التوسيط. «1»

1- 1 و قال السيّد الاصفهاني: الأقوى أنّه يجوز الحلف بغير الله و إن لم يترتّب على مخالفته إثم و لا كفارة

كما أنّه ليس قاطعاً للدعاوي و المرافعات. «2»

إذا وقفت على الأقوال فالحق، ما أفاده السيّد الاصفهاني، لدلالة لفيف من الروايات على الجواز فقد حلف الإمام بقرابته من رسول الله «3» و بيت الله الحق 4 و حلف الراوي بحضرته بحقّ رسول الله 5 و حقّ الإمام 6 و حياته. 7

ثمّ إنّ في الأحاديث النبوية، و كلمات الإمام علي عليه السلام حلفاً بغير الله كثيراً نذكر منه ما يلي:

الحلف بغير الله في الحديث النبوي

1- «جاءَ رَجُلٌ إلَى النّبيّ فقال: يا رَسُولَ اللّهِ أَيُّ الصّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْراً؟ فَقالَ: أَما وَ أَبِيكَ لَتُنَبَّأنَّهُ: أَنْ تَصَدَّقَ وَ أَنْتَ صَحيحٌ شَحيحٌ تَخشَى الفَقْرَ وَ تَأملُ الْبَقاء». 8

2- «جاءَ رَجُلٌ إِلى رَسُولِ اللّهِ مِنْ أَهْلِ نَجْد، يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ، فَقالَ رَسُولُ اللّهِ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم: خَمْسُ صَلَوات فِي الْيَوْمِ وَ اللَّيْلِ، فَقالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرَهُنَّ؟ قالَ: لا،

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 200.

(2) الاصفهاني، الوسيلة: كتاب الايمان و النذور، ص 205.

(3) 3- 7 الوسائل: الجزء 16، الباب 31 من أبواب الايمان، الحديث 7، 8، 6، 1، 14.

(4) 8 صحيح مسلم، كتاب الزكاة، الجزء 3، باب أفصل الصدقة، ص 94.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 467

إِلّا أَنْ تَطَوَّعَ، و صِيامُ شَهْرِ رَمضان، فقال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قال: لا، إلّا انْ تَطَوَّعَ، وَ ذكَرَ لَهُ رَسُولُ اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم الزّكاةَ فقالَ: هَلْ عَليّ غَيْرُها؟ قال: لا، إلّا أنْ تَطوَّعَ، فأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَ هُوَ يَقُولُ وَ اللّهُ لا أَزِيدُ عَلى هذا وَ لا أَنقُصُ مِنْهُ، فقالَ رَسُولُ اللّهِ: أَفْلَحَ وَ أَبِيهِ إِنْ صَدَقَ. أَوْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَ أَبِيهِ إِنْ صَدَقَ». «1»

3- «فَلَعَمْري لإِنْ تَكَلَّمَ

بِمَعْرُوف وَ تَنْهى عنْ مُنْكَر خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَسْكتَ». «2»

4- «فَلٰعَمْري مَنْ أَكَلَ بُرقية باطِل، لَقَدْ أَكَلت بُرقية حَقّ». «3»

5- «فَلَعَمْري ما أَتَمَّ اللّهُ عَزَّ وَ جَلَّ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفا وَ المَرْوَةِ». «4»

6- «وَ لَعَمْري لَوْ أَنَّ كُلَّكُمْ صَلّى في بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيّكُمْ». «5»

الحلف بغير الله في الحديث العلوي

7- «وَ لَعَمْري ما عَلَيَّ مِنْ قِتال مَنْ خالَفَ الْحَقَّ ... مِنْ إدْهان وَ لا إيهان». «6»

8- «وَ لَعَمْري لَوْ كُنّا نَأْتي ما آتَيْتُمْ، ما قامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ». «7»

9- «وَ لَعَمْري ما تَقادَمَتْ بِكُمْ وَ لا بِهِمُ الْعُهُودُ». «8»

10 «وَ لَعَمْري لَئِنْ كانَتِ الإمامَةُ لا تَنْعَقِدُ حَتّى تَحْضُرَها عامَّةُ النّاسِ، فَما إلى ذلِكَ مِنْ سَبِيل». «9»

______________________________

(1) صحيح مسلم، الجزء الاوّل، باب ما هو الإسلام و بيان خصاله، ص 32.

(2) مسند احمد بن حنبل: 5/ 225.

(3) مسند احمد بن حنبل: 5/ 211.

(4) سنن ابن ماجة: 4/ 995.

(5) سنن ابن ماجة: 1/ 255.

(6) نهج البلاغة: الخطبة 23.

(7) نهج البلاغة: الخطبة 56.

(8) نهج البلاغة: الخطبة 85.

(9) نهج البلاغة: الخطبة 161.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 468

11 «لَعَمْري يَهْلِكُ في لَهَبِهَا الْمُؤْمِن». «1»

2- 1 «فَلَعَمْري لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيد». «2»

3- 1 «وَ لَعَمْري يا مُعاوِيَةُ، لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَواكَ، لَتَجِدَنّي أَبْرَأ الناسِ مِنْ دَمِ عُثْمان». «3»

4- 1 «وَ لَعَمْري لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ وَ شِقاقِكَ». «4»

5- 1 «وَ لَعَمْري ما كُنْتُما بِأَحَقّ المُهاجِرينَ بِالتَّقِيَّةِ وَ الكِتْمانِ». «5»

أدلّة القول بالتحريم

قد تعرّفت على القول بالحرمة من خلال الكلمات المنقولة، و نقل عن المستند أنّه اختار القول بالتحريم و لم أقف على كلامه بعد الفحص حتّى أنّ الشيخ الآشتياني ردّ دلالة السيرة المستمرّة على الحلف بغير الله التي استدل بها صاحب الجواهر على الجواز بالأخبار الناهية و قال: و قد يستدلّ على الجواز بالسيرة المستمرّة من زماننا إلى زمان الأئمّة و النبي عليهم السَّلام و في هذا الاستدلال نظر لا يخفى وجهه و قد ذكر في التعليقة بأنّ الأخبار الناهية صالحة للردع. «6»

فإذا كانت الأخبار

بهذه المثابة فلا محيص من نقلها و دراستها و تقييم دلالتها على الكراهة أو الحرمة، أو نفي الحكم الوضعي من عدم كفايتها في إيجاب الحقّ، أو إسقاط الواجب أو عدم ثبوت الكفّارة فلا يمكن الحكم و القضاء فيها إلّا بالإمعان فيها. فنقول:

1- روى على بن مهزيار قال قلت: لأبي جعفر الثاني عليه السلام قول الله عزّ و جلّ (وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ* وَ النَّهٰارِ إِذٰا تَجَلّٰى) (الليل/ 1 و 2) و قوله عزّ و جلّ: (وَ النَّجْمِ

______________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 168.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 182.

(3) نهج البلاغة: الخطبة 187، (القاصعة).

(4) نهج البلاغة: الرسالة/ 9.

(5) نهج البلاغة: الرسالة/ 54.

(6) الآشتياني، القضاء: 169.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 469

إِذٰا هَوىٰ) (النجم/ 1) و ما أشبه هذا فقال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ يُقْسِم من خلقه بما شاء و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به عزّ و جلَّ». «1»

2- روى الحسين بن زيد عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في حديث المناهي أنّه نهى أن يحلف الرجل بغير الله و قال: «من حلف بغير الله فليس من الله في شي ء و نهى أن يحلف الرجل بسورة من كتاب الله عزّ و جلّ و قال: من حلف بسورة من كتاب الله فعليه بكل آية منها كفارة يمين فمن شاء برّ و من شاء فجر و نهى أن يقول الرجل للرجل لا و حياتك و حياة فلان». 2

3- روى محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام قول الله عزّ و جلّ: (وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ) (وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ) و ما أشبه ذلك فقال:

إنّ لله عزّ و جلّ أن يقسم من خلقه بما شاء و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به. 3

4- روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا أرى للرجل أن يحلف إلّا بالله فأمّا قول الرجل لا أب لشانيك فإنّه قول أهل الجاهلية و لو حلف الناس بهذا أو أشباهه لترك الحلف بالله». 4

5- و روى سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثله أيضاً. 5

6- روى العياشي في تفسيره عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله (وَ مٰا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّٰهِ إِلّٰا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف/ 106) قال: «من ذلك قول الرجل: لا و حياتك». 6

7- و روى عن أبي جعفر عليه السلام: «شرك طاعة، قول الرجل لا و الله و فلان». 7

8- و عن العلاء قال: سألته عن قوله: (فَلٰا أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ النُّجُومِ) (الواقعة/ 75) قال: «عظم إثم من حلف بها». 8

______________________________

(1) 1- 3 الوسائل: الجزء 16، الباب 30 من أبواب الأيمان، الحديث 1، 2، 3.

(2) 4- 8 الوسائل: الجزء 16، الباب 30 من أبواب الأيمان، الحديث 4، 5، 11، 12، 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 470

9 روى العياشي عن محمّد بن مسلم: كل يمين بغير الله فهي من خطوات الشيطان. «1»

10 روى عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل حلف أن ينحر ولده قال: «هذا من خطوات الشيطان» و قال: «كلّ يمين بغير الله فهي من خطوات الشيطان». 2

1- 1 روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألت قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللّٰهَ كَذِكْرِكُمْ آبٰاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) قال: «إنّ أهل الجاهلية

كان من قولهم كلّا و أبيك، و بلى و أبيك فأمروا أن يقول: لا و الله و بلى و الله» 3

هذه هي الروايات الناهية، و لعلّ هنا ما يؤيدها تحريماً أو كراهة. إلّا أنّ الشأن في تركيزها على موضوع واحد و يمكن أن يقال:

إنّ النهي في الحديث الأوّل و الثالث و الثامن لأجل أنّ الحلف بالأجرام السماوية مظنّة الشرك فالنهي عنها نهياً تحريمياً أو تنزيهياً، لا يكون دليلًا على حرمة الحلف بسفير التوحيد و مبلّغه و آله الأطهار.

و أمّا الحديث الثاني فهو معرض عنه إذ لم يقل أحد بالكفارة فيما إذا حلف بسورة من كتاب الله ثمّ خالف، مضافاً إلى ما في سنده من الضعف.

و أمّا التاسع و العاشر، فهما محمولان على الحلف بأمر محرّم كنحر الولد، أو الطلاق و العتاق و صدقة ما يملك و يشهد على ذلك ورود قوله: «كلّ يمين بغير الله فهي من خطوات الشيطان» في مورد الحلف على العتاق و الطلاق. 4

و ما بقي من الروايات يحمل على الكراهة خصوصاً ما ورد من النهي على الحلف بالآباء، و لعلّه قضية خارجية، لا حقيقية و سبب النهي، كون آباؤهم مشركين.

______________________________

(1) 1- 3 الوسائل: الجزء 16، الباب 15 من أبواب الأيمان، الحديث 4، 5، 6.

(2) 4 الوسائل: الجزء 16، الباب 14 من أبواب الأيمان، الحديث 3، 4، 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 471

المقام الثاني: حكم الحلف بغير الله وضعاً

اتّفقت كلمتهم على أنّه لا يستحلف لإيجاب الحقّ أو إسقاطه إلّا بالله تعالى شأنه و أنّ الحلف بغير الله، لا يثبت حقّاً، و لا يسقطه و إليك نصوصهم:

1- قال المفيد: و لا يستحلف بغير أسماء الله عزّ و جلّ. «1»

2- قال ابن البرّاج:

استحلف بالله الذي لا إله إلّا هو أو بشي ء من أسمائه و لا يجوز استحلافه بغير ذلك. «2»

3- و قال ابن حمزة: و لا يمين بغير الله تعالى و بغير أسمائه الحسنى و صفاته العلياء». «3»

4- و قال ابن سعيد: و اليمين إنّما يكون بالله و أسمائه الخاصّة. «4»

5- و قال العلّامة: و لا ينعقد اليمين الموجبة للبراءة من الدعوى إلّا بالله تعالى. «5»

6- و قال: و لا يصحّ اليمين إلّا بالله تعالى «6»، إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة.

و تدلّ على عدم الاعتداد روايات:

1- روى سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «في كتاب علي عليه السلام إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أشهد؟ قال: فأوحى

______________________________

(1) المفيد، المقنعة: 731.

(2) ابن البرّاج، المهذّب: 2/ 589.

(3) ابن حمزة، الوسيلة: 228.

(4) ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 525.

(5) السيد العاملي: مفتاح الكرامة: 10/ 96، قسم المتن.

(6) العلّامة الحلي، إرشاد الأذهان: 2/ 145.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 472

الله إليه: احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلى اسمي فحلِّفهم به». «1»

2- روى سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا يُحلّفُ الرجل اليهودي و لا النصراني و لا المجوسي بغير الله». «2»

3- روى جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لا يُحلّف بغير الله، و قال: اليهودي و النصراني و المجوسي لا تحلِّفوهم إلّا بالله عزّ و جلّ. 3

4- روى سماعة عن أبي عبد الله قال: سألته هل يصلح لأحد أن يُحلِّف أحداً من اليهود و النصارى بآلهتهم؟ قال: «لا يصلح لأحد أن يحلِّف أحداً إلّا بالله عزّ

و جلّ». 4

5- روى الحلبي قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أهل الملل يُستَحلَفون فقال: «لا تُحلِّفوهم إلّا بالله عزّ و جلّ». 5

و الاستدلال، بغير الأُولى من الروايات الواردة في أهل الكتاب، مبنيّ على ظهورها في كون المضمون حكم الله المشترك بين الناس.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر لخلطه بين المقامين السابقين استدلّ ببعض الروايات التي لا مساس له بالمقام كرواية محمّد بن مسلم و صحيح الحلبي و النبوي 6 فانّها ناظرة إلى المقام الأوّل.

و هذه الروايات دلّت على أنّ أتباع الشرائع كلّهم كالمسلمين يُحلفون بالله، إنّما الكلام في المنكر للصانع فهل يحلَّف به أو لا؟ قال في المبسوط: و إن كان وثنياً

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) 2- 5 الوسائل: الجزء 16، الباب 32، الحديث 1، 2، 3، 5. و قد روى الحرّ العاملي، عن الحلبي في ذلك الباب روايات ثلاثة كان الجميع رواية واحدة فلاحظ الرقم 3، 6، 14 من الباب 32 من أبواب الأيمان.

(3) 6 الجواهر: 40/ 227؛ لاحظ الوسائل: الجزء 16، الباب 30، الحديث 3، 4؛ المستدرك، الباب 24 من كتاب الأيمان، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 473

معطِّلًا أو كان ملحداً يجحد الوحدانية لم يُغلَّظ عليه باللفظ و اقتصر على قوله: «و الله» فإن قيل كيف حلّفته بالله و ليست عنده يميناً، ليزداد اثماً و يستوجب العقوبة «1» و اختاره السيّد الطباطبائي مستدلًا بالإطلاقات التي مقتضاها عدم الفرق في الكفّار بين من يعتقد بالله و من يجحده. «2»

أقول: يجب أن يكون مفروض الشيخ المعاهد الذي لا يجوز التعرّض لنفسه و ماله، و إلّا فلو كان محارباً فلا

حرمة لنفسه فضلًا عن ماله فيجوز أخذ حقّه منه من دون إقامة الدعوى و إحلافه. نعم لو كانت الظروف لا تساعد على ذلك فلو أقام الدعوى عليه فإن أقام البيّنة أو اعترف الكافر، و إلّا فيسقط الحلف و ذلك لأنّ الغاية منه إيجاد الردع في الحالف حتّى يستعظم الإله و يرتدع و لا يحلف كاذباً فإذا كان جاحداً لله سبحانه فالإحلاف يكون لغواً و ما ذكره الشيخ من أنّ الغرض من الإحلاف هو زيادة الإثم، فهو ليس غرضاً للشارع و لا للمحلِّف و الأولى القول بسقوط الحلف كما في سائر الموارد الّتي لا يتمكّن المدّعي من الإحلاف كالدعوى على الميّت.

ثمّ إنّ مقتضى الإطلاقات، كفاية الحلف بلفظ الجلالة من غير فرق بين المجوسي و غيره لكن قال الشيخ في المبسوط: إن كان مجوسياً حلف: و الله الذي خلقني و رزقني لئلا يتناول بالله وحده، النورَ فإنّه يعتقد النور إلهاً فإذا قال: خلقني و رزقني زال الإبهام و الاحتمال. «3»

و ما ذكره مخالف لمقتضى الإطلاق، أضف إليه أنّ لفظ الجلالة علم لخالق النور و الظلمة و لو افترضنا صحّة إطلاق الإله على النور و لكن لفظ الجلالة لا يطلق إلّا على الإله الأعلى عندهم الذي هو خالق النور و الظلمة و الآلهة ....

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 205، فصل في موضع اليمين.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 199.

(3) الطوسي، المبسوط: 8/ 205.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 474

ثمّ إنّ مقتضى بعض الروايات جواز حلف أهل الكتاب بغير لفظ الجلالة و هي:

1- ما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام إنّ أمير المؤمنين عليه السلام استحلف يهودياً بالتوراة التي أنزلت على موسى. «1»

2-

روى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السَّلام سألته عن الأحكام فقال: في كلّ دين ما يستحلفون. 2 و الظاهر أنّ روايتي 3 محمّد بن مسلم رواية واحدة. كما أنّ روايتي السكوني، مع مرسلة الصدوق 4 متّحدتان.

و التعارض بين الطائفتين واضح، و حمل الطائفة الثانية على أنّه مخصوص بالإمام إذ رأى ذلك أردع لهم، أو على من يرى الحلف بذلك و لا يعتقد الحنث في الحلف بالله، أو المراد الحلف بمن أنزلها، أو الغلظ بذلك مع الحلف بالله، جمع تبرّعي لا يصار إليه.

و لعلّ المحقّق لمّا رآهما متعارضين، لا يرجّح أحدهما على الآخر أخذ بالقول بالتخيير في المقام و قال: «و لو رأى الحاكم إحلاف الذمّي بما يقتضيه دينه أردع جاز».

ثمّ إنّ نسبة هذه الروايات مع رواية سليمان بن خالد الأُولى و إن كان عموماً و خصوصاً مطلقاً لكن بالنسبة إلى غيرها متباينتان، لأنّ الموضوع في كلتا الطائفتين أهل الكتاب، و الترجيح مع الطائفة الأُولى إذ رواية السكوني في الطائفة الثانية تحكي الفعل و وجهه غير معلوم و قد عرفت أنّها بنفسها مرسلة الصدوق، بقيت رواية محمّد بن مسلم و هي لا تقابل ما سبق. فالأولى هو عدم الاكتفاء بغير المتيقّن. و بالجملة الروايات المانعة ترجّح على المجوّزه بكثرة عددها و علوّ شأن

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 16، الباب 32 من أبواب الأيمان، الحديث 4، 7، و لاحظ أيضاً 8، 9، 10.

(2) 3 المذكورتان في الوسائل: برقم 7 و 9 في الباب 32.

(3) 4 المذكورتان في الوسائل: برقم 4 و 10 في ذلك الكتاب.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 475

رواتها، و إعراض المشهور عن المجوّزة، و قد حقّقنا

في محلّه أنّ إعراض المشهور يسقط الرواية عن الحجّية.

هل المراد من الأخبار السابقة هو الحلف بلفظ الجلالة فقط أو يكفي ما يعادله في سائر اللغات بل يكفي الأسماء المختصّة كالخالق و الرازق و ربّما يؤيّد الثاني بأنّ المراد من الأخبار الحاصرة هو نفي الحلف بغيره سبحانه لا أن يكون بخصوص اللفظ و تؤيّده رواية سليمان بن خالد، من إيحائه سبحانه إلى أحد أنبيائه من إضافة اسمه، و الخالق و الرازق من اسمائه سبحانه و لأنّ الغاية هو الارتداع عن الحلف كاذباً و هو موجود في جميع الأسماء و قد عرفت أنّ المفيد صرّح بجواز الحلف بكل اسمائه و إن كان الأحوط هو التحليف بلفظ الجلالة، لا بغيره.

أُمور حول الاستحلاف
اشارة

ذكر المحقّق أُمورا حول الاستحلاف و أرسلها إرسال المسلّم فنذكرها واحداً تلو الآخر:

1- تقديم العظة على اليمين

قال يستحبّ تقديم العظة على اليمين و التخويف من عاقبتها.

استدلّ له بما ورد في الروايات من الآثار الموبقة لليمين الكاذبة. «1» و لكن لا صلة لها باستحباب تقديم العظة. و مثلها ما ورد من الأمر بالاحتياط في حقوق المسلمين، فإنّه لا يتجاوز عن كونه أمراً إرشادياً لا يثبت به استحباب العظة فلم يبق سوى ما ورد من رواية الحضرمي حيث ادّعى على كنديّ في أرض من اليمين، أنّه اغتصبها ابو الكندي فتهيأ الثاني لليمين فقال صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «لا يقتطع رجل مالًا بيمينه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 16، لاحظ الباب 4 من أبواب كتاب الايمان.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 476

إلّا لقى الله يوم يلقاه و هو أجذم فقال الكندي: هي أرضه «1» و في سنده ما لا يخفى و مثله دلالته إذ لعلّ النبيّ كان واقفاً على كذبه، فقدّم العظة حتّى يرتدع و لا يكون دليل على استحبابه مطلقاً، كما لا يخفى.

2- يكفي في رفع الخصومة مطلق اليمين

يكفي في رفع الخصومة و إنهائها مطلق اليمين لأنّ مقتضى إطلاق الأدلّة، هو كفاية الحلف بالجلالة و حسبه أن يقول و الله ماله قبلي حقّ قال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «البيّنة على المدّعي، و اليمين على المدّعى عليه». «2»

3- أسباب تغليظ اليمين

إنّ للتغليظ أسباباً مختلفة، فتارة يكون بالقول كما إذا قارن حلفه بالبراءة من حوله سبحانه و قوّته «3» و أُخرى بالمكان كالتحليف عند قبر النبي، و تحليف اليهود و النصارى في بيعهم و كنائسهم «4» و ثالثة بالزمان كما قوله: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) (المائدة/ 106).

قال الطبرسي: تحبسونهما من بعد صلاة العصر و هو المروي عن أبي جعفر إن ارتبتم في شهادتهما و خشيتم أن يكونا قد غيّرا أو بدّلا أو كتما أو خانا و الخطاب

______________________________

(1) البيهقي، السنن: 10/ 180.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1 و 4.

(3) الوسائل: الجزء 16، الباب 32، الحديث 31.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 21.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 477

في تحبسونهما للورثة و يجوز أن يكون خطاباً للقضاة فيحلفان بالله لا نشتري به ثمناً و لا نطلب بالحلف الثمن و لو كان المشهود له ذا قربى. «1»

4- هل الإحلاف باليمين المغلّظة مستحبّ للحاكم؟
اشارة

المشهور أنّ الإحلاف باليمين المغلّظة مستحب للحاكم استظهاراً للحكم: غير أنّ المهم وجود الدليل على الاستحباب قال الشهيد: هذا هو الحكم المشهور بين الأصحاب و ذكروا أنّه مروي و ما وقفت على مستنده. «2»

و قال العلّامة: «و ينبغي التغليظ بالقول في الزمان و المكان في الحقوق كلّها» «3» و لعلّه لأجل عدم وجود دليل خاص،

عبّر بلفظ «ينبغي» و لم يقل يستحبّ.

و قال السيّد الطباطبائي: لا خلاف و لا إشكال في أنّه يكفي في الحلف الاقتصار على قوله: «و الله ليس لفلان عليّ، كذا مثلًا» و لكن ذكروا انّه يستحب للحاكم التغليظ. «4»

و استدل له بروايات سبع:

1- منا ورد في تحليف الأخرس كما في صحيحة محمّد بن مسلم كتب أمير المؤمنين عليه السلام: «و الله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب و الشهادة، الرّحمن الرّحيم الطالب الغالب الضار النافع المهلك المدرك الذي يعلم السر و العلانية ...» «5» و الرواية مشتملة على حكم شاذ و هو القضاء على الممتنع عن الحلف من دون ردّه

______________________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 2/ 257.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 413.

(3) السيّد العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 99، قسم المتن.

(4) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 202، المسألة 7.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب 33 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 478

على المدّعي و مع ذلك، فخصوصية المورد كالأخرس تمنع عن إلغاء الخصوصية.

2- ما ورد في يمين الاستظهار كما في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله «و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فاقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلّا هو ... «1» و يرد عليه ما أورد على السابق من وجود خصوصية في المورد، لأنّ المدّعى عليه ميّت، و المدّعي حيّ و لعلّ المطلوب فيه التغليظ لأنّ المدّعى عليه لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

3- فعل علي عليه السلام في أهل الكتاب حيث كان يستحلف النصارى و اليهود في بيعهم و كنائسهم و المجوس في بيوت نيرانهم و يقول: شدّدوا عليهم احتياطاً للمسلمين. «2»

و يلاحظ

على الاستدلال بمثل ما تقدّم مضافاً إلى بُعد وجود بيوت النار في الكوفة في عصر الإمام عليه السلام.

4- 7 ما ورد في إحلاف الظالم من التغليظ في حديث صفوان الجمّال «3» و كلام الإمام في نهج البلاغة: «احلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنّه بري ءٌ من حول الله و قوّته». 4 و المروي عن الإمام الرضا عليه السلام. 5 و ما ورد في تحليف النبي عبد الله بن صوريا اليهودي على وجود حكم الرجم في التوراة 6 لكن استحباب التغليظ في مورد الظالم لا يكون دليلًا على استحبابه في عامّة الموارد. و مثله تحليف الحبر اليهودي، فإنّ حسّاسية الموقف الجأ النبي على تحليفه باليمين المغلّظة.

و لأجل ضعف الاستدلال قال صاحب الجواهر: لم يقف على عموم يقتضي استحبابه كذلك على كلّ أحد. و على ما ذكرنا فلا يستحبّ التغليظ إلّا في مورد

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(3) 3- 6 الوسائل: الجزء 16، الباب 33 من أبواب كتاب الإيمان، الحديث 1 و 2 و 3. مجمع البيان: 2/ 193 ط صيدا، تفسير الآية 41.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 479

النصّ فاحفظه ينفعك فيما يأتي.

5- التغليظ إلّا إذا كان المال دون نصاب القطع

لما اختار المحقّق استحباب التغليظ مطلقاً، استثنى منه صورة واحدة و قال: و يستحبّ التغليظ في الحقوق كلّها و إن قلّت، عدا المال فإنّه لا يغلّظ فيه بما دون نصاب القطع قال الشيخ: لا تغلظ اليمين بأقل ممّا يجب فيه القطع، و لا يراعى بلوغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة و به قال مالك و قال الشافعي: لا تغلظ بأقلّ ممّا

تجب فيه الزكاة إذا كانت يميناً في المال أو المقصود منه المال و إن كان يميناً في غير ذلك غلِّظ على كل حال و قال ابن جرير: يغلِّظ في الكثير و القليل ثمّ استدل بإجماع الفرقة. «1»

و يدلّ عليه خبر محمّد بن مسلم و زرارة عنهما عليهما السَّلام جميعاً قالا: لا يحلّف أحد عند قبر النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم على أقلّ ممّا يجب فيه القطع. «2»

6- الامتناع عن الإجابة إلى التغليظ

قال المحقّق: لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر و لميتحقّق بامتناعه نكول.

أقول: هنا مقامان:

الأوّل: هل تجب الإجابة على المنكر إذا دعاه القاضي إلى اليمين المغلّظة أولا؟

الثاني: هل يتحقّق النكول بالامتناع عن الحلف المغلّظ دون غيره أو لا؟

أمّا المقام الأوّل: فقال الشيخ: التغليظ بالمكان و الزمان استحباب دون أن

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب القضاء، المسألة 32.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 480

يكون ذلك شرطاً في صحّة الأيمان و وافقنا في الأزمان و الألفاظ الشافعي. و المكان على قولين: أحدهما مثل ما قلناه و الثاني انّه شرط. و استدل على مختاره بأنّ كونه شرطاً يحتاج إلى دليل و أيضاً قوله: اليمين على المدّعى عليه و البيّنة على المدّعي و لم يذكر الزمان و المكان و ما ذكرناه من الأدلّة محمول على الاستحباب. «1»

و قال العلّامة: «و لو امتنع الحالف من التغليظ لم يجبر عليه». «2»

و حكى عن كشف اللثام التفصيل بين التغليظ القولي فلا يجبر و التغليظ بالزّمان و المكان فيجبر عليهما.

فتلخّص أنّ الأقوال ثلاثة: 1 عدم الوجوب؛ 2 التفصيل بين الألفاظ و الأزمان فلا يجب و

الأمكنة فيجب التغليظ كما عليه الشافعي في بعض أقواله؛ 3 التفصيل بين الألفاظ فلا يجب و أمّا الأزمان و الأمكنة فيجب كما هو المحكي عن كاشف اللثام.

قد عرفت أنّ القول بالتغليظ لم يثبت إلّا في موارد ثلاثة، فلو قيل بالاستحباب للحاكم في خصوص تلك الموارد لكان له وجه و أمّا احتمال الوجوب للحالف فلا دليل على وجوبه فيها لكفاية مطلق الحلف في إنهاء الخصومة حسب مقتضى الإطلاقات و إلزام المدّعى عليه حتّى في الموارد التي ثبت جواز التغليظ، يحتاج إلى دليل.

و ربّما يستدلّ على وجوب الإجابة بأمرين:

1- إذا كان التغليظ مستحبّاً للحاكم، تجب الإجابة على الحالف و إلّا تلزم اللغويّة.

يلاحظ عليه: إنّما تلزم اللغويّة إذا كان الامتناع من جانب الحالف دائمياً،

______________________________

(1) الطوسي: الحلاف: الجزء 3، كتاب القضاء، المسألة 33.

(2) العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 99، قسم المتن.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 481

لا اتّفاقياً. فيكفي في رفعها أن لفيفاً من الحالفين، يصدرون عن التغليظ لداع من الدواعي و هذا يكفي في تشريع الاستحباب للحاكم على الوجه الكلّي.

2- الحلف حقّ للمدّعي فله أن يختار أيّ قسم من أقسام اليمين.

يلاحظ عليه: انّ الحلف حكم شرعيّ لرفع الخصومة و إنهاء النزاع و قد قلنا سابقاً، أنّ كون شي ء حقّاً يحتاج إلى ارضية تجعله حقّاً، كالسبق إلى مكان، فهو أحقّ به و ليس ادّعاء أحد على أحد، بلا شاهد و دليل، موجباً لكون المدّعي ذا حق على المدّعى عليه و ربّما يكون من حيث المكانة الاجتماعية أرفع منه بكثير. و لو لا حكم الشارع باليمين لخُلِّي المنكر سبيله، كما هو الحال في المحاكم العالميّة.

أمّا المقام الثاني فهو عبارة عن ثبوت النكول بالامتناع عن التغليظ فنقول:

إذا

امتنع عن الحلف المغلّظ، فهل يحكم عليه بالنكول أو إذا توقّف عنه و عن الردّ؟ مقتضى القاعدة هو الثاني كما سبق غير أنّه يمكن استظهار خلافه من روايتين:

احداهما: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله الواردة في حلف المدّعي على الميّت بعد إقامة البيّنة قال: «فإن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأُقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلّا هو لقد مات فلان و أنّ حقّه لعليه فإن حلف و إلّا فلا حقّ له ...». «1»

ثانيتهما: رواية محمّد بن مسلم في الأخرس كما مرّ. «2»

و مع ذلك كلّه ففي الاستدلال بهما على ثبوت النكول نظر أمّا الأُولى فلأنّ المدّعى عليه فيها ميّت، فليس بعد امتناع المدّعي عن الحلف إلّا إيقاف الدعوى إذ لا يمكن الردّ على الطرف المقابل فلا يكون الحكم بالنكول فيه دليلًا على غيره.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 33 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 482

و أمّا الرواية الثانية فقد مرّ احتمال أنّ الإمام ردّه على المدّعي و أنّه حلف، و عدم ذكره في الرواية، لأجل كونه خارجاً عن المقصد الأصلي لأنّه بصدد بيان كيفية حلف الأخرس، لا كلّ ما يرتبط بالواقعة.

أضف إلى ذلك: أنّ الناكل من يمتنع عن الحلف بتاتاً لا من يمتنع عن قسم خاص منه ففي صحيحة أبي أيّوب الخزاز عن أبي عبد الله عليه السلام: «من حلف بالله فليُصدَّق». و في حديث أبي حمزة عن رسول الله: «و لا تحلفوا إلّا بالله و من حلف بالله فليُصدَّق». «1»

فقد خرجنا بالنتائج التالية:

1- لم يثبت استحباب الإحلاف

باليمين المغلّظة إلّا في موارد خاصة.

2- لا يجوز جبر المدّعى عليه بها حتّى في الموارد التي ورد فيها الدليل.

3- لا يثبت النكول بالامتناع عنها.

7- هل تحلّ يمينه على ترك التغليظ باختيار الحاكم؟

لو حلف على أنّه لا يُغلِّظ يميناً و اختار الحاكم التغليظَ يقع الكلام في موردين:

1- هل تنعقد اليمين على ترك التغليظ أو لا؟

2- إذا صحّت يمينه فهل تحلّ باختيار الحاكم التغليظَ أو لا؟

أمّا الأوّل فالظاهر من الروايات الواردة في الأبواب الثلاثة الأُوَل من كتاب الأيمان، كون اليمين الصادق مكروهاً قال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «من أجلّ الله أن يَحلِف به أعطاه الله خيراً ممّا ذهب منه». «2» و قال الصادق عليه السلام: «لا تحلفوا بالله صادقين و لا

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 16، الباب 6 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث 13.

(2) الوسائل: الجزء 16، الباب 1 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 483

كاذبين» «1» الى غير ذلك من الروايات فإذا كان مطلق اليمين مكروهاً فالمغلَّظ أشدّ كراهة، و في تركها، أكثر إجلالًا له فتصحّ اليمين.

و ربّما أشكل على الانعقاد بوجهين:

1- إذا كانت إجابة الحاكم واجبة، يلزم الحلف على ترك الواجب.

يلاحظ عليه: أنّه لم يدلّ دليل على وجوب الإجابة و أقصى ما يمكن أن يقال، هو الوجوب الوضعي بمعنى أنّه لو تخلف عن الإجابة، يترتّب عليه أثره الوضعي من النكول و غيره، لا أنّه واجب عليه تكليفاً و قد مرّ نفي كلا الأمرين.

2- التغليظ مستحبّ، و اليمين على ترك المستحب، يمين على ترك الراجح فلا ينعقد.

يلاحظ عليه: بأنّ الثابت هو استحبابه على الحاكم، لا على الحالف بل المستحبّ عليه ترك الحلف و دفع ما ادّعى عليه إذا بلغ

مقدار ثلاثين درهماً. «2» و قد عرفت عدم المنافاة بين استحبابه عليه، و عدم وجوبه أو عدم استحبابه على المدّعى عليه و أنّه لا تلزم اللغوية.

و ما ربّما يقال من تصوير استحباب التغليظ في حقّ الحالف لأجل طروء عنوان خارجي عليه و هو الإجابة لالتماس المؤمن، فيكون الحلف على تركها مرجوحاً، غير تام.

لأنّه حلف على ترك اليمين المغلّظ، و هو في حدّ نفسه أمر راجح و لم يحلف على تركها سواء التمسها المؤمن أم لا، حتّى يقال إنّ مفاد الإطلاق، هو اليمين على ترك الراجح و قد قلنا في محلّه أنّ الإطلاق ليس إلّا رفض القيود لا الجمع بين القيود فاليمين المغلّظة بما هي هي مكروهة و قد حلف على تركها، لا أنّه حلف على تركها

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 16، الباب 1 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث 7.

(2) الوسائل: الجزء 16، الباب 3 من أبواب كتاب الأيمان. الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 484

في صورة التماس الأخ المؤمن لها و على ضوء ذلك، فلو التمس المؤمن قبل حلفه، على الترك، استحبّت إجابته و إلّا فلا موضوع لإجابة التماسه لأنّه في أمر جائز لا في أمر محرم.

و أمّا المورد الثاني فقد ظهر ممّا ذكرنا عدم انحلالها باقتراح الحاكم و ذلك لأنّ التغليظ ليس واجباً و لا مستحبّاً عليه، فكيف تنحل باقتراح الحاكم؟!

و لو حاكمهما القاضي يوم الجمعة في المسجد، فأمر بالحلف فلا يعدّ حلًا لليمين، لأنّ المحلوف عليه ترك اليمين المغلّظة إذا تمكّن من غيرها، كما إذا طلب منه أن يحلف يوم الجمعة، مع كون المحاكمة يوم الخميس، أو يحلف في المسجد مع كونها في غيره و أمّا إذا كانت

المحاكمة من بدء أمرها في الأزمنة و الأمكنة الخاصة الّتي تعدُّ من أسباب التغليظ، فليس أمامه فرد آخر حتّى يترك. اللّهمّ إلّا أن يقال إنّ أمامه الفرد الآخر، و هو ردّ اليمين على المدّعي فلا يكون ذلك مسوّغاً لنقض اليمين كما سيوافيك في القسم التالي.

و منه يعلم حكم من حلف على ترك اليمين مطلقاً، فلو كان مورد الدعوى أمراً مالياً، فالحلف منعقد، لإمكانه ترك الحلف و ردّه إلى المدّعي و أمّا إذا كان المدّعى به أمراً غير مالي كما إذا ادّعى رجل زوجية امرأة، و قد حلفت هي على ترك اليمين، فليس أمامها سوى الحلف شيئاً آخر، إذ ليس لها الردّ إلى المدّعي. لما مرّ من أنّ مورد الردّ هو الأُمور المالية.

8- في حلف الأخرس

ذكروا في حلفه وجوهاً:

1- بالإشارة المفهمة كغيره من إنشائه عقداً أو إيقاعا و إقراراً.

2- وضع يده على اسم الله في المصحف أو يكتب اسمه سبحانه و يُوضع يده عليه.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 485

3 تكتب اليمين في لوح و تغسل و يؤمر بشربه بعد إعلامه. «1»

أمّا الأوّل فليس له دليل خاص سوى ما ورد في تلبيته و تشهّده و قراءته في الصلاة بضميمة تحريك لسانه ففي رواية السكوني: عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: تلبية الأخرس و تشهده و قراءته القرآن في الصلاة، تحريك لسانه و إشارته بإصبع. «2»

و نسب الأوّل إلى الشيخ في النهاية و الموجود فيها هو الجمع بين الإشارة و وضع يده على اسم الله في المصحف «3» و نسب الثاني إلى ابن حمزة و الموجود في الوسيلة هو التخيير بين الأوّلين و الثالث. «4»

و وردت في صحّة طلاقه، كتابته الطلاق و الإشهاد

عليه إذا عرف الكتابة، أو وضع مقنعتها على رأسها و اعتزالها. «5»

و يمكن أن يقال: إنّ مجموع ما ورد في مورد الأخرس يدلّ على عدم وجود تعبّد في المورد و على هذا يلزم انتخاب ما هو أقرب الطرق، و بما أنّ الإشارة مع تحريك اللسان أقرب و أصرح اكتفى على ما في رواية السكوني بها و لازم ذلك في خصوص مورد الحلف هو الجمع بين الإشارة المفهمة و وضع اليد على المصحف و لأجل ذلك قال الإمام في مورد طلاقه بعد ما ذكر الراوي أنّه لا يكتب و لا يسمع كيف يطلقها قال: بالذي يعرف به من أفعاله مثل ما ذكرت من كراهته و بغضه لها.

و أمّا ما ورد في الصحيحة من كتابة اليمين و غسلها و شربها فيحمل على ما إذا أريد التغليظ.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 33 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 4، الباب 59 من أبواب القراءة، الحديث 1.

(3) الطوسي: النهاية: 347.

(4) ابن حمزة، الوسيلة: 228.

(5) الوسائل: الجزء 15، الباب 19 من أبواب مقدّمات الطلاق، الحديث 1 و 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 486

9- لا يستحلف إلّا في مجلس القضاء
10- يشترط المباشرة في الإحلاف

قال المحقّق: و لا يستحلف الحاكم أحداً إلّا في مجلس قضائه إلّا مع العذر كالمرض المانع و شبهه فحينئذ يستنيب الحاكم من يحلِّفه في منزله و كذا المرأة التي لا عادة لها بالبروز إلى مجمع الرجال، أو الممنوعة بأحد الأعذار. «1»

و قال العلّامة: و لا يستحلفُ الحاكم إلّا في مجلس حكمه إلّا لعذر فيستنيب الحاكم للمريض و المخدَّرة، من يحلِّفهما في منزلهما. «2»

أقول: هنا مسألتان:

1- هل تعتبر وحدة مجلس الحلف و القضاء، و لا أثر لحلفه في غير ذلك

المجلس، و إن كان مع حضور الحاكم؟

2- يشترط في الإحلاف مباشرة القاضي و لا تصحّ الاستنابة إلّا في موارد خاصّة.

و لو أُريد من المستثنى منه (لا يستحلف الحاكم ...) في كلام المحقّق، وحدة مجلس القضاء و اليمين يترتّب عليه أمران:

أ: عدم صحّة الاستثناء (إلّا مع العذر ...) إذ لم يسبق لزوم المباشرة حتّى تستثنى منه الموارد الخاصة.

ب: يلزم عدم صحّة الدعوة إلى التغليظ في الأماكن الشريفة و نحوه إذا كان القضاء في غيرها

و لما حمل الشهيد الثاني كلًا من المستثنى منه و المستثنى على بيان أمرين

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 88.

(2) مفتاح الكرامة: 10/ 103، قسم المتن.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 487

ماضيين و بذلك صحّح الاستثناء و لكن حمل أمر الوحدة على يمين غير مغلّظ و أمّا فيها فلا مانع من التعدّد.

و يمكن أن يقال إنّ المراد من مجلس القضاء أو الحكم، مجلس القاضي و الحاكم.

و أنّ العبارتين ناظرتان إلى بيان معنى واحد، و هو كناية عن مباشرته للإحلاف إلّا في موارد العذر و عندئذ تنسجم العبارة بلا إشكال.

و على كلّ تقدير فلنأخذ بدراسة المسألتين:

أمّا شرطية وحدة مجلس الحكم و اليمين فلا دليل عليها، إذ لا مانع من أن يُحلِّفه في مكان أو يسمع بيّنة المدّعي في مكان، و القضاء في مكان آخر بعد مباشرة القاضي للأُمور. بل الدليل على خلافه كما إذا استحلفه في الأماكن المقدّسة.

أمّا اشتراط المباشرة و أنّ الإحلاف لا يقبل النيابة فقد استدل عليه في مفتاح الكرامة بعد الإجماع بأنّه المتبادر إلى الفهم من الاستحلاف في الروايات و أنّه من تتمة الحكم و لا حكم لغيره لأنّه العالم بالكيفية لا غير «1»

و استظهرها صاحب الجواهر من قوله: «أضفهم إلى اسمي يحلفون به» الظاهر في مباشرة ذلك بنفسه فلا تصحّ الاستنابة فيه حينئذ.

يلاحظ على الجميع بأنّ استحصال الإجماع مشكل و على فرض وجوده غير كاشف عن النصّ و استظهار المباشرة من الأدلّة غير تام بشهادة الفرق الواضح بين الحلف و الاستحلاف فإنّ الأوّل لا يقبل الوكالة قطعاً، و ليس الاستحلاف مثله عرفاً. و كونه من تتمة الحكم منظور فيه بل هو من مقدّماته و يجوز التوكيل في مقدّماته كما إذا احتاج القاضي إلى ترجمة كلامي المدّعي و المنكر، أو كتابة أقاريرهما في ملفّ، إنّما القضاء هو الحكم بأنّ الحقّ هو الاشتغال أو البراءة.

و الذي يوضح ذلك، أنّه لو لم تقبل الاستنابة، لمّا جازت في الموارد المذكورة في

______________________________

(1) السيّد العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 103.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 488

كلام المحقّق إذ لازم عدم القبول، هو مباشرة القاضي بالإحلاف و لو بالذهاب إلى بيوتهم لو لم يكن أمراً حرجياً لا إلغاء قيد المباشرة.

و الحقّ، أنّه لا دليل على وحدة مجلس الحلف و القضاء، كما لا دليل على المباشرة بل تكفي الاستنابة كما لا يخفى، إذا كان النائب عارفاً بأحكامه.

البحث الثاني في يمين المنكر و المدّعي
اشارة

عقد المحقق المقصد الرابع للبحث عن أُمور ثلاثة أوّلها اليمين و قد مضى الكلام فيها و ثانيها، البحث في يمين المنكر و المدّعي، و ثالثها في اليمين مع الشاهد فلنأخذ بالبحث عن الثاني:

قال المحقق: اليمين يتوجّه على المنكر تعويلًا على الخبر، و على المدّعي مع الردّ و مع الشاهد الواحد. و قد تتوجّه مع اللوث في دعوى الدم.

الدعوى حقيقة عرفية لا تحتاج إلى التعريف و هي، لا تُقبل بحكم الفطرة إلّا مع الدليل

قال سبحانه: (قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ*) (البقرة/ 111) و لم يُعهد عند العقلاء إثبات المدّعى باليمين ابتداءً و إلّا لزمت الفوضى إذ ما أكثر مِن يحلف عن كذب فيستولي على أموال الناس عن كذب و دجل و إذا لم تقترن الدعوى بالبيّنة فطبع القضية يقتضي إيقاف المخاصمة حتّى يأتي بالدليل، غير أنّ الشرائع السماوية ابتكرت إنهاء الخصومة بحلف المنكر قال رسول الله: البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر. و لأجل ذلك لا تتوجّه اليمين إلّا على المنكر نعم استثنى منه الموارد التالية:

1- إذا ردّ المنكر على المدّعي.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 489

2 مع الشاهد الواحد كما سيوافيك تفصيله في البحث الثالث.

3- في دعوى الدم إذا كانت القرائن الظنّية دالّة على كون الرجل قاتلًا مع عدم البيّنة و هي المعروفة بالقسامة.

و هناك موارد لم يذكرها المحقّق نظير:

4- اليمين الاستظهاري على ما سبق من الادّعاء على الميّت. «1»

5- إذا ادّعى شيئاً لا يعلم إلّا من قبله كما إذا ادّعت الطمث عند طلاقها.

6- دعوى الأمين تلف العين المأمونة و قد اشتهر: «ليس على الأمين إلّا اليمين».

7- دعوى الغاصب التلف.

8- يمين الزوج الصغير (و مثله الزوجة) إذا بلغ و وقف على أنّ الولي زوّجه من صغيرة توفّيت قبل بلوغه و تركت مالًا فيحلف على أن رضاه بالعقد ليس لأجل التركة بل لو كانت حية لرضى بعقدها و زوجيتها، على ما حرّر في محلّه.

كان مقتضى القاعدة في هذه الموارد العمل بأصل البراءة و إيقاف الدعوى حتّى يقيم البيّنة، لكن عدم العمل به، لأجل أحد أمرين:

إمّا دلالة القرائن على صدق المدّعي كما في مورد الشاهد الواحد، أو مورد الدم أو لصيانة الحقوق

عن الضياع كما في سائر الموارد ففي إيجاب الحلف على المؤمن نوع تحفظ على الحقوق.

قال المحقّق: «فلا يمين للمنكر مع بيّنة المدّعي لانتفاء التهمة».

توضيحه: أنّ المحقّق علّل توجّه اليمين على المنكر بالأخبار الدالّة على أنّها للمنكر. كما علّل عدم توجّهها على المدّعي إذا كانت معه بيّنة بانتفاء

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 490

التهمة. و معنى ذلك أنّه لو كانت البيّنة متهمة يجب أن تضمّ إليه اليمين و هو كما ترى، لما عرفت من أنّ التفصيل، قاطع للشركة فالبيّنة للمدّعي، و اليمين على من أنكر و لا تضمّ اليمين إلى البيّنة، إلّا في مورد، أو موردين.

نعم إذا كانت البيّنة متّهمة، كان على القاضي، الفحص و التفتيش، كما لا يخفى لا ضمّ اليمين إليها.

نعم في رواية شاذة ضمّ اليمين إلى البيّنة و هي مهجورة «1» مضافاً إلى إرسال في السند. كما سبق.

الحلف على الواقع أو على نفي العلم

إذا توجّه الحلف على المنكر، أو على المدّعي يقع الكلام في كيفية الحلف و انّه هل يحلف على البتّ و القطع، أو على نفي العلم، أو يُفصّل بين فعل نفسه إثباتاً و نفياً فبالبتّ و فعل الآخر إثباتاً و نفياً فبنفي العلم أو يُفصّل في فعل الغير بين إثباته فبالبتّ، و نفيه فبنفي العلم، وجوه:

قال الشيخ في الخلاف: الحالف إذا حلف على فعل نفسه حلف على القطع و البتات نفياً كان أو إثباتاً و إن كان على فعل غيره فإن كان على الإثبات كانت على القطع و إن كانت على النفي كانت على نفي العلم و به قال الشافعي. و قال الشعبي و النخعي كلّها على العلم. و

قال ابن أبي ليلى كلّها على البتّ.

قال: دليلنا أنّ النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حلّف رجلًا فقال: قل و الله ما له عليك حقّ، فلمّا كان على فعل نفسه استحلفه على البتّ، و لأنّها إذا كانت على نفسه احاط علمه بما يحلف عليه، فكُلِّف بما يقدر عليه، و هكذا إذا كانت على الإثبات على فعل الغير لأنّه لا يثبت شيئاً حتّى يقطع به، فإذا كانت على النفي لفعل الغير لم يحط علمه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 491

بأنّ الغير لم يفعل كذا لأنّه قد يفعله و لا يعلم. «1»

هذا التفصيل و إن كان حسناً في بادئ النظر، لكن لا يخلو من إشكال، فإنّ الإنسان و إن كان بصيراً على نفسه و فعله، لكن ربّما ينسى ما قام به، في مجال الإثبات و النفي و إلزامه على الحلف على الواقع مع عدم استحضاره له كما ترى، كما أنّه ربّما يقف على فعل الغير إثباتاً و نفياً كما إذا بيّت مع زيد و شاهد أنّه لم يؤدّ النفل أو الفرض. أو الدين أو الرهن و على ذلك فلا بدّ من مقياس آخر، يعيِّن كيفية الحلف.

و هناك قول رابع و هو الفرق بين مورد يسهل الاطّلاع على الواقع، فبالبتّ و ما يعسر عليه فبنفي العلم، من غير فرق بين الحلف على فعل الشخص أو فعل الغير.

كيفية الحلف تتبع كيفية الإنكار

و الذي يمكن أن يقال أنّ وزان اليمين في مقام الإنكار، وزان البيّنة في مجال الإثبات، فكما أنّه يشترط في الاحتجاج بالبيّنة مطابقتها، للمدّعى بأن تثبت ما يدعيه المدّعي فهكذا الحلف فالمنكر،

يُحتج بحلفه على صدقه في الإنكار، فلا بدّ أن يكون مطابقاً، لإنكاره حذوَ مطابقة البيّنة للادّعاء. و على ضوء ذلك فلو كان الإنكار متعلّقاً بالواقع بمعنى أنكر أن يكون مديوناً كذلك، فعليه الحلف على البتّ و القطع، فلو قال المدّعي: بعتُك شيئاً بثمن كذا أو أقرضتك كذا أو جنيتَ عليّ كذا، و أجاب المنكر لم يكن واحد منه، فيحلف على البتِّ و اليقين، و على عدم وقوع شي ء منه لما ذكرنا من أنّ شأن اليمين تأكيد ما ينكره المنكر، كما أنّ شأن البيّنة إثباتُ ما يدّعيه المدّعي فلا محيص عن التطابق.

و لو كان الإنكار متعلّقاً بنفي العلم و أنّه لا يذكر شيئاً و كان المدّعي يكذِّبه،

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 34.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 492

و يدّعي علمَه بالواقع، فعليه الحلف على نفي العلم.

و لو صدّقه على عدم علمه و أنّه صادق في قوله: «أنّه غير ذاكر»، فيسقط الحلف لعدم الحاجة إليه فصارت الأقسام ثلاثة يحلف في واحد على البتِّ، و في واحد آخر على عدم العلم، و في ثالث يسقط الحلف بتصديق المدّعي، عدم ذكْر المنكر.

و على ما ذكر من أنّ وزان يمين المنكر، وزان بيّنة المدّعي، تستغني المسألة عن إقامة أيّ دليل.

و احتمل المحقّق الأردبيلي في صدر كلامه كون الواجب هو الحلف على البتّ، مطلقاً لأنّه الوارد دون غيره حيث حلَّفَ أمير المؤمنين الأخرس على عدم ثبوت الحقّ عليه، لا على نفي العلم. «1» و كذا ما تقدّم من الدعوى على الميّت مع البيّنة فإن الحلف هناك كانت على الثبوت و الجزم. «2» و ما تقدّم في صحيحة ابن أبي يعفور حيث حلف أن

لا حقّ له قبله. «3»

ثمّ إنّه رتّب على ما ذكره أنّه لو قال المنكر: إنّي ما أحلف على عدمه فانّي ما أعلم، بل أحلف على عدم علمي بثبوت حقّك في ذمّتي، لا يكفي بل يؤخذ بالحقّ بمجرّد ذلك حينئذ إن قيل بالقضاء بالنكول، أو بعد ردّ اليمين على المدّعي إن لم نقل به ثمّ احتمل عدم القضاء بالنكول و إن قيل به في غيره بل يجب الردّ، بل احتمل الاكتفاء في الإسقاط بيمينه على عدم علمه بذلك للأصل. «4»

يلاحظ عليه أوّلًا: بأنّ الروايات المذكورة لا تثبت ضابطة كلية، فإنّ المورد فيها قابل للحلف على الواقع فلا تكون دليلًا على ما لا يقبل.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 33 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(4) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 191.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 493

و ثانياً: كيف يمكن الحكم بالنكول إذا لم يحلف على الواقع لعدم قدرته على الحلف؟ أو كيف يمكن أن يردّ اليمين الّتي ليس مالكاً لها، فإنّ القضاء عليه بالنكول أو بالردّ، ثابت، فيما إذا تمكّن من الحلف و لم يحلف أو لم يردّ، لا ما إذا لم يتمكّن؟

نعم لو ردّ المنكر الحلف على المدّعي فيما يصحّ له الحلف فليس للمدّعي إلّا الحلف على البتّ، لأنّه يريد أن يتصرّف في مال الغير، و لا يتصرّف فيه إلّا بالعلم بكونه محقّاً. و كم فرق بين المنكر الذي ربّما يُكتفى فيه باليمين بعدم العلم، و المدّعي الذي لا يكتفي فيه إلّا بالحلف البتّ، فإنّ المنكر معه أصل البراءة،

و هو بيمينه مدعم له، بخلاف المدّعي، فالأصل مخالف لادّعائه و لا يعدل عن الحجّة إلّا بالحجّة أي العلم بالاشتغال.

الحلف البتّ اعتماداً على الأصل
اشارة

ثمّ إنّ الوارد في غير واحد من الروايات، عدم الحلف إلّا عن علم، ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله: «لا يحلف الرجل إلّا على علمه» «1» و في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا يستحلف الرجل إلّا على علمه» 2 و غيرهما. و الكل متّفق على أنّ الرجل يحلف أو يستحلف على ما علم أو بمقدار ما علم.

و على ضوء هذا فلا يحلف إلّا عن علم أو ما نزّله الشارع منزلة العلم، و جعله حجّة أو أمضى عمل العقلاء به لأجل كونه طريقاً إلى الواقع، فيشمل ما إذا قامت البيّنة عليه، أو خبر العدل على القول بحجّيته في الموضوعات أو اليد و قد ورد بها النصّ في حديث حفص بن غياث 3 و أمّا الحلف اعتماداً على أصالة

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 16، الباب 22، من أبواب كتاب الإيمان، الحديث 21 و انظر الحديث 3 و 4 من هذا الباب.

(2) 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 25، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 494

الصحّة أو الاستصحاب فمشكل جدّاً و إن قال المحقّق: و تجوز الشهادة على الاستصحاب كما سيوافيك في بابها.

فروع تمرينية

ذكر المحقّق في الشرائع و الشهيد في المسالك و النجفي في الجواهر فروعاً تعدّ مسائل تمرينية بالنسبة إلى الضابطة الّتي قدّمها المحقّق و غيره لكيفيّة الحلف و الجميع تبتني على الفرق بين فعل النفس، فبالبتّ و فعل غيره فبنفي العلم خلافاً لما حققناه و لأجل عدم صحّة الضابطة ندرس هذه الفروع و نأتي بما ذكره القوم بنصوصه ثمّ نذكر ما هو المختار.

قال المحقّق:

1- لو ادّعى

عليه ابتياع شي ء أو قرض أو جناية فأنكر.

2- لو ادّعى على أبيه الميّت.

3- لو ادّعى قبض وكيله ما عليه من الدين.

فذكر: في الأوّل انّه يحلف على الجزم و في الثاني لم يتوجّه عليه اليمين بالبتّ ما لم يدَّع عليه العلم، فيكفيه الحلف أنّه لا يعلم و مثله الثالث.

و ما ذكره مطابق لما اختاره من الفرق بين فعل النفس فيحلِف على البتّ، و فعل الغير، فلا يحلف إلّا على نفي العلم و أمّا على ما ذكرناه فتتبع كيفيةُ الحلف، كيفيةَ الإنكار من غير فرق بين فعل النفس و فعل الغير فيصحّ في الأوّل، الحلف على نفي العلم، إذا قال لا علم لي بما تقول، و في الثاني و الثالث، على نفي الواقع، إذا أنكر كون أبيه جانياً أو وكيله آخذاً، و أنّه عالم بالعدم كما ربّما يتفق. و هذه الفروع هي الّتي ذكرها المحقّق و إليك ما ذكره الشهيد الثاني و غيره:

4- لو ادّعي عليه أنّ عبده جنى على المدّعي ما يوجب كذا فأنكر قالوا فيه وجهان:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 495

أحدهما: أنّه يحلف على نفي العلم لأنّه حلف متعلّق بفعل الغير.

الثاني: أنّه يحلف على البتّ لأنّ عبده ماله و فعله كفعل نفسه و لذلك سُمِعَتْ الدعوى عليه.

و ربّما بني الوجهان على أنّ أرش الجناية يتعلّق بمحض الرقبة أم يتعلّق بالرقبة و الذمّة جميعاً حتّى تُتبعَ «1» بما فضُل بعد العتق فإن قلنا بالأوّل حلف على البتّ لأنّه يحلف و يخاصم لنفسه و إن قلنا بالثاني فعلى نفي العلم لأنّ للعبد على هذا ذمّة تتعلّق بها الحقوق، و الرقبة كالمرتهنة بما عليه «2»

لا يذهب عليك أنّ بناء الأحكام الشرعية على

هذه الوجوه لا يصحّ على أُصولنا فالأولى أن يقال إنّ كيفية الحلف تتبع كيفية الإنكار. سواء عدّ فعلُ العبد فعلَ نفسه أو لا، إذ لو لم يكن عالماً بالواقع و افترضنا كون فعله فعل نفسه كيف يحلف على البتّ، و لو افترضنا علمه به يحلف على الواقع، و إن لم يكن فعلُه، فعلَ المولى.

5- ما إذا ادّعي عليه أنَّ بهيمته اتلفت زرعاً أو غيره حيث يجب الضمان بإتلاف البهيمة فأنكر قيل يحلف على البتّ لأنّ البهيمة لا ذمّة لها، و المالك لا يضمن بفعل البهيمة و إنّما يضمن بالتقصير في حفظها و هذا أمر يتعلّق بنفس الحالف.

و الظاهر عدم الفرق بين كون مصبّ الدعوى تقصيره في حفظها، أو إتلافها الزرع أو غيره مع اجتماع سائر شروط الضمان فالإتلاف في كلتا الصورتين يستلزم الضمان فعليه الحلف، فتتبع كيفية الإنكار.

______________________________

(1) المسالك: 2/ 414، الظاهر أنّ الفعل مؤنث مبنيّ للمفعول و الضمير يرجع إلى الذمّة أي تكون ذمّة العبد هي المسئولة لأرش الجناية الزائد على قيمة العبد. فالمولى هو المسئول بمقدار قيمته، و أمّا الزائد عليها فعلى ذمّة العبد يؤديها بعد العتق.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 414.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 496

6- لو نصب البائع وكيلًا ليقبض الثمن و يُسَلِّمَ المبيع فقال له المشتري أنّ موكّلك أذن في تسليم المبيع و أبطل حقّ حبس المبيع و أنت تعلم فوجهان أنّه يحلف على نفي العلم و يديم الحبس إلى استيفاء الثمن لأنّه حلف على فعل الغير، و الثاني يحلف على البتّ لأنّه يثبت لنفسه استحقاقَ اليد على المبيع.

و أنت تعلم، أنّه إذا أنكر الوكيل إذن الموكّل من رأس لما ذا يحلف على

نفي العلم، ثمّ كيف يحلف على البتّ فيما إذا لم يكن واقفاً على الواقع، و الحقّ أنّ كيفية الحلف تتبع كيفية الإنكار.

7- لو طولب البائع بتسليم المبيع فادّعى حدوث عجز عنه و قال للمشتري: أنت عالم به، قيل يحلف على البتّ لأنّه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه، و يحتمل الحلف على نفي العلم لأنّ متعلّقه فعل الغير.

و في كلا الوجهين ما لا يخفى، لأنّه كيف يحلف بالبتّ على نفي العجز، إذا لم يكن له علم عليه، أو لما ذا يحلف على نفي العلم، بعدم العجز، إذا كان عالماً بالعجز.

8- إذا مات عن ابن في الظاهر فجاء آخر فقال: أنا أخوك فالميراث بيننا، فأنكر قيل يحلف على البتّ لأنّ الاخوة رابطة جامعة بينهما، و يحتمل قويّاً حلفه على نفي العلم. «1»

و يعلم ضعفه ممّا ذكرناه في الفروع السابقة و الميزان هو ما ذكرناه ثمّ إنّ المحقّق ذكر فروعاً قد تبيّن أو تقدّم حكمها و قال:

1- أمّا المدّعي و لا شاهد له فلا يمين عليه: لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر «2» لما تقدّم من أنّ التفصيل قاطع للشركة.

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 414.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 3، من أبواب كيفية الحكم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 497

2 إذا نكل المدّعى عليه عن الحلف أو ردّ، تتوجّه اليمين على المدّعي، و يحلف على الجزم. و قد مضى ما هو الحقّ و أنّه لا يكفي النكول، بل يتوقّف على الردّ و لا يكفي الحلف على نفي العلم، لأنّه يدّعي الحقّ على الطرف الآخر على وجه الجزم فيحلف طبق ادّعاءه، و بعبارة

هو يدّعي أمراً على خلاف الأصل فلا يعدل عنه إلّا بحجّة قطعية.

3- لو ردّ المنكر اليمين، ثمّ بذلها قبل الحلف، و قد مضى الكلام فيه. «1»

ما هو المحلوف عليه
اشارة

قد عرفت انّه يشترط أن يكون الحلف مطابقاً للإنكار من حيث البتّ و عدمه و لا نعيد، و يقع الكلام في مطابقة المحلوف عليه لأحد الأمرين: ادّعاء المدّعي، أو جواب المنكر قبل الحلف أو عدمها، فهناك احتمالات ثلاثة:

الأوّل: الحلف وفق الادّعاء

لو ادّعي عليه أمر مطلق كما إذا قال: لي عليك مائة دينار فيجب أن يكون المحلوف عليه نفس ما جاء في كلام المدّعي و أمّا إذا قال لي: عليك من ثمن مبيع أو أُجرة أو غصب كذا دينار، فيلزم أن يكون المحلوف عليه وفقَ ما ادّعي عليه، سواء أجاب في مقام الإنكار، بنفي المسبب أي الاستحقاق من دون ذكر أيّ سبب، أو نفي السبب كما إذا قال لم أغصب أو لم أستأجر.

و هذا الاحتمال و إن لم يذكره المحقّق و شرّاح الشرائع لكنّه أوفق بمقام القضاء فإنّه أمر عرفي فإذا ادّعي عليه شي ء فالجواب الحقيقي لدى العرف، هو نفي ما ادّعي عليه و لو أحلفه الحاكم، يجب أن يحلف على نفي ما ادّعي عليه و لو افترضنا أنّه أجاب بنفي الاستحقاق، فيعدّ الجواب انحرافاً عن الجواب الحقيقي،

______________________________

(1) لاحظ ص 413 من كتابنا هذا.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 498

فلا يصحّ الحلف عليه بعد الاعتراف بالانحراف.

و مثله ما إذا ادّعى عليه بالجناية، فالإجابة بنفي الاستحقاق لا يعدّ جواباً حقيقياً، فكيف يصحّ الحلف عليه. و هذا الوجه و إن لم يذكر في كلامهم لكنّه هو القدر المتيقّن من أدلّة الحلف، و ليس في الروايات دليل خاص حتّى يؤخذ بمضمونه.

و أمّا رواية تحليف الأخرس الذي ادّعي عليه دين و لم يكن للمدّعي بينة، فحلَّفه الإمام بالنحو التالي: ليس قبل فلان أعني الأخرس حقّ، و لا

طلبة بوجه من الوجوه و لا سبب من الأسباب. فلا يعدّ مثل ذلك مخالفاً لما ذكرناه فإنّه نفى جميع الأسباب التي منها الدين. و النفي الاستغراقي أتمّ في نظر العرف من نفي خصوص الدين على أنّك عرفت ضعف الحديث.

هذا و لكن الذي يصدّنا عن الافتاء به، هو أنّ إلزام المنكر، على الإجابة وفقَ الادّعاء ربّما يجرّ الضرر، كما إذا ادّعى المدّعي، الدين عليه و كان المنكر قد أدّاه بلا شاهد. فلو أُلزم على الحلف على وفق الادّعاء بأن يقول: «ما استدنت» يلزم الحلف على الكذب، و إن اعترف بالدين لكن ضمّ إليه القول بالأداء، يلزم الانقلاب، و يكون المنكر مدّعياً، و لم يتوجّه اليمين إليه ابتداءً إلّا إذا ردّ المدّعي إليه اليمين.

فلأجل ذلك المحذور هناك طريقان:

1- يحلف على نفي الادّعاء لأجل الضرورة لدفع الضرر. 2 ليس للقاضي إلزام المنكر رعاية ادّعاء المدّعي، و الجواب و الحلف على إنكاره.

الثاني: الحلف وفق الجواب

إنّ المنكر قبل أن يحلف، يجيب بشي ء، ثمّ يؤمر بالحلف و هناك صور نذكرها:

1- إذا لم يذكر السبب في الادّعاء و لا في الجواب بأنّ لي عليك مائة دينار

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 499

و أجاب بنفي الاستحقاق، فلو حلف على نفي الاستحقاق كان الحلف وفق الجواب، بل وفق الادّعاء أيضاً.

2- إذا ذكر السبب كالقرض و الغصب، و نفى السبب المدّعى في الجواب، و حلف على نفي السبب الوارد في الجواب، كان الحلف وفق الجواب بل الادّعاء.

3- إذا ادّعى غصباً أو إجارة و أجاب بنفي الاستحقاق، كان عليه رعاية الجواب و الحلف على نفي الاستحقاق لكون الملاك كون الحلف وفق الجواب و لا خلاف في هذه الصور الثلاث.

4- نعم إذا ادّعي

عليه سبب خاص كالغصب و الإجارة و أجاب بنفي السبب الخاص و حلف على نفي الاستحقاق فنقل عن الشيخ لزوم كون الحلف على وفق الجواب، و لا يكفي نفي الاستحقاق و لكن عبارته في المبسوط لا تدلّ على التعيين بل ذكر القولين بلا ترجيح قال:

إذا ادّعى عليه رجل حقّاً بجهة خاصّة بأن يقول: غصبتني عليّ كذا أو اشتريتُ منه كذا أو أودعتُه كذا فإن قال: لا حقّ له عليّ فإنّه يحلف على ذلك و لا يحلف على أنّه ما غصب و ما أودِع. (الصورة الثالثة في كلامنا).

فإن قال الجواب: ما غصبتُ و لا أُودعتُ قال: قوم يحلف عليه (و هو الذي نسبه المحقّق إلى الشيخ) و قال آخرون: يحلف على أنّه لا حقّ له عليه. «1»

الثالث: كفاية الحلف على نفي الاستحقاق

و هذا خيرة المحقّق قدّس سرَّه، قال في حقّ الصورة الرابعة: و إن اقتصر على نفي الاستحقاق كفى. و قدرته على الحلف على الخاص (كما يظهر من جوابه قبل الحلف) لا يثبت تعيّنه و ربّما يتعلّق الفرض بتغيّر المحلوف عليه.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 207.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 500

صيرورة المنكر مدّعياً

قال: و لو ادّعى المنكر الإبراء أو الإقباض فقد انقلب المنكر مدّعياً، و المدّعي منكراً فيكفي المدّعي (الأوّل) اليمين على بقاء الحقّ و لو حلف على نفي ذلك كان آكد لكنّه غير لازم.

هذا هو المعروف المطابق للقاعدة و لا كلام فيه إنّما الكلام في بعض صور المسألة و هو أنّه إذا أتى المدّعي بالبيّنة أو استمهل القاضي في إحضار البيّنة، و إلّا فيكون مدّعياً و المدّعي الأوّل منكراً و لكن للقاضي إحلاف المدّعي الأوّل رضي المدّعي الثاني به أو لا، أمّا إذا رضي فواضح و أمّا إذا لم يرض و أراد إيقاف الدعوى بحجّة أنّه صار مدّعياً و الحلف حقّ للمدّعي أوّلًا و له الانصراف عن دعواه و إيقافها ثانياً، فلا تسمع لبطلان دليليه أمّا الأوّل فلما مرّ من أنّ الحلف حكم شرعي و أداة شرعية لإنهاء الخصومة، و المخاطب به هو القاضي، فله طلب البيّنة من المدّعي، و الحلف من المنكر حتّى تنتهي الخصومة و أمّا كون الاستحلاف حقّاً للمدّعي فلم يثبت كما مرّ نعم له أن يرغب عن استمرار المحاكمة و يرفع اليد، لا أنّه حقّ له و سيأتي الكلام في إعراضه عن استمرارها في المقام.

و ما في صحيحة عبد الله بن يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه

فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي فلا دعوى له» «1» فليس ظاهراً في أنّه حقّ للمدّعي، بل مفاده أنّه لو أراد استمرار المحاكمة، فله إحلافه لا أنّ الإحلاف حقّ له غاية الأمر له الإعراض عن استمرارها فينتفي الحلف لا لإعراض صاحب الحقّ عن حقّه، بل لانتفاء الموضوع.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، و قريب منه حديث النخعي في الباب 10 من تلك الأبواب الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 501

و أمّا الثاني أي الإعراض عن الاستمرار في المقام فالقدر المتيقّن منه ما إذا كان المدّعي بادئاً، لا ما إذا كان منكراً، ثمّ صار مدّعياً بادّعاء سقوط الحقّ و بعبارة أُخرى، حقّ الإعراض لمن يدّعي ثبوت الحقّ، لا سقوطه و إلّا يلزم الفوضى في القضاء الإسلامي و كلّ منكر بسلوك هذا الطريق يُنهي المخاصمة لصالحه و هو كما ترى.

كلّما تسمع الدعوى بلا بيّنة يتوجه معه اليمين

إنّ الدعوى على قسمين: قسم لا تسمع بلا بيّنة كالحدود، فليس فيها اليمين و قال رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «ادرءوا الحدود بالشبهات، و لا شفاعة و لا كفالة و لا يمين في حد». «1» و قسم تسمع الدعوى بلا بيّنة و يجب على المدّعى عليه، الجواب بنحو من الأنحاء السابقة: الإقرار، الإنكار، أو عدم العلم به.

و لكن قد سبق انّ سماع الدعوى على وجه الإطلاق و لو فيما دلّت القرائن على بطلانها مشكل جدّاً مثلًا لو ادّعى أرذل الناس، حقّاً على أشرفهم بحيث تشهد مكانة المدّعى عليه على أنّه أرفع من الدعوى التي أُقيمت عليه، فما دلّ على سماع الدعوى منصرف عن هذه الصورة و ربّما

يكون غرض المشتكي من إقامة الدعوى إهانة الطرف الآخر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه إذا توجّه اليمين على المنكر، فله أن يحلف، و إلّا فإن نكل أو ردّ اليمين على المنكر، فيحلف المدّعي. و هذا ممّا لا غبار عليه في الجملة:

ثمّ إنّ هنا اختلافاً في القضاء باليمين في موردين:

الأوّل: في القضاء باليمين المردودة مطلقاً أو في بعض الموارد.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 4 و لاحظ روايات الباب.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 502

توضيحه: أنّ واجب المدّعي تارة هو الإتيان بشاهدين و لا يكفي الإتيان بشاهد و امرأتين، و أُخرى، يكفي كلّ واحد منهما و عندئذ يقع الكلام في يمينه فهل تقوم يمينه، مقامها في كلا القسمين أو تقوم مكان القسم الأخير و أمّا ما لا يقضى فيه إلّا بشاهدين، فلا تكفي فيه اليمين المردودة.

الثاني: هل تختصّ اليمين المردودة بالأموال أو تعمّ الحقوق؟ و إليك الكلام في الأمرين:

أمّا الأوّل، فقد قال الشيخ:

إذا نكل المدّعى عليه، ردّت اليمين على المدّعي في سائر «1» الحقوق و به قال الشعبي و النخعي و الشافعي. و قال مالك إنّما تردّ اليمين فيما يحكم به بشاهد و امرأتين دون غيره من النكاح و الطلاق و نحوه.

ثمّ استدلّ الشيخ بما ورد في قتل عبد الله بن رواحة في خيبر لما ادَّعت الأنصار على أنّ اليهود قتلوه فقال لهم النبيّ: تحلفون خمسين يميناً و تستحقون دم صاحبكم فقالوا من لم نشاهده كيف نحلف عليه فقال: «يحلف لكم اليهود خمسين يميناً فقالوا إنّهم كفّار» فنقل النبي من جانب المدّعي إلى جانب المدّعى عليه و هذا حكم بردّ اليمين عند النكول و كانت الدعوى في

قتل العمد. و الدماء لا يحكم فيها بشاهد و امرأتين. «2»

أمّا الثاني: فهل هي حجّة في مورد الأموال، أو يعمّها و الحقوق كدعوى العتق و النسب و النكاح و الطلاق و الرجعة و الفيئة في الإيلاء ذهب المحقق إلى حجّيتها في الأموال و الحقوق و قال: «و كلّ ما يتوجّه الجواب عن الدعوى فيه، يتوجّه معه اليمين» أي كلّ مورد تسمع الدعوى بلا بيّنة و يستحقّ بها الجواب عن الخصم يتوجّه اليمين على المنكر، و الحقوق كالأموال تسمع فيها الدعوى بلا بيّنة.

______________________________

(1) الظاهر انّ السائر: بمعنى الجميع.

(2) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 39.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 503

و قال العلّامة: و يحلف الكامل في إنكار المال و الولاء و الرجعة و النكاح و الظهار و الإيلاء.

قال السيّد العاملي في شرح عبارة العلّامة: أنّه يحلف في كلّ ما تتوجّه فيه الدعوى و تصحّ في حقوق الناس و يُلْزم المدّعى عليه بالجواب بالإقرار و الإنكار بحيث لو أقرّ بمطلوبها ألزم به إلى أن قال: و نبّه بهذه الأمثلة على خلاف بعض العامّة لأنّ منهم من لا يرى اليمين في غير المال و منهم من لا يراها إلّا فيما لا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين. «1» و قد عرفت ضعف التفصيل فيه و أمّا التفصيل بين الأموال و الحقوق، فترده إطلاقات الباب. «2» نعم ورد في بعض روايات الباب إنّ الله حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم إنّ البيّنة على المدّعي، و اليمين على المدّعى عليه ... «3» لكن المراد من الأموال هو غير الدماء بشهادة أنّ اليمين على المدّعي مختصّة بالدماء.

استدل الخصم على أنّها

مختصّة بالأموال، قالوا إنّ المطلوب من التحليف، الإقرار أو النكول ليحكم به، و النكول نازل منزلة البذل و الإباحة و لا مدخل لهما في هذه الأبواب أي غير باب الأموال.

أقول: ما ذكره اجتهاد في مقابل الإطلاقات.

و على كلّ تقدير، فإنكار النسب و الحلف عليه إنّما تصحّ إذا ترتّب عليه أثر كوجوب النفقة و التحريم و الإرث لا مطلق النسب و أمّا الظهار و الإيلاء، فإن ادّعتهما المرأة فتسمع، لتضمّنها الأثر و هو أنّها تطلب حقّها كالدخول في أربعة أشهر و يتوجّه عليه الجواب بأحد الوجوه الماضية و إن ادّعاهما الزوج فتسمع بلا بيّنة لأنّه ممّا يرجع إليه و من ملك شيئاً ملك الإقرار به.

______________________________

(1) العاملي، مفتاح الكرامة: 10/ 107.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 504

و أمّا الطلاق فإن ادّعته الزوجة فلا تسمع بلا بيّنة و يتوجّه الجواب على الزوج بأحد الوجوه و أمّا إذا ادّعاه الزوج فتسمع بلا بيّنة لأنّه من ملك شيئاً ملك الإقرار به.

و مع ذلك كلّه فالقضاء باليمين في مطلق الحقوق ابتداءً و ردّاً لا يخلو من منع و قد أشرنا إليه سابقاً، و إليك الإشارة لبعض الموارد الممنوعة:

1- إذا ادّعى رجل زوجيّة امرأة فأنكرت كان عليها الحلف لا الردّ لأنّ ردّها إلى الرجل تعبير آخر عن الالتزام بزوجيتها للمدّعي إذا حلف، مع أنّها تعتقد بكونها أجنبية.

2- القضاء بنكول المرأة عند الحلف على عدم كونها زوجة للمدّعي فإنّ القضاء بالنكول على القول به إنّما يصحّ إذا صحّ الردّ، لا ما إذا كان في الردّ محذور كما في

المقام فلا يقضى بالنكول.

3- إذا ادّعى الزوج الرجعة في العدّة بعد انقضاءها و أنكرت، فلها الحلف و ليس لها الردّ لاشتماله على المحذور السابق.

4- إذا ادّعت الطلاق و أنكر الزوج، فليس للزوج ردّ اليمين فإنّ في ردّها إلى الزوجة نوع اعتراف بطلاقها و أنّه يجوز لها التزويج من رجل آخر إذا حلفت، مع انّه يدّعي زوجيتها.

فإن قلت: كيف جاز للمنكر ردّ اليمين إلى المدّعي فيما إذا كان المدّعي به ديناً أو عيناً مع أنّ فيه أيضاً نوع اعتراف على أنّ الحق حقّه و أنّه مديون ...؟

قلت: إذ غاية ما يلزم من ردّ اليمين إلى المدّعي تخلية السبيل للمدّعي الحالف لأن يتصرّف في ماله فلو كان هناك عصيان فإنّما يتوجّه على المدّعي الحالف، لا على المنكر الرادّ، و هذا بخلاف ما إذا ردّت المرأة المنكرة للزوجيّة اليمين على الزوج، فانّ مرجعه إلى تسليم نفسها للمدّعي للتمتّع المحرّم القائم بها.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 505

مسائل سبع:
المسألة الأُولى: في الدعوى على الوارث

1- إذا ادّعي على الوارث، بالدين على مورّثه، فصحّة الادّعاء واقعاً تتم بتحقق شروط أربعة:

1- موت المورّث؛

2- اشتغال ذمّته بالدين؛

3- كون المدّعى عليه وارثاً له؛

4- تركه مالًا في يده. فلو فُقِدَ واحد من هذه الشروط لما صحّ الادّعاء واقعاً و منه تعلم حال مقام الإثبات، فلا تصحّ إقامة الدعوى عليه، إلّا بادّعاء العلوم الأربعة على الوارث: أنّه عالم بموته، و دينه للمدّعي، و كونه وارثاً له، و تركه مالًا في يده، و لو جَهل واحداً منها و صدّق المدّعي جهله به لما صحّت إقامة الدعوى عليه.

و هنا سؤال و هو أنّه ما الفرق بين إقامة الدعوى على الميّت، و الدعوى على الوارث، حيث إنّه لا تتوجّه

اليمين على الوارث في الصورة الأُولى، بخلاف الثانية، فإنّه لا يترك الوارث إلّا باليمين على عدم كون مورّثه مديوناً.

و الجواب واضح، ففي الأُولى يُصدِّق المدّعي، جهلَ الوارث بأحد الشروط السابقة و بالأخص كون المورّث مديوناً فلأجله، لا يتوجّه الحلف على الوارث لعدم النزاع في عدم علمه و يتوقّف تنجّز الدعوى على البيّنة و حلف المدّعى على ما في الخبر «1»، بخلاف المقام فالمدّعى علم الوارث بدينه و سائر الشروط و تصحّ عندئذ إقامة الدعوى عليه و إن لم يكن مع المدّعي بيّنة و لا يمين و لأجل ذلك قال المحقّق: «و لو ساعد المدّعي على عدم أحد هذه الأُمور لم يتوجّه» و قال في الجواهر:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 506

لم يتوجه له عليه دعوى فضلًا عن اليمين.

3- إنّ المحقّق حسب مختاره في المسألة السابقة، فصّل في كيفية الحلف بين فعل الغير كموته و اشتغال ذمّته بالدين، و فعل النفس ككون المال في يده، فاكتفى في الأوّل بالحلف على نفي العلم دون الثاني فألزم الحلف على الميّت، و قال: لو ادّعى عليه العلم بموته، أو بالحقّ كفاه الحلف أنّه لا يعلم. نعم لو أثبت الحقّ و الوفاة و ادّعى في يده مالًا حلف الوارث على القطع. «1»

يلاحظ عليه: بما ذكرناه سابقاً و هو أنّ كيفية الحلف تتبع كيفية الإنكار من غير فرق بين فعل النفس و فعل الغير، و كون المحلوف عليه فعل الغير، لا يلازم عدم العلم به، كما أنّ كونه فعل النفس لا يلازم العلم به.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو

جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 1، ص: 506

و بما أنّه لا تصحّ إقامة الدعوى على الوارث إلّا بادّعاء العلم عليه، يصحّ الحلف على عدم العلم، حلفاً بتّيّاً حسب ما يُدّعى عليه. و إلى ما ذكرنا يشير صاحب الجواهر بقوله: «بل لا يبعد في الوارث و غيره الإلزام بيمين البتّ التي هي الأصل لو فرض الجواب به على وجه ادّعى أنّه عالم بذلك و يترتّب عليه حكم النكول». «2»

4- قد علمت أنّ تنجز الدعوى يتوقّف على ثبوت الأُمور الأربعة و علم الوارث به فعندئذ فهل تجب عليه، أيمان متعددة، حسب تعدّد الادّعاء أو تكفي اليمين الواحدة؟ و الظاهر هو الثاني، لكفاية نفي واحد منها في سقوط الدعوى عن التنجّز من دون حاجة إلى التعدّد.

المسألة الثانية: الدعوى في الحدود

قال المحقق: لا تسمع الدعوى في الحدود مجرّدة عن البيّنة.

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 90.

(2) الجواهر: 40/ 252.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 507

و ذلك لأنّ من شرائط الدعوى أن يكون المدّعي مستحقاً لموجب الدعوى كأن يكون مالكاً، أو ولياً أو وكيلًا أو وصيّاً على نحو يُصحح إقامة الدعوى و أمّا الحدود فإنّها حقّ الله تعالى، و لا صلة لها بالناس، و المستحقّ لم يأذن في الدعوى و لم يطلب الإثبات بل أمر بالخلاف حيث قال: ادرءوا الحدود بالشبهات. «1» و قال: فوالله لتوبته فيما بينه و بين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ «2» و لا يعدّ قبولها مع البيّنة دليلًا على صحّة إقامة الدعوى بل القبول لأجل ثبوتها بها.

و هنا وجه آخر لعدم سماع الادّعاء في الحدود مجرّداً

عن البيّنة، و ذلك لأنّ قبوله بلا بيّنة يستلزم توجّه الحلف على المنكر، مع أنّه تضافرت الروايات على عدم اليمين في الحدود. «3»

أقول: كان على المحقّق استثناء موردين:

1- من عليه إصلاح البلاد و تطهيرها من الفساد كالمحتسب المتولّي من السلطان العادل فإنّ وظيفتهم فوق وظيفة المتطوّع للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإذا شاهدوا دبيب الفساد في المجتمع، و إن كان تحت الستار، فعليهم سدّ الفساد بالأسباب الشرعية التي منها إقامة الدعوى على رجال العيث و الفساد، لغاية تطهير الأرض من الضلال، فلو لم يكن لغيرهم حقّ إقامة الدعوى، لكن لهؤلاء بما أنّه انيط بهم إصلاح العباد و البلاد، حقّ إقامة الدعوى ثمّ الإتيان بالشهود، و إن لم يكن لغيرهم مثل هذا الحق. نعم إذا لم يكن شهود يخلّى المدّعى عليه سبيله بلا يمين.

و إن شئت قلت: إنّهم أُمناء الله في أرضه و نوّابه بين الناس فهم مأذونون من صاحب الحقّ في إقامة الدعوى قال الإمام: «اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 2.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 16 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 2 و غيره.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الحدود.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 508

كان منّا منافسة في سلطان، و لا التماس شي ء من فضول الحطام، و لكن لنري المعالم من دينك، و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك، و تقام المعطّلة من حدودك». «1»

2- إذا كان العمل المحرّم جناية على المشتكي كما إذا زُنى بها بعنف أو عن طوع و كانت المرأة ذات بعل، فكون حدّ الزنا من حقوق الله

لا يمنع الزوج عن إقامة الدعوى في المحاكم و قد عرفت أنّ لولي الصغير إقامة الدعوى لصالحه عند التعدّي عليه، و لو كان الزوج و سائر الناس في المورد سواء، فكيف جاز له قتل من زنى بزوجته و إن كان الزنا عن طوع من زوجته. «2»

قال المحقّق: «و لا يتوجّه اليمين على المنكر» و يدلّ عليه غير واحد من الروايات الدالّة على ذلك ففي حديث إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السلام عن أبيه: «إنّ رجلًا استعدى علياً عليه السلام على رجل فقال: إنّه افترى عليّ فقال عليّ عليه السلام للرجل: أ فعلتَ ما فعلت؟ قال: لا، ثمّ قال للمستعدي: أ لك بيّنة؟ فقال: ما لي بيّنة فأحلِفه لي فقال علي عليه السلام: ما عليه يمين». «3»

هذا إذا كان الحقّ مختصّاً بالله سبحانه. و أمّا لو كان الحقّ مشتركاً بين الله و الآدمي كالقذف فالظاهر عدم الحلف لإطلاق روايات الباب. فلو ادّعى على رجل أنّه قذفه فأنكر، فلا تتوجّه عليه اليمين، فيكفي عدم الثبوت بالبيّنة ارتفاع أحكام القذف الثلاثة الواردة في الآية المباركة قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ) (النور/ 4).

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 127، و قد روى نظيره عن سيّد الشهداء الحسين بن علي عليهما السَّلام. لاحظ تحف العقول: 172 طبعة بيروت.

(2) الوسائل: الجزء 19، الباب 23 من أبواب القصاص، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 509

و نقل المحقق عن الشيخ في المبسوط أنّه قال: جاز أن يحلف ليثبت

الحدّ على القاذف.

أقول: لم نعثر على كلام الشيخ في المبسوط و لكن المحكي يحتمل وجهين:

1- ليس المراد الحلفَ الابتدائي بل الحلف الذي يردّه القاذف، فلو ادّعى على رجل أنّه قذفه، فلو حلف المدّعى عليه (القاذف)، يسقط الحدّ عن ذمّته، و لو ردّ عليه اليمين فحلف ثبت حدّ القذف على المدّعى عليه.

2- المراد الحلف الابتدائي للمقذوف به، و تصويره هو أنّه استعدى رجل على آخر بأنّه قذفه فلما حضرا لدى الحاكم، فبدل أن يُنكر، ثارت ثورته و ادّعى عليه بالزنا واقعاً فانقلب المنكر مدّعياً، و المدّعي للقذف منكراً لما أُتّهم به فإن حلف المنكر (المقذوف به) يثبت حدّ القذف به و إن ردّ اليمين على المدّعي (القاذف) و حلف يسقط الحدّ عن نفسه، و لا يثبت الزنا على المقذوف به، لأنّها لا تثبت إلّا بأربعة شهداء كما في الآية.

و ما ذكرنا مجرّد احتمال لكلامه و في الوقت نفسه غير صحيح.

أمّا الأوّل، أي اليمين المردودة، فليست في الحدود يمين، حتّى يتوجّه إلى القاذف ثمّ يردّها إلى المقذوف به.

و أمّا الثاني، فإنّ ظاهر الآية أنّ القاذف يحكم بأحكام ثلاثة واردة في الآية و ليس ورائها حكم آخر، من الحلف المذكور و ردّه كما لا يخفى.

المسألة الثالثة: منكر السرقة يتوجّه عليه اليمين

السرقة مشتملة على حقّ آدمي، و هو ردّ العين أو بدلها عند تلف العين المسروقة، و حقّ إلهي و هو القطع.

أمّا الثاني، فقد رتّب على عنوان السارق و السارقة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 510

قال سبحانه: (وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة/ 38) و من المعلوم أنّ العنوانين لا يثبتان باليمين، بل الثبوت رهن العلم أو

ما أقام الشارع مقامه من الشاهدين.

و أمّا اشتغال ذمّته بردّ العين أو البدل فشأنه شأن سائر الأُمور فيثبت بالبيّنات و الايمان فلو أقام البيّنة، يحكم بها و إلّا يحلف المدّعى عليه و إن ردّ الحلف و حلف المدّعي يثبت الضمان، دون القطع و التفكيك بين المتلازمين إنّما يعدّ محالًا، إذا كان التلازم تكوينياً كالنار بالنسبة إلى الحرارة و الضوء دون ما إذا كان اعتبارياً، فإنّ إثبات كلّ حكم رهن ثبوت موضوعه، فإذا لم يثبت موضوع القطع، أي عنوان السارق، كان المجال بالنسبة إلى الثاني نفياً إن حلف المدّعى عليه، و إثباتاً إن ردّ اليمين إلى المدّعي و حلف.

و نظير المقام إذا توضّأ بأحد الماءين المشتبهين، فالأعضاء تكون محكومة بالطهارة و الإنسان محكوماً بالحدث أخذاً بالاستصحاب في كلّ منهما، مع العلم بأنّ أحد الاستصحابين باطل إذ لو كان الماء طاهراً فهو طاهر الأعضاء و إن كان نجساً، فالأعضاء أيضاً نجسة. فكيف يحكم باحدى الطهارتين دون الأُخرى؟!

و منه يظهر ما لو أقام شاهداً مع اليمين، فلا يكفي في ثبوت القطع لعدم ثبوت الموضوع باليمين و لو جزءاً.

المسألة الرابعة: في طلب اليمين مع إسقاط البيّنة

لو كانت للمدّعي بيّنة فاعرض عنها و التمس يمين المنكر أو قال: اسقطت البيّنة و قنعت باليمين فهل له الرجوع أو لا؟

أقول: هل الاحتجاج بالبيّنة كالاحتجاج بسائر الأسباب التي يُحتجّ بها العباد على الآخرين أو هو من الحقوق غير القابلة للإسقاط كحقّ الولاية

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 511

و الحضانة أو من الحقوق القابلة للإسقاط. فعلى الأوّلين فالمجال للاحتجاج بالبيّنة باق ما لم يحلف المدّعى عليه، دون الثالث فلو أسقط فلا يرجع إليها.

و الظاهر من الأدلّة كون الاحتجاج بها من باب الحكم الشرعي بدليل

التعبير عنه بلفظة «على» قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: البيّنة على من ادّعى، و اليمين على من ادّعى عليه و مثله غيره «1» فإذا كان الاحتجاج حكماً شرعيّاً فلو لم يقم البيّنة، فلا يحتج بها، لعدم الموضوع فإذا أقام و لو بعد الإعراض و الإسقاط، فالحكم يتبع وجود موضوعه و لو بعد حين على أنّك قد عرفت أنَّ من جازت له، إقامة الدعوى، تجوز له إقامة البيّنة و طلب الحلف مخيّراً بينهما.

المسألة الخامسة: في الموارد التي تقبل دعوى المدّعي بلا بيّنة

إنّ الضابطة في القضاء الإسلامي هي البيّنة على المدّعي، و اليمين على المدّعى عليه «2» و معناه أنّه لا تقبل الدعوى من المدّعي بلا بيّنة، لكن استثنيت موارد، تقبل فيها الدعوى من المدّعي بلا بيّنة من غير فرق بين وجود المعارض و عدمه، و وجود الدعوى في البين و عدمه لا كلام في القبول بلا بيّنة إنّما الكلام في القبول بلا يمين أيضاً، ظاهر المحقّق و غيره هو عدم الحاجة إليه لكنّه غير تام كما سيوافيك و قد ذكر المحقّق موارد ثلاثة، و ذكر الشهيد في المسالك موارد أُخر نأتي بها:

1- لو ادّعى صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول لينفي عنه الزكاة قُبل قوله و قد روي عن الصادقين عليمها السَّلام: «كل ما لم يحل عليه الحول عند ربّه فلا شي ء

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، 2، 3، 5، 6.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 512

عليه فيه، فاذا حال عليه الحول وجب عليه» «1».

2- لو خرص عليه فادّعى النقصان في الثمرة المخروصة لينقص عنه ما قُدِّر عليه

من الزكاة.

3- لو ادّعى الإسلام قبل الحول ليتخلّص من الجزية بناء على وجوبها عليه إذا أسلم بعد الحول «2».

4- لو ادّعى بنوّة الصغير و أنّ اللقيط ابنه و لا منازع.

5- لو ادّعى كونه من أهل الكتاب لتؤخذ منه الجزية.

6- لو ادّعى تقدّم الإسلام على الزنا بالمسلمة حذراً من القتل.

7- لو ادّعى فعل الصلاة و الصيام خوفاً من التعزير.

8- لو ادّعى إيقاع العمل المستأجر عليه إذا كان من الأعمال المشروطة بالنيّة كالحجّ و الصلاة.

9- دعوى الولي إخراج ما كلّف به من نفقة و غيرها.

10 دعوى الوكيل بفعل ما وكّل فيه.

1- 1 دعوى مالك الدار لو نازعه المستعير و المستأجر في ملكية الكنز على قول مشهور:

2- 1 دعوى من أحرز الطعام، أنّه للقوت و إن زاد، لا للاحتكار.

3- 1 قول المدّعي مع نكول المنكر على القول بالقضاء به.

4- 1 لو ادّعى أنّه أعطى الزائد عن الحقّ اشتباهاً لا للتبرّع.

5- 1 دعوى المحلَّلة الإصابةَ.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 6، الباب 8 من أبواب زكاة الأنعام، الحديث 1.

(2) و قد ذكر المحقّق فرعاً آخر يرجع إليه بعد الفراغ عن الأمثلة المذكورة في الشرائع و المسالك.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 513

16 دعوى المرأة فيما يتعلّق بالحيض و الطهر في العدّة و غيرها.

7- 1 دعوى الظئر أنّه الولد.

8- 1 لو ادّعى المتّهم بالسرقة بأنّ المالك وهبه ليسلم من القطع و إن ضمن المال، لاعترافه بأنّه مال الغير و لكن يدّعي انتقاله إليه بالهبة فيضمن ما لم يثبت الهبة، لكنّه يخلّص بهذا، نفسه عن قطع اليد.

9- 1 لو ادّعى الإكراه أو الجهالة مع إمكانهما في حقّه في سبب الحدّ.

20 لو أنكر القذف بناء على عدم سماع دعوى مدّعيه

بدون البيّنة.

1- 2 لو ادّعى ردّ الوديعة.

2- 2 لو ادّعى تقدّم العيب مع شهادة الحال «1» إلى غير ذلك من الأمثلة.

ثمّ إنّ قبول قول مدّعي هذه الأُمور إذا لم يكن هناك معارض و منازع ممّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام فيما إذا كان هناك معارض و منازع فظاهر المحقّق و غيره أنّه يقبل قوله بلا يمين أياً.

أقول: إنّ القضاء البات في هذه المسائل يتوقّف على دراسة كل مورد مستقلًا و لو اغمضنا عن ذلك، فنقول: إنّ هذه الموارد تختلف أحكامها فمنها ما لا تقبل الدعوى إلّا بالبيّنة، و لا تكفي نفس الدعوى و لا ضمّ اليمين إليها و منها ما لا تقبل إلّا باليمين و هو أكثرها و منها، ما تقبل، بلا بيّنة و لا يمين لخصوصية موجودة في المورد كما إذا استظهر الحال. ثمّ إنّ البحث فيما إذا كان هناك منازع و إلّا فهو خارج عن كتاب القضاء كما إذا تبنّى صغيراً، لا ينازعه أحد.

أمّا القسم الأوّل كما إذ ادّعى، صاحب النصاب إبداله أثناء الحول فلا تقبل دعوى مدّعي التبديل بلا بيّنة، و ذلك، لأنّ أخذ الزكاة من وظائف النبيّ و الإمام بعده قال سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 417.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 514

إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة/ 103) فإذا كان الحاكم مبسوط اليد، و له مقدرة على جمع الزكوات كان الحاكم وليّاً للفقراء، في حيازة أموالهم، و إقامة الدعوى على من يبخس حقوقهم و عندئذ فلا معنى لقبول قول من يدّعي تبديل النصاب حتّى يدفع عن نفسه غرامة الزكاة و بالجملة الحاكم الإسلامي لا

تقصر ولايته في حقوق المسلمين و أموالهم، عن ولاية الفرد بالنسبة إلى أمواله فكما إذا ادّعى المديون، فراغ الذمّة لا يقبل منه بلا بيّنة فهكذا المقام.

نعم لو لم تكن هناك حكومة إسلامية، أو لم يكن الحاكم الإسلامي قادراً على جمع الحقوق و تفريقها بين المستحقّين، ففي مثل هذه الصورة، لا عامل و لا منازع و لا مطالب و إليه ترشد رواية جابر إنّ أبا جعفر عليه السلام جاءه رجل بماله من الزكاة مقدار خمسمائة درهم و قال فضعها في مواضعها فإنّها زكاة مالي، فقال أبو جعفر عليه السلام: «بل خذها أنت فضعها في جيرانك و الأيتام و المساكين و في إخوانك من المسلمين، إنّما يكون هذا إذا قام قائمنا فإنّه يقسّم بالسوية و يعدل في خلق الرحمن البرّ منهم و الفاجر» «1».

فإن قلت: قد ورد في غير واحد من الروايات أنّ الإمام أوصى لعامله بأنّه يأتي ربّ المال فيقول له: يا عباد الله أرسلَني إليكم ولي الله لآخذ منكم حقّ الله في أموالكم فهل لله في أموالكم من حقّ فتودُّوه إلى وليّه فإن قال لك قائل لا، فلا تراجعه» «2».

قلت: إنّ هذه الرواية و نظائرها كرواية غياث بن إبراهيم ناظرة إلى ما لم يكن تعلّق الزكاة معلوماً فعند ذلك، أمر الإمام المصدّق، قبول قوله، و أنّى هو، من العلم بوجود النصاب، غير أنّ صاحبه يدّعي التحول أثناء الحول ليدفع بزعمه عن نفسه الزكاة.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 6، الباب 36 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 6، الباب 14 من أبواب زكاة الانعام، الحديث 1، و لاحظ الحديث 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 515

و الحاصل أنّه مع وجود الدولة

الإسلامية، أو كون الحاكم في قطر من الأقطار، ذا مقدرة على جمع الحقوق و تقسيمها بين المستحقين، إذا بعث عاملًا أو نصب مصدقاً، أو خارصاً، ففي جميع هذه الموارد يعامل الحاكم مع ما تحت يده في الحقوق معاملة المالك الشخصي فكما أنّه لا ترفع اليد عن حقّه إلّا بالبيّنة فهكذا ما هو النازل منزلته و بذلك تظهر الحال في الفرع الأوّل و الثاني، و الثالث و الخامس، فاذا كانت الدعوى تحمل سلب حقّ أو مال عن المستحقّين له، فليس للحاكم الإغماض و قبول الدعوى بلا بيّنة أو مع اليمين لاستلزامه احتمال الضرر على الفقير و ليس المقام من موارد جريان البراءة و قد قلنا أن كل مورد يسهل للإنسان، تحصيل العلم بالواقع بلا مشقّة فهو خارج عن منصرف أدلّتها. و هذه الموارد، مضافاً إلى أنّ الحاكم مأمور بحيازة حقوق المستحقّين ممّا يسهل له تحصيل العلم بالواقع فلا وجه للاغماض.

و أمّا القسم الثاني فهو ما لا يتضمّن سلب حقّ أو مال عن المستحقّين، و إنّما هو بصدد جرِّ نفع إلى نفسه كما في إعطاء الزائد عن الحقّ فيدّعي أن الدفع كان عن سهو لا عن تبرّع، أو دعوى المرأة المحلّلة، الإصابةَ، أو دعوى الظئرِ الولد، ففي هذه الموارد، يطلب من المدّعي اليمين، و ذلك لأنّ القضاء بين المتخاصمين إمّا بالبيّنة أو باليمين فاذا لم يمكن الأوّل، يتعيّن الثاني، فالقضاء بلا بيّنة و لا يمين أمر غير معهود و خارج عن الحصر الوارد في النبوي المعروف.

و أمّا القسم الثالث فهو ما إذا اقترن ثبوت الحدّ بالشبهة الدارئة، فتقبل الدعوى، لا بما أنّها تقبل بلا بيّنة بل لأجل أنّ درء الحدود بالشبهات من الأُصول المسلّمة في الفقه.

و منه

يعلم حكم الفرع السادس و التاسع عشر.

ثمّ إنّ المحقّق ذكر فرعاً رابعاً في كلامه: و هو أنّه لو ادّعى الحربي أنّ الإنبات كان بعلاج لا بالطعن في السنّ ليتخلّص بذلك من القتل الذي هو حدّ من حدود

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 516

الله فهل يقبل قوله أو لا؟ قال المحقّق: فيه تردّد و لعلّ الأقرب أنّه لا يقبل إلّا مع البيّنة.

أقول: في المسألة أقوال: ثلاثة:

الأوّل: ما استقر به المحقّق من عدم السماع إلّا بالبينة أخذاً بإطلاق ما دلّ على أنّ الإنبات علامة للبلوغ فيقتل شأن كل حربي سُبي في أثناء الحرب.

الثاني: سماع قوله بلا يمين أخذاً بالقاعدة في باب الحدود من درئها بالشبهات «1» و هو الأحوط و عدم صحّة توجّه اليمين عليه لاستلزامه الدور، لأنّ صحّة اليمين موقوفة على البلوغ فلو كان البلوغ موقوفاً على اليمين لدار. أضف إلى ذلك، أنّ مقتضى صحّة اليمين هو عدم البلوغ، لأنّه يحلف على أنّه لم يبلغ و أنّ إنبات الشعر كان بعلاج.

الثالث: سماع قوله مع الحلف عند القطع بالبلوغ لأنّ قطع الدعوى لا بدّ أن يكون بالبيّنة و اليمين، و سماع حلفه بما أنّه مستلزم للدور يقتضي إيقاف الحكم و تأخيره إلى القطع ببلوغه، حتى يحلف، و هذا هو الأقرب.

نعم قال الشهيد في الدروس أنّ اليمين موقوف على إمكان بلوغه لا على بلوغه «2» و هو كلام مجمل و أوضحه السيّد الطباطبائي بقوله بأنّ بلوغه متوقف على اليمين و لكن يمينه موقوف على قاعدة قبول قول من ادّعى ما لا يعلم إلّا من قبله عنه مع احتمال صدقه.

لكن احتمال اختصاص الكبرى بمن ادّعى شيئاً لا يعلم إلّا من قبله و هو

بالغ، يوجب عود الدور أيضاً، إلّا أن يقال، أنّ سبب السماع ليس هو البلوغ، بل كونه مما لا يعلم إلّا من قبله، و لا يتفاوت فيه البالغ و غيره، و أنّ ملاك القبول كونه لا يعلم إلّا من قبله.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24، من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 4.

(2) السيّد الطباطبائي: ملحقات العروة: 2/ 208207.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 517

المسألة السادسة: فيما لا يمكن رد اليمين فيه

ذكر الشيخ مسائل ثلاث «1» و جعل عنوان الجميع قوله: «ثلاث لا يمكن ردّ اليمين فيها» ثمّ ذكر كل مسألة على تفصيل و إليك نصّه في كل واحدة.

إحداها: أن يموت رجل و لا يخلِّف وارثاً مناسباً، فالمسلمون ورثته، فوجد الحاكم في روزنامته ديناً له على رجل أو شهد شاهد واحد بذلك، فأنكر من عليه الدين، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف سقط الحقّ و إن لم يحلف، لم يمكن ردّ اليمين لأنّ الحاكم لا يمكنه أن يحلف عن المسلمين و المسلمون لا يتأتى منهم الحلف لأنّهم لا يتعيّنون.

و قال بعضهم يحكم بالنكول و يلزمه الحقّ لأنّه موضع ضرورة، و قال آخرون و هو صحيح عندهم أنّه يحبس حتّى يحلف أو يقرّ، و الذي يقتضيه مذهبنا أنّه يسقط هذا لأنّ ميراثه للإمام، و عندنا أنّه لا يجوز أن يحلف أحد عن غيره و لا بما لا يعلمه، فلا يمكنه اليمين مع أنّ الإمام لا يحلف، فيحبس المدين حتّى يعترف فيؤدّي أو يحلف و ينصرف.

و حاصله: أنّ المدّعى عليه إن حلف فقد خلص، و إن نكل، فلا يصحّ ردّ اليمين في المقام لأنّ المفروض أنّه لا وارث له، و وارثه إمّا الإمام أو المسلمون و الإمام لا يحلف لأنّه لا

يجوز أن يحلف أحد عن غيره، و لا بما لا يعلمه، و أنّ شأن الإمام أرفع من أن يحاكَم و يحلف هذا كله حول الإمام و أمّا المسلمون الوارثون فهم غير متعينين، فبقى هنا احتمالان:

1- الحكم بالنكول و يلزمه الحقّ لأنّه موضع ضرورة.

2- يحبس حتّى يحلف أو يقرّ هذا كلام الشيخ في المبسوط في الفرع الأوّل.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 214.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 518

و إليك نصّه في الفرع الثاني: قال الثانية: إذا مات رجل و أوصى إلى رجل فادّعى الوصيّ على الورثة أن أباهم أوصى بشي ء للفقراء و المساكين، فأنكروا ذلك، فالقول قولهم، فإن حلفوا سقطت الدعوى، و إن نكلوا لم يمكن ردّ اليمين، لأنّ الوصيّ لا يجوز أن يحلف عن غيره و الفقراء و المساكين لا يتعيّنون، و لا يتأتّى منهم الحلف، فما الذي يفعل؟ قال قوم يحكم بالنكول و يلزم الحقّ، لأنّه موضع ضرورة، و قال آخرون يحبس الورثة حتّى يحلفوا أو يعترفوا و هو الذي نقوله.

و حاصله نفس ما ذكرناه في الفرع الأوّل، و هو أنّ المدّعى عليه إن حلف فقد خلص، و إن لم يحلف فلا يمكن ردّ اليمين إلى الوصي لأنّه لا يجوز أن يحلف عن غيره (الفقراء) و أمّا حلف الفقراء و المساكين فهم غير متعينين و لا يتأتّى منهم الحلف فبقي احتمالان:

1- القضاء بالنكول.

2- أو الحبس حتّى يقرّ، أو يحلف.

3- و أمّا الفرع الثالث فلم يذكره المحقّق و سيوافيك نصّ الشيخ بعد الفراغ عن الكلام في الفرعين الأولين.

ثمّ إنّ المحقّق أورد على الشيخ و قال: إن السجن عقوبة لم يثبت موجبها و أوضحه الشهيد بقوله: لأنّ الحقّ لا يثبت بالشاهد الواحد

فينزّل هذه الدعوى منزلة ما لا بيّنة فيه فإن حلف، أو نكل و قضينا بالنكول و إلّا وقف الحقّ لعدم تيسّر القسم الأخير و هو حلف المدّعي.

و أجاب عنه صاحب الجواهر و قال: إنّ موجبها، اقتضاء الدعوى المسموعة من المنكر، اليمينَ أو الأداءَ بعد تعذّر الردّ «1». و لعلّه يريد، أنّ المجوّز لسماع الدعوى، هو المجوّز لحبسه حتّى يحلف أو يقرّ و بعبارة أُخرى أنّ إطلاق أدلّة استحقاق المدّعي اليمين على المنكر يقتضي إلزامه عليه و بما أنّه مستنكف عنه

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 265.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 519

يحبس حتّى يؤدّي.

هذه هي الكلمات الواردة في المقام. و لنا أن ندرس الاحتمالات الثلاثة:

1- الردّ على الحاكم و الوصي

قد عرفت سابقاً أنّه إذا أمكن الردّ فلا وجه للقضاء بالنكول لكن المهمّ هو ثبوت عدم إمكان الردّ فالوجوه المذكورة في كلمات الشيخ و صاحب الجواهر لا يتجاوز عن الأُمور التالية المذكورة في كلام الشيخ، 1 لا يجوز أن يحلف عن غيره، 2 و لا بما لا يعلمه، 3 أنّ الإمام لا يحلف و إليك دراسة الأدلّة الثلاثة:

أمّا الأوّل أعني أنّه لا يجوز الحلف عن الغير فانّما يصحّ إذا لم تكن للحالف صلة بالموضوع، و لا أيّ مبرّر لإقامة الدعوى، كالجار بالنسبة إلى مال جاره و حقوقه، و أمّا إذا كان الغير على منزلة تصحّ له إقامة الدعوى و رفع الشكوى إلى المحكمة، فلما ذا لا يصحّ له الحلف على ما يدّعيه و بهذا يعلم أنّه يجوز للحاكم و الوصيّ، الحلف على ما يدّعيه، و ذلك لأنّ لهما الولاية على أموال المسلمين و حقوقهم ولاية عامة كالحاكم أو خاصّة كالوصيّ، فكما يصحّ

لهما إقامة الدعوى، يصحّ لهما، الحلف إذا كانا عالمين للمحلوف به.

و أمّا الثاني، و هو لا يختصّ بالمقام بل يعمّ كلّ مورد لا يكون للحالف علم بالمحلوف به، أضف إلى ذلك أنّه لم لا يجوز أن يحلف بمقدار ما علم كحلفه بأنّه وجد في روزنامته، أنّه مديون، أو شهد شاهد بأنّه كذا، على أنّ المفروض في كلامه علم الوصيّ بكونه مديوناً، و ربّما يحصل للحاكم علم بالصدق برؤيته في روزنامته.

و أمّا الثالث أعني أن الإمام لا يحلف، فقد أوضحه في الجواهر و قال: نعم مع فرض علمهما (الحاكم و الوصيّ) تتوجّه اليمين من الوارث غير الإمام مع الشاهد، بخلاف الإمام عليه السلام المعصوم من الخطأ و الزلل و إن استعمل الموازين

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 520

الشرعية و الأُصولية المرعيّة لكنّه مسدّد في خصوصياتها التي استعملها، عن الخطأ بخلاف غيره. «1»

المسألة السابعة: لو كان الدين مستغرقاً للتركة و للميّت دين على الغير:

اختلفت كلماتهم في أنّه إذا مات إنسان و عليه دين مستغرق محيط بالتركة، فهل تنتقل التركة إلى الوارث، و تكون من المال المحجور على مالكه التصرّف و يكون الدين متعلّقاً بها تعلّق الرهانة أو تبقى على حكم مال الميّت و في المسالك و المفاتيح نسبته إلى الأكثر، و في وصايا السرائر: إذا كان على الميّت؟ دين يحيط بالتركة، فإنّها بلا خلاف بيننا لا تدخل في ملك الغرماء و لا ملك الورثة، و الميّت قد انقطع ملكه و زال فينبغي أن تكون موقوفة على انقضاء الدين «2».

و لكن المشهور، هو القول الأوّل و يؤيّده ارتكاز العقلاء، خلافاً للمحقّق حيث اختار الوجه الثاني و تظهر الثمرة في النماء، فعلى الأوّل فهو للورثة، و لا يتعلّق به حقّ الديّان إذا كان

الدين أزيد من أصل التركة، بخلاف ما إذا قلنا بالثاني فيكون متعلّقاً للدين و باقياً على حكم مال الميّت.

ثمّ إنّ هنا فروعاً مستخرجة من كلام صاحب الجواهر نبحث عنها على رأي المحقّق من بقاء التركة على حكم مال الميّت، لا على القول المشهور و هي:

1- لو كان الدين محيطاً بالتركة و ادّعى الوارث ديناً للميّت على ذمّة آخر على وجه لو استحصل يرجع إلى الدّيان، فيقع الكلام فيمن تجوز له إقامة الدعوى، فهل هو الوارث أو الدائن؟

لا كلام على القول الأوّل أنّه الوارث، لانتقال الملك إليه، لكن الكلام على القول الثاني أعني خيرة المحقق فقال المحقّق: هو الوارث لأنّه قائم مقامه.

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 267.

(2) الجواهر: 26/ 84.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 521

يلاحظ عليه: أنّه قائم مقامه فيما جعله الشارع ولياً، كالتجهيز و غيره و أمّا المقام فهو و الدائن متساويان لأنّ الدين باق على ملك الميّت كالأعيان الخارجية، و لو استحصل لاستولى عليه الدائن فلا وجه لتقديم واحد على الآخر و قد عرفت الميزان فيمن تصحّ له إقامة الدعوى.

2- لو كان هناك شاهد على الدين، قال في الجواهر: «حلف الوارث دون الدائن نعم في القواعد لو امتنع كان للدائن إحلاف المديون لتعلّق حقّه بالتركة».

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان الدين ملكاً للميّت أو في حكم ملكه فالوارث و الدائن بالنسبة إلى الأخذ متساويان و قد عرفت عدم ولاية الوارث بالنسبة إلى ما بقي في حكم ملكه، و ما يتبادر إلى الذهن من أنّ الوارث أولى من الدائن فإنّما هو لأجل أنّ المرتكز في الأذهان هو انتقال التركة إلى الوارث فيكون هو المتعيّن و لكن الكلام على مبنى المحقّق، و بذلك

يظهر النظر في كلام القواعد حيث علّق إقدام الدائن على امتناع الوارث بل هما في درجة واحدة.

3- و لو أقام الوارث الدعوى و حلف الغريم برأ من الوارث و الدائن.

4- و لو أقام الدائن الدعوى و حلف الغريم برأ منهما، (خلافاً للجواهر حيث قال بأنّ براءة ذمّة الغريم بالنسبة إلى المحلّف) و ما هذا لأنّ هنا حقّاً واحداً، يجوز لكلّ من الوارث و الدائن استحصاله، فاذا حلف واحد منهما فقد ذهبت اليمين بالحقّ على ما في الروايات فلا يبقى للآخر، موضوع.

و بذلك يعلم أنّه لو أقام الدائن الدعوى و حلف الغريم له، ثمّ أقام الوارث، و لكن لم يحلف الغريم له بل ردّ اليمين إلى الوارث، فحلف، ليس للوارث أخذه فضلًا عن أخذ الدائن حقّه.

كلّ ما ذكرنا، على مبنى المحقّق و أمّا على القول بالانتقال، فالمرجع في إقامة الدعوى و الإحلاف و حلف اليمين المردودة هو الوارث لا غير نعم لو امتنع الوارث من إقامة الدعوى جاز للحاكم إقامة الدعوى لصالح الدائن لأنّه وليّ الممتنع.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 522

البحث الثالث القضاء بالشاهد و اليمين
اشارة

اتفقت كلمة الأصحاب على صحّة القضاء بالشاهد مع اليمين في الجملة و وافقهم في ذلك لفيف من غيرهم قال الشيخ: يحكم بالشاهد و اليمين في الأموال عندنا و عند الشافعي و مالك على ما سنبيّنه، و يحكم عندنا بشهادة امرأتين مع اليمين دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. «1»

و قال في المبسوط: عندنا يجوز القضاء بالشاهد الواحد مع يمين المدّعي و به قال جماعة و أباه آخرون، و قال بعضهم الترتيب ليس شرطاً بل هو بالخيار إن شاء حلف قبل شاهده و إن شاء بعده كالشاهدين من شاء شهد قبل

صاحبه. و الصحيح أنّه على الترتيب يشهد له شاهده ثمّ يحلف فإذا ثبت جواز ذلك فالكلام بعده فيما يقضى بها فيه و ما لا يقضى و جملته كلّ ما كان مالًا أو المقصود منه المال فالمال كالقرض و الغصب و الدين و قضاء الدين و أداء مال الكتابة و أمّا المقصود منه المال فعقود المعاوضات كالبيع و الصرف و السلم و الصلح و الإجارة و القراض و المساقاة و الهبة و الوصية و الجناية التي توجب المال كالخطإ و عمد الخطأ و عمد يوجب المال كما لو قتل ولده أو عبد غيره ... «2».

و قال ابن قدامة في المغني: و أكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدّعيه بشاهد و يمين روى ذلك عن أبي بكر و عمر و عثمان و عليّ رضي الله عنهم، و هو قول الفقهاء السبعة و عمر بن عبد العزيز و الحسن و شريح و أياس و عبد الله بن عتبة

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 7.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 189.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 523

و أبي سلمة بن عبد الرحمن و يحيى بن يعمر و ربيعة و مالك و ابن أبي ليلى و أبي الزناد و الشافعي.

و قال الشعبي و النخعي و أصحاب الرأي و الأوزاعي: لا يقضي بشاهد و يمين و قال محمّد بن الحسن: من قضى بالشاهد و اليمين نقضتُ حكمه لأنّ الله تعالى قال: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ) «1» فمن زاد في ذلك فقد زاد في النص، و الزيادة في النصّ نسخ و لأنّ النبي صلَّى الله عليه و آله

و سلَّم قال: «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» فحصر اليمين في جانب المدّعى عليه كما حصر البيّنة في جانب المدّعي.

و لنا ما روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم باليمين مع الشاهد الواحد. رواه سعيد بن منصور في سننه و الأئمة من أهل السنن و المسانيد، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب و في الباب عن علي و ابن عباس و جابر و مسروق، و قال النسائي: إسناد حديث ابن عباس في اليمين مع الشاهد إسناد جيد، و لأنّ اليمين تشرع في حقّ من ظهر صدقه و قوى جانبه و لذلك شرعت في حقّ صاحب اليد لقوّة جنبته بها و في حقّ المنكر لقوّة جنبته فإنّ الأصل براءة ذمّته و المدّعي هاهنا قد ظهر صدقه فوجب أن تشرع اليمين في حقّه.

و لا حجّة لهم في الآية لأنّها دلّت على مشروعية الشاهدين و الشاهد و المرأتين و لا نزاع في هذا و قولهم إنّ الزيادة في النصّ نسخ غير صحيح لأنّ النسخ الرفع و الإزالة، و الزيادة في الشي ء تقرير له لا رفع و الحكم بالشاهد و اليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين و لا يرفعه و لأنّ الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه و لم تكن نسخاً و كذلك إذا انفصلت عنه.

و لأنّ الآية واردة في التحمّل دون الأداء و لهذا قال: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا

______________________________

(1) البقرة: 282. ذكره أيضاً، الحكم بن عتيبة، و سلمة بن كهيل لأبي جعفر و هو أجاب عن الاستدلال لاحظ الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1،

ص: 524

فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ) و النزاع في الأداء و حديثهم ضعيف «1» و ليس هو للحصر بدليل أنّ اليمين تشرع في حقّ المودع إذا ادّعى ردّ الوديعة و تلفها و في حقّ الأُمناء لظهور جنايتهم، و في حقّ الملاعن و في القسامة و تشرع في حقّ البائع و المشتري إذا اختلفا في الثمن، و السلعة قائمة و قول «محمّد» في نقض قضاء من قضى بالشاهد و اليمين يتضمن القول بنقض قضاء رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و الخلفاء الذين قضوا به و قد قال الله تعالى: (فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) «النساء/ 65) و القضاء بما قضى به محمّد بن عبد الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أولى من قضاء محمّد بن الحسن المخالف له. «2»

و قد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السَّلام على صحّة القضاء بشاهد و يمين و حكوا قضاء رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم به و سيوافيك قسم منها. و المسألة عندنا إجماعية لا خلاف في أصلها.

نعم يقع الكلام في أُمور:
1- هل يشترط تقدّم الشهادة على اليمين أو لا؟
اشارة

قد عرفت نصّ الشيخ على الترتيب و قال المحقّق: و يشترط شهادة الشاهد أوّلًا، و ثبوت عدالته ثمّ اليمين و لو بُدِئ باليمين وقعت لاغية و افتقر إلى إعادتها بعد الإقامة. «3»

و الظاهر عدم دليل صالح لإثبات شرطية التقدّم غير وجوه ذوقية أشبه بالاستحسان أما النصوص فلسان أكثرها، شهادة رجل واحد و يمين، بتقديم الرجل على اليمين «4» و لفيف منها على العكس: باليمين مع الشاهد

______________________________

(1) الحديث ليس بضعيف، نعم هو ليس بحاصر.

(2) المغني: 12/

10.

(3) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 92، و اختاره ابن ادريس أيضاً في السرائر لاحظ: 2/ 140.

(4) الوسائل: 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم: الحديث 121، 14، 17، 18.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 525

الواحد «1» و قد جاء الشاهد في لسان أبي حنيفة متقدّماً على اليمين تارةً و متأخّراً أُخرى «2».

و هذا يعرب، عن عدم تبادر الترتيب مضافاً إلى الإطلاقات المتضافرة فلو كان الترتيب شرطاً، لكان على القائل البيان، و إنكار كون المتكلّم في هذه الروايات الكثيرة في مقام البيان، كما ترى خصوصاً في معتبرة داود بن الحصين «3».

أضف إلى ذلك، أنّ العناية باليمين مع الشاهد الواحد، هو لأجل كسب الاطمئنان بصدق المدّعي فإنّ الإيمان بالله، ربّما يصدّ الإنسان عن الحلف بالكذب، و على هذا لا فرق بين تقدّم اليمين أو تأخّره.

و مع ذلك فقد ذكروا وجوهاً لشرطية الترتيب نظير:

أ المدَّعي وظيفته البيّنة لا اليمين بالأصالة فإذا أقام شاهداً صارت البيّنة التي هي وظيفته ناقصة و تتمّمها اليمين بالنصّ بخلاف ما لو قدم فإنّه ابتدأ بما ليس وظيفته و لم يتقدّمه ما يكون متمّماً له. «4»

يلاحظ عليه بوجهين:

1- أنّه محجوج بالإطلاقات، الدالّة على عدم الفرق.

2- أنّ اساس الاستدلال، كون اليمين متمّماً له، و أمّا إذا كان في عرض الشاهد، كما هو مقتضى بعض التعبيرات، فلا و قد عرفت أنّ العناية باليمين بكسب الاطمئنان بصدق مقالة المدّعي، و عندئذ لا فرق بين التقدّم و التأخّر.

ب إذا قدم الشاهد يقوى جانب المدّعي، و إنّما يحلف من يقوى جانبه

______________________________

(1) الوسائل: 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم: الحديث 13، 15، 16، 19، 20.

(2) المصدر نفسه الحديث: 13، 17.

(3) الوسائل: 18 الباب

24 من أبواب الشهادات، الحديث 35.

(4) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 418.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 526

كما أنّه (المدّعي) يحلف إذا نكل المدّعى عليه لأنّ النكول قوّى جانب المدَّعي.

يلاحظ عليه: أنّه مبنيّ على كون الشاهد أصلًا و اليمين فرعاً حتّى يتقوى الشاهد باليمين و أمّا إذا كان كلّ على وزان واحد فلا و الحقّ أنّ هذه الوجوه التي لم نذكر بعضها لا تعدّ دليلًا قاطعاً أمام الإطلاقات الماضية الّتي لم يرد فيها لزوم الترتيب.

ثمّ إنّه تظهر الثمرة في كون اليمين أصلًا أو تبعاً فيما لو رجع الشاهد عن شهادته فعلى القول بأصالة كل من الشاهد و اليمين يغرم الشاهد النصف، و لكن على القول بأصالة الشهادة و أنّ اليمين شرط أو متمّم، فيغرم الكلّ، شأن كلّ شاهد يرجع عن شهادته، بعد صدور القضاء.

2- تحديد حجّيتهما من حيث المورد:
اشارة

قد اختلفت كلماتهم في تحديد المورد، إلى أقوال:

فمن قائل باختصاصهما بالدين، إلى قائل بشمولهما العين، إلى ثالث (كالطوسي في المبسوط) بعموميّتهما لما كان مالًا أو يقصد منه المال كالدين و القرض و الغصب و الالتقاط و الاحتطاب و الأسر و ما يقصد به المال كما في المعاوضات كالبيع و الصرف و الصلح و الإجارة و القراض و الهبة و الوصية و الجناية الموجبة للدية كالخطإ المحض، و عمد الخطأ و قتل الوالد ولده، و الحرّ العبد، و كسر العظام، و ضابطه ما كان مالًا أو المقصود منه المال فلا يشمل القصاص، إلى رابع، بشمولهما لحقوق الناس كلّها في مقابل حقوق الله و لا بأس بنقل بعض الكلمات و قد مرّت بعضها:

قال ابن الجنيد: و قد روي أنّ النبيّ قضى بشاهد واحد و يمين المدّعي و ألزم

الحقّ المدّعى عليه و ذلك في الأموال و ما جرى مجراها دون الحدود. «1»

______________________________

(1) المختلف: 4/ 182.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 527

قال المفيد: و يجب الحكم بشهادة الواحد مع يمين المدّعي في الأموال بذلك قضى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. «1»

قال الشيخ: إذا شهد لصاحب الدين شاهد واحد، قبلت شهادته، و حلف مع ذلك و قضى له به و ذلك في الدين خاصّة، و لا يجوز قبول شهادة واحد و الحكم بها في الهلال و الطلاق و الحدود و القصاص و غير ذلك من الأحكام. «2»

و قال في الاستبصار عند محاولة الجمع بين الروايات: فلا تنافي بين هذه الأخبار، و الأخبار الأولة لأنّ هذه الأخبار و إنّ كانت عامّة في أنّ رسول الله قضى بذلك و لم يبيّن فيما فيه قضى فينبغي أن نحملها على الأخبار المتقدّمة المفصّلة بأن نقول إنّه قضى بذلك في الدين على ما تضمّنته الروايات الأولة و الحكم بالمفصّل أولى منه بالمجمل. «3»

و قد عرفت كلام الشيخ في الخلاف و المبسوط حيث صرّح فيهما على حجّيتهما في المال أو المقصود منه المال.

و قال الحلبي: و يقوم شهادة الواحد و يمين المدّعي في الديون خاصّة مقام الشهادة الكاملة. «4»

و قال سلّار: و شهادة واحد، و هو في رؤية هلال شهر رمضان، و في الديون مع يمين المدّعي. «5»

و قد نسب القول بالاختصاص إلى ابن زهرة في الغنية «6» و الكيدري في

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 727.

(2) الطوسي: النهاية: 334، و ذيل العبارة شاهد على أنّ مراده من الدين، هو المال حيث استثنى أمثال الهلال و الطلاق، لا البيع و الإجارة.

(3) الطوسي: الاستبصار باب

ما يتحوّر فيه شهادة الواحد مع يمين المدّعي: 3/ 33.

(4) الحلبي: الكافي: 438.

(5) سلّار: المراسم: 233 طبع بيروت.

(6) ابن زهرة: الغنية المطبوع ضمن الينابيع: 11/ 195.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 528

الأصباح «1» و قد عبرا عن المسألة بعبارة واحدة و هي:

«و إن احضر شاهداً واحداً، أو امرأتين قال له الحاكم تحلف مع ذلك على دعواك ...» و ليس فيها أيّ إشارة إلى المورد فضلًا عن التصريح بالدين.

و قال ابن ادريس: تقبل شهادة الشاهد الواحد مع يمين المدّعي في كلّ ما كان مالًا أو المقصود منه المال» «2».

و قال العلامة: و أعلم أنّه لا منافاة بين كلام شيخنا في النهاية و غيرها لأنّ مقصوده من الدين المال فإذا قبل في المال قبل فيما كان المقصود منه المال و كان ذريعة إلى تحصيله. «3»

و يتسرّب هذا الاحتمال إلى كلام الحلبي و الديلمي و يكون القول الثالث هو المتفق عليه. كما لا يخفى.

و على كلّ تقدير فالاختلاف في المسألة مستند إلى الروايات و لا بدّ من دراستها. ثمّ نتخذ موقفاً حاسماً في المسألة.

أقول: إنّ لسان الروايات على وجوه:
الأوّل: ما يدلّ أو يستظهر منه أنّ القضاء به يختصّ بمورد الدين

و إليك ما يدلّ عليه:

1- روى محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال كان رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين و لم يجز في الهلال إلّا شاهدي عدل». «4»

______________________________

(1) الكيدري: اصباح الشيعة: 533.

(2) ابن ادريس: 2/ 140 و نسب إلى الشيخ أنّه عدل عما في النهاية، في استبصاره بل عدل في خلافه و مبسوطه.

(3) العلامة: المختلف: 4/ 184.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 14، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 529

2- روى حمّاد بن عثمان قال سمعت أبا عبد الله يقول: «كان علي عليه السلام يجيز في الدين شهادة رجل و يمين المدّعي» «1» و الحقّ أنّ الدين فيهما من قبيل المورد، و هو لا يخصص، نعم هناك ما يدلّ على اختصاص الحكم بالدين.

3- روى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ و له شاهد واحد قال: فقال: «كان رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقضي بشاهد واحد و يمين صاحب الحقّ و ذلك في الدين». 2

4- روى القاسم بن سليمان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: قضى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده». 3

فإنّ قوله: «و ذلك في الدين» أو قوله: «في الدين وحده» يدل على اختصاص الضابطة به و إلّا لكان يعبّر بما في الأوليين.

5- ما رواه داود بن الحصين عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث مفصّل يقول فقلت: فانى ذكر الله تعالى: (فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ) فقال: «ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان، فرجل و امرأتان، و رجل واحد و يمين المدّعي إذا لم تكن امرأتان قضى بذلك رسول الله و أمير المؤمنين بعده عندكم». 4

و بما ذكرنا يعلم ضعف ما ربّما يقال بأنّ المورد غير مخصّص و أنّ القضاء بهما في الدين أو جوازه لا يقتضي عدم القضاء و لا عدم جوازه بغيره 5 فإنّ ما ذكره إنّما يناسب الأوليين، دون غيرهما فإنّ لسانهما، لسان التحديد و الحصر لو كان الدين بالمعنى المقابل للعين.

الثاني: ما يدلّ على الجواز في العين.

روى عبد الرحمن بن

الحجّاج عن أبي جعفر في حديث مفصّل أنّ علياً وجد

______________________________

(1) 1- 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 14، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3، 5، 10.

(2) 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 35.

(3) 5 الجواهر: 40/ 274.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 530

درع طلحة في يد عبد الله بن قفل التميمي فقال له عليّ: هذه درع طلحة اخذت غلولًا يوم البصرة فرضياً بقضاء شريح فلمّا حضرا عنده قال شريح لعلي عليه السلام: هات على ما تقول بيّنة فأتى الحسن فقال شريح: هذا شاهد واحد و لا أقضي بشهادة شاهد حتّى يكون معه آخر إلى أن قال فغضب علي عليه و قال ... ثمّ أتيتك بالحسن فشهد فقلت هذا واحد و لا أقضي بشهادة واحد حتّى يكون معه آخر، و قد قضى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بشهادة واحد و يمين. «1»

و معنى ذلك أنّه كان على شريح القضاء في مورد الدرع الذي هو العين، بشاهد و يمين، و ما أفاده صاحب الجواهر من أنّ الإمام أنكر على إطلاق قول شريح: «ما أقضي إلّا بشاهد آخر معه» لا على عدم قضائه في المورد بهما، ضرورة عدم كون خصوص المقام مما يكتفي فيه بالشاهد و اليمين من الوالي. «2» غير تام لكونه على خلاف ظاهر الرواية لأنّ ظاهرها هو تنديد الإمام بعدم تطبيقه الضابطة على المورد و ما في ذيل الرواية من قوله: «ويلك أو ويحك أنّ إمام المسلمين يؤمن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا» لا يدلّ على أنّ ذمّ الإمام كان متوجّهاً على إطلاق كلام شريح، لا على عدم قضائه

بهما في المورد، و ذلك لأنّه لا منافاة أن يكون الذم لأجل أمرين ذكرهما الإمام تدريجاً و إن كان الخطب حسب الوجه الثاني أعظم، و لأجل ذلك قال في الجواهر أنّ شريحاً كان مخطئاً أزيد من وجوه ثلاثة (و هذا رابعها) و أنّ اقتصاره عليه السلام على الثلاثة حسب فهم شريح.

و مع ذلك يمكن رفع الاختلاف بين اللسانين بأنّ المراد من الدين هو المال، فإنّ الدين و إن كان يطلق في مقابل العين في مصطلح الفقهاء لكن لا يبعد، أن يراد منه مطلق المال. قال ابن منظور في اللسان: «كل شي ء غير حاضر دين» فيعمُّ العينَ الغائب، و قال الطريحي: «اقض عنّي الدين: حقوق الله و حقوق العباد»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 14، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

(2) الجواهر: 40/ 273.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 531

فاستعمل الدين في الحقوق، قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لٰا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَ لٰا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً إلى أن قال: إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَلّٰا تَكْتُبُوهٰا) (البقرة/ 282).

فقد فسّر الدين بالسلم و القرض. «1» و قال الطبرسي: «و ظاهر الآية يقع على كلّ دين مؤجّل سلماً كان أو غيره و عليه المفسّرون و الفقهاء و قال ابن عباس باختصاص الآية بالسلم». «2» و غير الحاضر في السلم، هو العين و ربّما يكون موجوداً في المخزن دون المجلس و بذلك يرتفع الخلاف، و قد تقدّم عن العلّامة أنّه

فسّر الدين في كلام الشيخ بالمال. و بذلك رفع الخلاف بين كلماته.

الثالث: ما جاء فيه لفظ «مع يمين صاحب الحقّ»

روى منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «كان رسول الله يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحق» «3». و هذا القسم من الروايات قابل للحمل على صاحب المال حملًا للظاهر على الأظهر، أو المطلق على المقيّد و يؤيّده ما ورد في باب ردّ المنكر اليمين على المدّعي «4» فقد ورد فيه صاحب الحقّ و اريد به، المال، الأعم من الدين و العين و قال سبحانه: (فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) (البقرة/ 282) فالمراد منه صاحب المال.

الرابع: ما يحدّد الموضوع بحقوق الناس، أو في مقابل الهلال

و على هذا فالموضوع أوسع مما ذكر سابقاً و يؤيّده وجوه.

1- روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لو كان الأمر إلينا أجزنا

______________________________

(1) تفسير الجلالين: 63.

(2) الطبرسي: مجمع البيان: 1/ 397.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2 و لاحظ الحديث 8، 14.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 532

شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق الله عزّ و جلّ أو رؤية الهلال فلا». «1»

فإنّ مقتضى هذا القسم بل القسم السابق إذا لم يفسر بصاحب المال، عموم ذلك لكل حقّ للناس حتّى القصاص و حقّ الشفعة و الخيار و نحوها لا خصوص المال، نعم تخرج الشهادة على الهلال الذي لا وجه للحلف عليه من حيث إنّه كذلك من أحد، و كذا غيره من الموضوعات العامّة التي لا حقّ بالخصوص فيها لأحد مثل حقوق الله تعالى التي هي أيضاً لا دعوى لأحد بالخصوص فيها «2».

2- ما جاء في رواية محمّد بن

مسلم كان رسول الله يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين و لم يجز في الهلال إلّا شاهدي عدل «3» فإنّ هذا الحديث يستثني الهلال، و الحديث السابق استثنى حقوق الله، و كأنّهما يدلّان على أنّ الباقي يثبت بهما.

3- ما مضى في القسم الثالث من الروايات، حيث حدّد الموضوع بيمين صاحب الحقّ.

4- مرسلة يونس عمّن رواه قال: استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه». «4» فالمتبادر منه أنّ الشاهد و اليمين مثل ما تقدّم يثبت بهما، ما يثبت بما تقدّم.

5- يستفاد من التأمّل في النصوص أنّ اليمين الذي مع الشاهد، هو يمين

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 12.

(2) الجواهر: 40/ 274.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 533

المنكر الذي إن شاء ردّها على المدّعي و حينئذ يكون الميزان ما يثبت بهما «1».

و لكن المساعدة مع إطلاق الوجه الرابع مشكلة، إذ من القريب أن يكون المقصود من حقوق الناس هو الأُمور المالية فلا تشمل الحقوق المحضة كحقّ الحضانة و الوارد في الرواية الأُولى لمحمّد بن مسلم و إن كان هو حقوق الناس لكن الوارد في ثانيتها هو «صاحب الدين» و عند ذلك تنطبق الروايات على الضابط المشهور: ما كان مالًا أو المقصود منه المال. «2»

نعم سيوافيك أنّ الضابطة أوسع ممّا ورد في هذه العبارة و إن لم يكن

على سعة الوجه الرابع فانتظر.

ثمّ إنّ كل من ردّ القضاء بالشاهد و اليمين، كالحكم بن عتيبة، و سلمة بن كهيل و أبي حنيفة و تلميذه محمّد بن الحسن، استدلّوا بأنّ الوارد في الذكر الحكيم هو العدلان أو الرجلان أو رجل و امرأتان قال سبحانه: (فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ) (الطلاق/ 2) و قد استدلّ بها ابن عتيبة و ابن كهيل كما في الرواية «3» و قال سبحانه: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ) (البقرة/ 282) كما استدلّ بها محمّد بن الحسن الشيباني أيضاً على ما نقله ابن قدامة في المغنى «4».

و الجواب عن الاستدلال بهما من وجهين:

الأوّل: إنّ مورد الآيتين، هو مقام التحمّل، لا الأداء، و يشهد لذلك مضافاً

______________________________

(1) استخرجنا هذه الوجوه من كلام صاحب الجواهر لاحظ: 41/ 274.

(2) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 92.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

(4) ابن قدامة، المغني: 12/ 10.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 534

إلى قوله: (وَ أَشْهِدُوا) و (اسْتَشْهِدُوا)، قوله سبحانه: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ).

الثاني: ما قاله الإمام في جواب الرجلين عند الاستدلال بالآية الأُولى حيث قال قول الله: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) هو لا تقبلوا شهادة واحد و يميناً؟ و كأنّه يريد أنّ التشريع الأوّل لا ينفي التشريع الثاني فمن الممكن أن يكون كلاهما نافذين، و به أيضاً أجاب ابن قدامة، استدلال الشيباني كما نقلناه و يحتمل أن يكون كلامه عليه السلام ناظراً إلى

ما ذكرناه في الجواب الأوّل من أنّ الآية ناظرة إلى مقام التحمّل لا إلى مقام الأداء، و القضاء بشهادة رجل و يمين، راجع إلى المقام الثاني، فلا صلة للآية بمقام الأداء.

المقياس في كون الدعوى مالية:

ثمّ بعد القول باختصاص الأدلّة بالأمور المالية فقط يقع الكلام في تحديد الدعوى الماليّة التي يثبت بهما فهنا وجهان:

الأوّل: لو ادّعى مالًا على شخص بسبب من الأسباب، سواء كان السبب يقصد منه المال نوعاً أو لا، بل يكفي كونه مستتبعاً له في ذلك المورد ففي تلك الموارد يحتجّ بالشاهد و اليمين. و على ذلك، يثبت بهما دعوى الدين و الغصب، و البيع و الإجارة، القراض و الهبة، حتّى النكاح و الخلع و الطلاق و الرجعة و العتق و التدبير و الكتابة و النسب و الوكالة و الوصيّة إليه و عيوب النساء بشرط أن يدّعي أمراً مالياً لأجل ادعاء هذه العناوين من غير فرق بين كون المدّعى نفس المال كالدين و الغصب، أو يقصد منه المال نوعاً، كالبيع و الإجارة و الهبة أو لا يقصد منه إلّا استتباعاً كالنكاح و الخلع و الطلاق، و ذلك أخذاً بإطلاق الأدلّة و هذا هو الأظهر عندنا.

الثاني: ما ذكره الشيخ الطوسي في المبسوط و المحقّق في الشرائع من

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 535

تخصيصه بما إذا كان مالًا أو كان المقصود منه مالًا نوعاً، و أمّا إذا لم يكن المقصود منه المال و إنّما يستتبع المال فلا.

و على ضوء ذلك تقسّم العناوين إلى أربعة:

1- يكون المدّعى نفس المال كالدين و القرض و الغصب أو ما يقصد به المال (نوعاً)، كما في المعاوضات كالبيع و الصرف، و الصلح، و الإجارة، و القراض و الهبة

و الوصية له و الجناية الموجبة للدية كالخطإ و عمل الخطأ و قتل الوالد لولده و كسر العظام، و الجائفة و المأمومة.

2- ما يتردّد بين كونه داخلًا في الضابطة أو خارجاً كالنكاح فبما أنّ المقصود منه التناسل و سكون النفس فهو خارج عن المقسم، و بما أن المدّعي إذا كان زوجة فهي بطرح الزوجية تدّعي المهر و النفقة.

3- ما هو خارج عن الضابطة كالخلع و الطلاق، و الرجعة و العتق و التدبير و الكتابة و النسب و الوكالة و الوصيّة إليه و عيوب النساء.

4- ما استشكل في خروجه و دخوله كالوقف، لأجل الشكّ في أنّ الوقف هل ينتقل إلى الموقوف عليهم، أم ينتقل إلى الله، أو التفصيل بين الانحصار فالأوّل و عدمه فالثاني، أو يبقى في ملك الواقف.

و الظاهر عدم الدليل على الضابطة الواردة في كلام المحقّق «ما كان مالًا أو كان المقصود منه مالا» بل الضابط كل ادّعاء مالي يستند إلى سبب من الأسباب، سواء كان السبب مما يقصد منه المال نوعاً، أولا يقصد منه إلّا استتباعاً و على ضوء ذلك فلو ادّعت الزوجة النكاح، لغاية طلب النفقة و المهر، يثبت بهما و إن كان النكاح ما لا يقصد منه المال نوعاً، و مثله إذا ادّعى الزوج الخلعَ لأجل تملّك المهر، أو ادّعت المرأةُ الرجعةَ لغاية النفقة و بذلك تقف على أنّ التقسيم الرباعي الوارد في كلامه غير مفيد. بعد عموميّة القاعدة، لكلّ ادّعاء مالي مستند إلى ادّعاء سبب، سواء كان السبب ممحضاً في ثبوت المال أو لا.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 536

و لأجل عدم الدليل على الضابطة ذكر صاحب الجواهر أنّها في غاية التشويش و السبب فيه

هو أنّ الضابط المزبور لم نجده في شي ء من النصوص و إنّما الموجود فيها عنواناً للحكم «حقوق الناس» بعد عدم تقييدها بنصوص الدين.

بقي هنا أمران:

الأوّل: هل الشاهد و اليمين يثبت بهما المال فقط أو يثبت العناوين من البيع و الإجارة و غيرهما؟ الظاهر هو الأوّل، لظهور الأدلّة في ثبوته خاصّة و على ذلك لو ادّعى أنّه باع حيواناً بثمن كذا، و أقام شاهداً مع اليمين يثبت الثمن على ذمّة المشتري و لا يثبت الخيار المختصّ بالحيوان و ممّن التفت إلى ذلك، الشهيد في الروضة قال: «ينبغي القطع بثبوت المال كما لو اشتملت الدعوى على الأمرين في غيره كالسرقة فانّهم قطعوا بثبوت المال». «1» و هو متين و لو قلنا بسعة دليل الشاهد مع اليمين و شموله لكل ادعاء مالي على ما عرفت و عدم اختصاصه بالضابطة التي ذكرها المحقّق، فإنّه لا يثبت بهما العناوين، كالنكاح و الزوجة و النسب حتّى يترتّب عليها آثارها.

الثاني: قد عرفت أنّ المحقق استشكل في الوقف و ذكرنا وجه تردّده لكن الحقّ هو التفصيل بين الوقف العام كالوقف على الفقراء و الطلّاب و الزوّار، و الوقف الخاص كالوقف على الأولاد، فالمالك في الأوّل هو العناوين الكلّية لا الأفراد الخارجية منهم، و لذلك لا يصحّ لهم إقامة الدعوى على العين الموقوفة، لأنّهم ليسوا بمالكين و لا متولّين، نعم يصحّ للحاكم إقامة الدعوى و إثباتها بشاهد و يمين و ليس عمل الحاكم من قبيل إثبات مال الغير بحلفه، لما عرفت من ولايته على أموال الفقراء و غيرهم.

و أمّا الوقف الخاص، فيصحّ حلفهم لكونهم مالكين للأصل و المنفعة، غاية الأمر ليس لهم بيع الموقوفة و تبديلها، و من ثمّ صحّ لهم الحلف.

______________________________

(1) الجواهر: 40/

279.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 537

إذا ادَّعت جماعة مع الشاهد الواحد

إذا ادّعت جماعة مالًا عند رجل انتقل إليهم بسبب خاص كالإرث، يكفي الشاهد الواحد في المقام لأنّ شهادته تنحلّ إلى شهادات حسب تعدّد الأفراد، و أمّا الحلف، فلا يكفي حلف واحد منهم، و إنّما يثبت حقّ الكلّ بحلف الجميع، لأنّها تنحلّ إلى دعاوي متعدّدة.

و قد نقل صاحب الجواهر عن المقدّس البغدادي كفايةَ الحلف الواحد و يُحمل على ما إذا كان المدّعي وليّاً، أو حاكماً حيث إنّ له حقّ إقامة الدعوى للمولّى عليه واحداً كان أو كثيراً و إلّا فهو بظاهره غير صحيح.

و لو افترضنا حلف البعض دون الآمر يثبت بمقدار سهم الحالف و هل المأخوذ له، أو لا؟ فهنا وجوه و احتمالات:

1- يكون المأخوذ مشاعاً و مشتركاً بين الحالف و الناكل سواء كان المدّعى به عيناً، أو ديناً.

2- التفصيل بين العين فيكون المأخوذ مشاعاً، دون الدين بل يختصّ بالحالف.

3- يختصّ بالحالف و يُحْرم الناكل مطلقاً، سواء كان المدّعى به عيناً أو ديناً.

و لكلّ وجه:

أمّا الأوّل: فإنّه لا إشكال في الاختصاص بالحالف إذا باع سهمه من المدّعى عليه أو وهبها من غيره أو أبرأ ذمّة الغريم منه، إنّما الكلام فيما إذا قبضَ حصّته من العين أو الدين فبما أنّه يعترف بالشركة يكون المقبوض مشاعاً بينه و بين الناكل و بالجملة هو يعترف بأنّ ما يأخذه جزء من المال أو الدين المشاع بينه و بين غيره و معه كيف يختصّ بالحالف؟!

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 538

و أما الثاني و هو التفصيل بين العين و الدين فوجهه أنّ العين مشتركة بينهما، و إفراز الغريم، لا يخرجها عن الإشاعة من دون

رضا الشركاء فتبقى على إشاعتها، و هذا بخلاف الدين فإنّ ذمّة الغريم مشغولة بكلّ واحد من الشركاء على نحو الاستقلال فإفراز سهم واحد منهم، يتوقَّف على نيّة الدافع، و ذلك لأنّ المفروز ملك للدافع بالأصالة، و إنّما يخرج عن ملكه إذا أدّاه بنيّة الدين، فلو أخرجه عن ملكه بنيّة أنّه سهم الحالف يكون ملكاً له، و يتشخّص جزء من الدين الكلّي في المقبوض.

و الحاصل فرق بين العين و الدين، فإنّ تقسيم الأولى، و تشخّص مال كلّ واحد في المقبوض يتوقّف على رضا المشاركين و لا يكفي رضا الدافع، إذ لا دور له في إفراز مال الغير المشخّص، و هذا بخلاف الدين فإنّ ذمّته مشغولة بكلّ واحد منهم بمقدار سهمه، و ليس إفراغ ذمّته بالنسبة إلى واحد منهم، متوقّفاً على إفراغها من الفرد الآخر و تعيّن جزء من ماله، يتوقّف على تمليكه و المفروض أنّه ملّكه للحالف، دون الآخر و كون أصل الدين مشتركاً أو مشاعاً، لا يمتنع تعيّن ما دفعه للحالف.

و أمّا الثالث: فما ذكر في الدين لا غبار عليه، لكن الكلام في اختصاص المقدار المقبوض من العين للحالف و وجهه أنّ العين و إن كانت مشاعة و لا تخرج عن الإشاعة بنيّة الدافع، لكن لمّا كان في وسع الناكل أن يحلف و يستنقذ سهمه و لكنّه امتنع بلا وجه يكون حكم الحاكم في مورد تمّت الحجّة فيه للحالف، تقسيماً قهرياً للعين المشاعة لأنّ المفروض أنّه يحكم بأنّ المقبوض للحالف، دون الناكل، و معنى صحّة الحكم هو التقسيم القهري.

أضف إلى ذلك أنّه لولاه يلزم الضرر على الحالف لعدم إمكان أخذ حقّه بدون إذن الشركاء.

و ما ذكرناه من تعيّن المأخوذ للحالف من الدين يطابق القاعدة و

لا يخالفه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 539

ما ورد في باب الشركة من أنّه إذا قبض أحد الشريكين ما جعل له، شاركه الآخر فيما قبضه أعني ما روي عن أبي جعفر عليه السلام سئل أبو جعفر عن رجلين بينهما مال، منه بأيديهما. و منه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما، و أحال كلّ واحد منهما من نصيبه الغائبَ فاقتضى أحدهما و لم يقتض الآخر قال: ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ما يذهب بماله. «1»

و ذلك لأنّ القدر المتيقّن من الرواية ما إذا أدّى الدافع بما أنّه مال للشركة و عندئذ لا يتشخّص للقابض و إلّا فلو أدّى بما أنّه سهمه دون سهم الآخر، لكان المقبوض له.

ثمّ إنّ نكول الشريك الآخر، من الحلف ليس مثل نكول المدّعي من الحلف حيث يكون حكم الحاكم فيه بمعنى براءة ذمّة المدّعى عليه من الدين و هذا بخلاف المقام، فإنّ الامتناع من الحلف بمعنى إيقاف المحاكمة و تأخيرها إلى وقت آخر حتّى يأتي بالشاهد الثاني و لأجل ذلك لو مات الناكل، قام وارثه مقامه فلو حلف مع سبق الشهادة يثبت حقّه. و لا يضرّ الفصل.

شرائط نفوذ اليمين في القضاء بالشاهد و اليمين

ذكر المحقّق لنفوذ اليمين شرطين:

أحدهما: أن يحلف بما يعرفه يقيناً.

ثانيهما: لا يثبت باليمين مالًا لغيره.

أمّا الأوّل فقد تضافرت الروايات على أنّه لا يحلف الرجل إلّا على علمه «2»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، كتاب الشركة، الباب 6، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 16، الباب 22 من أبواب كتاب الأيمان، الحديث 41.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 540

إنّما الكلام في معنى العلم، فهل المراد منه العلم الوجداني أي العلم حسب اصطلاح المنطقيين و هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع أو

المراد الأعم منه و من الحجّة الشرعية كالبيّنة، و اليد و الاستصحاب، و إن استشكل صاحب الجواهر في الأخير و قال: «لعدم العلم المعتبر في الحلف الذي لم يثبت قيام نحو ذلك مقامه في الفرض بل لعلّ الثابت خلافه». «1» و قد أفتى المحقّق بجواز الشهادة تعويلًا على الاستصحاب و على ذلك لا فرق بين الحلف و الشهادة خصوصاً إذا قلنا بأنّه من الأُصول التنزيلية، التي ينزل فيها المؤدّى منزلة الواقع. و الله العالم.

و أمّا الثاني فدليله انصراف أدلّة اليمين مطلقاً و خصوص قوله عليه السلام في المقام: «مع يمين صاحب الحقّ أو مع يمين طالب الحقّ» «2» إلى ذلك أي كون اليمين لصالح الحالف، لا لغيره.

و قد فهم المحقّق و غيره من هذه الروايات إثبات الملك لنفسه، و لكن أنّ الموضوع أوسع منه بل كلّ من تصحّ منه إقامة الدعوى، يصحّ منه الحلف سواء أثبت الملك لنفسه أو لغيره الذي له صلة به في مورد الدعوى و على ضوء ذلك يصحّ الحلف من وليّ الطفل و المجنون و متولّي الوقف و الحاكم بالنسبة إلى الأموال العامّة، كالزكوات و الأخماس و الإمام و أمّا التعبير عن الحالف بصاحب الحقّ و طالبه فهو وارد مورد الغالب أو المراد منه من له صلة له بحيث يعدّ صاحبَه و طالبَه و الشاهد على ذلك، إن الإمام أقام الدعوى على من استولى على درع طلحة، بما انّه ولي أُمور المسلمين و أموالهم، و لو كان شريح واقفاً بالضابطة و طلب من الإمام الحلف بعد إقامة الشاهد الواحد، لما امتنع الإمام منه، مع أنّه لم يكن يثبت الملك لنفسه و بما ذكر تنحل مشكلة المدير العامل في الشركات الكبيرة، حيث

يتمتع باختيارات منها إقامة الدعوى لصالحها فلو أقام شاهداً

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 282.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 14، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 8 و 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 541

و حلف، فلا يثبت المال لنفسه بل للشركة بما أنّه مديرها و متولّيها، كلّ ذلك يعرب عن أنّ المناط صحّة إقامة الدعوى و أن لا يكون الحالف بالنسبة إلى مورد الدعوى أجنبيّاً فاقداً للمسئولية و بذلك يظهر أنّ ما أفاده السيّد الطباطبائي في ملحقات العروة غير تامّ. قال: إذا كان المدّعي قيم الصغير أو المجنون و أقام شاهد واحداً ليس له الحلف بل يتوقّف إلى أن يبلغ الصغير و يفيق المجنون و إن اقتضت المصلحة طي الدعوى بالمصالحة مع المدّعى عليه جاز. «1» و من المعلوم أنّ الإيقاف ربّما ينتهي إلى ضرر المولّى عليه.

لو ادّعى غريم الميّت مالًا له على آخر

لو ادّعى غريم «2» الميّت مالًا له على آخر مع شاهد.

أقول: إنّ للمسألة صوراً:

1- أن يكون الدين غير مستوعب.

2- أن يكون الدين مستوعباً و قلنا بانتقال التركة إلى الورثة غاية الأمر تكون التركة رهناً في مقابل الدين.

3- بقاء التركة في ملك الميّت أو في حكم ملكه.

فعلى الأوّل و الثاني يتوجّه اليمين إلى الوارث لأنّه صاحب الحقّ و طالبه و مالكه و لا تصل النوبة إلى الغريم (الدائن) و الحلف لأجل إثبات الملك للحالف و أمّا على الثالث فالوارث و الغريم بالنسبة إلى الدين متساويان كما مرّ و توهّم عدم نفوذ يمين الوارث لأنّ المحلوف به إثبات المال للغير (الميّت) لا يضرّ لما

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 95.

(2) المراد من الغريم هنا هو الدائن، و يستعمل أحياناً بمعنى المديون و قد نصّ الجوهري في

الصحاح و الفيروزآبادى في القاموس على أنّه من الأضداد.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 542

عرفت من كفاية كون الحالف مأموراً بالأخذ و الدفع، فإنّ المتولّي لأُمور الميّت و تحصيل دينه و صرفه في مواضعه هو الولد، فيجوز حلفه و لأجل ذلك يجوز له أداء الدين من الخارج و إن كان الدين مستوعباً و لأنّه إذا أبرأه الغريم يكون الدين له.

و مثله الغريم، فيصحّ له الحلف لأنّ الغاية من إثبات الملك للميّت هو تملّكه و لأجل ذلك يجب اقتران الحلف على مالكيّة الميّت للدين، بشي ء يدلّ على أنّ له حقّاً في ذمّة الميّت حتّى يكون الدين المحلوف به، له في النهاية و بذلك يظهر إتقان ما ذكره السيّد الطباطبائي حيث صحّح يمين كلّ من الوارث و الغريم و قال بجواز حلف الوارث مطلقاً مستوعباً كان الدين أو لا و لو قلنا ببقاء ما يقابل الدين على ملك الميّت أو على حكم ملكه في الدين غير المستوعب، فضلًا عن المستوعب الذي يكون الكلّ على ملكه ثمّ علّل جواز حلف الوارث بأنّ له تعلّقاً إلى أن قال إنّ ما ذكر من عدم جواز حلف الغريم إنّما هو إذا حلف على أنّ المال للميّت و أمّا إذا حلف على أنّ له حقّاً في استيفاء دينه من هذا المال فلا نسلّم عدم جوازه، لأنّه حينئذ حلف على حقّ نفسه و إن لم يثبت به كونه مالًا للميّت. «1»

كما ظهر الضعف في كلام المحقّق حيث قال: و إن امتنع الوارث لم يحلف الغريم. و قد عرفت أنّهما في مقابل الدين المستوعب سواسية.

نعم لو امتنع الوارث في الدين غير المستوعب فهنا وجهان:

1- يحلف الغريم.

2- يقوم الحاكم مكان

الوارث و يحلف، و ذكر في الجواهر احتمالًا ثالثاً و هو أنّه للغريم إحلاف المدّعى عليه، لأنّ له تعلّقاً بذلك فإن أحلفه برأ من

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 96.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 543

الغريم، و لم يبرأ من الوارث. «1»

إذا ادّعى الورثة ديناً لمورّثهم على أحد «2»

إذا ادّعى الورثة ديناً لمورّثهم على أحد و أقاموا شاهداً واحداً و حلفوا ثبت حصصهم، و إن امتنع البعض عن الحلف، لم يشارك الباقين، لما عرفت من تعيّن الحصص في مال مشخص، يتوقّف على نيّة الدافع، و المفروض أنّه دفع بما أنّه سهم الحالف، لا السهم المشترك بين الحالف و الناكل و قد تقدّم.

و لو كانت للميّت وصيّة في مورد الدين يثبت بالحلف «3» و ذلك لأنّها من غير فرق بين كونها عهدية أو تمليكية.

أمّا الأُولى كأن يوصي بشي ء من تركته لزيد، و يلحق بها الإيصاء بالتسليط على حقّ و أمّا الثانية كأن يوصي بما يتعلّق بتجهيزه أو باستئمار الحجّ أو الصلاة أو نحوهما. نعم لا موضوع للقسم الثالث للوصيّة و هو الوصيّة الفكيّة كأن يوصي بفكّ ملك كالإيصاء بالتحرير، لأنّ المفروض أنّ المشهود به، هو الدين لا العين حتّى يتحقّق فيها الإيصاء الفكيّ.

ثمّ إنّ الموصى له لو كان شخصاً معيّناً، أو أشخاصاً معيّنين، يحلفون و يأخذ كلّ حصّته و إن كانوا غير محصورين كما إذا كان الموصى له هو نوع الفقراء، فمن المحتمل، حلف الحاكم إذا كان عالماً و اختار السيّد الطباطبائي أنّه لا بدّ من ثبوتها بشاهدين أو رجل و امرأة. لخروج المورد عن الضابطة و فيه تأمّل يعلم ممّا سبق.

و لو كان بين الورثة مولّى عليه لصغر و نحوه قال المحقّق: يوقف نصيبه فإن

كمل و رشد حلف و استحق المال و إن امتنع لم يحكم له. و إن مات قبل ذلك

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 283.

(2) قد تقدّم نظير المسألة في قوله: «إذا ادعت جماعة مع الشاهد الواحد».

(3) أي حلف الموصى له.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 544

كان لوارثه الحلف و استيفاء نصيبه «1».

يلاحظ عليه: مضافاً إلى انتهاء ذلك إلى ضياع حقّ الصغير أنّه يكفي في الحلف كون الحالف مسئولًا في مورد المال، كالوصي و اليتيم و الحاكم فيكفي حلفهم.

مسائل ثلاث:
اشارة

ذكر المحقّق في المقام مسائل خمس و نحن نذكر منها ثلاثاً، لخروج الباقي عن مورد الابتلاء في زماننا هذا.

المسألة الأُولى: فيما إذا ادّعى بعض الورثة وقفية الدار للأولاد

إذا كان الوارث جماعة فادّعى بعضُهم أنّ المورِّث وقف عليهم بعضَ أعيان التركة كالدار مثلًا و أقاموا شاهداً واحداً ليضمُّوا إليه اليمين و قلنا بثبوت الوقف كما سيوافيك بشاهد و يمين فله صور سيأتي بيانها و لنذكر أُموراً تلقى الضوء على المسألة:

1- ربّما يتصوّر أنّ الحاجة للحلف لأجل وجود من ينكر الوقف من الورثة في جميع الصور و ذلك لأنّه لو كانوا متّفقين على الوقف ثبت الوقف عليهم بلا يمين لصحّة إقرارهم بما في أيديهم و إليه أشار الشيخ في المبسوط قال: و إنّما تفرض المسألة إذا كانت مع البنين (المدّعين) غيرهم لأنّه لو لم يكن غيرهم يثبت الدار وقفاً عليهم بلا يمين. «2»

قلت: إنّ الحاجة إلى اليمين لأجل دفع تعلّق الديون و الوصايا بها، و اتّفاقهم على الوقفية لا يغني عن الحلف. و على ذلك يمكن تصوير الصور الآتية

______________________________

(1) المحقّق الحلّي، الشرائع: 4/ 93.

(2) الطوسي، المبسوط: 8/ 195.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 545

بلا منكر.

2- إنّ الداعي لادّعاء الوقفية ربّما يكون علمهم بكون الدار وقفاً و خوفهم من الله إذا سكتوا او أنكروا و ربّما يكون الداعي قطع يد الديّان أو الأوصياء عنها حتّى لا يتعلّق بها حقّهم، و يؤدّي الديون من سائر التركة لو كانت.

3- إنّ الكلام في المقام على القول بكفاية الشاهد و اليمين في إثبات الوقف قال الشيخ: فمن قال ينتقل إلى الموقوف عليه قال يثبت بالشاهد و اليمين، لأنّه نقل ملك من مالك إلى مالك، و من قال ينتقل إلى الله لا إلى مالك قال:

لا يثبت إلّا بشاهدين لأنّه إزالة ملك إلى الله كالعتق. «1» و قد مرّ إثبات كفايتهما في إثبات المال دون العنوان (الوقف) و لكن لمّا كان إثبات المال في المقام متّحداً مع إثبات العنوان، لا بأس بثبوته بهما و إن لم نقل بالإثبات في سائر العناوين.

4- إنّ الوقف ينقسم إلى وقف الترتيب و وقف التشريك، فلو قالوا إنّه وقف علينا، و بعدنا على أولادنا فهو وقف ترتيبي و لو قالوا وقف علينا و على أولادنا بحيث يشارك أولادُ الأولاد مع الطبقة الأُولى فهو وقف تشريكي.

5- قد قدّم المحقّق الكلام في الأوّل (وقف الترتيب) و نحن نقتفيه و جعل للمسألة صوراً ثلاثاً:

الف: إذا ادّعى بعض الورثة، و لكن في مقام الحلف حلف الجميع.

ب: إذا ادّعى بعض الورثة، و امتنع الجميع عن الحلف.

ج: إذا ادّعى بعض الورثة، فمنهم من حلف و منهم من لم يحلف.

و إليك الكلام في جميع الصور:

الصورة الأُولى: قال المحقّق: فإن حلف المدّعون مع شاهدهم قضى لهم. «2»

و يترتّب على ذلك خروج الدار عن تعلّق حقّ الديّان بها، و لا يقضى منها

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 195.

(2) المحقّق الحلّي، الشرائع: 4/ 93.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 546

الوصايا فإن كانت للميّت تركة غيرها، تتعلّق الديون و الوصيّة بها و يُقسم الباقي على أسهم الإرث.

ثمّ إذا انقرضوا فهل تحتاج الطبقة الثانية إلى الحلف أو تثبت عليهم و على سائر الطبقات بحلف الطبقة الأُولى؟ قال في المسالك: وجهان مبنيان على أنّ البطن الثاني يتلقّون الوقف من البطن الأوّل أو من الواقف فإن قلنا بالأوّل و هو الأشهر فلا حاجة إلى اليمين كما إذا أثبت الوارث ملكاً، بشاهد و يمين ثمّ مات

فإنّ وارثه يأخذه بغير يمين إلى أن قال: و إن قلنا بالثاني، لم يأخذ إلّا باليمين كالبطن الأوّل. «1»

يلاحظ عليه: بأنّ الظاهر أنّ كلّ طبقة يتلقّى من الواقف و ما ذكره من أنّ الأشهر الأخذ من الطبقة الأُولى لما تحقّقه و مع ذلك كلّه يكفي حلف الطبقة الأُولى، و ذلك لأنّ المحلوف به هو الوقف الذُريّ و هو أمر واحد مستمرّ و على ذلك جرى المحقّق حيث قال في أوائل المسألة الثالثة: «و لا يلزم الأولاد بعد انقراضه يمين مستأنفة لأنّ الثبوت الأوّل أغنى عن تجديده» و لعلّ مقصوده من الثبوت الأوّل هو ما ذكرناه من أنّ الوقف أمر مستمرّ، و ثبوته عين ثبوت الاستمرار و لأجل ذلك أضاف المحقّق و قال: «و كذا إذا انقرضت البطون و صار إلى الفقراء أو المصالح» وجه عدم الحاجة هو أنّ ثبوت الوقفية يلازم الاستمرار فإذا كان المحلوف به هو كون البيت وقفاً لهم ثمّ على الفقراء بعد انقراض النسل، يثبت كونه وقفاً لهم فلا حاجة إلى اليمين.

الصورة الثانية: و هي ما إذا نكل الجميع عن اليمين قال المحقق: و إن امتنعوا حكم بها ميراثاً يقضي منه الديون و الوصايا و كان نصيب المدّعين (الجميع) وقفاً نعم لو كان بين الورثة منكر، فلا يكون تحت يده وقفاً و لو ماتوا تكون حصّة كلّ واحد وقفاً أخذاً بإقرار آبائهم بأنّ البيت وقف و عدم حلفهم لا

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 420.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 547

يضرّ بإقرارهم فلا يحتاج إلى اليمين لأنّ الواصل إلى كلّ مدع للوقفية أمر لا منازع فيه فيكفي الإقرار من كلّ بطن بأنّ ما في يده وقف،

و يكون حجّة للبطن الآخر.

و من هنا يعلم عدم الحاجة إلى عنوان فرع آخر و هو ما في المسالك قال: و هل للأولاد أن يحلفوا على أنّ جميع الدار وقف؟ وجهان من كون الأولاد تبعاً لآبائهم فإذا لم يحلفوا لم يحلفوا، و من أنّهم يتلقّون الوقف من الواقف فلا تبعية «1»، لما عرفت من أنّ الإقرار بلا منازع يكون حجّة على الإنسان و من خلفه إلّا أن يكون الحلف لأجل قطع يد الديّان و غيره.

الصورة الثالثة: و هي ما إذا اختلفوا في اليمين (لا في ادّعاء الوقفية) فمنهم من حلف و منهم من لم يحلف قال المحقّق: ثبت نصيب الحالف وقفاً، و كان الباقي طلقاً يقضي منه الديون و يخرج الوصايا، و ما فضل يكون ميراثاً. و ما يحصل من الفاضل للمدّعين، يكون وقفاً.

و كلامه هذا يشير إلى أُمور:

1- نفترض أنّ الورّاث ثلاثة بين حالف و ناكلين، فميراث الحالف يكون وقفاً، لأنّه أقام شاهداً و حلف و لا يتعلّق به الدين و الوصايا.

2- الباقي كالثلثين إذا كان الناكلان ذكرين يكون ميراثاً لهما حسب الظاهر يخرج منه الديون و الوصايا و ادّعاء الناكلين الوقفية لا يؤثر في منع إخراج الديون و الوصايا، ما لم يحلفوا فلأجل ذلك، تقدّم الديون و الوصايا على التقسيم، و أمّا باقي التركة ففيها احتمالات:

أ: يقسّم بين الناكلين حسبَ سهامهم فلو كانوا إخوة، يقتسمان ثنائياً و ليس للناكلين التصرّف فيما بأيديهم حسبَ إقرارهم و إلى ذلك يشير المحقّق بقوله: و ما يحصل من الفاضل للمدّعين يكون وقفاً ..

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 420.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 548

ب: يُقسَّم بين الجميع حتّى الحالف، قال في

الجواهر: كما هو ظاهر بعض بل عن بعضهم التصريح به لاعتراف غيرهم من الورثة باشتراكه بينهم أجمع فيؤخذون بإقرارهم و يقسّم على الحالف و غيره.

يلاحظ عليه: كما في الجواهر أنّهم إنّما يعترفون بالاشتراك في الجميع و أنّ ما أخذه الحالف بالوقفية إنّما استحقه بالإرث، و الحالف أيضاً معترف لهم بذلك، فلا وجه لاشتراكه في الباقي. و الحاصل أنّ اعترافهم بالشركة مقيّد، بكون ما أخذه الحالف جزء من الشركة، فإذا استولى عليه أحد الورّاث و لو باسم الوقف، فقد أخذ حقّه في نظر الباقين فليس لهم اعتراف في هذه الحالة.

ج: يقسم بين الناكلين، لكن لو زاد نصيبهما إرثاً على نصيبهما وقفاً يكون الزائد مجهول المالك، كما إذا كان الحالف ذكراً، و الناكلان انثى فلو كانت الدار وقفاً تقسّم بين الثلاثة بالسوية و يكون لكلّ واحد ثلثها و لو كانت الدار ميراثاً، تقسم أرباعاً، فللحالف ربعان، و لكلّ واحد من الناكلين ربع فيزيد سهم كلّ من البنتين على الوقف عمّا تستحقان على الإرث، فلو افترضنا الدار اثني عشر سهماً، يكون سهم كلّ بنت على الوقفية أربعة سهام و على الميراث ثلاثة، فكلّ سهم من سهام البنتين يكون مجهول المالك لأنّ كلًا من الحالف و الناكلين يردّه أمّا الحالف لأنّه يدّعي الوقفية و قد أخذ سهمه و عليها تقسَّم الدار بالسوية و أمّا الناكلان فيدّعيان الميراث، فميراث كلّ بنت بمقدار الربع و هو أقلّ من الثلث.

3- إذا مات أحد الناكلين انتقل ما أقرّ بوقفيته، إلى الحالف دون ورثتهما، لأنّه مقتضى إقرارهما بالوقف الترتيبي.

4- إذا مات الحالف انتقل ما أثبته من ثلث الدار إلى الناكلين.

***

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 549

المسألة الثانية: في ادّعاء وقف التشريك

إذا ادّعى بعض

وقف التشريك و أنّ المورِّث وقف البيتَ على أولاده و أولاد أولاده بحيث لو كان له أولاد ثلاثة، و تولّد لبعضهم ولد يكون شريكاً مع الأعمام و الأب في المنافع فعندئذ يقع الكلام في أنّ البطن الثاني يفتقر إلى اليمين أو لا. اختار المحقّق في المقام لزوم الحلف على خلاف ما اختاره في الوقف الترتيبي قائلًا: بأنّ البطن الثاني بعد وجودها تعود كالموجودة وقت الدعوى، ضرورة تلقّي الجميع من الواقف و لا يثبت حقّ أحد منهم بيمين غيره. و قد مرّ أنّه قدَّس سرَّه اختار في الوقف الترتيبي عدم حاجة البطن الثاني إلى اليمين قائلًا بأنّ الثبوت الأوّل أغنى عن تجديده، بمعنى الاكتفاء بثبوته في حقّ الأوّلين عن إثباته في حقّ البطن الثاني. و على هذا يبقى بيان الفرق بين القسمين بعد اشتراكهما في أخذ الوقف عن الواقف و إليك بيانه:

إنّ البطن الثاني في الوقف الترتيبي في طول البطن الأوّل، فإذا ثبت كون البيت وقفاً كلّه و لو للبطن الأوّل يكفي للبطن الثاني أيضاً، و هذا بخلاف التشريكي فإنّ البطن الثاني، عدل للبطن الأوّل فحلفهم لا يكفي لمن هو عدل لهم و في عرضهم.

و لكن الفرق غير واضح، و ذلك: لأنّ البطن الثاني و إن كان في عرض البطن الأوّل، لكن بعد وجوده و تولّده و أمّا قبله فقد ثبت كون البيت كلّه وقفاً، فهذا الثبوت أغنى عن تجديده. و الحاصل أنّ البطن الثاني في كلا القسمين يتلقّون الوقف من الواقف غير أنّهم في الترتيبي لا ينتفعون بالوقف ما دام الأوّل موجوداً، بخلاف التشريكي، و أمّا وقفية البيت كلّه فتثبت قبل البطن الثاني وجوداً أو انتفاعاً فإن كان يكفي الثبوت الأوّل، فلازمه الكفاية مطلقاً و

إلّا فلا و التفريق غير واضح.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 550

و قد عرفت منّا أنّ ماهية الوقف أمر مستمرّ غير منقطع فثبوته نفس ثبوت الاستمرار، فلا حاجة إلى تجديده و على ضوء ذلك إذا صار لأحد الإخوة ولد، يشاركهم منذ تولّده بلا حاجة إلى اليمين و بهذا يُستغنى عن الفرع الذي ذكره المحقّق في ضمن المسألة الثالثة إذ هو مبني على لزوم حلف البطن الثاني في التشريكي بعد البلوغ و قد عرفت عدم لزومه و إليك كلامه قدّس سرَّه: لو ادّعى إخوة ثلاثة أنّ الوقف عليهم و على أولادهم مشتركاً فحلفوا مع الشاهد ثمّ صار لأحدهم ولد فقد صار الوقف أرباعاً (بعد ما كان أثلاثاً) و لا تثبت حصّة هذا الولد ما لم يحلف لأنّه يتلقّى الوقف عن الواقف فهو كما لو كان موجوداً وقت الدعوى و يوقف له الربع. «1»

ثمّ يقع الكلام في أنّه إذا عزل فهل يدفع إلى وليّه أو إلى أمين حتّى يبلغ؟

و هناك احتمال آخر و هو أنّه إذا قلنا بلزوم حلفه، فلما ذا لا يحلف عنه وليّه كما في سائر المقامات و ليس هذا حلفاً لإثبات الملك لشخص أجنبي، و إنّما هو حلف لما هو تحت ولايته و قيمومته، و من المعلوم أنّ الصبر و الانتظار يؤدّي إلى ضياع الحقّ.

و قد عرفت أنّا في غنى عن هذا الفرع، و الفرع الذي ذكره بعد. قال: «فإن كمل (بالبلوغ و الرشد) و حلف، أخذ الربع و غلّته المتجدّدة بعد ولادته. و إن امتنع فقد ذكروا لمصرفه وجوه:

1- قال الشيخ: يرجع ربعه على الإخوة لأنّهم أثبتوا أصل الوقف عليهم ما لم يحصل المزاحم و الولد بامتناعه جرى

مجرى المعدوم، و أورد عليه باعتراف الإخوة بعدم استحقاق الربع فكيف يجوز لهم أخذه؟!

2- صرفه إلى الناكل لاعتراف الإخوة باستحقاقه.

______________________________

(1) نجم الدين الحلّي: الشرائع: 4/ 94.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 551

3- أنّه وقف تعذّر مصرفه.

إلى غير ذلك من الوجوه المحتملة.

و لكنّا في غنى عن هذه الآراء و عن عقد الفرع، كما في غنى عن الفرع التالي أيضاً، و هو:

لو مات أحد الإخوة قبل بلوغ الطفل، عزل له الثلث من حين وفاة الميّت لأنّ الوقف صار أثلاثاً و قد كان له الربع إلى حين الوفاة فيضاف إليه نصف سدس 1/ 12 فإن بلغ و حلف أخذ الجميع و إن ردّ ففيه وجوه.

لأنّ كلّ ما ذكر مبني على لزوم اليمين عليه و قد عرفت عدم الحاجة و الله العالم.

المسألة الثالثة: في ثبوت الدية و عدمها

تثبت بالشاهد الواحد مع اليمين الدية فيما إذا ادّعى عليه القتل خطأ أو عمد الخطأ، لما عرفت من عموم حجّيتهما في إثبات المال، و أمّا إذا ادّعى عليه القتل الموجب للقصاص كما إذا كان عمداً فلا يثبت بهما. و أقصى ما يفيده الشاهد الواحد كونه موجباً لاحتمال صدق المدّعي للقتل، و يصير الموضوع صالحاً للقسامة كما حرّر في محلّه نعم لو قلنا باعتبارهما في مطلق حقّ الناس، لثبت بهما و قد عرفت عدم صحّته و اختصاصهما بالأموال و عدم إثبات العنوان.

[خاتمة تشتمل على فصلين]

[الفصل الأول] في كتاب قاض إلى قاض
و قبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً:
اشارة

1- إن الداعي لإبلاغ الحكم إلى قاض آخر أحد الأُمور التالية:

أ: إعلامه بإنهاء الخصومة و قطع المنازعة، حتّى لا يتصدّى القاضي الثاني

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 552

بفصلها، لأنّها فصلت فصلًا شرعيّاً.

ب: استيفاء الحقوق بإجرائه حكم القاضي الأوّل، إذ ربّما لا يستطيع الأوّل، الإجراء، لتباعد الغرماء عن أصحاب الحقوق.

ج: ربّما يكون حكم الحاكم الأوّل قضاء على الغائب، و الغائب على حجّته، فله أن يرفع الشكوى إلى القاضي الآخر، فيبلغه حكمه حتّى يكون على اطلاع من صدور حكم عليه فيأخذ حذره.

2- إنّ الهدف من إنهاء الحكم إلى قاض آخر ليس طلب القضاء و إصدار الحكم على وفق حكمه، و ذلك لأنّ صدور الحكم رهن قيام البيّنة و الأيمان عند القاضي الثاني، و لم تقم عنده فيكون الحكم على وفق حكمه من قبيل الحكم بما لا يعلم، بل المقصود، هو أحد الأُمور السابقة قال سيّدنا الأُستاذ: الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبيّ عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة، لأنّ قطع الخصومة، حصل بحكم الأوّل، و إنّما أنفذه و أمضاه الحاكم الآخر ليجريه الولاة و الأُمراء، و لا أثر له بحسب

الواقعة فإنّ إنفاذه و عدم إنفاذه بعد تمامية موازين القضاء في الأوّل سواء و ليس له الحكم في الواقعة لعدم علمه، و عدم تحقق موازين القضاء عنده. «1»

3- لا ينفذ الحكم و لا تفصل الخصومة إلّا بالإنشاء لفظاً و لا عبرة بالإنشاء كتباً و سيوافيك البحث فيه.

4- قد ذكر المحقّق أنّ إنهاء الحكم إمّا بالكتابة أو القول أو الشهادة، و اللازم هو البحث عن كلّ واحد على سبيل الاستقلال، و بما أنّ الإنهاء عن طريق الكتابة بما هي هي، لم يقل به أحد من الفقهاء، ذهب جماعة إلى كفايتها إذا ضمّ إليها البيّنة أو الشهادة و لأجل ذلك ربّما يحصل التداخل في نقل الأقوال بين الأوّل

______________________________

(1) تحرير الوسيلة 2، كتاب القضاء، خاتمة فيها فصلان: الفصل الأول، المسألة 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 553

و الثالث خصوصاً في كلمات الشيخ في الكتابين و مع ذلك نسعى أن نأخذ كلّ واحد بالبحث على وجه الاستقلال.

أقوال الفقهاء في إنهاء الحكم بأقسامه الثلاثة:

قال الشيخ: لا يجوز الحكم بكتاب قاض إلى قاض و خالف جميع الفقهاء في ذلك و أجازوه إذا ثبت أنّه كتابه. و قال أيضاً: لا يحكم بكتاب قاض إلى قاض سواء كان على صحّته بيّنة أو كان مختوماً فإنّه لا يجوز العمل به ثمّ نقل عن سائر الفقهاء قولين:

1- قال أهل العراق و الشافعي: يعمل به إذا قامت البيّنة على ثبوته و لا يعمل به إذا لم تقم و إن كان مختوماً.

2- و قال قضاة البصرة: إنّه إذا وصل مختوماً حكم و أمضاه و هو إحدى الروايتين عن مالك.

ثمّ القائلون بكفاية الكتابة المقرونة بالبيّنة اختلفوا في تحمّل الشهادة. «1»

فقال أبو حنيفة و الشافعي: لا يصحّ إلّا

بعد أن يقرأ الحاكمُ الكتابَ على الشهود، و يُشهدهم على نفسه بما فيه و لا يصحّ أن يدرجه ثمّ يقول لهما اشهدا عليّ بما فيه و لا يصحّ هذا التحمّل و لا يُعمل به.

و قال أبو يوسف: إذا ختمه بختمه و عنونه جاز أن يتحمّلا الشهادة عليه مدرّجاً يُشهدهما أنّه كتابه إلى فلان فإذا وصل الكتاب إليه شهدا عنده بأنّه كتاب فلان فيقرؤه و يَعمل بما فيه. «2»

فتلخّص من كلامه أنّ سائر الفقهاء كفقهاء الشيعة لا ينفذون كتاب قاض

______________________________

(1) من هنا يحصل الخلط بين الطريق الأوّل: الكتابة و الطريق الثالث: الشهادة فتذكّر.

(2) الطوسي، الخلاف: الجزء 3، كتاب القضاء، المسألة 2220.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 554

إلى قاض بمجرّد الكتابة لكن قضاة البصرة يكتفون في الثبوت بأحد الأمرين: البيّنة أو كونه مختوماً و لكن أهل العراق يقتصرون بالبيّنة وحدها.

لو أرادوا من البيّنة، الشهادة على حكم القاضي لا الشهادة على أنّه خطّه فقد اختلفوا في كيفية تحمّل الشهادة، فمنهم كأبي حنيفة و الشافعي اشترطا تحمّل الشهادة تفصيلًا بقراءة القاضي أو كاتِبه الكتاب لهما، لكن أبا يوسف قال بكفاية التحمّل و لو إجمالًا.

و لكن الشيخ لا ينفذ و لا يجيز كتاب قاض إلى قاض على أيّ وجه و لكنّه قدِّس سرَّه، أظهر المرونة في كتاب المبسوط بالثبوت فيما تحمّلا الشهادة تفصيلًا لا إجمالًا و إليك نصّه:

فإذا ثبت فكتب قاض إلى قاض كتاباً لم يجز أن يحكم بما فيه و لا يمضيه حتّى يثبت عنده بالبيّنات أنّه كتاب فلان إليه سواء وصل مختوماً أو غير مختوم، و قال قوم إذا وصل مختوماً حكم به و أمضاه. فإذا ثبت أنّه لا يقبل و لا

يعمل عليه إلّا بالشهادة فالكلام في فصلين: في كيفية التحمّل و كيفية الأداء.

أمّا التحمّل فإذا كتب القاضي كتابه استدعى بالشهود و قرأه هو عليهم أو دفعه إلى ثقة يقرأه عليهم فإذا قرأه عليهما أو قرأه الآخر فعليه أن يقول لهما: هذا كتابي إلى فلان و قد أشهدتكما ما فيه إلى أن قال فإذا وصل الكتاب معهما إليه قرأه الحاكم أو غيره على الحاكم و عليهما فإذا سمعاه قالا هذا كتاب فلان إليك و لا بدّ أن يقولا: قد أشهدنا على نفسه بما فيه، و سواء وصل الكتاب مختوماً أو غير مختوم معنوناً أو غير معنون، الباب واحد فإنّ الاعتماد على شهادتهما لا على الخط و الختم. إلى أن قال: فأمّا إن كتب الكتاب فأدرجه و ختمه ثمّ استدعى بهما فقال هذا كتابي قد أشهدتكما على نفسي بما فيه لم يجز و لا يصحّ هذا التحمل. «1»

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 124123.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 555

هذه كلمات الشيخ، و أمّا كلمات سائر الفقهاء فمن أراد الاطّلاع عليها فليرجع إلى المغني لابن قدامة «1».

الإنهاء بالكتابة

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ إنهاء حكم الحاكم إلى الآخر إمّا بالكتابة أو القول أو الشهادة فلنأخذ كلّ بالبحث مفرداً.

أمّا الإنهاء بالكتابة فالمشهور كما عرفت عدم العبرة بها لإمكان التشبيه و التزوير، و لكن الحقّ الاعتماد عليها إذا حصل الاطمئنان بالقصد و عدم التزوير و يؤيّده السيرة المستمرّة بين العقلاء في المقام و غيره و قد حقّق المسألة صاحب الجواهر، و قال: بل يمكن دعوى الضرورة على ذلك خصوصاً مع ملاحظة عمل العلماء في نسبتهم الخلاف و الوفاق و نقلهم الإجماع و غيره في كتبهم المعوّل

عليها بين العلماء. «2»

على أنّ محور القضاء و إبلاغ الأحكام إلى متولّي الإجراء، كلّها تتم بالكتابة المختومة المصونة عن التزوير، فلو اسقطنا الكتابة عن الاعتبار، لعرقلت القضاء خطى عن الإجابة على حاجات العصر.

الإنهاء بالقول

و هذا هو الطريق الثاني للإنهاء، كأن يقول القاضي الأوّل للآخر: حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت قال المحقّق: ففي القضاء به تردّد نصّ الشيخ في الخلاف أنّه لا يقبل و لكن الحقّ كفاية المشافهة فيما يترقّب من إعلام القاضي الثاني بحكمه و قد عرفناك الآثار التي يرتبها الثاني على قضاء القاضي الأوّل في صدر البحث و لا تقتصر المشافهة على الإبلاغ بشاهدي عدل.

______________________________

(1) ابن قدامة، المغني: 11/ 472469.

(2) النجفي، الجواهر: 40/ 304.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 556

الإنهاء بالشهادة
اشارة

هذا هو الطريق الثالث يبحث فيه عن جهتين:

الأُولى: حجّية الشهادة:

و قد استدل المحقّق على قبولها بوجوه أربعة مختلفة فإليك بيانها:

1- إنّ ذلك ممّا تمسّ الحاجة إليه إذ احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالب و تكليف شهود الأصل التنقلَ متعذّر أو متعسّر «1» فلا بدّ من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء و لا وسيلة إلّا رفع الأحكام إلى الحكّام. لا يقال: يُتوصّل إلى ذلك بالشهادة على شهود الأصل لأنّا نقول: قد لا يُساعد شهود الفرع على التنقل. و الشهادة الثالثة لا تُسمع.

2- لو لم يشرع إنهاء الأحكام بطلت الحجج مع تطاول المدد.

3- لأنّ المنع من ذلك يؤدّي إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة بأن يرافعه المحكوم عليه إلى الآخر، فإن لم ينفّذ الثاني ما حكم به الأوّل، اتّصلت المنازعة.

4- لأنّ الغريمين لو تصادقا انّ حاكماً حكم عليهما، ألزمهما الحاكمُ ما حكم الأوّل، فهكذا لو قامت البيّنة لأنّها تثبت ما لو أقرّ الغريم به، لزم. «2»

و لا يذهب عليك أنّ مفاد الأدلّة الثلاثة الأُول هو إثبات مشروعيّة حكم الحاكم الآخر، بإنفاذ ما حكم به الأوّل و هذا هو المقصود في المقام.

و أمّا الآخر، فسيق لإثبات حجّية البيّنة في إثبات حكم الحاكم و هو ليس

______________________________

(1) بخلاف الشاهدين اللّذين يستخدمهما القاضي للإرسال و ربّما يكونان من موظفي المحكمة أو خارجها و مستعدّين للسفر حتّى يشهدا بما رأيا و سمعا.

(2) الشرائع: 4/ 96.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 557

بمطروح في المقام لافتراض الإطلاق في حجّيتها فلا حاجة إلى الدليل الرابع.

الجهة الثانية: كيفية تحمّل الشهادة
اشارة

إنّ لتحملها صوراً نشير إليها:

1- أن يَحضرا شاهدا الإنهاء خصومة الخصمين و سمعا ما حكم به الحاكم و أشهدهما الحاكم على حكمه ثمّ شهدا بالحكم عند الآخر فيثبت بشهادتهما

حكمُ ذلك الحاكم لينفذ أو يثبت عنده ما حكم به على الغائب و هذه الصورة من التحمّل هي الصورة التامّة.

2- أن يحَضرا خصومة الخصمين و يسمعا ما حكم به الحاكم من دون أن يُشهدهما القاضي على حكمه بل كان هناك استماع فقط و هذه الصورة كالأُولى في الإثبات و لم يذكرها المحقّق.

3- أن لا يحضرا خصومة الخصمين، بل حضرا صدور الحكم من القاضي.

4- أن لا يحضرا شيئاً ممّا يرجع إليهما غير أنّ القاضي حكى لهما الواقعة و صورة الحكم و سمّى المتحاكمين بأسمائهما و آبائهما و صفاتهما و أخبرا بهما حكمه و قد سبق البحث عنه في الطريق الثاني و قلنا بالكفاية و قال المحقق فيه تردد و القبول أولى لأنّ حكمه لمّا كان ماضياً كان إخباره ماضياً و قد مضى الكلام فيه.

5- لو لم يحضرا الواقعة و إنّما أشهدهما على أنّه ثبت عنده كذا و كذا، قال المحقّق: لم يحكم به الثاني و علّله في الجواهر بأنّ الثبوت ليس حكماً، و ليس بملازم معه.

هذه صورة التحمّل، و تكفي عامّة الصور في إثبات صدور الحكم عن القاضي الأوّل، إلّا الأخير.

و للشاهدين أن يقصّا ما شاهدا، من الواقعة و ما سمعاه من لفظ الحاكم

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 558

و يقولا: «و أشهدنا على نفسه أو شهدنا» على كذا و كذا.

في تغيّر حال أحد الحاكمين

لو تغيّر حال الحاكم الأوّل بموت أو عزل، لم يقدح ذلك في العمل بحكمه، لكونه واجداً للشرائط عند الصدور نعم لو فسق ففيه التفصيل، فلو كان عادلًا حين الصدور و حين الإنهاء، (و إن فسق حين الوصول إلى القاضي الثاني أو وقت تنفيذه) كفى بخلاف ما لو افتقد العدالة

في أحد الظرفين الأوّلين.

و لو تغيّر حال المكتوب إليه، فلا يضرّ، لأنّ قضاء الأوّل حجّة على كلّ من كانت عنده البيّنة بأنّ الأوّل حكم على كذا.

مسائل ثلاث:
المسألة الأُولى: ينبغي أن يكون كتاب القاضي إلى قاض مثله، مشتملًا على خصوصيات الطرفين

بأن يشتمل على اسم المحكوم له و المحكوم عليه و اسم أبيهما، و مهنتهما، و اسم عائلتهما و رقم الهوية إلى غير ذلك من المواصفات التي بها يتعرّف على المحكوم عليه. ثمّ الشاهدان، تارة يشهدان على العين و أنّ الرجل الخارجي محكوم عليه و أُخرى على الأوصاف الكلّية، و على الأوّل، ينفّذ في حقّه الحكم سواء أقرّ بأنّه المحكوم عليه أو لا، لقيام البيّنة على الشخص الخارجي إنّما الكلام إذا شهدا على الأوصاف و انطبقت على شخص فحينئذ إن أقرّ، فيكون مثل الشهادة على العين و إن أنكر أن يكون هو المقصود من الأوصاف الواردة في الكتاب فله صورتان.

الأُولى: إذا كانت الأوصاف و الشهادة عليها على وجه يحتمل الاتّفاق

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 559

و الشركة غالباً كما إذا اقتصر القاضي على الاسم من دون أن يشير إلى اسم العائلة و غيره كأحمد بن محمّد. فهناك وجهان:

1- بطلان الحكم من أصل و هو خيرة صاحب المسالك قال: أمّا إذا اقتصر على إنّي حكمتُ على محمّد بن أحمد، مثلًا فقيل «1» يبطل الحكم لأنّ المحكوم عليه منهم لم يتعيّن بإشارة و لا وصف حتّى لو حضر رجل و اعترف بأنّه محمّد بن أحمد و انّه المعنى في الكتاب لم يلزم ذلك، لبطلان الحكم في نفسه إلّا أن يُقرَّ بالحقّ بخلاف ما استقصي الوصف و لم يقصِّر و ظهر الاشتراك و اتّفق اشتباهه «2» و مال إليه في الجواهر و حكى عن العلّامة في القواعد

و التحرير.

2- صحّة القضاء غاية الأمر، يرجع في تعيين المحكوم عليه إلى قواعد القضاء و عليه هنا صور ثلاث:

أ: إذا حضر رجل و ادّعى أنّه محمّد بن أحمد و أنّه المعني بالكتاب يُلْزمُ بالأداء و لا يتوقّف على الإقرار بالحقّ.

ب: لو أنكر أنّه المعنيّ به و أقام المدَّعي البيّنة على أنّه المعنيّ به، يؤخذ و يُلزم بالأداء.

ج: و إن لم يقم المدّعي البيّنة لزم على المنكر اليمين على أنّه ليس بمقصود.

الثانية: ما إذا استقصى القاضي الأوصافَ و لم يقصر على وجه يعدّ احتمال الاشتراك فيها نادراً، و عندئذ فإن أقامت البيّنة على أنّه اسمه و نسبه أو صدّق المدّعى عليه أنّه اسمه و اسم أبيه و صار كلّ ما جاء في الكتاب منطبقاً عليه و لم يوجد هناك من يشاركه في الاسم و الصفات المذكورة، لزمه الحكم لأنّ الظاهر أنّه المحكوم عليه. و لا يلتفت إلى إنكاره، لو أنكر.

نعم لو ادّعى أنّ في البلد رجلًا يساوي اسمه في الاسم و النسب يكلّف

______________________________

(1) القائل هو الشهيد في الدروس.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 424.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 560

بتعريفه و إثبات أنّ اسمه و نسبه مساويان معه، فيحضر المشارك فإن اعترف بالحقّ طولب به و يُخلّص الأوّل و إن أنكر وقف الحكم حتّى ينكشف و يتبيّن، للعلم الإجمالي، بأنّ أحد الرجلين محكوم بالأداء فيوقف الحكم عن التنفيذ في تميّز المحكوم عليه.

و أمّا إذا كان المساوي في الاسم و الوصف ميّتاً فلو دلّت القرائن على براءة الميّت كما إذا لم يعاصره المدّعي، أو كان تاريخ الحقّ متأخّراً عن موته، فيُلزم الحيّ بالدفع و إلّا وقف الحكم حتّى يتميّز المحكوم عليه

كما في صورة حياتهما.

المسألة الثانية إذا شهدت البيّنةُ على رجل بدين أو عين لآخر أو اعترف بذلك ابتداء فهل له الامتناع من الدفع أو الردّ حتّى يَشهد القابضُ بالأخذ أو لا؟

وجوه:

1- يجوز له الامتناع دفعاً للضرر المحتمل، إذ ربّما يدّعى عليه بعد الأخذ و ليس له شاهد على الأداء.

2- لا يجوز له الامتناع إذ مضافاً إلى أنّ الإمساك ضرر على المالك أنّ أمامه أحد الأمرين حسب اختلاف المورد. الأوّل: عدم الاعتراف بالأصل و ادّعاء براءة ذمّته ممّا يدّعيه مع اليمين الصادقة و لا ضرر فيها، أو الاعتراف بالأصل مع اليمين كما في مورد الودعي حيث يقبل ادّعاء الردّ معها.

3- التفصيل بين ما لو كان بالحقّ شاهد فالأوّل و إلّا فالثاني.

و اختار المحقّق القول الأوّل قائلًا بأنّ المنازعة و توجّه اليمين ممّا ينبغي دفعه خصوصاً عن ذي المروءات فيكون حسم مادّتها بالإشهاد عذراً في تأخير الحقّ إلى أن يحكمه.

أقول: إنّ الموضوع في كلام المحقّق المشهود عليه، حيث قال: للمشهود عليه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 561

أن يمتنع من التسليم، و عليه ففيما لا يكون هناك شاهد بالحقّ خارج عن موضوع البحث فيكون البحث مركّزاً على ما إذا كان بالحقّ شاهد فلا يبقى موضوع للتفصيل بين ما يكون بالحقّ شاهد و عدمه لأنّ الثاني خارج عن البحث و العرف يساعد على الامتناع إذا كان بالحقّ شاهد و يرى الممتنع محقّاً و بعبارة أُخرى أنّه مأمور بالدفع و الأداء و أمّا الكيفيّة فمتروكة إلى قضاء العرف و العقلاء، و هم يرون الدفع بلا إشهاد عملًا غير عقلائي و إلقاء للنفس في الخسران، نعم لو لم يكن بالحقّ شاهد فهو كما عرفت.

المسألة الثالثة إذا استدان جنساً أو باعه سلماً و أخذ الثمن و دفع الحجّة، فهل للمدين أو بائع السلم أن يستردّا الحجّة عند الأداء أو لا؟

قال المحقّق: لا يجب على المدّعي (الدائن و المشتري) دفع الحجّة مع الوفاء و ذلك لوجهين:

الأوّل: لأنّها حجّة له لو خرج المقبوض مستحقّاً للغير، و لا ينحصر فائدتها في زمن ملكه

بل يحتاج إليها بعد البراءة و خروج الملك عنه ليكون حجّة على الدرك.

الثاني: لأنّها ملك لمن هي في يده و لا يجب عليه دفع ملكه إلى غيره و إن لم يكن له منفعة. «1»

و ضعف الثاني واضح، لأنّ الحجّة لو كانت سنداً مكتوباً فهو غالباً يكون من قبل المديون أو بايع السلف فيكون ملكاً له. فإذا قام بالوفاء يجب عليه دفعه إليه، لأنّه لا يتجاوز عن الرهن، الذي يجب ردّه إلى الراهن بعد أخذ الدين.

و أمّا الامتناع عن الدفع، باحتمال كون المقبوض مال الغير، فلا يكون مجوّزاً للامتناع، غاية الأمر أنّ للآخذ أن يستشهد لما قبض و أنّه في مقابل الدين، بحيث

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 425.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 1، ص: 562

لو تبيّن كونه مال الغير، كانت له الحجّة على العود إلى الدافع. أضف إلى ذلك أنّ العرف يرى الحجّة كالرهن لدى الدائن و المشتري، فإذا أدّى العين أو خرج عن العهدة تستردّ الحجّة، كالعين المرهونة و في بعض الروايات أنّ الإمام علي بن الحسين عليهما السَّلام قرض و دفع خيطاً من عباءته باسم الحجّة، فلما بلغ أجله، و أراد الإمام الوفاء طلب الخيط و لم يدفعه حتّى أخذه.

و لو اشترى داراً و باعها من آخر و طلب المشتري الثاني كتابَ الأصل قال المحقّق: لا يجب التسليم لوجهين كونها ملكاً للمشتري الأوّل و لأنّه حجّة له على البائع الأوّل لو خرج مستحقّاً للغير.

يلاحظ على الدليل الأوّل أنّ كتاب الأصل ربّما يعدّ من توابع البيت كالمفتاح، فيكون له قسط من الثمن فلا يصحّ الامتناع من الدفع كما أنّ الدليل الثاني لا يمنع من التسليم، لإمكان الاستشهاد على ابتياعه

من البائع الأوّل.

و أمّا الرائج اليوم فإذا تمّ ثبت البيت في دائرة الأملاك، يدفع إلى صاحبه دفتر يسجّل فيه اسم المالك و هويّته، و يحدّد فيه حدود الملك و يتوارد البيوع المتأخرة عليه فلا مناص عن دفع السند الأوّل إلى المشتري.

و أمّا إذا لم يسجّل البيت في دائرة الأملاك أو سُجِّل و لكن لا بصورة كاملة فيكتفى بسند عادي أو رسمي دالّ على البيع من ثالث، من دون الزام على دفع سند الأصل، و ربّما لا يتمكن من الدفع إذا كان سنداً عامّاً لكثير من البيوت و الأراضي.

نجز الكلام في الجزء الأوّل من كتاب القضاء

و يتلوه الجزء الثاني بإذن الله

مبتدئاً بأحكام القسمة.

و الحمد لله أوّلًا و آخراً

الجزء الثاني

اشارة

نظام

القضاء و الشهادة

في الشريعة الاسلامية الغراء

تأليف: العلامة الفقيه الشيخ جعفر السبحاني

الجزء الثاني

نشر: مؤسسة الإمام الصادق (ع) إيران قم

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 2

هوية الكتاب

اسم الكتاب: نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الاسلامية الغرّاء

المؤلف: جعفر السبحاني

الجزء: الثاني

الطبعة: الأولى

المطبعة: اعتماد قم

التاريخ: 1418 ه ق/ 1376 هش

الكمية: 2000 نخسة

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السَّلام

السعر: 2500 تومان

الصفّ و الإخراج باللاينوترون: مؤسسة الامام الصادق عليه السَّلام

9646243150: شابك

توزيع

مكتبة التوحيد

قم ساحة الشهداء 7743151

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 3

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الحمد الله ربّ العالمين و الصلاة و السلام على محمّد و آله الطيّبين الطاهرين.

أمّا بعد:

هذا هو الجزء الثاني من كتابنا المسمّى «نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الاسلامية الغرّاء» نقدّمه الى القرّاء الكرام آملين أن ينال رضاهم، و يتحفونا بآرائهم و يرشدونا إلى مواضع الخطأ فيه «فإنّ أحبَ إخواني مَن أهدى إليَّ عُيُوبي» كما جاء في الحديث الشريف.

و نبتدئ فيه بالبحث في أحكام القسمة سائرين على ضوء كتاب «شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام» لنجم الملّة و الدين المحقّق الحلّي قدّس الله سرّة.

المؤلف

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 5

[تتمة مباحث القضاء]

[تتمة النظر الثالث في كيفية الحكم]

[تتمة خاتمة تشتمل على الفصلين]
[الفصل الثاني] في أحكام القسمة
و قبل الخوض في المقصد نقدّم أُموراً:
1- الأولى إفراد القسمة كتاباً كما صنعه البعض

، و على فرض التذييل فالأولى جعله ذيلًا لكتاب الشركة، و جعله المحقّق ذيلًا لكتاب القضاء لأنّ القضاء و انهاء النزاع ربّما لا يمكن إلّا بالإفراز و القسمة فناسب البحث عنها في المقام.

2- إنّ التشريك في الأموال أمر يتفق كثيراً إمّا بلا اختيار كما في الفرائض أو بالامتزاج أو الاختلاط

بحيث لا يتميّزان كما في الرهن و الارز و الحنطة، و لكن بقاء الشركة ربّما يورث العسر و الحرج أو يُثير النزاع فلا جرم ربّما تمسّ الحاجة إلى القسمة، حفظاً للنظام. و قد أمضاها الشارع فلا حاجة لإثبات شرعيتها إلى التمسّك بآيات وردت فيه كلمة القسمة مثل قوله سبحانه: (وَ إِذٰا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ) (النساء/ 8) و يحكي الذكر الحكيم عن وجودها بين الأُمم السابقة كما في قصّة ناقة ثمود إذ قال لهم نبيهم: (وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمٰاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) (القمر/ 28). نعم لا بأس بذكر الآيات تبرّكاً.

3- و ربّما تعرف القسمة بأنّها عبارة عن تميّز النصف المشاع مثلًا عن النصف الآخر

ثمّ اعترف القائل بأنّ حقيقة التميّز في الإشاعة من المستحيلات التي لا تتعلّق بها القدرة لكن في العرف عمل يسمّونه بالتميز و أمضاه الشارع، كما في العرف معاملة يسمّونه بتمليك المعدوم كالمنافع. «1»

______________________________

(1) المحقّق الرشتي، كتاب القضاء: 2/ 37.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 6

و لا يخفى ما في المشبه و المشبه به من الإشكال أمّا الثاني فلأنّ الإجارة ليست تمليكاً للمنافع، بل هي تسليط العين لغاية الانتفاع من منافعها، و التسليط أمر وجودي و أمّا المشبّه، فلأنّه إذا كان الملك مغموراً في الإبهام عند العرف من رأس، فكيف يسمّيه تميّزاً؟!

ربما تعرّف أيضاً بقولهم بتميّز أحد النصيبين عن الآخر، أو أحد الأنصباء عن غيره و قال السيّد الأصفهاني: هي تميّز حصص الشركاء بعضاً عن بعض «1».

يلاحظ عليه: أنّ التعبير بالتميّز فرع كونه متميزاً واقعاً، لا ظاهراً، مع أنّ نصيب كلّ غير متميز واقعاً و لا ظاهراً و لأجل ما ذكرنا علّق سيدنا الأُستاذ قدس سره على تعريف السيّد الأصفهاني قوله: بمعنى جعل التعيين

بعد ما لم يكن معينة بحسب الواقع لا تميّز ما هو معيّن واقعاً و مشتبه ظاهراً. «2» و الأولى أن يعرف بإزالة الشركة بجعل التعيين للحصص.

4- الظاهر أنّ القسمة أصل برأسه، لا أنّه بيع في مورد العين

بتصوّر أنّ القسمة فيها بمبادلة حصّة كلّ في جانب، بحصّة الآخر في الجانب الآخر، أو إجارة في مورد المنافع كما إذا استأجرا داراً بالمشاع ثمّ اقتسما في الانتفاع، فكأنّ كلّ واحد من الشريكين يوجر نصف سهمه من كلّ غرفة من آخر، و الظاهر أنّه أصل برأسه لاختصاصها بأحكام خاصّة كاشفة عن استقلالها في الموضوعية، و لأجل ذلك لا يلحق بها أحكام البيع في خيار المجلس. قال السيّد الأصفهاني: و ليست ببيع و لا معاوضة فلا يجري فيها خيار المجلس و الحيوان المختصين بالبيع و لا يدخل فيها الربا و إن عمّمناه لجميع المعاوضات. «3»

5- إذا خرجنا باستقلال القسمة في مقام الموضوعية يقع الكلام في ماهيّتها

و هناك احتمالات ثلاثة ذكرها المحقق الرشتي في قضائه و قال:

______________________________

(1) الوسيلة: 2/ 111- 112، كتاب القسمة.

(2) تحرير الوسيلة: 1/ 627.

(3) الوسيلة: 2/ 111.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 7

و هل هي من قبيل العقود، أو الإيقاعات، أو الموضوعات المترتّبة عليها الأحكام كالالتقاط، و الغصب، و الإحياء، و الخيار، و النسب و نحوها ممّا لا يرجع إلى عقد أو إيقاع فيه وجوه أقواها الأخير. «1»

وجهه أنّ العقد سواء كان بمعناه اللغوي، و هو ربط شي ء بشي ء، أو بمعنى العهد المطلق، أو العهد المشدّد، يتوقّف على ربط شي ء بشي ء، و ليست القسمة من تلك المقولة و إنّما هي عمل خارجي يتضمّن فصل المالين و تعيينهما بالقرعة و غيرها فهي فاقدة لمعنى العقد بكلا المعنيين إلّا على وجه بعيد فهي إمّا من قبيل الإيقاع أو الموضوعات التي لها آثار عند الشرع.

إنّ الكلام يقع في محاور أربعة: القاسم، و المقسوم، و الكيفية، و اللواحق،
اشارة

و إليك الكلام في الأوّل:

الأوّل الكلام في القاسم
اشارة

قال المحقّق: يستحبّ للإمام أن ينصب قاسماً كما كان لعلي عليه السَّلام و التقسيم قد يتولّاه الشركاء بأنفسهم، فيكون القاسم وكيلًا لهم يشترط فيه ما يشترط في الوكيل و قد يتولّاه الإمام مباشرة أو بالقاسم الذي نصبه الإمام.

و المستفاد من كلامه أنّ نصب القاسم مستحبّ و علّله في المسالك أنّه من جملة المصالح و روي أنّه كان لعليّ قاسم يقال له عبد اللّه بن يحيى كان يرزق من بيت الإمام «2».

دلّت السيرة النبوية على أنّه كان للنبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قاسماً باسم عبد اللّه بن رواحة و قد استشهد في غزوة موتة و كان لعلي قاسماً باسم عبد اللّه بن يحيى الحضرمي و قد

______________________________

(1) الرشتي: كتاب القضاء: 2/ 44.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 425 و الطوسي، المبسوط: 8/ 134.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 8

عدّه الشيخ من أصحاب أمير المؤمنين، و عدّه البرقي من شرطة الخميس و أنّ الإمام قال له يوم الجمل: ابشر يا ابن يحيى و هو الذي قتله معاوية مع أصحابه، و من الجرائم التي عدّها الإمام الحسين عليه السَّلام لمعاوية في رسالة بعثها إليه قتله الحضرميين. «1»

أقول: إنّ المصالح العامّة تتوقّف على وجود القسمة و القاسم في واقعة أو وقائع، و أمّا توقّفها على نصب إنسان للقسمة، دائماً فلا، نعم لو كانت الحاجة إلى القسمة متوفرة لا يقوم إلّا بتعيين شخص لها، يلزم نصبه حفظاً لمصالح العامّة، و فعل النبي و الوصي لا يدلّ على الاستحباب، فوزان القاسم، وزان الكاتب للقاضي، و قد ترتفع الحاجة، بوجود الكاتب و ربّما تمسّ الحاجة بنصب شخص للكتابة فعند

ذاك يجب كسائر الأُمور التي يتوقّف عليها نظام الحياة. و على ذلك فلم نجد دليلًا على استحباب النصب إذ هو بين كونه مباحاً إذا كانت الحاجة إليه قليلة أو واجباً توصّلياً كسائر الواجبات التي يقوم عليها صرح النظام.

شرائط القاسم
اشارة

قال المحقّق: و يشترط فيه: البلوغ و كمال العقل و الإيمان و العدالة و المعرفة بالحساب.

أقول: لو كانت القسمة منصباً كمنصب القضاء يشترط فيه ما يشترط في سائر المناصب، فإنّ الولاية الإلهية إنّما هي للبالغ، العاقل، المؤمن، العادل فلا ولاية لغير البالغ على البالغ، و لا للمجنون على العاقل، و لا للكافر على المسلم، و لا للفاسق على العادل، و لا لغير المؤمن بالمعنى الأخصّ على غيره إنّما الكلام في كونها مقاماً و منصباً بل هو من الأُمور الواجبة التي يتوقّف عليها نظام الحياة الاجتماعية، فيكفي في ذلك استخدام شخص لتلك الغاية كالكتابة نعم يظهر من

______________________________

(1) المامقاني، تنقيح المقال: 2/ 222.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 9

بعضهم أنّه قسم من الحكومة «1» فإن أراد أنّه يتبع الحكومة كتبعية سائر الموظّفين فصحيح و إن أراد أنّه منصب إلهيّ، فهو ممنوع.

نعم بما أنّ الحاكم يسلّطه على أموال الناس يجب أن يكون إنساناً أميناً، عارفاً بأُمور القسمة، و مقدّماتها في تقسيم المواريث و الأموال و على ذلك يكفي فيه تحقّق الوصفين: الأمانة و المعرفة. نعم لو كان استخدام الكافر أو المسلم الفاسق، أو الصبي المراهق وهناً للحكومة الإسلامية يلزم أن يكون بالغاً مسلماً، مؤمناً، عادلًا حفظاً لشئون الحكومة و الإمامة، و لأجل ذلك لو تراضى الخصمان بقاسم غير قاسم الإمام جاز قطعاً و لا يشترط فيه الإسلام و لا يعدُّ قبول عمله ركوناً، خصوصاً

إذا عدّ عمله، عمل الموكّل، كما لا يشترط البلوغ، بعد كون عمله بإذن الشركاء فإنّ عقد الصبي و عمله، جائز إذا كان بإذن الولي، كما بيّنه المحقّق في محلّه.

و الحاصل أنّه لا دليل على اشتراط ما ذكره من الأوصاف لا في قاسم الإمام إلّا من جهة العنوان الثانوي و لا في قاسم الشركاء، و لو قلنا بأنّ القسمة عقد، تكون نافذة و إن كان المتصدّي الصبي إذا لحقه رضى الوليّ أو كان مقارناً فإنّ عمل الصبي ليس مسلوب الاعتبار على الإطلاق بل ليس نافذاً وحده و إنّما يكون نافذاً مع إذن الولي.

إنّ هنا مسائل ست تعرّض لها المحقّق ما عدا الخامسة منها، و إليك عناوينها:
اشارة

1- صحّة التقسيم بالتراضي من دون قاسم.

2- نفوذ قسمة القاسم بالقرعة إذا كان منصوباً من قبل الحاكم.

3- نفوذ قسمته إذا كان وكيلًا للشركاء.

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 327.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 10

4 كفاية القاسم الواحد أو لزوم تعدّده.

5- اعتبار القرعة في التقسيم.

6- أُجرة القسّام على الحاكم و على غيره.

و قد بسط الكلام فيها صاحب الجواهر في كتاب الشركة و السيّد الطباطبائي في الملحقات و سنشير عند البحث إلى مصادر كلماتهما بإذن اللّه سبحانه.

1- صحّة التقسيم بالتراضي من دون قاسم

الكلام في صحّة التقسيم بالتراضي من دون قاسم، بقرعة أو غيرها و محور البحث، عدم توقّف القسمة على القاسم، و أمّا الكيفية، فليست بمورد للنظر.

قال المحقّق: لو تراضيا بأنفسهما من غير قاسم أقربه الجواز. ذكره المحقّق عند الاستدلال على جواز التراضي بقسمة الكافر و مشبهاً له بالمقام و استدلّ له صاحب الجواهر بإطلاق الأدلّة و عمومها و مراده منها هو العمومات التي يتمسّك بها في أبواب التجارات كقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «الناس مسلّطون على أموالهم» و قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» و قوله تعالى: (إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ) (النساء/ 29).

يلاحظ عليه بما ذكرناه في محلّه من أنّه لا إطلاق لها بالنسبة إلى أسباب التملّك فلو شككنا في شرطية العربية أو البلوغ لا يصحّ التمسّك بها لإزالة هذا النوع من الشكّ نظير التمسك بقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» «1» لرفع الشكّ في شرطية تقدّم الإيجاب على القبول. و الشكّ في المقام مركّز على أنّ مجرّد التراضي على الحصص المعدّلة من

دون قاسم، هل يوجب إزالة الشركة و تعيين الحصّة أو لا؟ و من المعلوم أنّه ليس لهذه العمومات نظر إلى

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 14، الباب 16 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 11

أسباب التملّك و لا إلى أنّ التراضي مشرّع، نعم لو ثبت كون شي ء سبباً للتملّك و التعيّن، فنفس التراضي كاف.

و الأولى أن يستدلّ: أنّ القسمة من الأُمور العرفية الواضحة التي، تترتّب عليها الأحكام كالالتقاط، و الإحياء و الحيازة و أمضاها الشارع و ليس لها حقيقة عندهم سوى تعديل الحصص، و الرضا بها و المفروض أنّهما حاصلان، و احتمال اعتبار أمر آخر، كالقاسم، يحتاج إلى دليل و مع عدمه فالأصل البراءة.

2- نفوذ قسمة القاسم المنصوب من قبل الحاكم بالقرعة

إذا عدّل القاسم المنصوب من قبل الإمام و أقرع فهل تمضي قسمته بنفس القرعة، أو يعتبر رضاهما بعدها؟

قال الشيخ في المبسوط: فإن نصبه الحاكم للقسمة، فإذا عدَّل السهام و أقرع كانت القرعة حكماً تلزم القسمة به «1» و هو خيرة المحقّق في الشرائع. و وجهه واضح و ذلك لأنّه لو قلنا بأنّ القسمة عقد من العقود و له أسباب منها، تقسيم القاسم بالقرعة، فيشمله عموم الوفاء بالعقود. و أمّا لو قلنا بأنّه من الموضوعات المترتّبة عليها الأحكام، كالغصب و الاحتطاب و الحيازة، فظاهر أدلّة القرعة هو اللزوم أيضاً و عدم صحّة الرجوع.

قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «ليس قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلّا خرج سهم المحق». «2»

و في رواية محمّد بن حكيم قال: سألت أبا الحسن عليه السَّلام عن شي ء فقال لي: «كلّ مجهول ففيه القرعة» قلت له: إنّ القرعة تخطئ و تصيب

قال: «كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ» 3

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 133.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5-، 11.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 12

و في رواية عن الإمام الصادق عليه السَّلام قال: «أيّ قضية أعدل من القرعة» «1» إلى غير ذلك من العناوين الدالّة على أنّ التجاوز عن القرعة، تجاوز عن المحق، و المصيب و الأعدل، إلى غيره و من المعلوم أنّه ليس المتجاوز إليه، إلّا الباطل إذ ليس بعد الحق إلّا الضلال. أضف إلى ذلك سيرة العقلاء، حيث يعدّون رفض القرعة، بعد الإقراع، طغياناً و شغباً.

3- نفوذ قرعة القاسم المرضيّ للشركاء

إذا كان القاسم مرضيّاً للشركاء و قد عدّل الحصص و السهام و أقرع فهل يكون نافذاً مطلقاً، أو غير نافذ كذلك، و يتوقّف على الرضاء اللاحق، أو يُفصّل بين القسمة المشتملة على الردّ فيعتبر و إلّا فلا؟

و الأوّل خيرة الشيخ و المحقّق، و الثاني خيرة الشهيد في الدروس، و الثالث هو المنقول من صاحب الرياض.

قال الشيخ: «إذا تراضيا بثقة من أهل العلم حكماً بينهما فحكمَ بينهما فيما يلزم الحكم قال قوم يلزم بنفس الحكم كالحاكم سواء و قال آخرون بالحكم و الرضا به بعده». «2»

و قال المحقّق: «في القاسم غير المنصوب يقف اللزوم على الرضا بعد القرعة و في هذا إشكال من حيث إنّ القرعة وسيلة إلى تعيين الحقّ و قد قارنها الرضا». «3»

أقول: إنّ اتّفاقهم على عدم اعتبار الرضا فيما إذا كان القاسم منصوباً من الحاكم، دليل على تحقّق القسمة و تعيّن الحصص، و ملكية كلّ لحصته بنفس القرعة، من دون حاجة إلى أمر آخر، فبما انّ القسمة مفهوم واحد، لا تختلف

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 13.

(2) المبسوط: 8/ 134.

(3) الشرائع: 4/ 100.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 13

حقيقتها، باختلاف القاسم من حيث كونه منصوباً و عدمه، يلزم أن يكون كذلك فيما إذا كان القاسم مرضيّ الشركاء إذ لا معنى لأن تختلف حقيقتها باختلاف القاسم الذي هو خارج عن حقيقتها.

و لعلّه إلى ما ذكرنا ينظر كلام المحقّق: «إنّ القرعة وسيلة إلى تعيين الحقّ و قد قارنها الرضا» فالتعيين على هذا الوجه أوجب تميّز أحد الحقّين عن الآخر فيتعيّن بالرضا المقارن.

أضف إلى ذلك ما تقدّم في الفرع المتقدّم من ظهور أدلّة القرعة في اللزوم.

ثمّ إنّ الشهيد اشترط تراضيهما بعد القرعة إذا اشتملت القسمة على الرد «1» و كأنّه مبنيّ على أنّ الردّ ممّن خرج له النصيب الأوفر معاوضة بين سهم الشريك فيما أخذ، و ما يردّه، و هو يتوقّف على الرضاء وراء الرضا بالتقسيم.

يلاحظ عليه: أنّ الردّ ليس معاوضة مستقلّة بل من توابع القسمة المحقّقة بنفس تعيين الحصص بالقرعة.

ثمّ إنّ صاحب الرياض من القائلين باعتبار الرضا اللاحق مطلقاً متمسّكاً باستصحاب بقاء الشركة بدون الرضا، و هو غير تام لقيام الدليل على صحّة القسمة. و استصحاب بقاء الشركة، معارض باستصحاب حصول الملكيّة للاتّفاق على حصول الملكيّة بالرضا المقارن، إنّما الكلام في انحلال الملكيّة، بعدم الرضا اللاحق، و تصوّر أنّ الشكّ في بقاء ملكية كلّ شريك

بالنسبة إلى حصّته، ناش من بقاء الشركة و عدمها فباستصحاب بقاء الشركة يزول الشكّ في بقاء الملكيّة شأن كلّ أصل مسببي و سببي، مدفوع بأنّ الشكّ في كليهما ناشئان من اشتراط بقاء الرضاء بعد القرعة و عدمه، فإذا دلّ الدليل على عدم

الاشتراط يرتفع الشكّ في كلا الطرفين و يثبت ارتفاع الشركة و انحلالها و بقاء مالكيّة كلّ شريك

______________________________

(1) محمّد مكي، الدروس ج 2، كتاب القسمة/ 117.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 14

بالنسبة إلى حصّته.

4- كفاية القاسم الواحد أو لزوم تعدّده

قال المحقّق: و يجزي القاسم الواحد إذا لم يكن في القسمة ردّ، و لا بدّ من اثنين في قسمة الردّ لأنّها تتضمّن تقويماً فلا ينفرد الواحد به (لأنّه من أقسام الشهادة) و يسقط اعتبار الثاني مع رضا الشريك.

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ كون أمر التقويم من باب الشهادة أوّل الكلام لأنّ الشهادة أساسه الإدراك بالحس، دون الحدس، و التقويم مبني على الحدس غالباً، كنظر الطبيب و فتوى المجتهد و رأي كلّ متخصص في كلّ أمر يحتاج إلى إعمال النظر.

و ثانياً: أنّ القسمة غالباً تتوقّف على التعديل أوّلًا، ثمّ التفريق ثانياً و كثيراً مّا يتوقّف التعديل على التقويم كما في تقسيم أثاث البيت المتشكّلة من أُمور مختلفة، فيحتاج إلى التقويم و إن لم يكن فيها ردّ، فلا يختصّ التقويم بقسمة الردّ، بل يعمّها ممّا يتوقّف التقسيم على التقويم.

و ثالثاً: أنّ تعدّد المقوّم، لا يلازم تعدّد القاسم إذ ربّما يكون القاسم غير المقوّم و القسمة أمر غير التقويم و لعلّه لما ذكرنا كان لعلي عليه السَّلام قاسم واحد باسم عبد اللّه بن يحيى الحضرمي.

و رابعاً: أنّ سقوط التعدّد عند رضا الطرفين لأجل أنّ الحقّ منحصر فيهما، لا يثبت القسمة لأنّ رضا الشريكين لا يغيّر الحكم الشرعي و لا يوجب تحقّق عنوان القسمة، نعم صرف الرضاء يُحلُّ التصرّف و إن لم يكن هنا مقوّم و لا مقسّم. و الحاصل أنّ حليّة التصرّف قائم بالرضا، و لكنّه ليس بمشرّع، فلا يكون

رضاؤه على التصرّف دليلًا على تحقق سبب الملكيّة و هو التقسيم كما ذكرناه سابقاً.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 15

5- اعتبار القرعة في القسمة

هذه هي المسألة التي لم يتعرّض لها المحقّق.

لا محيص عن القرعة إذا تنازعا في تعيين الحِصص، إنّما الكلام في اعتبارها في تحقّق القسمة و إن لم يكن تنازع ففيه قولان:

1- الاكتفاء بالرضا من الشركاء بأخذ سهامهم.

2- اعتبارها في صدق الانقسام شرعاً.

و الأوّل خيرة الأردبيلي و المحدّث البحراني، و الثاني، مختار صاحب الجواهر استدل للقول الأوّل بعموم: «الناس مسلّطون على أموالهم»، و لأنّه من التجارة عن تراض، و أكل مال الغير بطيب نفسه، و فحوى قوله عليه السَّلام في رجلين لا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه فقال كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك، ولي ما عندي، فقال: «لا بأس إذا تراضيا و طابت أنفسهما». «1»

و لو قلنا بعدم حصول الملك بدون القرعة، فلا كلام في جواز التصرّف فيه تصرّف المالك مثل ما قيل في المعاطاة و العطايا و الهدايا و التحف. و احتمال كونه حراماً لكونه بعقد باطل، محجوج بعمل المسلمين على خلافه بل على الملك. «2»

يلاحظ عليه: أوّلًا ما سبق منّا من أنّ هذه العمومات، ليست ناظرة إلى أسباب الملكيّة حتّى يتمسّك بإطلاقها. بل هي بصدد بيان أنّ الإنسان المالك للشي ء بسبب صحيح عند الشرع، له التقلّب في ماله كيف يشاء و ليس لغير المالك التصرّف في مال المالك إلّا بطيب نفسه أمّا أنّ القسمة بلا قرعة سبب أو لا، فليست في مقام بيانه حتّى يتمسّك بإطلاقها.

و إن شئت قلت: إنّ كلّ مالك على نحو الإشاعة، له التصرّف كيفما شاء من

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، كتاب

الصلح، الباب 5-، الحديث 1.

(2) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 10/ 215، كتاب الشركة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 16

البيع و الهبة و أمّا أنّه مختار إذا أراد تبديل الملكيّة الإشاعية، بالملكيّة الإفرازية، في أن يتسبّب بأي سبب شاء، فلا يستفاد منها.

و ثانياً: أنّ الكلام في حصول القسمة شرعاً التي تثبت الملكيّة للحصص الخارجية، لا مجرّد جواز التصرّف إذ لا شكّ في أنّه يجوز للشريك التصرّف في المال المشترك بإذن شريكه و يحصل البراءة من الدين بمجرّد الرضا و لكن الكلام في تحقّق الملكية الإفرازية بالحصّة بدون القرعة بحيث لا يجوز للشريك التصرّف في الحصّة المعيّنة لشريكه.

ثمّ إنّ المحدّث البحراني تبع المحقّق الأردبيلي فقال: إنّي لم أقف في الأخبار على ما ذكروه من القرعة (و القاسم من جهة الإمام) بل ظاهرها كما ترى هو الصحّة مع تراضيهما بما يتقسّمانه ثمّ استدل على عدم اعتبار القرعة بروايات يرجع محصلها إلى حديثين:

1- رواية غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السَّلام في رجلين بينهما مال، منه بأيديهما و منه غائب عنهما فاقتسما الّذي بأيديهما و أحال كلّ واحد منهما من نصيبه الغائب فاقتضى أحدهما و لم يقتض الآخر فقال: «ما اقتضى أحدهما فهو بينهما و ما يذهب بينهما». «1»

2- رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألته عن رجلين بينهما مال منه دين و منه عين فاقتسما العين و الدين فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه و خرج الذي للآخر أ يردّ على صاحبه؟ قال: «نعم ما يذهب بماله». «2»

قال: تدلّ هذه الروايات على أنّ الاقتسام إنّما وقع من الشركاء بمجرّد تميّز سهام كلّ

واحد من ذلك المال المشترك الموجود بأيديهم مثلياً كان ذلك المال أو قيمياً بعد تعديله من غير توقف على قاسم من جهة الإمام و لا قرعة في البين بأن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 6- من أبواب الشركة، الحديث 1- 2.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 6- من أبواب الشركة، الحديث 1- 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 17

رضى كلّ منهما بعد تساوي السهام بنقل حصّته ممّا في يد شريكه، بحصّة شريكه ممّا في يده، و كذلك قسمة ما في الذمم ممّا لم يكن بأيديهما إلّا أنّه عليه السَّلام أبطل قسمة الغائب. «1»

يلاحظ عليه، بأنّ الروايات تدلّ على صحّة قسمة الحاضر دون الغائب، و أمّا أنّه كيف كانت كيفية قسمة الحاضر فليست الروايات بصدد بيانها، فلا يدلّ السكوت على عدم الاعتبار.

و الأولى الاستدلال بما مرّ من أنّ القسمة مفهوم عرفي ليس لها حقيقة شرعية فإذا كان كذلك، فلا شكّ في صدق القسمة، بتعديل الحصص، و تعيينها مع الاقتران بالرضا. و يؤيّد ذلك أنّ مورد روايات القرعة هو وجود التشاح و النزاع أو مظنتهما، و المفروض في المقام غيره و هذا أيضاً أقوى دليل على عدم اعتبار القرعة.

لكن صاحب الجواهر استدلّ على مختاره بوجوه غير خالية عن الضعف و بسط الكلام، و لخّصه السيّد الطباطبائي في ملحقاته و نحن نأتي بالملخّص. و من أراد التفصيل فليرجع إلى الأصل.

1- إنّ مقتضى تعريف القسمة بأنّها تُميّز الحقوق، كون حصّة الشريك كلّي دائر بين مصاديق متعدّدة فيكون محلًا للقرعة إذ هي حينئذ لإخراج المشتبه و تعيين ما لكلّ منهما من المصداق واقعاً. فيكشف حينئذ عن كون حقّه في الواقع ذلك.

2- بل لو لا الإجماع أمكن

أن يقال إنّ المراد من إشاعة الشركة دوران حقّ الشريك بين مصاديقه لا كون جزء يفرض مشتركاً بينهما و إلّا لأشكل في الجزء الذي لا يتجزّى.

3- و أشكل قسمة الوقف من الطلق لاستلزامه صيرورة بعض أجزاء الوقف طلقاً و بعض الطلق وقفاً.

______________________________

(1) البحراني، الحدائق: 21/ 175174.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 18

4- لزم أيضاً عدم اشتراط تعديل السهام لعدم المانع من تعويض الأقل بالأكثر مع الرضا، مع أنّ التعديل معتبر فيها، و فاقد التعديل ليس من القسمة شرعاً قطعاً. «1»

و حاصل استدلاله: أنّ حقيقة الشركة ترجع إلى اعتبار السهام من قبيل الكلّي في المعيّن، لا من قبيل الإشاعة حتّى يكون كلّ جزء و إن صغُر مشاعاً بين الشركاء للوجوه الثلاثة:

1- عدم إمكان اعتبار الإشاعة، في الجزء الذي لا يتجزّى.

2- أشكل قسمة الوقف عن الطلق، و إلّا يلزم صيرورة بعض الوقف طلقاً و بالعكس.

3- عدم اشتراط تعديل السهام، لافتراض كفاية الرضا.

و لكن الجميع مندفع.

أمّا الأوّل: فلأنّ إرجاع الشركة إلى الكلّي في المعيّن مثل ما إذا باع منّا من صبرة خلاف المرتكز عند العقلاء، لأنّهم يعتبرون مال الشركة على الوجه المشاع و أنّ كلّ جزء من أجزاء المال ملك مشاع بينهم و لأجل ذلك لا يجوّزون التصرّف في المشاع إلّا مع الاتّفاق على التصرّف، بخلاف المعتبر على نحو الكلي في المعيّن، فانّه يجوز للبائع التصرّف في الصبرة بالبيع و الهبة و الصلح، ما دام المقدار المزبور موجوداً، و هذا يدلّ على أنّ هنا نوعين من الاعتبار.

أمّا الثاني: فلأنّ اعتبار الشركة الإشاعية ليست مبنيّة على بطلان الجزء الذي لا يتجزّى، كما ربّما يستفاد أيضاً من كلمات المحقّق النائيني عند البحث عن قاعدة اليد.

«2» حتّى ينافي ذلك الاعتبار، مع القول بالجزء الذي لا يتجزّى بل هو

______________________________

(1) الجواهر: 26، كتاب الشركة، 1310- 31؛ السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 220، المسألة 5.

(2) الكاظمي، فوائد الأصول.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 19

اعتبار عرفي في الأشياء ذات الأفراد و الأجزاء، مع الغفلة عن وصول تقسيم الجزء إلى الحدّ الذي لا يتجزّى أحياناً و لكن يتجزّى عقلًا. فليست للمسائل الفلسفية، مدخلية لها في الاعتبارات العرفية، بل ربّما يكون الاعتبار العرفي على خلافها مثلًا، العقل يحكم بأنّ إيجاد الطبيعة بإيجاد فرد، و إعدامها أيضاً بإعدام فرد واحد، و لكن العرف الدقيق لا يساعد حكم العقل و يحكم بأنّ عدمها بإعدام جميع أفرادها فسواء أصحّ الجزء الذي لا يتجزّى أم بطل «1» فالملك الإشاعي، أمر معتبر عند العقلاء و إن كان ذلك الاعتبار لا يصحّ في الجزء الذي لا يتجزّى حسّاً.

و أمّا الثالث: فأقصى ما يستفاد من حرمة تبديل الوقف بسبب من الأسباب هو تبديل الوقف المفروز، بشي ء مثله، كأن تبدّل داراً بدار أُخرى. و أمّا تعيين الأرض الموقوفة و تحديدها بإفرازها عن غيرها، و إن تضمّن التبديل المذكور، فلم يدلّ عليه دليل على عدم صحّته، و بالجملة قول الواقف تبعاً للذكر الحكيم: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) (البقرة/ 181) الممضى لدى الشرع ناظر إلى التبديل الجُذري لا مثل المقام.

و أمّا الرابع: فلا نسلّم صدق القسمة بلا تعديل السهام و تساويها، و جواز التصرّف برضا الشركاء لا يثبت صدق القسمة كما ذكرناه مراراً و الحقّ ما عليه المحقّق الأردبيلي و من تبعه من الأعاظم قدّس اللّه أسرارهم من عدم شرطية القرعة في مفهوم القسمة

و عدم الحاجة إليها إذا لم يكن هناك نزاع.

6- في أُجرة القسّام
اشارة

القسّام تارة يكون منصوباً من الحاكم، و أُخرى معيّناً أو مستأجراً من جانب الشركاء و على الأوّل إمّا أن تكون القسمة قسمةَ إجبار، أو قسمة اختيار.

______________________________

(1) لقولهم:

تفكك الرحى و نفى الدائرة و حجج أُخرى لديهم دائرة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 20

و على الثاني: إمّا أن يستأجره واحد منهم، أو يستأجره الجميع دفعة في عقد واحد، أو أن يستأجره كلُّ واحد بأُجرة معيّنة مترتّبة فلنأخذ كلّ قسم بالبحث:

الصورة الأُولى: إذا كان القسّام منصوباً

إذا كان القسّام منصوباً من الحاكم فقد اطلق المحقّق و تبعه الشهيد الثاني في شرحه و قالا: إنّ أُجرة القسّام من بيت المال المعدّ للمصالح التي منها القسمة إن لم يُرزَق منه و إلّا فلا أُجرة له لقيام ارتزاقه منه مقامها، من غير فرق بين كون القسمة مفروضة عليهم من جانب الحاكم أو لا. نعم استثنى الشيخ صورة خاصّة و قال: «و إن لم يكن في بيت المال مال، أو كان و كان هناك ما هو أهم كسد الثغور و تجهيز الجيوش و نحو هذا فإنّ أهل الملك يستأجرونه» «1» و كان عليه أن يستثنى ما إذا طلبها الشركاء من الحاكم فإنّ ظاهر الطلب استعدادُ الطالبين لدفع ما يتوقّف عليه المطلوب.

ثمّ لو افترضنا أنّ واحداً من الشركاء طلب القسمة من الحاكم، فهل الأُجرة عليه أو على الجميع؟ و لم أقف على نصّ من الأصحاب في هذه الصورة، و إن قال المحقّق الرشتي: «بأنّ الأُجرة على الشركاء بلا خلاف محكيّ بين الأصحاب» و عليه أكثر فقهاء المذاهب الأربعة إلّا أبا حنيفة فخصّها بالطالب قال الخرقي في مختصره: «و أُجرة القسمة بينهما و إن كان أحدهما الطالب لها. و بهذا قال أبو يوسف

و محمّد و الشافعي، و قال أبو حنيفة: هي على الطالب للقسمة لأنّها حقّ له. و قال ابن قدامة في شرحه على المختصر: «أنّ الأُجرة تجب بإفراز الأنصباء و هم فيها سواء فكانت الأُجرة عليهما كما لو تراضوا عليها». «2»

و يمكن الاستدلال على كونها على الجميع و إن طلبها واحد منهم، بانتفاع

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 135.

(2) ابن قدامة، المغني: 11/ 507.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 21

الكلّ من التقسيم فتجب الأُجرة عليهم.

يلاحظ عليه: بأنّ الانتفاع لا يكفي في لزوم تحمّل الأُجرة بل يحتاج إلى ضمّ صدور الإذن أو الأمر و إلّا فلا يضمن فلا.

فإن قلت: يجب على الشريك غير الطالب التعاون على الإفراز مباشرة أو تسبيباً و هذا يقتضي كون الأُجرة عليه أيضاً.

قلت: ما هو الثابت أنّه يجب عليه رفع اليد، و عدم إيجاد المانع أو المزاحم في طريق التقسيم و أمّا التعاون فلا.

و يؤيّد ما ذكرنا ما سيوافيك من الأصحاب في الصورة الثانية أي ما إذا كان القسّام مستأجراً حيث قالوا إنّه لو استأجره واحد منهم، تكون الأُجرة عليه، فما الفرق بين الاستئجار و الطلب من الحاكم فلو كان الانتفاع أو لزوم التعاون دليلًا على التقسيط في مورد طلب واحد من الحاكم، فليكن كذلك إذا استأجره واحد منهم، فيجب التقسيط مع أنّهم لم يقولوا بذلك قطّ.

الصورة الثانية: إذا كان القسّام مستأجراً

إذا كان القسّام معيناً و مستأجراً من جانب الشركاء فلها صور:

1- إذا استأجره واحد منهم فالأُجرة عليه و إن كان الآخر أو الآخرون منتفعين بعمله، إذ ليس الانتفاع دليلًا على التقسيم ما لم يكن هناك تصريح بها كما مرّ في الصورة المتقدّمة.

2- فإن استأجره الجميع دفعة واحدة في عقد واحد فالأُجرة عليهم

حسب ما قرّروه من المساواة أو التفاوت، و إن أطلقوا كون الأُجرة عليهم من دون إشارة إلى التفاوت و المساواة، فالمشهور عندنا أنّها تحسب على حسب السهام لا الرءوس خلافاً لأبي حنيفة: قال الشيخ: أُجرة القاسم على قدر الأنصباء دون الرءوس و به

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 22

قال أبو يوسف و محمّد: قالاه استحساناً و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة: هي على قدر الرءوس. دليلنا انّا لو راعيناها على قدر الرءوس ربّما أفضى إلى ذهاب المال لأنّ القرية يمكن أن يكون بينهما، لأحدهما عشر العشرة سهم من مائة سهم و الباقي للآخر و يحتاج إلى أُجرة عشرة دنانير على قسمتها فيلزم من له الأقل، نصف العشرة (خمسة دينار) و ربّما لا يساوي سهمه ديناراً فيذهب جميع الملك، و هذا ضرر و القسمة وضعت لإزالة الضرر فلا يزال بضرر أعظم منه «1» و قوّاه في المبسوط و قال: و إن استأجراه بعقد واحد و أُجرة واحدة، كانت الأُجرة عند قوم مقسَّطة على الانصباء فإذا كان لأحدهما السدسُ و الباقي للآخر كانت الأُجرة كذلك و قال آخرون: الأُجرة على عدد الرءوس لا على الأنصباء و الأوّل أقوى عندنا. «2»

وجهه مضافاً إلى ما ذكره الشيخ أنّه يعدّ من مئونة الملك فكانت حالها كحال المنفعة في توزيعها على مقدار الملكيّة و لا فرق بين المؤنة و المنفعة، فكما أنّ الثانية تُقَسّط على الحصص فهكذا الأُولى.

و هناك بيان آخر و هو أنّ صاحب النصيب الأوفر ينتفع بالقسمة أكثر من انتفاع صاحب النصيب الأقلّ حيث إنّ الخلوص من الشركة صفة تُحدِث مالية في الملك بالإفراز، فكلّ يدفع عوضَ ما حدث في ماله،

و ما حدث في مال صاحب النصيب الأكثر، أزيد ممّا حدث في مال صاحب النصيب الأقل فقد وصل إلى صاحب الثلثين ثلثا الانتفاع و لصاحب الثلث، ثلثه، فلا محيص عن التقسيط نعم لو كان الانتفاع مساوياً و إن كانت الحصص مختلفة فالأقوى التساوي كما في قسمة الدهن الجيّد و الرديّ إذا أخذ أحدهما مائة منّ من الجيد، و الآخر مائة و خمسين منّاً من الرديّ، و بما أنّ الانتفاع على وجه سواء فلا يعبأ بكثرة الحصص كما لا يخفى. و لعلّ إطلاق الأصحاب منصرف عن هذه الصورة.

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب القضاء، المسألة 26.

(2) الطوسي،، المبسوط: 8/ 135.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 23

3- إذا استأجره كلّ واحد بأُجرة معيّنة على وجه الترتّب فالظاهر من المحقّق صحّته حيث قال: «و إن استأجره كلّ واحد بأُجرة معيّنة فلا بحث» و الظاهر منه الإيجار على وجه الترتّب بعقود، بشهادة قوله بعده و إن استأجروه في عقد واحد ....

و ربّما يورد على صحّة الإجارة الثانية بأنّه إذا كانوا اثنين فيعقد واحد لإفراز نصيبه، فعلى القسّام إفراز نصيبه و تمييز كلّ واحد منهما عن الآخر، لأنّ تميز نصيب المستأجِر لا يمكن إلّا بتميّز نصيب الآخر فإذا استأجره بعد ذلك، الآخرُ على تمييز نصيبه فقد استأجره على ما وجب عليه و استحقّ في ذمّته لغيره فلم يصحّ، و كذا لو كانوا ثلاثة، فعقد واحد لإفراز نصيبه ثمّ الثاني كذلك فعلى القسّام افراز النصيبين فإذا ميّزها تميّز الثالث فإذا عقد الثالث بعد العقدين كان قد عقد على عمل مستحق في ذمّة الأجير لغيره. «1»

و حاصل الدليل أنّ الأُجرة في مقابل عمل مملوك للأجير، و ليس غير

تميّز مال الشريك الثاني شيئاً و هو ملك للشريك الأوّل الموجر.

و قال المحقّق الرشتي: إنّ تميّز حقّ الثاني يحصل بعين تميّز حقّ الأوّل، و المفروض أنّه مستحق على الأجير بمقتضى العقد الأوّل فالعقد الثاني يبقى بلا مورد لأنّ شرط صحّة الإجارة وقوعُها على عمل مملوك غير مستحقّ عليه ببعض أسباب الاستحقاق.

و ربّما يقرّر الإشكال بأنّ تميّز حقّ الثاني واجب على الأجير مقدّمة لتميّز حقّ الأوّل، و أخذ الأُجرة على الواجب غير جائز. «2»

و لا يخفى أنّ التقرير الثاني ليس بمهم لما قرّر في محلّه من أنّ وجوب شي ء لا يمنع من أخذ الأُجرة عليه و إنّما المانع أخذ الأُجرة بعمل ليس مملوكاً له بل استحقّه

______________________________

(1) المسالك: 2/ 425.

(2) المحقق الرشتي، كتاب القضاء: 2/ 55.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 24

الموجر الأوّل كما في التقرير الأوّل.

و أُجيب عن الإشكال بوجوه:

1- إنّ الإشكال مبني على أنّه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القسّام لإفراز نصيبه و لا سبيل عليه لأنّ إفراز نصيبه لا يمكن إلّا بالتصرّف في نصيب الآخر تردّداً و تقديراً، و لا سبيل إليه إلّا برضاهم. «1»

يلاحظ عليه: بأنّ الإفراز ربّما لا يتوقف على التردّد و التقدير، إذ ربّما يكون القسّام عارفاً بالمقسوم كعرفانه ابنه، لأنّه كان مستأجراً، أو عاملًا في الأرض إلى غير ذلك و عندئذ يكفي في صحّة التقسيم و نفوذه، رضا الشريك و هو مفروض الوجود و لا يتوقّف على العقد على سهمه كما لا يخفى.

2- ما أجاب به السيّد الطباطبائي من أنّه إذا اتّحد عنوان الإجارتين، لم تصحّ الثانية كأن يستأجره كلّ منهم على التقسيم، و أمّا إذا كان العنوان متعدّداً، صحّ كلّ منهما و إن

كان العمل واحداً كأن يستأجره الأوّل على تمييز حقّه من حقّ شريكه، و الآخر أيضاً كذلك فإنّه لا مانع منه و كذا الحال من كلّ ما كان من هذا القبيل، كأن يستأجره أحد للمشي إلى مكّة للحجّ و يستأجره الآخر للمشي إليه للخدمة هكذا. «2»

يلاحظ عليه: أنّ تعدّد العنوان إنّما يجدي إذا كان هناك عملان متمايزان، كما في المثالين المذكورين فإنّ المستأجر عليه هناك هو الزيارة و الخدمة، و المشي مقدّمة و لو قام بهما بلا مشي لسقط أيضاً هذا بخلاف المقام فإنّ العنوانين يتحقّقان بعمل واحد، و الإجارة الأُولى يتضمّن تحقّق العنوان الثاني شاء أم لم يشأ فيكون أخذه الأُجرة في مقابله أكل المال بالباطل، حيث أخذ منه الأُجرة و لم يدفع إليه شيئاً، و ما دفع إليه من تمييز حقّه فإنّما هو من آثار الإجارة الأُولى.

______________________________

(1) المحقق الرشتي، كتاب القضاء: 2/ 55.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 219- 220.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 25

و بما ذكرناه يظهر عدم صحّة النقض بما إذا آجر نفسه لبيع مال زيد و آجر ثانياً لشرائه منه لآخر فيأخذ الأُجرة من الطرفين، و ذلك لأنّ القبول غير داخل في ماهية البيع و كأنّه آجر نفسه للإيجاب من جانب صاحب المال، و القبول من جانب المشتري.

3- إنّ العمل ينتفع به اثنان.

يلاحظ عليه: أنّ الانتفاع لا يُصحّح الإجارة الثانية و أقصى ما يقتضيه تقسيط الأُجرة الأُولى بينهما، لا تصحيح وقوع إجارتين على عمل واحد.

الثاني: في أحكام المقسوم
اشارة

قال المحقق: إذا كان المقسوم مثليّاً و طلب الشريك القسمة، تجب على الآخر إجابته و إلّا يجبر عليها.

توضيح ذلك: انّ المقسوم إمّا مثليّ أو قيميّ و الأوّل عبارة عمّا تتساوى

أجزاؤه وصفاً و قيمة كالحبوب و الأراضي و بما أنّ الأواني و الأقمشة كانت عند القدماء من القيميات عُرّف المثلي بما عرفت و لما صارتا اليوم بفضل الحضارة الصناعية من المثليات يلزم عطف «أفراده» على «أجزائه» ليشمل التعريف عليهما فيصير المثلي ما تتساوى أجزاؤه أو أفراده وصفاً و قيمة، و أمّا الثاني أي القيميّ فسيأتي الكلام فيه في المستقبل. و على كلّ تقدير فقد أفتى المشهور بجواز الجبر على القسمة إذا لم يظهر الرضا. و إليك دراسة المسألة.

يمكن أن يقال: مقتضى القاعدة الأُولى هو اشتراط الرضا و عدم جواز الجبر لأنّ التقسيم يستلزم التصرف في سهم الشريك و لا أقلّ من إخراجه عن المشاع إلى الإفراز و هو لا ينفكّ عن مبادلة نصف كلّ جزء يقع في يد الطالب، مع نصف كلّ جزء يترك للشريك، و هو تصرّف في مال الغير بغير إذنه مع أنّه لا يحلّ

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 26

مال امرئ إلّا بطيب نفسه.

و استدل القائل بالجواز مع عدم الرضا كالشيخ في المبسوط و المحقّق في الشرائع بقاعدة السلطنة قال الأوّل: «إذا لم تكن القسمة مضرّاً لواحد من الشركاء يُجبر الممتنع منهم عليها، لأنّ من كان له ملك، كان له أن يتسبّب إلى ما يفيده الانتفاع الكامل، و التصرّف التامّ فيه، فإذا أفرزه ملك الانتفاع بغراس و زرع و بناء ما شاء من غير توقف و لا منازع و إن كان حقّه مشاعاً لم يملك هذا. «1» و قال المحقّق: «يجبر الممتنع مع مطالبة الشريك بالقسمة لأنّ الإنسان له ولاية الانتفاع بماله و الانفراد أكمل نفعاً». «2»

فإن قلت: إنّ قاعدة السلطنة قاصرة في المقام، لأنّ مفادها

هو التسلّط على المال مع حفظ الموضوع أي المال المشاع، فمع حفظه، يجوز له التصرّف فيه كيفما شاء من بيع و هبة و وقف و غيره، و أمّا له السلطنة على قلب الموضوع و تبديله إلى الإفراز، فلا تعمّه القاعدة.

قلت: الظاهر إنّ الموضوع هو المال و الإشاعة و الإفراز من طوارئ المال و عوارضه، فإذاً له التصرّف بإقامة طارئ مكان طارئ آخر.

و على هذا يقع التعارض بين الدليلين و كلاهما دليلان اجتهاديان، و لكن الحقّ كون المقام من مصاديق القاعدة الثانية، و ذلك لأنّ المتبادر من التصرّف المتوقّف على حليّة المالك، هو التصرّف بالإتلاف كالبيع و الهبة و الأكل و الشرب. و أمّا إفراز سهمه عن سهم الشريك مع عدم تضرّره به، فلا يشمله النبوي الأوّل، و حقيقة الإفراز و إن كان لا ينفكّ عن مبادلة نصف ما أخذ، بنصف ما ترك، لكنّه تصرّف عقلي بل العرف يتلقاه تميز أحد الملكين عن الآخر، لا التصرّف في ملك الغير فعلى القول بانصراف النبوي الأوّل عن مثل هذا التصرّف يكون المقام من مصاديق قاعدة السلطنة.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 135.

(2) الشرائع: 4/ 101.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 27

و ربّما يستدل على جواز الجبر على القسمة بقاعدة لا ضرر، فإنّ المنع عنها ضرر على الطالب و ربّما يورد عليه، بأنّه منع عن حصول النفع الزائد و لو كان هنا ضرر فإنّما هو من لوازم كونه مشاعاً.

يلاحظ عليه: بأنّ الضرر من المفاهيم العرفية، و لا يشكّ فيمن راجع وجدانه، أو إلى العرف أنّه يُعَدُّ مثل هذا المنع و إيجاب إبقاء الشركة، حكماً ضررياً و كونه من لوازم كون ماله مشاعاً،، لا يكون دليلًا على

منعه من رفع هذا اللازم، فالضرر حدوثاً متوجّه إلى نفس المال و كونه مشاعاً، و لكنّه بقاءً متوجّه إلى الإلزام بإبقاء الشركة.

ثمّ إنّ القسمة لمّا كانت أصلًا برأسها، لا يجري فيها الربا المعاوضي فله أن يقسّم كيلًا و وزناً متساوياً و متفاضلًا، ربويّاً كان أم غيره لأنّ القسمة تميّز ملك لا بيع و على ذلك يجوز تقسيم الحنطة و الدهن و غيرهما متفاضلًا فيجعل طنّ من الحنطة الجيدة مقابل طنّ و نصف من غيرها ثمّ يقرع. و لا يضرّ التفاضل. و هذا من ثمرات كونها أمراً مستقلًا لا بيعاً في مورد العين و إجارة في مورد الانتفاع بها.

إذا كان المقسوم قيميّاً

إذا كان المقسوم قيميّاً و طلب أحد الشركاء القسمةَ فلها حالات ثلاث: إمّا أن يستضرّ الكلّ أو يستضرّ البعض أو لا يستضرّ أحدهم.

أمّا الأوّل: فلا يجبر الممتنع كالمجوهرات و الطرق الضيّقة التي يتوقّف قسمتها على كسرها أو تضيق الطريق و كلاهما ضرر إلّا إذا رضي الجميع فتجوز القسمة إلّا إذا أدّت إلى عمل سفهي مخرِج للمقسوم عن الماليّة فلا يجوز لكونه تضييعاً للمال.

أمّا الثاني: فإن كان الملتمس هو المتضرّر لقلّة نصيبه، أجبر من لا يتضرّر، على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 28

القسمة، لانّ المانع هو الضرر، و المفروض رضا المتضرّر لكن بشرط أن لا تؤدّي القسمةُ إلى خروج المقسوم عن الماليّة لصيرورة التقسيم عندئذ سفهيّاً و أمّا إذا كان الملتمس غيره لم يجبر الآخر لقاعدة نفي الضرر و الضرار.

ثمّ المراد من الضرر، هل هو عدم الانتفاع بالنصيب أصلًا بعد القسمة، أو عدم الانتفاع مثل ما ينتفع حال الشركة، كالدار الصغيرة بعد التقسيم، أو نقصان القيمة مطلقاً سواء كان فاحشاً أم لا

أو على الوجه الفاحش وجوه أربعة، لا دليل على إناطة الحكم بالأُولى أي بلوغ الضرر إلى حدّ لا ينتفع بالمقسوم أصلًا كما لا وجه لكفاية مطلق النقصان فإنّ التقسيم إلّا إذا كان بالإفراز فقط يورث النقصان و لو قليلًا فيدور الأمر بين الثاني و الرابع و الظاهر هو الأخير، لأنّ الضرر لو كان غير فاحش لا يعدّ ضرراً في المال المشترك، لأنّ قبول الشركة في المال، قبول لتواليها و منه الضرر المتولّد من التقسيم.

و أمّا الثالث: فالتقسيم جائز بل واجب إذا طلب أحد الشركاء.

الضابطة في جواز التقسيم

إنّ التقسيم لا ينفكّ عن أحد الأُمور الأربعة:

1- الضرر 2- الردّ 3- التعديل 4- الإفراز وحده

أمّا الأوّل فلا يجبر المتضرّر على التقسيم لما تبيّن من الدليل إلّا إذا كان الطالب هو المتضرّر.

و أمّا الثاني بأن يكون مستلزماً للردّ فلا يُجبر لأنّ التقسيم هو إفراز المال و المفروض أنّه غير ممكن إلّا بمعاوضة جديدة و هو فرع رضا الطرفين. و على هذا، ينقسم التقسيم إلى قسمين:

1- قسمةُ اجبار إذا لم يستلزم ضرراً و لا ردّاً.

2- قسمةُ تراض إذا استلزم أحدَهما.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 29

و أمّا الثالث، أي تعديل السهام، فلا يشترط الرضا به، لأنّ القسمة لا تتحقق إلّا بالتعديل ففيما إذا ساوى ألف متر من الأرض، من حيث القيمة مع ألف و خمسمائة متر منها، فلا محيص عن التعديل و أمّا الرابع فهو أسهل صور التقسيم الذي لا يطلب شرطاً سوى طلب واحد من الشركاء، القسمة فظهر أنّ التقسيم المستلزم للضرر و الردّ، يحتاج إلى الرضا دون التقسيم المتوقّف على التعديل و الإفراز.

هذا هو المستفاد من كلام المحقّق و شرّاح كلامه و لكن الحقّ

أنّ الثلاثة الأخيرة (الردّ، و التعديل، و الإفراز) على وزان واحد، فكما أنّ الأخيرين لا يطلبان سوى رضا الطالب و هكذا الردّ، لانّه ليس معاملة جديدة بل عمل إعدادي لجعل غير المرغوب، عدلًا للمرغوب، حتّى يتحقق التقسيم، بحيث لو لا ذلك لامتنع التقسيم العدْل و بالجملة كما أنّ التعديل ليس عملًا زائداً على التقسيم و إنّما هو تمهيد لكون المتاع قابلًا للقسمة فهكذا الردّ ليس عملًا زائداً على التقسيم، بل عمل إعدادي لورود التقسيم على المتاع، فهو جزء من القسمة بوجه دقيق لا شي ء زائد عليها. و سيعود المحقّق قدس سره إلى الموضوع في نهاية المطاف.

إذا سألا القسمة و لهما بيّنة بالملك أو يد عليه

إذا كان لرجلين بيّنة على أنّ العين ملكهما و قالا للحاكم قسّم بيننا قسّمه بلا خلاف و إن لم تكن لهما بيّنة و كان لهما يد عليها يقسّم لأنّ اليد أمارة الملك، كما قرر في محلّه و لا خلاف بيّناً، إنّما الاختلاف بين فقهاء أهل السنة فإنّ الشيخ في الخلاف بعد الإفتاء بجواز القسمة قال: و به قال أبو يوسف و محمّد، و سواء كان ذلك ممّا ينقل و يحوَّل، أو لا يحول و لا ينقل و سواء قالا هو ملكهما، إرثاً أو غير إرث و للشافعي فيه قولان أحدهما مثلما قلناه و هو أصحهما عنده و الثاني لا يقسّم بينهما و قال أبو حنيفة: إن كان بما ينقل و يقول قسّمه بينهما و إن كان ممّا لا ينقل

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 30

نظرت فان قالا: هو ميراث بيننا لم يُقسّم و إن قالا غير ميراث قسّم بينها. «1»

و لا يذهب أنّ التفصيل المنقول عن أبي حنيفة لا يعتمد على دليل و

الأمر دائر بين الجواز و عدمه و قد عرفت أنّ الأقوى هو الجواز.

الثالث: في كيفية القسمة
إنّ المقسوم لا يخلو من أحوال و قد ذكر المحقّق في المقام صوراً أربع:
اشارة

الأُولى: ما إذا كانت السهام متساوية قدراً و قيمة.

الثانية: ما إذا كانت السهام متساوية قدراً لا قيمة.

الثالثة: ما إذا كانت السهام متساوية قيمة لا قدراً.

الرابعة: ما إذا اختلفت السهام قدراً و قيمة.

ثمّ بيّن كيفية التقسيم في جميع الصور و نحن نذكرها بشرح موجز ربّما يكون مُعِيناً لحلّ بعض الأغلاق الموجود في عبارة الشرائع.

الصورة الأُولى: إذا تساوت السهام قدراً و قيمة
اشارة

كأرض بمقدار ألف متر، قيمة كلّ متر دينار، و هي مشتركة بين اثنين حصّة كلّ واحد منهما خمسمائة متر، و قيمة كلّ حصة خمسمائة، فهذا لا يحتاج إلى التعديل لأنّها معدّلة بذاتها و هي قسمة الإفراز وحده و بالجملة إذا كانت الأرض متساوية قدراً و قيمة و مشتركة بين الاثنين بالمناصفة يقسّمه القاسم إلى قسمين و يخرج سهم كلّ شريك بإحدى الطريقتين التاليتين:

أ: الإخراج على الأسماء

: و المراد من الإخراج على الأسماء في المقام هو أن يكتب كلّ نصيب في رقعة كالشمالية و الجنوبية و يحدّد كلّ منهما بما يميّزه عن الآخر من انّه محدَّد بدارِ فلان أو شارع خاص أو غير ذلك. ثمّ يجعل ذلك في ساتر

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب القضاء، المسألة 30.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 31

كالشمع و الطين و يأمر من لم يطلع على الصورة كالأجنبي أو الصبي أو نفس أحد المتقاسمين أن يخرج أحد النصيبين باسم أحد المتقاسمين كأن يقول القاسم أخرج الرقعة باسم زيد، فإذا خرج و كان الخارج هو الشمالية يتملّكها زيد و تصير الأُخرى لعمرو بلا حاجة إلى إخراج الرقعة الثانية لأنّ الحقّ منحصر بينهما، فإذا خرجت إحدى الرقعتين باسم أحدهما تتعين الأُخرى للشريك الآخر.

ب: الإخراج على السهام:

و المراد منه في المقام أن يكتب اسم كلّ شريك منها في رقعة كأن يكتب زيد و عمرو و يصونهما من الرؤية ثمّ يأمر بالأجنبي أو الصبي أن يُخرِجَ اسمَ أحد الشريكين على سهم من السهمين كأن يقول القاسم أخرج القرعة لهذا الجانب كالجنوبية، فمن خرج اسمه على سهم من السهمين فله ذلك السهم و يتعيّن السهم الآخر للشريك الآخر.

فقد علم من ذلك أنّ الإخراجَ على الأسماء يهدف إلى كتابة السهام في رُقَع معيّنة ثمّ إخراجها على اسم واحد من الشركاء، كما أنّ الإخراج على السهام يهدف إلى كتابة اسم الشريكين و إخراج واحد من الرقعتين على السهم الذي عيّنه القاسم.

الصورة الثانية: إذا تساوت السهام قدراً لا قيمة

، فبما أنّ التعديل في القيمة ربّما يتوقف على محاسبة مائة متر، سهماً و محاسبة مائة و خمسين متراً، سهماً ثانياً، لا محيص عن إلغاء القدر و يكون المحور في تسهيم السهام، هو حفظ القيمة. و إلّا لم تتحقق القسمة و لذلك ربّما يكون الثلثان من الأرض مساوياً للثلث منها في القيمة، فإذا كانت الشركة قائمة باثنين، فتارة يخرج السهام على الأسماء أي يكتب كلّ سهم بمشخّصاته الخارجية من كونه جنوبياً أو شمالياً أو متّصلًا بدار أو شارع في رقع و يؤمر من لم يكن واقفاً على الحقيقة أن يُخرج أحد السهمين على اسم أحد الشركاء، فإذا خرج واحد منهما باسم زيد يتعين الثاني للآخر، و أُخرى يخرج اسم أحد الشريكين على السهام و المراد منه كتابة اسم كلّ شريك في رقعة و صيانتهما

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 32

عن الرؤية ثمّ يؤمر بمن لم يقف على الواقع أن يخرج واحداً من الاسمين على واحد معيّن من السهمين

كالجنوبية التي يعينها القاسم قبل إخراج القرعة و يقول الجنوبية لمن يخرج اسمه عن طريق القرعة.

و بالجملة تارة تكتب السهام و تجعل في الكيس و تخرج على اسم الشركاء، و أُخرى تكتب أسماء الشركاء و تجعل في الكيس و يخرج على السهام و يقال على الأوّل إخراج السهام على الشركاء، و على الثاني، إخراج الأسماء على السهام و التميّز بين القسمين مربوط بالمكتوب فإن كتب السهام، فيخرج على الأسماء غير المكتوبة، و إن كتبت الأسماء، فيخرج على السهام غير المكتوبة.

الصورة الثالثة: إذا تساوت السهام قيمة لا قدراً

، مثل أن يكون لواحد النصف و للآخر الثلث «1»، و للآخر السدس، و بما أنّ القيمة متساوية فلا تحتاج إلى التعديل من حيث القيمة و إنّما تحتاج إلى التعديل من حيث القدر و لذلك يبدأ بالأعمال التالية:

1- يسوّي السهام على أقلّهم نصيباً فيجعل في المال سدساً كما يجعل فيه ثلثاً و نصفاً.

2- إذا أردنا أن نكتب أسماء الشركاء، فهناك احتمالان، أحدهما أن يكتب اسم كلّ شريك مرّة واحدة، كزيد صاحب النصف مرّة، و عمرو صاحب الثلث مرّة أُخرى، و مثله «بكر» صاحب السدس.

و ربّما يقال إنّه يكتب عدد الشركاء حسب عدد سهامهم فصاحب النصف يكتب ثلاث مرات، و صاحب الثلث يكتب مرّتين، لأنّه إذا كتب مرّات كان خروج رقعته أسرع، و إذا كتب مرّة يكون كصاحب السدس.

يلاحظ عليه: أنّه لا حاجة إليه، لأنّه إذا خرج اسم زيد مرّة واحدة يدفع

______________________________

(1) و قد سقطت كلمة الثلث من كتاب الشرائع المطبوع أخيراً في أربعة أجزاء.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 33

إليه السهمين الأخيرين مرّة واحدة من دون حاجة إلى خروج اسمه ثانياً و ثالثاً و لذلك يكون التكرار لغواً و

كلفة.

و على ذلك يكتب اسم كلّ شريك في رقعة و تكون مستورة عن المُخرِج ثمّ يؤمر بالإخراج فإن خرج اسم زيد تدفع إليه السهام الثلاث من أوّلها، ثمّ إذا خرج اسم عمرو يدفع إليه الرابع و الخامس ويتعيّن السادس لصاحب السدس، و لو خرج اسم عمرو أوّلًا ثمّ زيد ثانياً يتعيّن السهمان الأوّلان لعمرو و يكون الثالث و الرابع و الخامس لزيد ويتعيّن السادس، لبكر و لو خرج اسم بكر يأخذ السهم الأوّل و تتوقف كيفية تملك السهام الباقية على كيفية الخروج فإن خرج اسم زيد فهو و إلّا فيتملّكه عمرو.

هذا هو الذي ذكره المحقق مبسوطاً و لا سترة فيه و لكن الكلام في الشق الذي نفاه و هو كتابة السهام و إخراجها على الأسماء حيث منع منه مخافة أن يؤدّي إلى تفرّق السهام و هو ضرر، توضيحه:

إنّ السهام في هذا المقام مؤثرة و معلّمة، فبما أنّ عدد السهام ستّة يكون في الكيس ستّة سهام كلّ معلم بالأرقام التالية 1-، 2، 3-، 4-، 5-، 6-، فإذا خرج السهم الأوّل لزيد أيضاً فإن خرج الثاني و الثالث له لا يؤدي إلى التفرّق في السهام و هذا بخلاف ما إذا خرجت السهم الثاني و الرابع و الخامس فإنّه يؤدي إلى التفرّق فيها، و هكذا الأمر إذا خرج السهام لعمرو فإن خرج به الأوّل و الثاني أو الثالث و الرابع فلا يؤدّي إلى التفريق، و هذا بخلاف ما إذا خرج باسمه في المرّة الأُولى الرابع و في المرة الثانية السادس.

و الفرق بين هذه الصورة و الصورتين الأُوليين حيث يجري فيهما كلا الأمرين دون المقام هو اتّحاد الأُولى و الثانية من حيث القدر فلا يحتاج في تخصيص الحصص إلى

ذكر السهام معدّداً بل يكفي ذكرهما بصورة «السهم الجنوبي» أو «الشمالي»، بخلاف المقام فإنّ الاختلاف في القدر أوجب ذكر أرقام السهام واحداً بعد الآخر

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 34

مميّزاً.

و الحاصل أنّ الذي يمكن في المقام هو أن يكتب أسماء الشركاء على الرقاع ثمّ يخرج كلّ اسم على السهام المحدّدة، و لا يمكن أن تكتب السهام في الرقاع ثمّ يخرج على أسماء الشركاء لكونه ربّما يؤدي إلى تفرّق السهام.

و مع ذلك يمكن كتابة السهام و إخراجها على الشركاء بوجه آخر، و هي الاكتفاء بثلاث حسب أنصباءهم حال التقسيم فيكتب، و، فلو خرج الأوّل، دفع إلى صاحبه من السهام المترتبة أوّلها، أو من آخرها و لو خرج الثاني، يدفع إلى صاحبه كذلك و هكذا الثالث و لا يلزم التفكيك.

و ليعلم أنّ المقارعة أمر عقلائي و هم أعرف بأعمالهم و لعلّ لهم في المقام صورة أو صوراً أُخرى لم يذكرها المحقّق و لا دليل على اعتبار صورة خاصة كما لا دليل على بعض ما ذكره المحقق في كيفية الإقراع.

الصورة الرابعة: إذا اختلفت السهام و القيمة

، عُدّلت السهام تقويماً و مُيّزت على قدر سهم أقلّهم نصيباً و أقرع عليها. و في الحقيقة هذا القسم يتركّب من الخصوصيتين، إحداهما من الصورة الثانية و هو الاختلاف في القيمة، و ثانيتهما من الثالثة و هو الاختلاف في القدر، فيجري فيه حكم القسمين، فتعديل السهام حسب القيم، من خصوصيات الصورة الثانية لكن كانت السهام فيها متساوية من حيث المقدار دون المقام، و إخراج أسماء الشركاء على السهام من خصوصيات الصورة الثالثة و يخرج الأسماء على السهام لئلّا يؤدّي إلى التفرّق في السهام على النحو الذي سمعته عند البحث في الصورة الثالثة.

في قسمة الردّ و قسمة التعديل

قد عرفت أنّ القسمة تتحقق إمّا بالإفراز وحده و أُخرى بالتعديل، و ثالثة بالردّ، و رابعة بالضرر، و قد تبيّن حكم القسم الرابع و أنّه لا يجبر عليها فيه، كما أنّه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 35

يجبر عليها في الأوّل، إنّما الكلام في القسمة المشتملة على التعديل أي تعديل السهام بالزيادة و النقصان حتّى يسوي السهام حسب القيمة لأجل وجود المرغوبية في موضع دون موضع، و القسمة المشتملة على الردّ كالأرض المنقسمة إلى ما فيها شجر و ما ليس فيها شجر، مع تساوي أرضهما و قد قدّمنا الكلام فيه سابقاً تبعاً و قلنا بجواز الإجبار، و لكن المحقق عاد إلى البحث عنهما في المقام و قال:

أمّا لو كانت قسمة ردّ و هي المفتقرة إلى ردّ في مقابلة بناء أو شجر أو بئر فلا تصحّ القسمة فيه ما لم يتراضيا جميعاً لما يتضمّن من الضميمة التي لا تستقرّ إلّا بالتراضي.

و إنّما الكلام فيما إذا اتّفقا على الردّ و عدّلت السهام فهل تلزم بنفس القرعة قيل لا يلزم لأنّها

تتضمّن معاوضة و لا يعلم كلّ واحد من يحصل له العوض فيفتقر إلى الرضا بعد العلم بما ميّزته القرعة.

يلاحظ عليه: أمّا قسمة الردّ فقد تقدّم منّا أنّ الردّ ليس معاوضة جديدة بل هو لتعديل السهام فكما أنّ التعديل في الأراضي بجعل ثلث الأرض سهماً و الثلثين سهماً آخر لا يعدّ أمراً جديداً بل تمهيداً للتقسيم فهكذا الردّ فإذا انحصر التقسيم بالردّ فالحقّ جواز الإجبار.

ثمّ إذا اتّفقا على الردّ و عدّلت السهام فلا شكّ أنّ القرعة مُلزمة لأنّها حسب ما يستفاد من الروايات المتضافرة من أنّ من أصابته القرعة فهي له فإذا أصاب زيداً فمعنى ذلك أنّ حقّه يتعيّن فيما أصاب و لا معنى للزوم رضاً جديد. بعد كون القرعة مبنياً على الشرط السابق.

مسائل ثلاث
اشارة

لو كان لدار علو و سفل فطلب أحد الشريكين قسمتَها فلها أقسام:

الأُولى: أن يطلب التقسيمَ على أن يكون لكلّ واحد منهما نصيب من العِلو و السفل بموجب التعديل

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 36

كالبنايات التي لكلّ طابق منها، شقّتان أو عدة شقق فيجبر الممتنع مع انتفاء الضرر إذ التقسيم تقسيم بالإفراز لكنّه مشروط بعدم نقصان أبعاض العلْو و السفْل بالتقسيم لسعتهما كثيراً.

2- أن يطلب انفراده بالسفل أو العلو فلا يجبر الممتنع إذ مضافاً إلى أنّه يتوقّف على معاوضة سهمه في السفل بسهمه في العلو يستلزم حرمان السفل من الهواء، و العلو من القرار، فمع إمكان الطريق الأوّل، لا تصل النوبة إلى الطريق الثاني، و ربّما يتصوّر أنّ وجه تقديم الأوّل على الثاني أنّ التقسيم على الأوّل إفرازي و على الثاني تعديلي، و مع إمكان الأوّل لا تصل النوبة إلى الثاني.

يلاحظ عليه: أنّ المحقق ذكر في صورة المسألة قوله: «بموجب التعديل» فكلتاهما لا تخلوان عن التعديل بل الوجه هو أنّ الشريك ربّما لا يرضى بمعاوضة سهمه في العلو بسهمه في السفل نعم لو امتنع التقسيم على الوجه الأوّل كما إذا كان لكلّ طابق شقّة واحدة ينحصر التقسيم على الوجه الثاني.

3- أن يطلب تقسيم كلّ من السفل و العلو انفراداً و الفرق بينه و بين الأوّل أنّ التقسيم هناك كان على حسب المجموع فربّما يتوقّف على التعديل بخلافها في المقام، لأنّه يلاحظ كلّ من السفل و العلو على حدّة، فلا يجبر لأنّه ليس العلو و السفل كالبيتين المتجاورين حتّى يقسم كلّ على حده.

4- لو طلب قسمة واحد منها، لا كلّ واحد منهما لم يجبر لأنّ الهدف من القسمة، التمييز و إزالة الشركة و هي بعدُ باقية، أضف إلى ذلك أنّه ربّما يؤدي في المستقبل أن يكون العلو

من جانب، و السفل من جانب آخر لواحد و عكسه لواحد آخر و هو يحتاج إلى تراض و ليس هو قسمة رائجة بين العقلاء.

و اعلم أنّ الكلام في هذه الصور في جواز الإجبار و عدمه، لا القسمة مع التراضي و إلّا تجوز القسمة في الجميع.

الثانية: لو كان بينهما أرض و زرع فطلب قسمة الأرض فقط أجبر الممتنع

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 37

لأنّ الزرع كالمتاع في الدار يحاسب كلّ مستقلًا.

و لو طلب قسمة الزرع. نقل المحقق عن الشيخ أنّه قال: لو طلب قسمة الزرع وحده لم يجبر الآخر عليه، لأنّ تعديل الزرع بالسهام غير ممكن.

أقول: إنّ الشيخ ذكر للمسألة صوراً ثلاث و قد ذكر منها المحقق صورتين و لم يذكر الثالثة و إليك كلامه بشكل موجز:

فإن طلب قسمة الأرض دون غيرها أجبرنا الآخر عليها على أيّ صفة كان الزرع حبّاً أو قصيلًا أو سنبلًا قد اشتدّ لأنّ الزرع في الأرض كالمتاع في الدار.

و إن طلب قسمة الزرع وحده لم يجبر الآخر عليه لأنّ تعديل الزرع بالسهام لا يمكن.

و إن طلب قسمتها مع زرعها لم يخل الزرع من أحوال ثلاثة: حبّاً مستتراً أو قصيلًا، أو زرعاً اشتدّ سنبله و قوى حبّه. «1»

ترى أنّ الأحوال الثلاثة ذكرها الشيخ في الصورة الثالثة دون الثانية و لكن ذكرها المحقّق في الثانية. «2»

و على كلّ تقدير: فالزرع غير مانع من تقسيم الأرض كما أفاده الشيخ فيجبر، إنّما الإشكال في تقسيم الزرع منفكّاً عن الأرض فقال الشيخ: لا يجبر لأنّ تعديل الزرع بالسهام لا يمكن.

و الحقّ التفصيل بين ما كان مستوراً فلا يُقسم لجهالته، و ما إذا كان ظاهراً من غير فرق بين كونه قصيلًا أو سنبلًا اشتدّت حبّته، غاية الأمر يقسّم بالتعديل لو احتاج إليه.

الثالثة: لو كان بينهما قرحان متعدّدة كالدور أو الأراضي أو البساتين المتعدّدة.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 141.

(2) الشرائع: 4/ 104.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 38

قال الشيخ: و متى كان لهما ملك أقرحة، كلّ قراح منفرد عن صاحبه، و لكلّ واحد منهما طريق ينفرد به، فطلب أحدهما قسمةَ كلّ قراح على حدّته و

قال الآخر لا بل بعضها في بعض كالقراح الواحد قسّمنا كلّ قراح على حدّته و لم يُقسَّم بعضها في بعض سواء كان الجنس واحداً مثل إن كان الكلّ نخلًا أو الكلّ كرماً، أو أجناساً مختلفة، الباب واحد، و سواء كانت متجاورة أو متفرّقة و كذلك الدور و المنازل. «1»

و الحاصل أنّه إذا طلب بصورة القسمة الإفرازية، كأن يقسّم كلّ بانفراده، فيجبر و إن طلب بصورة التبديل و جعل بعضها في مقابل فلا و ذلك لأنّها أملاك متعدّدة لكلّ حكمه.

و ذهب صاحب الجواهر إلى جواز الإجبار قائلًا بأنّ قاعدة وجوب إيصال الحقّ إلى مستحقّه مع التمكّن منه و عدم الضرر تقتضي الإجبار.

إنّ ما ذكره صاحب الجواهر لو صحّ فإنّما يصحّ إذا كانت الأقرحة متجاورة و إن كانت الطريق أو سند المالكيّة متعدّدة، و أمّا إذا كانت متباعدة فلا، ثمّ إنّ الاكتفاء بعدم الضرر إذا كانت متجاورة في جواز الإجبار لا يخلو من كلام لأنّ الشريك لا تطيب نفسه بالمبادلة، أي بمبادلة سهمه في ذلك البستان، مع سهمه في بستان آخر، و مرجع ذلك إلى تقديم القسمة الإفرازية على القسمة التعديلية. اللّهمّ إلّا إذا كانت القسمة على الصورة الإفرازية مضرّة لأجل كون الأرض صغيرة.

نعم لو لم تمكّن القسمة على النحو الأوّل كالدواب و الثياب فيتعيّن النحو الثاني.

ثمّ إنّ الأرض تقسّم قسمة إفرازية و إن اختلفت أشجار أقطاعه كالدار الواسعة إذا اختلفت أبنيتها لأنّ الأصل هو الملك و الأشجار و الأبنية توابع لكنّه تعدل السهام بالتعديل أو بردّ شي ء.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 39

الرابع: في اللواحق و هي ثلاث
الأُولى: إذا ادّعى بعد القسمة الغلط عليه

قال الشيخ: إذا ادّعى أحد المتقاسمين أنّه غَلط عليه في القسمة فإن كانت قسمة

إجبار و قد نصب الحاكم قاسماً يُقسّم بينهما لم يقبل دعواه، لأنّ القاسم أمين أوّلًا و لأنّ الظاهر أنّها وقعت على الصحّة فلا يقبل قول من ادّعى الفساد. «1»

انّ مقتضى القاعدة هو توجّه اليمين على من أنكر ما لم يقم المدّعي البيّنة فإذا أقام، يحكم بفساد القسمة، إنّما الكلام في كيفية حلفه فهل يحلف على الوجه البتّي، أو يحلف على عدم العلم؟ قد تقدّم منّا أنّ كيفيّة الحلف تتبع كيفية الادّعاء فإن ادّعي عليه العلم بالغلط، يحلف على عدمه، و له أن يحلف حلفاً بتّياً إذا كان عالماً واقعاً بعدم الغلط إذا كان الحالف هو القاسم لأنّ الإنسان على فعله بصيرة و لو استحلف الشريك فهو تارة يحلف على النحو البتّي، و أُخرى على نحو عدم العلم حسب ما ادّعى عليه.

الثانية: إذا ظهر البعض مستحقّاً للغير بعد التقسيم

و قد ذكره الشيخ في المبسوط بتفصيل و لخّصه المحقّق في أربع صور:

1- إذا اقتسما ثمّ ظهر البعض مستحقّاً للغير في أحد الطرفين دون الآخر كما إذا اقتسما عشرة كتب على أنّ خمسة منها لهذا و خمسة أُخرى لذاك فظهر أحد الكتب مستحقّاً للغير فصار لواحد أربعة كتب و للآخر، خمسة قال المحقق: بطلت القسمة معلّلًا ببقاء الشركة في النصيب الآخر و قال الشيخ: فإن كان معيّناً نظرت فإن حصل في سهم أحدهما بطلت القسمة لأنّ الإشاعة عادت إلى حقّ شريكه و ذلك لأنّ القسمة تراد لإفراز حقّه عن حقّ شريكه فإذا كان بعض ما حصل له مستحقّاً للغير كان حقّه باقياً في حقّ شريكه. 2

______________________________

(1) 1 و 2 الطوسي، المبسوط: 8/ 141- 142.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 40

يلاحظ عليه: أنّ

للمسألة صورتين يوجب ظهوره مستحقّاً للغير في احداهما بطلان التقسيم من رأس، و أُخرى يوجب البطلان في المقدار الخاص و ذلك لأنّه إذا بان ما في يد الآخر كلّه مستحقاً للغير، فتبطل القسمة و يعود ما في يد الآخر مشاعاً و أمّا إذا بان شي ء ممّا في يد أحد الشريكين مستحقّاً للغير، كالكتاب الخامس مثل الشرائع، فتبطل بمقدار قيمته فيكون ذاك الشريك سهيماً لما في يد الآخر بمقدار قيمة ما ظهر مستحقّاً للغير فلو كان قيمة كلّ الخمسة ألفاً، و كان قيمة الشرائع مائتين يكون شريكاً لما في يد الآخر، بمقدار الخمس فيحتاج إلى التقسيم الثاني بالنسبة إليه أخماساً، فالحكم بإبطال القسمة من رأس يحتاج إلى دليل بعد وقوعه صحيحاً، و الحاصل أنّ كلّ ما كان المقسوم من قبيل الأقل و الأكثر الاستقلاليين، لا يحكم ببطلان القسمة من رأس و إنّما تبطل بمقدار ما علم فيكون سهيماً بهذا القدر.

2- إذا ظهر الاستحقاق في كلا النصيبين بالسوية قال الشيخ: و إن كانا فيها سواء من غير فضل، أخذا لمستحق حقّه و ينصرف و كانت القسمة في قدر الملك الصحيح صحيحة لأنّ القسمة لإفراز الحقّ و قد أفرز كلّ واحد منهما حقّه عن شريكه. «1» و قال المحقّق: لم تبطل لأنّ فائدة القسمة باقية و هو إفراد كلّ واحد من الحقّين.

و في الجواهر: نعم ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يحدث نقصاً في حصّة أحدهما خاصّة بأخذه و لم يظهر به تفاوت بين الحصّتين مثل أن يسدّ طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه فإنّ القسمة حينئذ باطلة لبطلان التعديل. «2» نعم يصحّ التقسيم إذا كان المقسوم كالكتب.

3- لو كان المستحق نصيبهما معاً لكن لا بالسوية بطلت القسمة

لتحقّق الشركة و إلى ذلك ينظر الشيخ لقوله: فإن وقع المستحق في نصيبهما معاً نظرت فإن

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 142.

(2) النجفي: الجواهر: 40/ 365.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 41

وقع منه مع أحدهما أكثر ممّا وقع مع الآخر بطلت القسمة لما مضى «1» لبطلان التعديل.

4- هذا إذا كان المال المستحقّ للغير معيّناً و أمّا إذا كان مشاعاً فيهما. قال الشيخ: هذا إذا كان المستحق معيّناً و أمّا إن كان مشاعاً في الكلّ بطلت في قدر المستحقّ و لم تبطل فيما بقي، و قال قوم تبطل فيما بقي أيضاً و الأوّل مذهبنا و الثاني أيضاً قويّ لأنّ القسمة تمييز حقّ كلّ واحد منهما عن صاحبه و قد بان أنّه على الإشاعة. 2 و وصفه المحقّق بأنّه الأشبه، و هو الحقّ لأنّ التقسيم كان بلا إذن الشريك، فيحتاج إلى تقسيم ثلاثي.

و مع ذلك ففي القول ببطلان التقسيم مطلقاً نظر كما إذا كان التقسيم الثنائي، لا يزيد شيئاً على التقسيم الأوّل كما إذا مات الرجل و ترك ابناً و زوجة فللزوجة الثمن و للابن الباقي ثمّ ظهرت زوجة أُخرى له فهي تكون شريكه لها في الثمن من غير فرق بين تجديد التقسيم أو إبقائه، و مثله ما إذا ظهر ابن آخر له فهو يكون شريكاً لأخيه بالمناصفة و الأحوط تنفيذ التقسيم من جانب الثالث.

الثالثة: لو قسّمت الورثةُ تركة ثمّ ظهر على الميّت دين قال المحقّق: فإن قام الورثة بالدين لم تبطل القسمة، و إن امتنعوا نُقضت و قضي منها الدين. 3

قد حقّق في محلّه أنّ الدين لا يتعلّق بالعين و لا يكون الدائن شريكاً للورثة في غير المستوعب و لا مالكاً للتركة

في المستوعب منه، بل الدين على ذمّة الميّت و التركة ملك لهم لكنّها كالعين المرهونة فلو قضت الورثة، الدين، تنفك عن الرهن و إلّا فللدائن، استيفاء دينه من التركة كالمرتهن، و على ذلك لا تبطل القسمة مطلقاً. نعم إذا كان الدين مستوعباً و امتنعت الورثة من أداء الدين يرجع إلى أخذ جميعها و يكون التقسيم بلا أثر.

______________________________

(1) 1 و 2 الطوسي، المبسوط: 8/ 142.

(2) 3 نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 105.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 42

النظر الرابع في أحكام الدعاوي

اشارة

و فيه: مقدمة، و مقاصد

أمّا المقدمة: فتشتمل على فصلين:
الفصل الأوّل في تمييز المدّعي عن المنكر
اشارة

لمّا وقع عنوان المدّعي أو المدّعى عليه أو «من أنكر» أو ما يقرب منها موضوعاً لأحكام شرعية في النصوص يجب على القاضي التعرّف عليها و لأجل ذلك حاول الفقهاء تعريفها بوجوه و المهم تعريف المدّعي إذ بالتعرّف عليه يعرف المنكر و قد عرّف بوجوه:

1- المدّعي: من لو تَرك تُرِك.

2- المدّعي: من خالف قولُه الظاهرَ.

3- المدّعي: من خالَف قولُه الأصل.

4- المدّعي: من يدّعي أمراً خفياً.

5- المدّعي: من تُطلَب منه البيّنة.

إنّ هذه التعاريف لو كانت تعاريف حقيقية لا تخلو أكثرها من إشكال.

أمّا الأوّل: أعني «من لو تَرك تُرِك» فلا ينطبق على الدعوى الثانية الناشئة من الدعوى الأُولى، فلو ادّعى رجل ديناً على ذمّة رجل، فقال الثاني: قضيتُ

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 43

ديني، فإنّه مدّع بالنسبة إلى قضاء الدين مع أنّه لو ترك لم يترك. و يمكن أن يقال: إنّ المعرَّف هو المدّعي المنشئ للدعوى ابتداءً و أمّا دعوى الخروج عن عهدة الدين فليس داخلًا في المعرّف و إنّما هو من لوازم الدعوى الأُولى، نظير دعوى الاعسار و الوفاء و ردّ المغصوب و الوديعة و نحوهما ممّا لا يترك الشخص عن المطالبة بالحق لو ترك.

و أمّا الثاني: فالظاهر أنّ من جعل موافقة الظاهر و مخالفته ملاكاً لتمييز المنكر عن المدّعي، انتقل إلى هذه الضابطة بمشاهدته في الفقه موارد قُبل فيها قول من يوافق الظاهر مع يمينه كالأمين مطلقاً مثل الودعي فتصوّر أنّ ذلك لأجل كونه منكراً، فيكون مقابله مدّعياً مع أنّه لا مانع من جعله مدّعياً و مقبولًا قوله مع اليمين لورود النصّ عليه و قد مرّ مواضع يقبل فيها قول المدّعي مع اليمين.

و على

كلّ تقدير فهل المراد من الثالث أصالة البراءة، أو الأصل الموجود في نفس المال كأصالة الصحّة إذا كان أحد الطرفين يدّعي الصحّة و الآخر الفساد أو الأعمّ منه و من الأمارات المعتبرة كاليد. تظهر الحال فيه فيما يأتي.

ثمّ إنّ المشكلة هو عدم التساوي بين الثاني و الثالث، في الصدق إذ يلزم على أحدهما كون الرجل مدّعياً و على الآخر كونه منكراً و إليك بيان ذلك:

1- لو أسلما قبل الدخول فادّعى الزوج التقارن، فالنكاح باق و ادّعت الزوجة التعاقبَ فالنكاح منفسخ فلو كان الملاك للتمييز هو الموافقة و المخالفة للظاهر فالرجل هو المدّعي لأنّ قوله مخالف للظاهر لبعد التقارن و شيوع التعاقب و المرأة هي المنكرة لموافقة قولها مع الظاهر و أمّا لو كان الملاك هو الموافقة و المخالفة مع الأصل فالمرأة هي المدّعية لادّعائها الانفساخ المخالف للأصل و الرجل هو المنكر.

2- لو ادّعى الزوج الانفاق مع عيشهما في بيت واحد مع يسار الرجل و أنكرته فلو كان الملاك هو مخالفة الأصل فالرجل هو المدّعي لأنّ الأصل عدم

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 44

الانفاق و لو كان الظاهر هو الملاك، فالمرأة هي المدّعية لكون قولها مخالفة للظاهر لأنّ العيش في بيت مع اليسار يوجب الظنّ بالانفاق.

3- لو ادّعى الزوج بعد الخلوة، عدم الدخول فلو كان الأصل هو الملاك فالمرأة هي المدّعية لأنّ الأصل عدم الدخول و لو كان الملاك هو الظاهر فالمدّعي هو الرجل لكون الخلوة غير منفكّة عن الدخول غالباً.

هذا و الإجابة عن التعارض واضح فإنّ أساسه، كون المراد من الظاهر هو الأعمّ من الحجّة شرعاً و عدمها فعندئذ يظهر التعارض بين التعريفين و أمّا إذا كان المراد منه

هو الحجّة و أنّ المنكر في إنكاره معتمد على دليل شرعي فلا ترفع اليد عنه إلّا بدليل أقوى كالبيّنة، فيرتفع التعارض، لأنّ الظواهر في جميع الأمثلة أُمور ظنّية ليست بحجّة شرعية، فينحصر الدليل بالأصل.

ففي المثال الأول، على مدّعي الانفساخ إقامة البيّنة و هي المرأة و إلّا فالمنكر على أصله و دليله.

و في المثال الثاني، على مدّعي الانفاق إقامة البيّنة و إلّا فمنكره على أصله و دليله.

و في المثال الثالث؛ على مدّعي الدخول، إقامة البيّنة و إلّا فمنكره على أصله و دليله.

فإذا كان المراد من الظاهر في جانب المدّعي و المنكر هو المعتبر شرعاً، فيكون المدّعي هو من خالف قوله الظاهرَ المعتبرَ و المنكر من وافقه فعلى كلّ من المدّعي و المنكر، الاعتماد على الدليل غير أنّ الحقّ مع المنكر لوجود الدليل المعتبر معه إلّا أن يأتي المدّعي بدليل أقوى.

ثمّ إنّه ربّما يعترض على التعريف الثالث بأنّه ربّما يكون قول المدّعي موافقاً للأصل كما إذا ادّعى فساد المعاملة الموافق لأصل البراءة، و لكنّه ضعيف لأنّ المراد من الأصل هو الأصل الحاكم في المسألة و هو أصالة الصحّة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 45

هذا كلّه حول التعاريف الثلاثة الأُولى و أمّا الرابع فأضعف التعاريف حيث جعل الميزان، ادّعاء الأمر الخفي ميزاناً للمدّعي إذ لا فرق بين الخفي و الجليّ مع انّه لم يُعلَم ما هو الميزان للخفاء و الجلاء.

و ربّما يعتذر عن هذه النقوض بأنّها تعاريف لفظية، و لكن الفقهاء يتعاملون معها معاملة التعاريف الحقيقية إذ يبذلون جهودهم في معرفة الأصل الموجود في المسألة حتّى يكون ميزاناً لتمييز المنكر عن المدّعي.

و لمّا كانت التعاريف عند صاحب الجواهر غير كاملة، تخلّص عن التعريف

و جعل المرجع العرف على حسب غيرهما من الألفاظ التي لم تثبت لها حقيقة شرعيّة إلى أن قال: فالمراد به الذي قام به إنشاء الخصومة في حقّ له أو خروج من حقّ عليه سواء وافق الظاهر و الأصل بذلك أو خالفهما و سواء تُرك مع سكوته أو لم يترك فإنّ المدّعي عرفاً لا يختلف باختلاف ذلك و كيف كان، فالرجوع إلى العرف في مصداقهما أولى من ذلك كلّه و لعلّ لا اشتباه فيه بعد امتياز خصوص الدعوى بين المتخاصمين «1».

و إليه جنح السيّد الطباطبائي حيث قال: إنّ المرجع فيه هو العرف، و أضاف و هذا بحسب المصاديق يرجع إلى التعاريف المذكورة. «2» و هو خيرة سيدنا الأُستاذ في تحريره حيث قال: إنّ تشخيص المدّعي و المنكر عرفي كسائر الموضوعات. «3»

و نحن نوافق الأساتذة و نقول أنّهما من المفاهيم العرفية و لكن ليس المفهومان مستعصيين عن التعريف الجامع و لعلّ في عبارة الجواهر إلماع إلى التعريف الجامع حيث قال: «من قام بإنشاء الخصومة في حقّ له، أو خروج من حقّ عليه» و إن شئت قلت: إنّ المدّعي يريد إثبات حقّ لنفسه أو لمن ينوب عنه

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 371 و 376.

(2) ملحقات العروة: 2/ 35.

(3) تحرير الوسيلة: 2/ 369.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 46

أو يريد إسقاط حقّ ثابت و إليك التوضيح:

إنّ المدّعي و المنكر من المفاهيم العرفية غير المختصّة بالمسلمين بل هما موجودان في جميع الشعوب فهؤلاء بفطرتهم يميّزون المدّعي عن المنكر و لا يتوقفون في قضائهم على إعمال واحد من هذه الموازين و لو أردنا أن نصوغ فطرتهم في قالب لفظي فلنا أن نقول: المدّعي من يدّعي إثبات حقّ

أو إسقاط حقّ ثابت، فمن ادّعى شيئاً من ذلك، فعليه الإثبات و لعلّ التعريف الأخير أسد التعاريف حيث قال: المدّعي من يطلب منه البيّنة و المراد منها هو الدليل و ذلك انتقالًا من عالم التكوين إلى عالم الادّعاء، فكما أنّ وجود كلّ ممكن ثبوتاً رهن علّة و محدث، فهكذا ادّعاء حدوث حادث لم يكن له سبق، رهن دليل فمن ادّعى طروء أمر جديد فعليه الإثبات فلا يقبل قوله إلّا معه، و قد نقل عن الشيخ الرئيس أنّه قال: إنّ من قبل قول المدّعي بلا دليل، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية و على هذه الفطرة جرى الرسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حيث قال: البيّنة على المدّعي «1» و أمّا المنكر فلا يحتاج إلى الدليل لأنّه لا يدّعي شيئاً، بل يتلقّى قول المدّعي قولًا بلا دليل.

و بالجملة إنّ المدّعي يريد تغيير الوضع الحاضر و المنكر ممسك به، فالأوّل هو المدّعي و عليه الدليل حسب الطبع، فما لم يأت بدليل فالمنكر على ما هو عليه.

نعم ربّما دلّ الدليل بالاكتفاء باليمين في مورد المدّعى مكان البيّنة و ذلك لا يخرجه عن كونه مدّعياً و ذلك لأدلّة خاصّة و من ذلك دعوى الودعي ردّ الوديعة، و دعوى الأمين تلف المال، و مدّعي صحّة البيع مع ادّعاء الآخر، الفساد فيقبل قول مدّعي الصحّة بيمينه كلّ ذلك لأجل دليل خاصّ و لولاه كان على كلّ من يدّعي إثبات حقّ، أو إسقاط حقّ ثابت، إقامة الدليل و هي البيّنة و لعلّه إلى ما ذكرنا يرجع التعريف الأخير من أنّ المدّعي من يطلب منه البيّنة.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 8- من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3-.

نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 47

الميزان هو الغاية من إنشاء الدعوى لا مصبّها

و من هنا يعلم أنّ الميزان في تمييز المدّعي و المنكر هو الدقّة و الإمعان في الغاية التي أُقيمت الدعوى لإثباتها، لا مصبّ الدعوى في بدء النظر ففي مورد اختلاف الزوجين كلّ منهما يدّعي شيئاً أعني التقارن أو التعاقب، و لكن المدّعي هي المرأة، لأنّ الغاية من إنشائها انفساخ العقد، و تحلّلها من الزوجية، بخلاف الرجل، فليس ادّعاء التقارن شيئاً زائداً على بقاء الوضع السابق على ما كان عليه و منه يظهر حال الاختلاف في كون المأخوذ مبيعاً في مقابل ثمن، أو هبة فإنّ ظاهرهما كونهما متداعيين أحدهما يدّعي البيع و الآخر الهبة و كلاهما من العناوين الوجودية، لكن الغاية من إنشاء الدعوى هو تملّك مال الغير بلا عوض مع اتفاقهما على كونه مال الغير قبل العقد المختلف فيه و الضابطة الأُولى في الأموال هي الاحترام، و من يدّعى الهبة يريد إخراج الموضوع من تحت القاعدة فيحتاج إلى الدليل.

ثمّ إنّ السيّد الطباطبائي ذكر للمسألة الأخيرة صوراً قلّما تخطر ببال المتداعيين إلّا أن يكونا عارفين بشقوق المسألة فلاحظ.

شرائط المدّعي
اشارة

ذكر المحقّق للمدّعي شروطاً خمسة نُقدِّم البحث في أربعة منها، ثمّ نذكر الخامسَ منها بعدها قال: يشترط البلوغ، و العقل، و أن يدّعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى عنه، و ما يصحّ منه تملّكه. ثمّ فرّع على ذلك قوله: فلا تسمع دعوى الصغير، و لا المجنون، و لا دعواه مالًا لغيره إلّا أن يكون وكيلًا أو وصيّاً أو وليّاً أو حاكماً أو أميناً لحاكم. و لا تُسمع دعوى المسلم خمراً أو خنزيراً.

و لنأخذ كل شرط بالبحث:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 48

أمّا الشرط الثاني [أي العقل]

، فلأنّه يشترط في الدعوى كونه جدّياً لا هزلياً، و المجنون لا جدّ له و عبارته لا يعتدّ بها عند العقلاء فلا تشمله عمومات القضاء.

أمّا الشرط الأوّل، [أي البلوغ]

فقد استدلّ عليه في الجواهر بالوجوه التالية:

1- عدم الخلاف في عدم السماع.

2- انسياق غير الصبي من العمومات.

3- الدعوى إنشاء يترتّب عليه أحكام و هو رهن كون عبارته معتبرة غير مسلوبة.

4- تضافر الفتوى على أنّه لا يجوز أمره حتّى يبلغ.

و فصّل السيّد الطباطبائي بين دعوى الصبي فيما يوجب تصرّفه في مال أو غيره ممّا هو ممنوع منه فلا تُسمع، و غيره فتُسمع بمقتضى عمومات وجوب الحكم بالعدل و القسط كما إذا ادّعى أنّه جني عليه أو سلب ثوبه أو أخذ منه ما في يده بل لو ادّعى أنّه غصب دابّته أو نحو ذلك، و أتى بشهود على مدّعاه فلا دليل على عدم سماعه خصوصاً إذا كان الخصم ممّن يخاف منه الفرار أو كان من المسافرين. «1»

ثمّ إنّ الوجوه التي اعتمد عليها صاحب الجواهر ضعيفة أمّا الأوّل فلا يكون حجّة إلّا إذا كشف عن دليل وصل إليهم و لم يصل إلينا كما حقّقناه عند البحث عن الشهرة الفتوائية. و ليس المقام في ذلك.

و أمّا الانصراف فهو فرع ورود دليل ظاهر في أنّه بصدد بيان شرائط المدّعي حتّى يدّعي الانصراف عن الصبي و هو منتف أضف إلى ذلك أنّ طبيعة الموضوع تقتضي دفع الظلامة عن كلّ إنسان و الصبي إنسان فإذا ادّعى أنّ فلاناً ضربه أو جرحه أو أخذ منه مالًا و أقام بينة فلا وجه لعدم سماعه.

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 36.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 49

فمضافاً إلى أنّه ليس كلّ دعوى انشاء، بل هو

إخبار أنّ إنشاء الصبي المميز المتثبت معتبر في العقود غاية الأمر أنّه غير مستقلّ في الأُمور الماليّة و قد روي أنّ رسول اللّه تزوّج أُمّ سلمة زوجها إيّاه عمر بن أبي سلمة و هو صغير لم يبلغ الحلم. «1»

و بذلك يعلم ضعف الوجه الرابع فإنّ المراد منه هو أنّه لا يجوز أمره، مستقلًا حتّى يبلغ و يدلّ على ذلك ما رواه حمران عن أبي جعفر في حديث: «إنّ الجارية إذا تزوّجت و دخل بها و لها تسع سنين ذهب عنها اليُتم و دفع إليها مالها، و جاز أمرها في الشراء و البيع إلى أن قال و الغلام لا يجوز أمره في الشراء و البيع و لا يخرج عن اليتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة». «2»

فالمراد من الجواز و عدمه هو المعنى الوضعي أعنى النفوذ و عدمه فهو بنفسه لا ينفذ إنشاؤه.

فإن قلت: إذا كان دعوى الصغير مسموعة و لم يكن له بيّنة، فكيف يُحلِّف أو كيف يَحْلِفْ إذا رُدّ عليه الحلف؟

قلت: أمّا الإحلاف فينوب عنه الحاكم حفظاً لحقوقه و أمّا حلفه فلا يحلف إذا ردّ و لا دليل على ترتّب تمام آثار الدعوى عند السماع.

نعم لا تسمع دعواه إذا كانت مستلزمة للتصرّف المالي كما إذا ادّعى أنّه أقرض ديناراً لأنّها دعوى فاسدة.

و منه يظهر حال السفيه و لم يذكره المحقق لكن ذكره السيّد الطباطبائي فلو تعلّقت دعواه بأُمور ماليّة فلا تُسمع و أمّا إذا تعلّقت بقذف أو جناية أو نكاح أو طلاق بل الدعاوي المالية إذا ادّعى إتلاف الغير ماله فتُسمع و منه يظهر سماع مثله في الصبي المميز.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 14، أبواب عقد النكاح، الباب 16، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 1، أبواب مقدّمات العبادات،

الباب 4، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 50

و أمّا الشرط الثالث: فهو أن يدّعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى عنه

و ليس المراد من الولاية هو ولاية الأب و الجدّ بل الأعم كما صرّح به المحقّق في كلامه، حيث صرّح بصحّة إقامة دعوى الوكيل و الوصي و الحاكم و الأمين له و بكلمة جامعة يجب أن تكون الدعوى عقلائيّة، و لا تكون كذلك إلّا إذا كان للمدّعي بالدعوى مساس عرفاً كالأمثلة المذكورة بل و غيرها و على ضوء ذلك يجوز للودعي و المرتهنِ و الحارسِ إقامة الدعوى فإنّ هؤلاء و إن لم يكونوا مالكين، لكن لهم أمام المالكين مسئولية خاصّة فإذا كان مع دعواه بيّنة، أعادت ملك الغير إلى محلّه و إذا كان المعيار كون الدعوى عقلائية يصحّ ما ذكره السيّد الطباطبائي حيث قال: الظاهر سماع الدعوى الحسبية من المحتسبين، كما إذا ادّعى شخص على ميّت له صغار، بدين و المحتسب يعلم أنّه أوفاه و ذمّته بريئة و له شهود بذلك لعدم انصراف العمومات من ذلك.

و أمّا الشرط الرابع: أعني أن يدّعي شيئاً يصحّ منه تملّكه فلا تُسمع دعوى المسلم خمراً أو خنزيراً

و ذلك لأنّه بعد ثبوت المدّعى، لا يترتّب عليه الأثر، إذ لا يملكه بعد الحكم، كما هو الحال كذلك لو اعترف الخصم بلا حاجة إلى بيّنة. اللّهمّ إلّا إذا كان الخمر متّخذاً للتخليل فللمتّخذ حقّ الاختصاص، و مثله ما لو ادّعى عليه ثمنهما بحجّة أنّه باعهما منه حال كونهما كافرين ثمّ أسلما قبل أن يقضي دينه، فيكلّف بدفع الثمن.

إلى هنا تمّ الكلام في الشروط الأربعة و إليك الكلام في الشرط الخامس.

الشرط الخامس: كون الدعوى صحيحة لازمة
اشارة

قال المحقّق: «و لا بدّ من كون الدعوى صحيحة لازمة فلو ادّعى هبة لم تسمع حتّى يدّعي الإقباض و كذا لو ادّعى رهناً». و قال في الدروس: و كلّ دعوى ملزمة معلومة فهي مسموعة فلا تُسمع دعوى الهبة من دون الإقباض، و كذا الرهن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 51

عند مشترطه فيهما و لا البيع من دون قوله: «و يلزمك تسليمه إليّ» لجواز الفسخ بخيار المجلس و شبهه. «1»

الظاهر أنّه لا حاجة إلى قيد الصحّة في عنوان البحث لما مرّ من أنّه لا يصحّ إقامة الدعوى على ما لا يملكه، و المهمّ هو تفسير قوله: «لازمة» فهناك تفسيران:

الأوّل: لصاحب المسالك و تبعه صاحب الجواهر حيث قال المراد بكونها لازمة أن تكون ملزمة للمدّعى عليه فلو قال: وهب لي كذا لم يُسمع حتّى يقول: و أقبضني لأنّ الهبة أعمّ من المقبوضة و لأنّه قد يهب و يرجع عن قوله، و كذا لو ادّعى رهناً، بناء على أنّ القبضَ شرط في صحّة الرهن. «2»

و بعبارة أُخرى: يجب أن تكون الدعوى على كيفية لو اعترف بها الخصم، لكانت محدِثاً للتكليف له، ففي الأمثلة المذكورة لو اعترف بأصل الهبة و الوقف مجردين

عن القبض، لا يترتّب عليه الأثر، لأنّه جزء المملِّك فلا يملك الموهوب له و الموقوف عليه إلّا بالقبض، فثبوت مثل هذا، لا يترتّب عليه أثر شرعي و لو قال مكان «لازمة» ملزمة، أو يترتّب عليه الأثر الشرعي لكان أوضح.

الثاني: ما فسّر به المحقّق الأردبيلي كلام المحقق حيث جعل قوله: لازمة، مقابل جائزة بأن يكون المدّعى عقداً لازماً، لا جائزاً، و إليك نصّه:

يشترط كون ما يدّعى به ملكاً لازماً للمدّعي أو لمن يدّعي له على المدّعى عليه لا ملكاً متزلزلًا، يجوز للمدّعى عليه الرجوع عنه، مثل دعوى الهبة و القبض بالإذن فإنّ الهبة بدونه لا تلزم فلو ادّعى هبة مال معيّن مجرّداً عن القبض لا يسمع و إذا ضمّ إليها «اقبضتني» و نحوه مثل «هبة يلزمك التسليم إليّ» يقبل.

ثمّ أورد عليه بإشكالات:

1- إذا ثبت الهبة قد يترتّب عليها الفائدة مثل أن يكون ناذراً إقباض كلّ هبة

______________________________

(1) محمّد مكي: الدروس: 2/ 84، كتاب الدعاوى.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 431.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 52

و عدم الرجوع.

2- لو كان اللزوم شرطاً لزم عدم سماع الدعوى مع الإقباض أيضاً، إذ لا يلزم معه أيضاً في كثير من الأفراد.

3- يلزم عدم دعوى شري حيوان إلّا مع ضمّ مضي زمان سقوط خياره الثلاثة و تفرّق المجلس في سائر العقود و نحوها و الظاهر عدم القائل بذلك. «1»

المستفاد من كلامه بعد الإمعان فيه هو أنّه فسّر قوله: «لازمة» أي أن تكون لازمة من جميع الجهات و لا تكون جائزة و لو بالخيار و لأجل ذلك أورد عليهم بإشكالات ثلاثة:

1- إذا ادّعى الأجنبي كون ما في يده، شي ء وهبه زيد، بأنّه يصحّ طرح الدعوى لحصول

الملكيّة بالقبض مع أنّها جائزة ليس بلازمة لصحّة الرجوع فيه و إن كان لا يصحّ في غيره.

2- إذا ادّعى أنّه ابتاع شيئاً من زيد مع عدم انقضاء المجلس.

3- إذا ادّعى أنّه ابتاع حيواناً منه مع عدم انقضاء الثلاثة.

فلا شكّ في صحّة طرح الدعوى في هذه الموارد مع عدم كونها لازمة.

يلاحظ عليه: أنّه ليس المراد كون المدّعى عقداً لازماً حتّى ينتقض بهذه الموارد. بل المراد محدثاً للتكليف ففي هذه الموارد، لو ثبت المدّعى به، لكان محدِثاً له، و أمّا أنّ له الرجوع عن هبته أو بيعه بإعمال الخيار فهو لا يضرّ بكون الدعوى مسموعة.

ثمّ إنّ المحقّق رتّب على الشرط الخامس عدّة مسائل:
المسألة الأُولى: لو ادّعى فسق الحاكم و الشاهد

قال: و لو ادّعى المنكر فسقَ الحاكم أو الشهود و لا بيّنة فادّعى علم المشهود

______________________________

(1) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 117.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 53

له ففي توجّه اليمين على نفي العلم تردد أشبهه عدم التوجّه. ثمّ استدلّ عليه بوجوه ثلاثة:

1- إنّه ليس حقّاً لازماً.

2- و لا يثبت بالنكول و لا باليمين المردودة.

3- و لأنّه يثير فساداً.

أقول: إذا ادّعى المنكر بعد إقامة بيّنة المدّعي، فسقَ القاضي فهل تُسمع الدعوى أو لا؟ للمسألة صورتان:

إحداهما: أن يدّعي فسق القاضي على وجه الإطلاق من دون أن يخاطب المحكوم له بعلمه بفسقه و عدمه و إن كان قضاؤه في المورد سبباً لذلك الادّعاء، فلا شكّ أنّه يصحّ طرحه لكن في محكمة أُخرى، فإنّ الشرط في نصب القاضي، و إن كان هو إحراز عدالته عند الناصب و لكنّه لا يمنع من أن يجرحه المنكر و يكون مسموعاً و هذا لا يثير فساداً إذ لو كانت له بيّنة تُسمع الدعوى و إلّا فتردّ.

نعم لو ادّعى علم الناصب بفسقه و مع ذلك نصبه

فليس له إحلاف الناصب لأنّه مضافاً إلى كونه مثيراً للفساد لأنّ الناصب هو الإمام، الأمين العام، و إحلافه طعن للنظام أنّ الإحلاف ليس في صلاحية مدّعي الفسق، بل يحتاج إلى محكمة تقضي بين المدّعي و الناصب و هو كما ترى له مضاعف أو مضاعفات.

ثانيهما: أن يدّعي علم المشهود له بفسق القاضي فهو قابل للطرح إذ ليست الدعوى فاقدة للأثر بشهادة أنّه لو أقرّ المشهود له بذلك لا يجوز للمقرّ ترتيب الأثر على مثل هذا القضاء و لو افترضنا أنّ المشهود له أقرّبه فلا يكون ذلك سبباً لسقوط أصل الدعوى إذ للمشهود له طرح الدعوى عند قاض آخر.

هذا كلّه إذا أقرّ و إن أنكر و حلف فينفذ الحكم السابق و إلّا فيردّ الحلف إلى المدّعي. و مع ذلك، لا يسقط أصل الدعوى أيضاً كما عرفت.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 54

و أمّا إذا ادّعى فسق الشهود، و عِلْم المشهود له به فإن قلنا إنّ الميزان، كون الشهود عدولًا عند القاضي فلا تكون الدعوى ملزمة للتكليف، لأنّ المعتبر هو عدالة الشهود عند القاضي، لا عند المحكوم له و أمّا لو قلنا باشتراط عدالتهم عند المتخاصمين فالدعوى ملزمة بشهادة أنّه لو أقرّ المحكوم له بفسقها لما صلح له ترتيب الأثر و على هذا فلو أقرّ، و إلّا فإن أنكر و حلف يكون الحكم نافذاً و إن ردّ و حلف المحكوم عليه، يبطل الحكم المبنيّ على شهود لم تثبت عدالتهم و له إقامة الدعوى بشهود أُخرى و ما ذكرنا هو حكم المسألة شرعاً و أمّا تجسيدها في الحاضرة الإسلامية فهو يحتاج إلى تخطيط خاص.

المسألة الثانية: إذا التمس المنكر يمين المدّعي

إذا التمس المنكر يمين المدّعي منضمّة إلى الشهادة لم تجب

إجابته لنهوض بيّنته بثبوت الحقّ، و يدلّ عليه مضافاً إلى الاتّفاق ما ورد من النصوص ففي صحيح محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عن الرجل يقيم البيّنة على حقّه، هل عليه أن يستحلف قال: لا. «1» و ما ورد في حديث سلمة بن كهيل عن عليّ عليه السَّلام و ردّ اليمين على المدّعي مع بيّنته فإنّ ذلك أجلى للعمى، و أثبت في القضاء «2» محمول على الاستحباب و يمكن حمله على ما إذا شهدت البيّنة على أصل الدين دون الثبوت في الذمّة فالتمس المنكر الحلف على الاستحقاق فعلًا.

المسألة الثالثة: إذا ادّعى إقرار الغير بحقّ له عليه

إذا ادّعى على رجل أنّه أقرّ له بالحقّ، من دون أن يدّعي أنّ له عليه الحقّ واقعاً مع قطع النظر عن الإقرار فهل تُسمع الدعوى بمعنى توجّه اليمين على

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1 و لاحظ 2 و 3.

(2) الوسائل، الجزء 18، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 55

المدّعى عليه لو أنكر؟ قيل فيه وجهان:

1- تسمع، لأنّه يترتّب عليها الأثر في صورة و هو إذا أقرّ فيؤخذ بإقراره و إن كان لا يترتّب عليها إذ أنكر و حلف و يكفي في كون الدعوى قابلة للطرح ترتّب الأثر عليها و لو في صورة خاصّة.

2- لا تسمع لأنّ الحقّ لا يستحقّ بالإقرار في نفس الأمر و إن كان ثبوته يوجب الحقّ ظاهراً.

و ذهب الشهيد في المسالك إلى السماع قائلًا بأنّ المعتبر ثبوت الحقّ ظاهراً و اعترافه ينفعه، و نكوله يثبت عليه الحقّ لو قلنا بالقضاء به أو مع يمين المدّعي و المدّعي يجوز له الحلف على أنّه أقرّ له

بذلك «1» و سيوافيك أنّه لا يشترط في استحقاق المقرّ له عِلْمُه بالسبب المقتضي للإقرار بل يجوز له أخذه تعويلًا على إقراره ما لم يعلم فساد السبب.

المسألة الرابعة: في الكشف عن أسباب الدعوى و عدمه
اشارة

يشترط في صحّة الدعوى أن تكون ملزمة محدثة للتكليف، و مترتّباً عليها الأثر الشرعي و على ذلك فقوام صحّة الدعوى هو كونها موضوعاً للحكم الشرعي. فلو كانت الدعوى بوصف كونها كلّياً ذات أثر شرعيّ و إن كانت مجهولة من ناحية الأسباب، يصحّ طرحها و على القاضي سماعها و إلّا فلا. و على هذا بحثوا عن لزوم كشف أسباب الدعوى و عدمه و فصّلوا بين ما كانت ذا أثر شرعي فلا يجب الكشف، و إلّا فيلزم و قد عنونه الشيخ في المبسوط و بحث عن المسألة على وجه التفصيل نذكر من كلامه موجزه:

قال: تنقسم الدعوى إلى ثلاثة أقسام: ما لا يفتقر إلى كشف، و ما لا بدّ فيه من الكشف، و ما اختلف فيه.

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 431.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 56

فأمّا ما لا يفتقر إلى كشف فالأملاك المطلقة، مثل أن يدّعي الدين و العين مثل الدابّة و الدار و العبد و الثوب فإذا قال لي كذا و كذا سمعناها و لم يكلّفه الحاكم أن يكشف عن أسباب الملك لأنّ جهات الملك و أسبابه تتكثر و تتّسع من الإرث و الهبة و الغنيمة و الشراء و الإحياء فإذا كلّف الكشف كان عليه فيه المشقّة لأنّه قد يخفى ذلك السبب.

و أمّا ما لابدّ فيه من الكشف و هو إذا ادّعى القتل فقال قتل هذا وليّاً لنا، كُلّف الكشف فيقول صف لنا القتل عمداً أو خطأً فإذا قال عمداً قال: صف العمد

فإذا وصفه قال: قتله وحده أو معه غيره، لأنّه من الأُمور التي لا يتدارك بعد فواتها فلهذا يكشف عنها.

و أمّا ما اختلف فيه فهو النكاح قال قوم لا يقبل حتّى يقول: نكحتها بولي و شاهدي عدل و قال قوم: لا يفتقر إلى الكشف سواء ادّعى الزوجيّة فقال: هذه زوجتي أو ادّعى العقد فقال: تزوّجت بها. هذا إذا ادّعى الرجل الزوجيّة فأمّا إن ادّعت المرأة الزوجيّة نظرت فإن ذكرت مع ذلك حقّاً من حقوق الزوجيّة كالمهر و النفقة كانت مدّعية و إن لم تذكر حقّا و إنّما قالت هذا زوجي أو تزوّجني قال قوم: ليس بدعوى بل هو اعتراف و إقرار و من أقرّ بحق لا يلزم المقرّ له الجواب. و قال قوم: انّ الدعوى صحيحة و يلزمه الجواب لأنّ إطلاق قولها هذا زوجي أو هذا تزوّجني، تحته ادّعاء لحقوق الزوجيّة فلهذا صحّت الدعوى، و من قال الدعوى صحيحة فهل يفتقر إلى الكشف؟ ثمّ عطف الشيخ على المقام، دعوى سائر العقود كالبيع و الصلح و الإجارة و اختار عدم لزوم الكشف و من قال بالكشف أوجب أو يقول: تعاقدنا بثمن معلوم جائزي الأمر و تفرّقنا بعد القبض عن تراض «1».

هذا كلام الشيخ فقد نفى افتقار صحّة الدعوى إلى الكشف في النكاح

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 259- 261.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 57

و غيره و استثنى القتل معلّلًا بانّ فائته لا يستدرك. «1» و تبعه العلّامة في الإرشاد قال: و لا تفتقر الدعوى إلى الكشف إلّا في القتل. و قال المحقق الأردبيلي في ذيل كلام العلّامة: «عدم افتقار الدعوى إلى التفصيل في غير القتل هو المشهور بل كاد يكون إجماعياً سواء

كان مالًا أو غيره من النكاح و غيره لعموم أدلّة الدعوى و مقبوليّتها على الإطلاق من غير تفصيل، و عدم كون الإجمال مانعاً 2.

أقول: الميزان في سماع الدعوى كونها ملزمة و ذات أثر شرعي فلا شكّ أنّ دعوى النكاح من كلا الطرفين سواء كان ادّعاءً للمسبّب أي الزوجيّة أو السبب أي العقد، كلّها ذات آثار شرعيّة فلا وجه لعدم السماع بحجّة أنّ المدّعي لا يكشف عن أطراف الموضوع بعض الإبهامات الذي لا مدخلية لها في كون الموضوع ذا أثر شرعي، غير أنّ الكلام في استثناء القتل، فإنّ عدم سماعها لأجل اختلاف أنواعه، فإنّ القتل عن عمد يوجب القصاص، و القتل عن خطأ يوجب الدية، و القتل للارتداد، يوجب التعزير لأنّه تدخل في أمر الحاكم، و المرتدّ و إن كان مهدور الدم و لكنّه لا يجوز لغير الحاكم إهدار دمه.

و على ذلك فوجه افتقار الدعوى إلى الكشف في القتل إنّما هو لأجل أنّ الاعتراف بالكلّي فاقد للأثر و إنّما الأثر للكلّي المشخّص في صنف أو فرد، لا لأجل أنّ فائته لا يستدرك، إذ لو صحّ ذلك لوجب عدم السماع في النكاح فإنّ الوطء لا يستدرك، اللّهمّ إلّا أن يقال باستدراكه بردّ المرأة مع المهر بخلاف النفس.

ثمّ إنّ المحقّق الأردبيلي احتمل سماع الدعوى في نفس القتل أيضاً و قال: إنّه يمكن الاكتفاء في القتل بعدم التفصيل غايته أنّه لا يمكن إثبات حكم بخصوصه إذا ثبت أصله إذ لو لم يسمع لأدّى إلى إبطال دم امرئ معصوم مع إمكان إثباته بوجه. 3

بقي هنا مطلب و هو؛ أنّه لا يشترط الكشف في سماع أصل الدعوى و لكن

______________________________

(1) 1 و 2 و 3 الأردبيلي: مجمع الفائدة 12/ 123- 124.

نظام

القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 58

إذا انتهى الأمر إلى المحاكمة فلا شكّ أنّ الكشف عن الأسباب و أطراف القضية ربّما يكون سبباً لكون القاضي أقرب إلى الواقع و أبعد عن الخطأ فهناك مقامان مقام سماع الدعوى، و مقام الترافع، ففي المقام الأوّل يكفي كون الموضوع ذا أثر شرعي و أمّا مقام الترافع فالإمعان في أطراف القضية أمر مؤكّد لا ينبغي تركه.

ردّ اليمين في دعوى الزوجيّة

قال المحقّق فيما إذا ادّعت المرأة الزوجيّة و أنكرها الرجل: أنّه يلزمه اليمين، و لو نكل قُضي عليه على القول بالنكول، و على القول الآخر تردّ اليمين عليها فإذا حلفت ثبتت الزوجيّة، و كذا السياقة لو كان هو المدّعي.

أقول: إنّ ردّ اليمين على المنكر في مسألة الزوجيّة مشكل جدّاً لقصور روايات الردّ عن الشمول لغير الحقّ و المال، فقد وردت فيها كلمة الحقّ و المال و هو منصرف إلى غير المقام و في صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما في الرجل يدّعي و لا بيّنة له قال: «يستحلفه فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له». «1» و في مرسلة أبان عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في الرجل يُدَّعى عليه الحقّ و ليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: «يستحلف المدَّعى عليه فإن أبى أن يحلف و قال: أنا أردّ اليمين عليك لصاحب الحقّ فإنّ ذلك واجب على صاحب الحقّ أن يحلف و يأخذ ماله». 2

فالقرائن الموجودة في روايات الباب تصدّ الفقيه عن إسراء حكم الردّ إلى غير الحقوق و الأموال. أضف إلى ذلك أنّ الردّ يوجد مأزقاً في تطبيق الحكم، فلو افترضنا أنّ الرجل ادّعى الزوجيّة و أنكرتها المرأة، فلم يكن للرجل بيّنة فانتهى

الأمر إلى يمينها و قد ردّته إلى الرجل فحلف، فمعنى ذلك أنّه يجوز للرجل إيجاب التمكين عليها و الاستمتاع منها، و لكن وظيفة المرأة بينها و بين ربّها هو الفرار و

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1 و 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 59

عدم التمكين، فما ذا تكون النتيجة إلّا الفوضى في أمرهما و دوام التشاجر بينهما؟!

فإن قلت: إنّ الإشكال جار فيما إذا أقام الرجل البيّنة على الزوجيّة مع كونها منكرة، فالوظيفتان مختلفتان كالسابق.

قلت: البيّنة حجّة شرعيّة و طريق إلى الواقع فيجب على المرأة التمكين و لا وزر عليها، و هذا بخلاف ما إذا كانت منكرة و قصّرت في الحلف و ردّته إلى الرجل فحلف، فعندئذ هي التي أوجدت المأزق في حياتها و سلطت الأجنبي على عرضها باختيارها.

و الذي أظنّ هو أنّه يجب على القاضي حبس المرأة حتّى تجيب بأحد الأمرين إمّا أن تقرّ بالزوجيّة أو تحلف.

لزوم الكشف عند ادّعاء الفرع و عدمه

ثمّ إنّ هنا فروعاً حول لزوم الكشف و عدمه تدور حول ادّعاء الفرع و إليك بيانها:

1- لو ادّعى أنّ هذه بنت أمته من دون أن يقول ولّدتها في ملكي.

2- لو ادّعى أنّ هذه بنت أمته و أضاف أنّها وَلّدتْها في ملكي.

3- لو ادّعى أنّ هذه بنت أمته و قال ولدتها في ملكي و هي الآن مملوكة لي.

قال المحقّق: لا تسمع الدعوى في الصورتين الأُوليين، أمّا الأُولى لاحتمال أن تلد في ملك غيره ثمّ تصير الأم له. و أمّا الثانية لاحتمال أن تكون حرّة أو ملكاً لغيره، فلا تسمع الدعوى لعدم كونها موضوعاً لحكم شرعي، و بذلك يعلم أنّه لو قامت البيّنة على هاتين

الصورتين لا تسمع.

نعم، تسمع الدعوى و تقبل البيّنة إذا كانت على النحو الثالث لأنّه موضوع ذو أثر شرعي حيث يدّعي أنّه المالك للفرع دون ذي اليد، فيأتي دور المرافعة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 60

و مثل هذا إذا قال: هذه ثمرة نخلي فله أيضاً صور ثلاث لا تسمع في الأُوليين و تسمع في الثالثة بنفس الدليل السابق في ادّعاء البنت لأنّ كون التمر ثمرة للنخل الذي هو يملكه لا يكون دليلًا على أنّه ملكه لاحتمال أن يكون النخل عند إثماره ملكاً للغير ثمّ انتقل إليه، كما أنّ كون التمر ثمرة للنخل حين كونه مالكاً للأصل لا يدلّ على كونه مالكاً للثمرة الآن، لإمكان بيعها مع الحفظ على أصلها. نعم لو قال: هذه ثمرة نخلي أثمرها في ملكي و هي الآن مملوكة لي تسمع، لكونها ذات أثر شرعي.

هذا هو حال الادّعاء و به تبيّن حال الإقرار و تأتي فيه الصور الثلاث الماضية في الادعاء فلا يكون إقراراً على النفس إذا أقرّ على النحو الثالث فإليك البيان: فلو أقرّ ذو اليد أنّ التمر ثمرة النخل الذي يملكه زيد، فلا يكون إقراراً على نفسه و لصالح صاحب النخل إذ لا ملازمة بين كونه ثمرة لنخل زيد و كونه مالكاً لها بالفعل لإمكان كون النخل عند الإثمار ملكاً للغير ثمّ انتقل الأصل إلى زيد بعده أو كان ملكاً له عند الإثمار و لكن انتقلت الثمرة منه إلى ذي اليد، و لأجل عدم كونه إقراراً على النفس لو فسّره بما ينافي مالكيّة زيد و قال و مع ذلك فهي ملكي، لا يعدّ ذلك إنكاراً بعد الإقرار سواء كان التفصيل متصلًا أو منفصلًا و ما ذلك

إلّا لأجل انّ كلامه لم يكن ظاهراً في الإقرار بملكية صاحب النخل بالنسبة إلى الثمرة. نعم لو أقرّ بما سبق و أضاف قوله: و هي ملك زيد يكون إقراراً على نفسه.

و على ضوء ذلك فالإقرار و الادّعاء توأمان يرتضعان من ثدي واحد. فلو قلنا باعتبار الظهور فكلاهما سيّان، و لو قلنا باشتراط التصريح فكلاهما كذلك، و لا فرق بين الإقرار و الادّعاء.

نعم يظهر من صاحب المسالك أنّه فهم من كلام المحقّق أنّه بصدد التفريق بين الإقرار و الادّعاء و أنّه يكفي في الإقرار القول بأنّه ثمرة نخل فلان مع

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 61

عدم إضافة ما ينافي ذلك إليه عملًا بالظاهر من كونها تابعة للأصل حيث لا معارضة و لو كان هناك شي ء لذكره فإطلاق كونها من الأصل الذي هو مملوك للمقرّ له، ظاهر في تبعيّتها له بخلاف الدعوى فإنّ شرطها التصريح بالملك له و لو بالاستلزام و لم يحصل، ثمّ ذكر أنّ الفرق بين الدعوى و الإقرار لا يخلو عن إشكال لأنّ الاحتمال قائم على تقديري الإقرار و الدعوى و العمل بالظاهر في الإقرار دون الدعوى لا دليل عليه. «1»

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره متين و لكن من أين استظهر من كلام المحقّق أنّه بصدد التفريق بين الإقرار و الادّعاء فيكفي في الإقرار نسبة الثمرة إلى نخل الغير مع عدم إضافة ما ينافي ذلك إليه بخلاف الادعاء فإنّه يشترط التصريح بانّه ملك المدّعي.

نعم إنّ المحقّق فرّق بين ثمرة النخل و فرع آخر في مقام الإقرار، فاكتفى فيه بصرف النسبة و هو إذا قال هذا الغزل من قطن فلان أو هذا الدقيق من حنطته فاعتبره إقراراً على النفس،

و علّله في الجواهر و غيره بأنّ الغزل و الدقيق نفس حقيقة القطن و الحنطة و إنّما تغيّرت الأوصاف فملك الأصل تقتضي ملك الفرع بخلاف الثمرة و الولد، فإنّهما منفصلان عن أصلهما جنساً و وصفاً و شرعاً، فالإقرار بالفرعية لا تقتضي الإقرار بالملك، و كذا أيضاً في المسالك و أضاف، بل لا أجد فيه خلافاً، بل هو عندهم من الواضحات. «2»

يلاحظ عليه: أنّه لا فرق بين جميع الأمثلة التي تقدّمت من ادّعاء البنت و ثمرة النخل و كون الغزل من قطن فلان، فالإقرار و الادعاء في الجميع سيّان فلا يصحّان إلّا إذا كان ظاهراً في الإقرار على نفسه و ظاهراً في دعوى شي ء لنفسه، فالإقرار بأنّ الغزل من قطن الأرض التي يملكها زيد ليس إقراراً على مالكيته

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 432.

(2) النجفي، الجواهر: 40/ 386.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 62

للغزل حاليّاً لإمكان ابتياعه منه، و إنّما يكون إقراراً إذا قال: و هو ملكه الآن، و مثله الادعاء فلا يكون ادّعاء موضوع ذي أثر شرعي إلّا إذا قال هذا الغزل من قطن أرضي و أنّه ملكي و إلّا فادّعاء كون الغزل من قطن أرضه لا يلازم مالكيّته للغزل و كون الثمرة هناك منفصلة عن الأصل و غير منفصلة في المقام لا توجب فرقاً إذا كانت الدلالة على مستوى واحد.

إلى هنا تمّ ما ذكره المحقق من شرائط سماع الدعوى،

ثمّ إنّ هناك شروطاً أُخر ذكرها السيّد الطباطبائي في المقام نشير إليها:
1- أن يكون للمدّعي طرف

يشترط في صحّة الدعوى أن يكون للمدّعي طرف تكون بينهما مخاصمة و منازعة فعلًا فلو لم يكن له طرف موجود فعلًا و أراد إثبات مطلب و إصدار الحكم عليه ليكون قاطعاً لدعوى محتملة فيما سيأتي كما إذا كان هناك

وقف على كيفية صحيحة عند بعض العلماء دون بعض فأراد إصدار الحكم ممّن يقول بصحّته، دفعاً لادّعاء بعض البطون و نحو ذلك ممّا هو محلّ الخلاف، أو كان له طرف لكن لم يكن بينهما منازعة فعلًا كأن يكون معترفاً بحقّه لكن أراد إثبات حقّه و أخذ الحكم دفعاً لما يحتمل من جحوده بعد ذلك، لا يجب «1» على الحاكم سماعها، و لو سمعها و ثبت عنده بالبيّنة أو الإقرار و حكم به لا يترتّب عليه آثار الحكم من وجوب العمل به و حرمة نقضه لأنّ المتبادر ممّا دلّ على وجوب السماع و ترتّب آثار الحكم صورة وجود المنازعة فعلًا، كذا قاله بعضهم. «2»

أقول: ما نقله السيّد الطباطبائي عن ذلك البعض هو الحقّ لأنّ القضاء مفهوم عرفي قائم بمثلث له أضلاع ثلاثة أحدها المدّعي و الآخر المنكر و الثالث

______________________________

(1) جواب لقوله: فلو لم يكن له طرف موجود.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 41.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 63

الحاكم، فإذا لم يكن هناك منازع فلا يتحقّق للقضاء مفهوم.

نعم لو عرضا الموضوع فإن كانت الشبهة حكمية كما إذا كان هناك وقف على كيفية صحيحة عند بعض العلماء دون بعض فما يجيبه يكون فتوى حجّة على مقلديه لا حكماً قضائياً حجّة على الجميع سواء كان حاضراً أو غائباً ....

و إن كانت شبهة موضوعية كما إذا أراد إثبات حقّه و أخذ الحكم دفعاً لما يحتمل من جحوده ليكون ذلك إقراراً من الجاحد على الحقّ عند الحاكم و لكن ليس كلّ إقرار و سماعه و تصديقه قضاءً. و لا دليل على حجية القضاء في الشبهات الموضوعية إذا لم يكن تنازع.

2- تعدّد المدّعي و القاضي

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام

القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 63

يشترط في تحقّق القضاء أن يكون القاضي غير المدّعي تحقيقاً لمفهوم القضاء و أمّا إذا كان القاضي هو المدّعي فهو أشبه بمثلث يفقد أحد أضلاعه. و أمّا حقوق اللّه سبحانه فما يرجع إلى القاضي هناك هو العمل بالبيّنة أو الإقرار و ليس له هناك قضاء و لا حكم و إلّا لاتّحد القاضي و المدّعي، فموضوع القضاء و محلّه هو حقوق الناس، و لأجل أنّ الحدود الإلهية خارجة عن مجال القضاء اتّفقوا فيها على عدم اليمين و ورد به النص «1» و ما يهم القاضي فيها هو الإمعان في كون البيّنة واجدة للشرائط و كون الإقرار نافذاً أو لا.

3- اشتراط الجزم في الدعوى

و هذا الشرط هو الذي بسط السيد الطباطبائي الكلام فيه و قد فرغنا عنه في البحوث السابقة فلا نعود إليه.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 24، الحديث 1، 2، 3 و 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 64

الفصل الثاني في التوصل إلى الحقّ
اشارة

الغرض من عقد هذا الفصل هو تمييز المواضع التي يجب على المدّعي أن يرجع إلى القاضي لاستيفاء حقّه عمّا لا يجب عليه، بل يجوز له الاستقلال بالاستيفاء و بما أنّ الحقّ إمّا عقوبة كالقصاص و حدّ القذف. أو مال و هو إمّا عين في يد المدّعي أو دين في ذمّته

فيدور البحث في محاور ثلاثة:
الأوّل: إذا كان الحقّ عقوبة

إذا كان لرجل على آخر حقّ القصاص و القذف فقد اتّفق الفقهاء على أنّ المدّعي لا يستقلّ بالاستيفاء فلا بدّ من رفع الأمر إلى الحاكم لعظم خطره و لأنّ استيفاءه وظيفة الحاكم على ما تقتضيه السياسة. «1»

هذا و قد جرت على الرفع سيرة العقلاء في المجتمعات الحضارية و حتّى العشائرية، حيث ترفع الدعوى إلى شيخ القبيلة، و لو خُوِّل الانتصاف من الظالم إلى الناس لانتهى الأمر إلى فساد عظيم و ربّما تراق دماء الابرياء باتهام القصاص و غيره، و ذلك معلوم جدّاً، نعم خرجت عن ذلك موارد جزئية تحت شرائط خاصّة، قال محمّد بن مكّي الشهيد في الدروس: روي أنّ من رأى زوجته تزني فله قتلهما «2». و مع ذلك ففي رواية عبد اللّه بن القاسم الجعفري عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السَّلام قال: قال سعد بن عبادة: أ رأيت يا رسول اللّه إن رأيت مع أهلي رجلًا فأقتله؟ قال: يا سعد فأين الشهود الاربعة 3. و قد حمله الأصحاب على أنّه لا يثبت ذلك في الظاهر و لا تقبل دعوى الزوج إلّا ببيّنة، و بعبارة أُخرى يجوز القتل ثبوتاً إلّا انّه

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 431.

(2) 2 و 3 الوسائل: 18، الباب 45، من أبواب حدّ الزنا، الحديث 21.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 65

إذا لم يستطع إثبات دعواه يُقتل و قد وردت بعض الروايات في سبّ النبيّ أنّه يجوز قتله إذا لم يخف على نفسه «1». و على كلّ تقدير فخروج مورد أو موردين لا يضرّ بالضابطة و هو كون إجراء الحدود وظيفة الحاكم.

و مع وضوح الحكم يظهر من صاحب الجواهر الميل إلى خلاف ما هو مسلّم بين الفقهاء، لكن بشرط أن يكون الحال معلوماً أو كان الخصم مقراً مستدلًا بقوله سبحانه: (وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً) (الاسراء/ 33). قائلًا بأنّ مقتضى إطلاق السلطان هو الأعم من قيامه بالمباشرة أو بالتسبيب مضافاً إلى تسلّط الناس على استيفاء حقوقها. «2»

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد تشريع السلطة للولي و أمّا الكيفية فليست في مقام بيانها و مثلها الدليل الثاني فإن تسلّط الناس على استيفاء حقوقهم فاقد للإطلاق من حيث التسبيب و المباشرة، أضف إلى ذلك أنّ مواضع الحقوق محاطة بشبهات حكميّة و موضوعيّة لا يقدر على حلّها إلّا الفقيه العارف بالحكم و الموضوع، فكيف يمكن أن يُخوَّل مثل ذلك إلى العامي؟!

الثاني: إذا كان الحقّ عيناً في يد الغير

إذا كانت لرجل عين بيد رجل آخر فالمشهور أنّه إن قدر على استردادها من غير تحريك فتنة استقلّ به لأنّها نفس ماله فلا حاجة إلى الرجوع في تحصيله إلى غيره، نعم لو أدّى إلى الفتنة فلا بدّ من الرفع إلى الحاكم دفعاً لها. «3» توضيحه: أنّه فرق بين العين و الدين، فإنّ الحقّ في الأوّل متعين في الموجود فهو مالك له بخلاف الثاني فإنّ الحقّ فيه كلي في ذمّة المدين و لا يتعيّن فيما يقتصّ منه إلّا برضاه، أو بولاية شرعيّة كإذن الحاكم و المفروض انتفاء الأمرين.

______________________________

(1) الوسائل: 18،

الباب 25 من أبواب حدّ القذف، الحديث 3.

(2) الجواهر: 40/ 387.

(3) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 432.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 66

نعم يجوز الاستقلال في العين إذا لم تترتّب عليه فتنة و إلّا فلا يجوز لما علم من مذاق الشارع من عدم جواز فعل تترتّب عليه الفتنة و لأجل ذلك جوّز الإمام بيع الوقف إذا انتهى إبقاؤه على ما كان عليه إلى تلف الأموال و النفوس «1» و قال سبحانه: (إِلّٰا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسٰادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال/ 73) هذا و للمسألة صور نذكرها:

أ: إذا استلزم أخذ العين من الممسك تمزيق الثوب و كسر القفل و نظائره ممّا لا ينفكّ عنه الاستقلال بأخذ الحقّ، فهل هو جائز أو لا؟ الظاهر جوازه، لأنّه إذا جاز الدفاع عن ماله يجوز ما توقّف عليه، اللّهمّ إلّا أن يستلزم فتنة أو فساداً كبيراً، و يمكن أن يقال إنّ الممسك بإمساكه أسقط حرمة ماله بمقدار ما يتوقف عليه الأخذ.

ب: لو افترضنا كون الممسك جاهلًا بأنّ ما تحت يده مال الغير فلا شكّ أنّه يجوز الاستقلال إذا لم يترتّب عليه ضرر، و أمّا إذا ترتّب عليه ضرر يسير كما مثلناه، فالظاهر أنّه لا يجوز لاحترام ماله و عدم سقوطه عن الحرمة لكونه جاهلًا، نعم ذلك إذا أمكن الرجوع إلى الحاكم و أخذ الحقّ عن طريقه و إلّا فلا إشكال في ذلك غير أنّه يضمن الضرر اليسير.

ج: لو افترضنا أنّه وقع في يده مال للممسك سواء كان جاهلًا أو عالماً فهل يجوز التقاص به أو لا؟ الظاهر التفريق بين ما أمكن أخذ الحقّ عن طريق الحاكم فلا يجوز بخلاف ما إذا انحصر الطريق بالتقاصّ.

و سيوافيك هذا التفصيل في المحور الثالث فانتظر.

الثالث: إذا كان الحقّ ديناً في ذمّة الآخر
اشارة

هذا كلّه حول العين و أمّا الدّين فله صور:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 6 من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 67

1- إذا كان المدين معترفاً بالدين باذلًا له متى أراد.

2- إذا كان معترفاً به لكن ممتنعاً عن الأداء.

3- إذا كان جاحداً و كان للمدّعي البيّنة على إثبات حقّه و كان الوصول إلى الحاكم أمراً ممكناً.

4- تلك الصورة و لكن لم تكن له البيّنة على إثبات الحقّ، أو كانت له البيّنة لكن كان الوصول إلى الحاكم غير ممكن أو أمراً حرجياً.

5- إذا كان المدين جاهلًا بالدَين في اعتقاد الدائن.

و إليك بيان أحكام الصور:

أمّا الصورة الأُولى: أعني ما إذا كان باذلًا

، فلا يستقلّ المدّعي بانتزاعه و ذلك لأنّ المدين مخيّر في جهات القضاء فلا يتعيّن الحقّ في شي ء دون تعيينه أو تعيين الحاكم مع امتناعه. و المفروض انتفاء كلا الأمرين، و الحاصل أنّ الدائن يملك الثمنَ الكلي في ذمة المديون و تشخّصه في جزء من أمواله يحتاج إلى تعيينه و المفروض عدمه، أو إلى تعيين الحاكم لانّه ولي الممتنع و المفروض عدم امتناعه فتكون النتيجة عدم تعيّن الدين الكلي فيما انتزع، و على هذا لو وقع مال المديون في يد الدائن، فلا يتعيّن الدين فيه إلّا برضاه. و ما يرد عليك من الروايات من جواز التقاص منصرفة عن صورة كونه باذلًا بل صريحة في خلافها.

و أمّا الصورة الثانية و الثالثة: أعني ما إذا كان معترفاً بالدين لكن ممتنعاً عن الأداء أو كان جاحداً و للغريم بيّنة تُثبتُ عند الحاكم و كان الوصول إليه ممكناً

ففيه قولان ذهب الشيخ في الخلاف و المحقّق في الشرائع إلى الجواز مستدلًا بعموم الإذن في الاقتصاص، خلافاً للمحقّق في النافع و تلميذه في كشفه و للفخر في ايضاحه على ما نقل عن الأخير.

قال الشيخ: إذا كان لرجل على رجل حقّ فوجد من له الحقّ، مالًا لمن عليه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 68

الحقّ إلى أن قال: و إن كان مانعاً إمّا بأن يَجحد ظاهراً و باطناً، أو يعترف باطناً و يجحده ظاهراً، أو يعترف به ظاهراً و باطناً و يمنعه لقوّته، فإنّه لا يمكن استيفاء الحقّ منه، فإذا كان بهذه الصفة، كان له أن يأخذ من ماله بقدر حقّه من غير زيادة سواء كان من جنس ماله أو من غير جنسه إلى أن قال: و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة: ليس له ذلك إلّا في الدراهم و الدنانير «1» التي هي الأثمان و أمّا غيرهما فلا يجوز قال: دليلنا: إجماع الفرقة

و أخبارهم و أيضاً روي أنّ هنداً امرأة أبي سفيان جاءت إلى النبيّ فقالت يا رسول اللّه! إنّ أبا سفيان رجل شحيح و أنّه لا يُعطيني ما يكفيني و ولدي إلّا ما آخذ منه سرّاً فقال: «خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف» و النبي أمرها بالأخذ عند امتناع أبي سفيان منه و الظاهر أنّها كانت تأخذ من غير جنس حقّها فإنّ أبا سفيان ما كان يمنعها الخبز و الإدام و إنّما كان يمنعها الكسوة فالظاهر أنّ الأخذ من غير جنس الحقّ. «2»

و ظاهره جواز الأخذ في الصورتين من غير فرق بين كونه ذا بيّنة و عدمه، أمكن الوصول إلى الحاكم و استيفاء الحقّ بحكمه أو لا و لكن الظاهر من المبسوط هو الجواز فيما إذا لم تكن له الحجّة أو كان و لكن لا يقدر على إثباته عند الحاكم، و عدم الجواز في غير هاتين الصورتين.

قال: هذا (أي جواز الأخذ مطلقاً من جنس الحقّ و غيره) إذا كان من عليه الحقّ مانعاً و لا حجّة لمن له الحقّ، فأمّا إن كان له بحقّه حجّة و هي البيّنة عليه، و لا يقدر على إثبات ذلك عند الحاكم و الاستيفاء منه فهل له أخذه بنفسه أم لا قال قوم ليس له لأنّها جهة تملك استيفاء حقّه بها منه فلم يكن له الأخذ بنفسه بغير رضاه، كما لو كان باذلًا، و قال آخرون له ذلك لأنّ عليه مشقّة في إثباته عند الحاكم و مغرمة في استيفائه فكان له الأخذ و هو الّذي يقتضيه عموم أخبار في

______________________________

(1) لعلّ مراده تخصيص الاقتصاص بما إذا كان ما في يده مماثلًا لما في ذمّة المدين.

(2) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و

البيّنات، المسألة 28.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 69

جواز ذلك «1».

ترى أنّه خصّ الجواز بما إذا لم يمكن له البيّنة أو كان إثباته شاقّاً عند الحاكم و مفهومه عدم الجواز في صورة الإمكان و عدم المشقة.

هذا و خالف المحقّق في النافع و لم يجوّز و قال: و لو كان ديناً و الغريم مقرّ باذل أو مع جحوده عليه حجّة لم يستقلّ المدّعي الانتزاع من دون الحاكم. «2» و قد أقرّه عليه تلميذه الفاضل الآبي في شرحه على النافع. «3» و قد نقل الخلاف عن فخر المحققين في الإيضاح و لم نقف عليه في موضعه. «4»

و قد استدلّ صاحب الجواهر و غيره على الجواز في هذه الصورة أي وجود البيّنة مع إمكان الوصول إلى حاكم مبسوط اليد بالعمومات الواردة في الكتاب و السنّة من قوله سبحانه: (فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ) (البقرة/ 194) و قوله سبحانه: (وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ) (البقرة/ 194) و قوله تعالى: (فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل/ 126) و قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «ليّ الواجد يُحِلُّ عقوبته و عرضه» «5» و قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف» «6».

و الاستدلال بهذه الآيات ضعيف لأنّ الأولى في مقام بيان لزوم المماثلة في الاعتداء من حيث الكمّية و أمّا سائر الجهات و أنّه هل يتصدّى صاحب الحق بالاعتداء بالمباشرة أو بالتسبيب فليست الآية في مقام بيانه و منه يظهر عدم دلالة الآية الثالثة، و أمّا قوله: (وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ) فالمراد منه أنّ كلّ حرمة تستحلّ ففيه القصاص و أمّا الكيفية، فليس بصدد بيانها خصوصاً أنّه

جاء مقدّمة لقوله (فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ).

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 311.

(2) المحقق، النافع: 284، ط مصر.

(3) الآبي، كشف الرموز: 2/ 505.

(4) فخر المحققين، الإيضاح: 3/ 400.

(5) الوسائل: الجزء 13، الباب 8 من أبواب القرض، الحديث 4 مع اختلاف يسير.

(6) البيهقي: السنن 10/ 141 و قد مرّ في نصّ الخلاف أيضاً.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 70

و أمّا النبوي فإنّ شمول العقوبة لمثل الاقتصاص بعيد، و أمّا إذن النبي لامرأة أبي سفيان فلأجل أنّه لو لا الإذن، يلزم رجوعها في كلّ أُسبوع أو شهر إلى النبيّ، ليأخذ حقّها و هو كما ترى حيث إنّ الإثبات كان مشكلًا. و الأولى عطف الكلام إلى الروايات الواردة في المقام. فقد استدلّ صاحب الجواهر بروايات غير أنّ المهم ثبوت الإطلاق فيها بالنسبة إلى الصورتين أي صورة وجود الاعتراف و إن كان ممتنعاً عن الأداء، أو وجود البيّنة في صورة الجحد لإمكان إثبات الحقّ عند الحاكم مع إمكان الوصول إليه فقد سردها قدس سره من دون إيعاز إلى تلك الجهة بل القرائن تشهد ورودها فيما إذا كان الدائن فاقداً للبيّنة، أو كان الوصول إلى الحاكم غير ممكن و بعبارة أُخرى انحصر تحصيل الحقّ بالاقتصاص و إليك بعضها:

1- صحيح ابن أبي عمير عن داود بن زربي قال: قلت لأبي الحسن إنّي أُخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، و الدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ قال: «خذ مثل ذلك و لا تزد عليه». «1» و مورده ما إذا لم يتمكّن من استيفاء الحقّ بالحاكم و ذلك لأنّه إذا كان السلطان هو الآخذ فكيف يرفع الشكوى إليه أو

إلى عديله و زميله و الغالب في مثل هذه الأُمور فقد البيّنة، أو عدم إمكان التوصّل إلى الحاكم الشجاع الساعي في رفع الظلامة.

2- حسنة أبي بكر الحضرمي: قال: قلت له رجل عليه دراهم فجحدني و حلف عليها، يجوز لي إن وقع له قِبَلي دراهم آن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، و رواه الشيخ عن ابن أبي عمير عن داود بن رزين، لكن داود لم يوثق نعم رواه الصدوق بنفس السند عن داود بن زربي و عدّه المفيد في الإرشاد من رواة الإمام الكاظم الموثقين و نقل العلّامة و ابن داود عن النجاشي أنّه قال: ثقة ذكره ابن عقدة و النسخ التي بأيدينا من رجال النجاشي خال عن التوثيق.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 71

نعم ... «1» و ليس السائل و المجيب في مقام البيان بالنسبة إلى وجود البيّنة و عدمها حتّى يتمسّك بإطلاقها، لو لم نقل بانصرافها إلى غير تلك الصورة إذ لو كانت له البيّنة لما ترك ذكرها و نظيرها روايته الأُخرى «2» و ممّا ذكرنا تظهر حال سائر الروايات «3» فيكون المرجع بعد عدم دلالة الروايات هو حرمة التصرّف في مال الغير، و لا يعارضه شي ء حتّى قاعدة «لا ضرر»، لافتراض استيفاء الدين بالرجوع إلى الحاكم إمّا لوجود البيّنة إذا جحد، أو اعترافه و عدم إنكاره.

و الحقّ، هو ما اختاره المحقّق في النافع و تلميذه في شرحه و فخر المحقّقين في الإيضاح و بذلك يظهر ضعف ما في الجواهر حيث قال: «لم نر للقائل بالمنع شي ء يعتدّ به عدا الأصل المقطوع ممّا عرفت بل يمكن

معارضته بأصل عدم وجوب الرفع إلى الحاكم».

وجه الضعف أنّ المحكّم هو الأصل الأوّلي أي حرمة التصرّف في مال الغير إلّا بدليل و القاطع لم يثبت لما عرفت عدم شموله للصورتين، و ما زعم من المعارضة بين الأصلين غير تامّ لعدم ترتّب الأثر على الأصل الثاني، حيث لا يُثبت جواز التصرّف في مال الغير، و المقصود في المقام إثبات جواز التصرّف.

و أمّا الصورة الرابعة فهي القدر المتيقّن من هذه الروايات المجوّزة للاقتصاص بلا حاجة إلى إذن الحاكم

و إلى تلك الصورة يشير المحقّق و يقول: «و لو لم يكن له بيّنة أو تعذّر الوصول إلى الحاكم و وجد الغريم من جنس ماله اقتص مستقلًا بالاستيفاء». «4»

بل من غير فرق بين كون المال من جنس ماله أو غيره بشهادة صحيحة داود

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب، الحديث 4 و 5 و أبو بكر الحضرمي ممدوح. و لا بدّ من حمل الحلف في الرواية إلى الحلف من دون أن يستحلف، أو الحلف عند المشتكي دون حضور القاضي بناء على شرطيّة حضوره عند الحلف بل بأمره.

(2) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب، الحديث 4 و 5 و أبو بكر الحضرمي ممدوح. و لا بدّ من حمل الحلف في الرواية إلى الحلف من دون أن يستحلف، أو الحلف عند المشتكي دون حضور القاضي بناء على شرطيّة حضوره عند الحلف بل بأمره.

(3) الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8، 9، 10 و 13.

(4) الشرائع: 4/ 109.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 72

ابن زربي، حيث كان المغصوب الجارية و الدابّة، و الواقع في اليد المغصوب منه المال الظاهر في غير المماثل. و سيأتي تفصيله في التنبيه الثالث.

لو كان المال الموجود عنده وديعة

هذا كلّه إذا كان المال الموجود عنده غير وديعة و أمّا إذا كان وديعة قال المحقّق: «ففي جواز الاقتصاص تردّد أشبهه الكراهية». قال الشيخ في الخلاف بعد الحكم بجواز الأخذ بقدر حقّه: إلّا إذا كان وديعة عنده فإنّه لا يجوز له أخذه منها. «1» و مبدأ الخلاف، إختلاف الروايات، و ممّا يدلّ على الجواز صحيح فضل ابن عبد الملك المعروف بأبي العباس البقباق:

«إنّ شهاباً، ماراه في رجل ذهب له بألف درهم و استودعه بعد ذلك ألف درهم قال أبو العباس فقلت له: خذها مكان الألف التي أخذ منك فأبى شهاب قال: فدخل شهاب على أبي عبد اللّه فذكر له ذلك فقال: أمّا أنا فأحب أن تأخذ و «2» تحلف».

و خبر علي بن سليمان قال: كتب إليه رجل غصب مالًا أو جارية ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه، أ يحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب: «نعم يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه و يسلِّم الباقي إليه». 3

و في مقابلهما روايات يصف ذلك العمل بالخيانة ففي خبر ابن أخ الفضيل ابن يسار جواباً عن مثل السؤال: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، و لا تَخُن من خانك». 4 و في خبر سليمان بن خالد: إن خانك فلا تخنه و لا تدخل فيما عتبه عليه 5، و في صحيح معاوية بن عمّار قال: هذه الخيانة. 6

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 28.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2 و 9.

(3) 4 و 5 و 6 الوسائل: الجزء 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3، 7 و 11.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 73

و الإمعان في القسم الثاني من الروايات يعطي أنّه حكم أخلاقي حيث قال: «و لا تدخل فيما عتبه عليه» و من المعلوم أنّ تسميته خيانة من باب المبالغة في الكراهة إذ الخيانة هو الأخذ بغير حقّ، لا الأخذ معه على أنّ

مقتضى رواية البقباق هو عدم الكراهة أيضاً حيث قال: «أمّا أنا فأُحب أن تأخذ و تحلف».

بل الظاهر من خبر عبد اللّه بن وضّاح، أنّه لو لا حلف المنكر، لجاز الأخذ و إنّما المانع، هو استحلافه عند الحاكم. «1»

يجب التنبيه على أُمور:
الأوّل: إذا كان ما في ذمّة الآخر مخالفاً في الجنس مع ما وقع في يده، فهل يجوز الاقتصاص عندئذ أو لا؟

الظاهر أنّه يجوز لأنّه مضافاً إلى ترك الاستفصال في عامّة الروايات، أنّه مقتضى صحيحة داود بن زربي حيث إنّ المغصوب هو الجارية و الدابة الفارهة و ما وقع في يده هو المال الظاهر في المغايرة، و لأجل ذلك جاء في الجواب: خذ مثل ذلك و لا تزد عليه «2»، أي خذ مثله في المالية و لا تزد عليه، و نظيره رواية علي بن سليمان فإنّ المغصوب هو المال أو الجارية، فقد أجاب الإمام فيه بقوله: نعم يحلّ ذلك إن كان بقدر حقّه و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه، و يسلّم الباقي إليه 3. فإنّ الغالب في تلك الموارد وقوع غير الجارية في يد المغصوب منه فيكون مخالفاً في الجنس.

الثاني: في تعيين البائع، قال الشيخ و من الذي يبيع؟!،

قال بعضهم: الحاكم لأنّ له الولاية عليه، و قال آخرون: يحضر عند الحاكم و معه رجل واطأه على

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(2) 2 و 3 الوسائل: ج 12، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 74

الاعتراف بالدين و الامتناع من أدائه، و الأقوى عندنا أنّه له البيع لأنّه يتعذر إثباته عند الحاكم، و الذي قالوه كذب يتنزه عنه. «1»

و قد اعتمد الشيخ في تولّي المغصوب منه للبيع على تعذّر إثباته عند الحاكم، و هو يؤيّد ما ذكرنا من أنّه لو كانت له الحجّة على الدين لما استقلّ بالاقتصاص، و يؤيد جواز التولي الروايتان السابقتان و قد تعرّفت على أنّ موردهما هو فقدان الحجّة على المدين، ثمّ إنّه إذا أمكن الاستئذان من الحاكم فهل يجب أو لا؟ مقتضى الروايتين هو عدم الحاجة

إليه. و ربّما يتصوّر أنّ الجواز فيها لأجل صدور الإذن من الإمام بالنسبة إلى المورد، فلا تدلّان على الغنى من الاستئذان في غير موردهما، و لكنّه توهّم ضعيف لأنّ الصادر عن الإمام لم يكن حكماً قضائياً بل كان لبيان حكم الواقع، و أنّه حكم اللّه عبر القرون و تكون النتيجة عدم الحاجة إلى الاستئذان أيضاً.

الثالث: في كيفية الاقتصاص،

إذا كان المال المأخوذ متّحداً في الجنس مع الواقع تحت اليد فحكمه معلوم، إنّما الكلام فيما إذا كان مختلف الجنس فهناك صور: منها بيعه بالنقدين و أخذهما مكان مالية المغصوب منه. و منها: قبوله بالقيمة العادلة من دون بيع، و منها: بيعه بالجنس المماثل لما غصب منه، و منها: بيعه بأحد النقدين ثمّ اشتراء الجنس المماثل، إلى غير ذلك من الصور المتصوّرة، و لمّا كان الغرض حيازة المالية الفائتة فلا يظهر هناك تعبّد بإحدى الصور، و يجوز الجميع أخذاً بترك الاستفصال.

الرابع: في ضمان العين قبل البيع.

قال الشيخ: و إن هلكت العين في يده قبل البيع قال قوم يكون من ضمان من عليه الدين لأنّ هذه العين قبضت لاستيفاء الدين من ثمنها و كانت أمانة عنده كالرهن و قال آخرون: عليه ضمانه لأنّه قبضها بغير إذن مالكها لاستيفاء الحقّ من ثمنها فهو كما لو قبض الرهن بغير

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 311.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 75

إذن الراهن و الأوّل أليق بمذهبنا فمن قال لا ضمان عليه قال: له أن يأخذ غيرها من ماله، و من قال عليه ضمانها قال صار في ذمّته قيمتها، و له في ذمّة المانع، الدين فإن كان الجنس واحداً كان قصاصاً و يترادان الفضل. «1»

و قال المحقق: الوجه الضمان، لأنّه قبض لم يأذن فيه المالك و يتقاصّان بقيمتها مع التلف. «2»

و هناك قولان آخران:

الأوّل: التفصيل بين مقدار الحقّ و ما هو زائد عنه فيما لو كان المأخوذ زائداً عن مقدار الحقّ، فلا يضمن ما زاد عن مقدار الحقّ، و هو خيرة العلّامة في القواعد.

الثاني: التفصيل بين ما أخذه بعنوان المقاصّة من أوّل الأمر فيضمن و أمّا إذا أخذه بعنوان

الوديعة ثمّ بدا له التقاصّ فلا يضمن.

لا شكّ أنّ مقتضى الاستيلاء على مال الغير يوجب الضمان، خرج منه ما إذا أخذ لصالح صاحب المال من أوّله إلى زمان تلفه كالوديعة، و أمّا غيرها فهو محكوم بالضمان. فإنّ القبض للمقاصّة هو قبض ضمان لا قبض مجّان سواء كان من بدأ القبض أو في الأثناء، فينقلب بقاءً عن القبض عن المجّان إلى الضمان، و لا يقصر ذلك القبض من القبض بالسوم و كونه مأذوناً من جانب الشارع في التصرّف أعم من عدم الضمان و قد أذن الشارع التصرّف في مال الغير عام المجاعة مع أنّ المتصرّف ضامن للقيمة أضف إلى ذلك ما ذكرناه منّا في محلّه من أنّ طبع التصرّف في مال الغير يقتضي الضمان إلّا أن يكون هناك دليل قاطع على عدمه، و من هنا يعلم قوّة وجه الضمان و ضعف عدمه، و قد استدل عليه بوجوه غير تامّة:

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 311.

(2) الشرائع: 4/ 109.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 76

إنّها أمانة شرعيّة مع عدم التعدّي في التلف.

يلاحظ عليه: أنّ الأمانة الشرعيّة عبارة عن الأخذ بأمر الشارع إذا لم تكن للأخذ فيه المصلحة كاللقطة بخلاف المقام، فإنّه إمّا أمانة مالكية كما إذا أخذه بعنوان الوديعة إذا بقي على تلك النيّة أو مقبوض بالضمان كما إذا قبضه بعنوان التقاص، أو استيلاء على ماله من دون إجازة المالك، كما إذا وقع ماله تحت يده صدفة غاية الأمر أنّ الشارع أذن في الأخذ و التصرّف و لكنّه لا يلازم عدم الضمان لما عرفت من أنّ الإذن في التصرّف أعمّ منه.

و منها؛ أنّه محسن في الأخذ و ما على المحسنين من سبيل.

يلاحظ عليه: أنّ

المفهوم من الآية هو اختصاص المحسن بالصورة التي لا يكون فيها للآخذ المصلحة، قال سبحانه: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفٰاءِ وَ لٰا عَلَى الْمَرْضىٰ وَ لٰا عَلَى الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ مٰا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذٰا نَصَحُوا لِلّٰهِ وَ رَسُولِهِ مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 91) و القرينة على ذلك قوله: نصحوا للّه و رسوله أي إذا كان عملهم خالصاً لوجه اللّه و الأخذ للتقاص ابتداءً أو استمراراً ليس عملًا خالصاً.

و من ذلك يعلم قوّة الضمان مطلقاً حتّى في الزائد عن قدر الاستحقاق إذا لم يكن منفصلًا عن مقدار ما يستحق، اللّهمّ إلّا إذا كان الزائد منفصلًا فله حكم الوديعة، إذا اخذهما بنفس العنوان و أمّا التفصيل الرابع فيظهر وهنه ممّا سبق و ذلك لانّ أخذه وديعة في بادئ الأمر لا يؤثر فيما إذا انقلبت نيّته و صارت اليد يداً لصالح الآخذ.

مسألتان
الأولى: ادّعاء ما لا يدَ لأحد عليه

قال المحقق: من ادّعى ما لا يد لأحد عليه قضي له. و المراد قضي له بلا

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 77

بيّنة و لا يمين.

أمّا القضاء بدونهما فلعدم الحاجة إليهما، لأنّ المفروض عدم وجود الخصم و المنازع فينتفي موضوعهما. إنّما الكلام في قوله «قضي له» مع أنّ القضاء أشبه بمثلّث له أضلاع ثلاثة، فإذا لم يكن المنازع موجوداً في المقام فلا تتحقّق أركان القضاء، و على ذلك لا بدّ أن يحمل القضاء على المعنى اللغوي لا الاصطلاحي. و هو أنّه يعامل معه معاملة المالك و الدليل على ذلك هو سيرة العقلاء، فإنّهم متفقون على ذلك إلّا أن تكون هناك ما يثير الظنّ بالكذب، و المراد من قوله: «لا يد عليه» أي لا يد لأحد حتّى المدّعي.

نعم هو بعد ادّعائه يستولي على العين و يعامل معه معاملة المالك. و هذا نظير ما مرّ من أنّه خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم: الولايات و التناكح و المواريث و الذبائح و الشهادات، فإذا كان ظاهره مأموناً جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه. «1»

مضافاً إلى مرسلة ابراهيم بن هاشم عن بعض أصحابه عن منصور بن حازم عند أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال قلت: عشرة كانوا جلوساً وسطهم كيس فيه الف درهم فسأل بعضهم بعضاً أ لكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم: لا و قال واحد منهم: هو لي. فلمن هو؟ قال: «للذي ادّعاه».

و رواه الشيخ عن سنده عن محمّد بن احمد بن يحيى عن محمّد بن الوليد عن يونس عن منصور بن حازم، و السند الأخير صحيح و الرواية، بظاهرها تدلّ على أنّ ادّعاء ما لا يد لأحد عليه يترتّب عليه الأثر و يحكم بأنّه له.

و ربّما نوقش في دلالة الرواية بوجهين:

الأوّل: أنّ وجود الكيس وسط جماعة يكشف عن استيلائهم عليه و هو لا ينفك عن كونه تحت أيديهم.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 22 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 78

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر ورود الرواية في جماعة مستطرقة نزلوا من راحلتهم و جلسوا لقضاء حوائجهم فكان الكيس ماثلًا بين أعينهم فمثل ذلك لا يعدّ استيلاء و لا يداً.

الثاني: إنّ ظاهر الرواية أنّ العشرة بأجمعهم قالوا: لا. ثمّ ادّعاه واحد منهم. فهذا يكون إقراراً بعد الإنكار، فلا يقبل فيما إذا كان لصالح نفسه.

يلاحظ عليه: أنّ المقصود من الكل ما عدا المدّعي، و هذا ظاهر لمن أمعن في الرواية، فكأنّه

يقول سألت الجماعة فلم يعترف أحد به غير واحد منهم.

ثمّ إنّ المراد من القضاء بكونه مالكاً هو القضاء المطلق لا الحكم بقيد المراعاة أي لو لم ينازعه أحد في المستقبل يحكم له. و على ذلك فلو نازعه آخر في مستقبل الأمر يكون هو مدّعياً و السابق عليه منكراً لثبوت يده و إن لم نعلم سبب الاستيلاء.

الثانية: إخراج السفينة المكسورة

قال المحقق: لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله «أي لمالكه» و ما أُخرج بالغوص فهو لمخرجه و به رواية في سندها ضعف.

أقول: للرواية سندان، أحدهما معتبر عند الأصحاب و إن كان الراوي عامياً، لعمل الأصحاب بروايات بعض العاميين و هو ما رواه الكليني بسند صحيح عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في حديث عن أمير المؤمنين عليه السَّلام قال: «و إذا غرقت السفينة و ما فيها فأصابه الناس فما قذف به البحر على الساحل فهو لأهله و هم أحقّ به و ما غاص عليه الناس و تركه صاحبه فهو لهم». «1»

______________________________

(1) الوسائل: ج 17، الباب 11 من أبواب اللقطة، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 79

و الآخر ما رواه الشيخ عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن أبي عبد اللّه عن منصور بن العباس عن الحسن بن علي بن يقطين عن أُميّة بن عمرو عن الشعيري، قال سُئل أبو عبد اللّه عن سفينة انكسرت في البحر، فأُخرج بعضُها بالغوص و أخرج البحرُ بعضَ ما غرق فيها، فقال: «أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله اللّه أخرجه، و أمّا ما أخرج بالغوص فهو لهم و هم أحقّ به». «1»

و السند ضعيف لأنّ المراد من أبي عبد اللّه

هو محمّد بن أحمد الرازي الجاموراني و قد استثناه ابن الوليد من رجال نوادر الحكمة «2». كما أنّ منصور بن العباس ضعيف.

قال النجاشي: منصور بن العبّاس أبو الحسن الرازي: سكن بغداد و مات بها، كان مضطرب الأمر له كتاب كبير. و مثله أُميّة بن عمرو الشعيري، قال الشيخ في رجاله واقفي و الظاهر أنّ الشعيري لقب الراوي و المروي عنه فإنّ السكوني أيضاً شعيري و كلاهما منسوبان إلى باب الشعير محلّة في بغداد و قيل وجه آخر.

و على ذلك فالسند الثاني لا يحتجّ به بخلاف السند الأول، بقي الكلام في دلالته و قد فسّرت الرواية بوجوه:

1- أنّ المراد أنّ ما أخرجه البحر فهو لأصحاب السفينة، و أمّا ما أخرج بالغوص فهو للغواصين، و هذا هو الظاهر. و لمّا كان هذا المعنى مخالفاً لمقتضى القاعدة لأنّ الأصل بقاء السلطة على المال و المالكيّة له سواء غرقت أم لا. سواء أخرجه الماء أم الغوّاص فما لم يعرض صاحب المال بإنشاء لفظي أو فعلي فهو له، و على ذلك فما أخرجه البحر فهو لصاحبه و ما أخرج بالغوص فهو له أيضاً. غاية الأمر لو أمر المالك الغوّاص بالإخراج فعليه له أجرة العمل، و إلّا فلا يستحق شيئاً.

______________________________

(1) الوسائل ج 17، الباب 11 من أبواب اللقطة. الحديث 2.

(2) النجاشي: الرجال: ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى برقم 940.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 80

2 هذا ما دعى بعضهم إلى إرجاع الضمير في قوله: «فهو لهم» إلى أصحاب السفينة أيضاً.

و لكن هذا التفسير يخالف ظاهر الرواية فإنّ الظاهر أنّها بصدد التفصيل بين المالكين، و أنّ ما أخرجه البحر فهو لمالكه و ما أخرجه الغوص فهو

للغواص لا التفصيل بين إخراج اللّه و إخراج الغير.

3- الأخذ بظاهر الرواية و لكن وجه التفصيل هو وجود إعراض المالكين في القسم الثاني أي ما أخرجه الغوّاص بشهادة ما ورد في الرواية الأولى قوله: «و تركه صاحبه» و على ذلك تكون الرواية موافقة للقاعدة. و ظاهر الحال يؤيد ذلك التفصيل و ذلك لأنّ الأشياء ذات الكثافة القليلة تطفو على سطح الماء بسرعة فيستولي عليها أصحاب السفينة قبل مغادرة محلّ الغرق، و أمّا الأشياء الكثيفة فهي تغطس في البحر، و تخرج بعد مضي زمن يلازم مغادرة أصحاب السفينة موضع الغرق فتختصّ بالغواصين.

هذا هو الحكم الشرعي إلّا أنّ القوانين البحرية العالمية بشكل آخر لا مجال لذكرها في المقام.

إلى هنا تمّ الكلام في المقدمة بفصليها و لندخل الآن في دراسة المقاصد.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 81

مقاصد أربعة

المقصد الأوّل في دعوى الأملاك
اشارة

قد عقد المحقق أبواباً باسم المقاصد، فالمقصد الأوّل يتولّى بيان كيفية القضاء في دعوى الأملاك كما أنّ الثاني يتولّى بيان كيفيّته في الاختلاف في العقود و المعاملات، كما أنّ الثالث يبيّن كيفية حلّ الاختلاف في المواريث، و الرابع منها يتكفّل بيان حلّ الاختلاف في الولد، و إليك الكلام في المقصد الأوّل و فيه مسائل:

[المسألة] الأُولى: لو تنازعا عيناً و لا بيّنة في البين
اشارة

إذا تنازعا في عين فله صور أربع:

1- أن تكون العين في يدهما.

2- أن تكون في يد أحدهما.

3- أن تكون في يد ثالث.

4- أن لا تكون هناك يد أصلًا، كما إذا تنازعا على خاتم سقط في بئر للمستطرقين ينتفع بها المشاة و الركاب.

و هذه الصور في حالة عدم وجود بيّنة و أمّا إذا كانت هناك بيّنة فيأتي فيه الكلام في المسألة الثانية و إليك البحث فيها واحداً تلو الآخر:

أ: أن تكون العين في يدهما

، قال الشيخ في الخلاف: إذا ادّعى نفسان داراً و هما فيها أو الثوب و يدهما عليه، و لا بيّنة لواحد منهما، كان العين بينهما نصفين و به قال الشافعي، إلّا أنّه قال: يحلف كلّ واحد منهما لصاحبه. دليلنا: إجماع

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 82

الفرقة و أخبارهم، و أيضاً روى أبو موسى الأشعري أنّ رجلين تنازعا دابّة ليس لأحدهما بيّنة فجعلها النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بينهما. «1»

إنّ مقتضى قاعدة العدل و الإنصاف كون العين بينهما، و هذه القاعدة مطردة في الفقه و قد ورد النصّ على وفاقها في مورد الودعي إذا أودع رجل عنده دينارين و آخر ديناراً واحداً فاختلطا من غير اختيار فضاع دينار منها فقد جاء النصّ بأنّ لصاحب الدينارين ديناراً و نصفاً و لصاحب الدينار الواحد، نصف دينار «2»، مضافاً الى إطلاق صحيح عبد اللّه بن المغيرة. «3»

إنّما الكلام في لزوم الحلف و عدمه، فمن صوّر أنّ كلّ واحد من الرجلين مدع من جهة و منكر من جهة أُخرى فقد قال بلزوم الحلف لأنّ الموضوع صغرى لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر، بيانه: أنّ

كلّ واحد من المدّعيين منكر لما بيده من نصف العين و مدّع بالنسبة إلى ما بيد الآخر، و بما أنّ كلّ واحد فاقد للبيّنة تصل النوبة إلى وظيفة المنكر فلكل واحد الحلف بالنسبة لما تحت يده بمعنى نفي دعوى الآخر بالنسبة إليه، و قد قال في المسالك في مقام التعليل: «عملًا بالعموم بل لم ينقل الأكثر فيه خلافاً».

و على هذا فالحلف حلف قضائي يترتّب عليه ما له من الآثار، فلو حلفا أو نكلا ترك المدّعى به في يدهما كما كان، و إن حلف أحدهما دون الآخر قضي للحالف بالكل.

ثمّ إن حلف الذي بدأ الحاكم بتحليفه و نكل الآخر بعده، حلف يميناً ثانياً باسم اليمين المردودة إذا لمنقض بالنكول.

و إن عكس أي نكل الأوّل من أوّل الأمر و رغب الثاني في اليمين فقد

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 1.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 12 من أبواب الصلح، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من أبواب الصلح، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 83

اجتمع عليه يمين النفي للنصف الذي ادّعاه صاحبه (و هو الحلف الشائع في كلّ منكر). و يمين الإثبات للنصف الذي ادّعاه، فتكفيه يمين واحدة يجمع فيها بين النفي و الإثبات لأنّها بوحدتها جامعة بين اليمينين، فيحلف و يقول لا حقّ له في النصف الذي يدّعيه و النصف الآخر لي.

و احتمال وجوب يمينين مستقلّين إحداهما نافية و الأُخرى مثبتة لتعدّد السبب، المقتضي لتعدّد المسبب مدفوع بأنّ مثلها تنحلّ إلى يمينين فتكفي يمين واحدة.

و هل يتخيّر الحاكم في الابتداء باليمين أو يقرع بينهما؟ وجهان و تظهر الفائدة في تعدّد اليمين على المبتدئ على تقدير نكول

الآخر «1» بخلاف نكول المبتدئ فتكفي يمين واحدة من الآخر، و بما انّ تكليف المبتدئ أكثر من الآخر يقرع بينهما.

هذا التفصيل هو الذي ذكره الشهيد على القول بلزوم الحلف و إلّا فلو قلنا بعدم وجوبه يكون هذا التفصيل فاقداً للموضوع.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر ممّن ناقش في لزوم الحلف ببيان موجز توضيحه: أنّ تصوير كلّ واحد منكراً بالنسبة إلى ما تحت يده، يتوقّف على أن يكون له يد على النصف المشاع كما في الدابّة المركوبة لهما، أو الثوب الذي يلبسانه، و من المعلوم أنّ الاستيلاء على النصف المشاع فرع الاستيلاء على الكلّ حتّى يكون له استيلاء على نصف كلّ جزء من أجزاء العين، و استيلاء كلّ واحد منهما على الكلّ بهذا النحو يجعل كلًا منهما متداعياً لا مدّعياً و منكراً. و إلى ذلك يشير صاحب الجواهر بقوله: «ضرورة عدم تعقّل كون اليد على النصف المشاع إلّا بكونها على العين أجمع في كلّ منهما، و حينئذ فلا مدّعي و لا مدّعى عليه منهما، ضرورة تساويهما في ذلك إلى أن قال: و منه يظهر عدم كون كلّ منهما مدّعياً لنصف الآخر

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 434

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 84

و مدّعى عليه في نصفه كي يتوجّه التحالف بل المتّجه إلغاء حكم يد كلّ منهما بالنسبة إلى تحقّق كونه مدّعى عليه، و يكون كما لو تداعيا عيناً لا يد لأحد عليها و لا بيّنة لكلّ منهما فانّ القضاء حينئذ بالحكم بينهما لكون الدعوى كاليد في السبب المزبور المحمول على التنصيف بعد تعذّر إعماله في الجميع للمعارض الذي هو استحالة اجتماع السببين على سبب واحد.

يلاحظ عليه؛ بأنّه يتمّ فيما لا يمكن

التقسيم كالدابّة و الثوب فإنّ الاستيلاء على النصف المشاع لا يتحقّق إلّا بالاستيلاء على جميع المبيع و هذا ينتج خلاف المطلوب أي يجعلهما متداعيين، و أمّا بالنسبة إلى العين القابلة للتقسيم كالدار ذات الطابقين، إذا سكن كلّ في طابق خاص فثبوت اليد على النصف لا يتوقّف على الاستيلاء على الجميع.

و الأولى في نفي وجوب الحلف بادّعاء انصراف الروايات إلى ما كانت اليد مستقلّة بالنسبة إلى الكلّ كما إذا كانت اليد لواحد دون الآخر. و أمّا إذا كانت اليد يداً غير مستقلّة كما هو المفروض فشمول روايات الباب بالنسبة إليه بعيد، و مقتضى الأصل العملي عدم الحلف مضافاً إلى ما رواه الشيخ عن قضاء النبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم، و مع ذلك فالحكم القضائي بالتنصيف في المقام لا يتحقق إلا باليمين أخذاً بالنبوي: «إنّما أقضي بينكم بالأيمان و البيّنات» فإن لم تتحقق الثانية فلا محيص عن الأولى، فالحكم بالتنصيف حكم قضائي لا بدّ من الاستناد إلى إحداهما.

ب: إذا كانت اليد لأحدهما دون الآخر

قضي بها للمتشبّث مع يمينه إن اتّهمه الخصم و هو أظهر أفراد قاعدة: «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر».

ج: و لو كانت في يد ثالث و يدهما خارجة عنها
اشارة

لهذه الصورة الأصلية الثالثة أقسام:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 85

1- صدّق من في يده أحدَهما.

2- صدّق من في يده كليهما.

3- إذا كذّبهما و قال لي، لا لكما.

4- إذا قال هي لأحدكما و لا أعرف صاحبه عينه.

5- ليست لي و لا أعرف صاحبها.

فإليك دراسة الأقسام:

أمّا القسم الأوّل: [أي إذا صدق من في يده أحدهما]

إذا قلنا بنفوذ إقراره، يصير المقرّ له بالإقرار، كذي اليد، فيدخل هذا القسم، تحت الصورة الثانية الأصلية أي إذا كانت لأحدهما يد، دون الآخر و ليس هذا الإقرار، إقراراً على الغير، إذ لم يثبت له حقّ، حتّى يكون الإقرار على ضرره، بل هو إقرار على النفس لصالح الآخر و الفرق بين الاستيلاءين بكونه في الثانية سابقاً على الدعوى، و في المقام متأخّراً عن الدعوى غير مؤثّر لأنّ الأخذ بالإقرار يجعله كذي اليد، فيكون منكراً و المقرّ عليه مدّعياً، و يخرج المقِرّ عن كونه طرفَ الدعوى فيجري ما ذكرناه في ثانية الصور، من أنّ لمن ليس له اليد، إحلافَ من له اليد.

و إن شئت قلت: إنّ المقام عندئذ أشبه بالقضاء بشاهد (المقرّ) و يمين، أي يمين المقرّ له.

نعم للمقرّ عليه إقامةُ دعوى أُخرى على المقِرّ إذا اتّهمه بأنّه مع علمه بأنّ العين له، أقرّ للآخر و له إحلافه على ذلك، و لو نكل يغرم قيمة العين له.

أمّا القسم الثاني: أي إذا صدّق من بيده العين كليهما

فيدخل في الصورة الأُولى الأصليّة أي إذا كانت لهما يد على العين فيجري فيه ما ذكرناه فيها من التنصيف. عملًا بقاعدة العدل و الانصاف، و أمّا إحلاف كلّ منهما الآخر، فقد عرفت انصراف أدلّة لزوم حلف المنكر من مثل المورد، لما مرّ من انصرافه إلى ما

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 86

إذا كانت يد المنكر يداً مستقلّة، لا غير تامّة. و مع ذلك كلّه فالحكم القضائي لا بدّ أن يستمدّ من أحد الأمرين اليمين و البيّنة و بما أنّ المفروض فقدان الثانية فلا محيص عن اليمين.

و أمّا القسم الثالث: أعني إذا كذّبهما

، أُقرّت في يده لوجود اليد، و عليه الحلف لهما لكونهما مدّعيين و هو المنكر فإن حلف فهي له.

و أمّا إذا نكل: فإذا ردّ اليمين عليهما و حلفا، يكون كما إذا كان لهما يد على العين فيحكم بتنصيف العين و أمّا إذا حلف أحدهما دون الآخر فيحكم له و لو نكلا تترك العين عند ذي اليد، لعدم وجود الدليل على خلافه من البيّنة و الحلف، فما في الجواهر من أنّه لو نكلا اقتسماه «1» غير تامّ.

و أمّا القسم الرابع، أعني ما إذا قال: هي لأحدهما و لا أعرف صاحبه بعينه،

فهنا احتمالان:

1- الإقراع بين المدّعيين لتمييز المالك عن غيره و هو خيرة العلّامة في القواعد قال: «قرع بينهما لتساويهما في الدعوى و عدم البيّنة» فمن خرجت القرعة باسمه حلف للآخر و كانت له.

2- العمل بقاعدة العدل و الانصاف، و الحكم بالتنصيف و لعلّ الثاني أظهر و تؤيده رواية السكوني عن علي عليه السَّلام في رجل أقرّ عند موته لفلان و فلان لأحدهما عندي ألف درهم ثمّ مات على تلك الحال فقال علي عليه السَّلام: «لو أقام البيّنة فله المال و إن لم يُقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان». «2»

و أمّا القسم الخامس: أعني ما إذا قال ليست لي و لا أعرف صاحبها،

فتخلع

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 409.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 25 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 87

يده عنها، و استيلائهما عليها، يدخلها تحت الصورة الأُولى، أعني ما إذا ادّعيا عيناً و لهما يد فيحكم بالتنصيف. و يمكن القول بالحلف فأيّهما حلف فهو له و إن حلفا يجعل بينهما نصفين أخذاً بمعتبرة إسحاق بن عمّار «1» فإنّها و إن وردت فيما إذا كانت لكلّ بيّنته لكن لو قلنا بتساقطهما يكون المقام من مواردها أيضاً لأنّ وجودهما و عدمهما سواء عندئذ فيكون الحكم الوارد فيهما عاماً للموردين. فلاحظ.

د: بقي الكلام في الصورة الرابعة أعني ما إذا لم يكن تحت يد واحد منهما

فهل المرجع هو الحلف كما في صحيح اسحاق بن عمّار أو الإقراع كما في المرسل عن أمير المؤمنين؟ و سيوافيك بيانه في الصورة الرابعة للمسألة الثانية فانتظر.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 88

المسألة الثانية في تعارض البيّنات
اشارة

الثانية: قال المحقّق: يتحقّق التعارض في الشهادة ....

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدِّم أُموراً:
الأوّل: ما هو الملاك لحجّية البيّنة؟

البيّنة حجّة لأجل كونها طريقاً إلى الواقع و إنّما تتّصف بها إذا لم يكن لها معارض، كما هو الحال في الخبرين، فقول الثقة طريق إلى الواقع بشرط أن لا يعارضه قول ثقة آخر فالتعارض و إن كان غير مناف للطريقة الشأنية لكنّه لا يجتمع مع الطريقة الفعلية، فلذلك صار الأصل في المتعارضين التساقط و عدم الأخذ بهما و لا بواحد من الخبرين أو البيّنتين.

غير أنّه تضافرت الروايات على حجّية خبر الواحد عند التعارض إمّا بترجيح أحدهما على الآخر بنحو من المرجّحات أو بالتخيير بينهما عند عدم المرجّح فلولا روايات الترجيح و التخيير لكانت القاعدة المحكّمة في المتعارضين منه هي التساقط.

و مثله البيّنة فهي طريق فعلي لو لا التعارض، و معه ليست طريقاً فعلياً، و أمّا الطريق الشأني بمعنى كونها طريقاً لو لا المعارض فهو و إن كان ثابتاً لكنّه ليس بمجد.

و على ضوء ذلك فالضابطة في تعارض البيّنات هي التساقط، غير أنّ السنّة أمرت بإعمالها بنحو من الأنحاء التالية:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 89

أ. إمّا بالأخذ بأرجح البيّنتين من حيث العدد و العدالة.

ب. أو بإعمالهما بمعنى الأخذ بمضمونها حسب الإمكان و إن كانت إحداهما أرجح من الأُخرى مثل صورة التعادل.

ج. أو بإعمال بيّنة الداخل، أي البيّنة الموافقة لقول ذي اليد و إهمال البيّنة المخالفة.

د. أو بإعمال بيّنة الخارج، أي الأخذ ببيّنة من ليست له يد و إهمال الأُخرى.

ه. أو القرعة، بين المدّعيين، فمن خرج اسمه تؤخذ بيّنته، و تهمل الأُخرى.

و لكلّ من هذه الأنحاء التي تريد حفظ حجّية البيّنة موارد خاصّة تمرّ عليك فإنّ موارد الأخذ بأرجح البيّنتين أو الأخذ بهما

بقدر الإمكان غير مورد الأخذ ببيّنة الداخل أو الخارج، كما أنّ مورد القرعة غير مورد الأربعة، و الذي تجمعهم تحت مظلّة واحدة، محاولة الأخذ بالبيّنة بنحو من الأنحاء صيانة لها عن التساقط.

الثاني: في أنّ مورد الروايات، الأعيان الشخصيّة.

الروايات الدالّة على إعمال البيّنتين مختصّة بما إذا كان النزاع في الأعيان الشخصيّة، لا في الذمم و العقود و غيرهما. غير أنّ الفقهاء أهملوا هذه الجهة التي نحن بصدد التركيز عليها فأخذوا بإطلاقها و وقعوا في حيص و بيص، فجاءت الفتاوى مخالفة للفطرة السليمة و الأحكام العرفية التي يميل إليها الإنسان بصفاء فكره.

و لأجل أن يكون الادّعاء مدعماً بالبرهان، نذكر في صدر البحث مجموعَ ما ورد حول تعارض البيّنات، و الغرض من سردها الأُمور التالية:

أ. الإحاطة بالروايات بمجموعها قبل الخوض في الفروع، لتكون مقدّمة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 90

للإحاطة بأحكام الصور. حتّى يقيّد إطلاق بعضها بالقيد الوارد في بعضها الآخر من حيث الترجيح أوّلًا، و اعتبار الحلف ثانياً، و الحاجة إلى القرعة ثالثاً فلا يعرف ذلك إلّا بالوقوف على الأحاديث دفعة واحدة.

ب. دراسة الروايات من الزاوية التي نحن بصدد بيانها و هي أنّ مورد الكلّ هو الأعيان الشخصية لا الذمم و العقود و غيرهما، بل يجب في غير الأعيان الشخصية عرض المسألة على القواعد العامّة في باب القضاء و هو التحالف في التداعي و انفساخ العقد، و اليمين في التنازع أي في المدّعي و المنكر.

و النتيجة هو إهمال البيّنتين في مورد التداعي و التنازع، إلّا إذا كان النزاع في الأعيان الشخصية.

ج. الإيعاز إلى بعض التعارض الموجود بين الروايات و إليك سردها:

1- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن الرجل يأتي القوم فيدَّعي

داراً في أيديهم و يُقيم البيّنة و يقيم الذي في يده الدار، البيّنةَ أنّه ورثها عن أبيه و لا يدري كيف كان أمرها، قال عليه السَّلام: «أكثرهم بيّنة يُستحلف و تدفع إليه، و ذكر أنّ عليّاً عليه السَّلام أتاه قوم يختصمون في بغلة فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مِذْودهم و لم يبيعوا و لم يهبوا، (و أقام هؤلاء البيّنة أنّهم انتجوها على مِذْودهم لم يبيعوا و لم يهبوا) فقضى عليه السَّلام بها لأكثرهم بيّنة و استحلفهم». قال: فسألته حينئذ فقلت: أ رأيت إن كان الذي ادّعى الدار قال: إنّ أبي هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، و لم يقم الذي هو فيها بيّنة إلّا أنّه ورثها عن أبيه، قال: «إذا كان الأمر هكذا فهي للذي ادّعاها و أقام البيّنة عليها». «1»

ترى أنّ مورد الرواية هو الدار الشخصية و قد تعارضت فيها البيّنتان فأمر

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، و أكثر ما سيمرّ بك من الأحاديث فهو من هذا الكتاب، و من هذا الجزء و الباب، و لذلك نختصر غالباً بالاشارة إلى الباب و رقم الحديث فقط. و ما بين القوسين يختلف لفظاً عمّا في الوسائل.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 91

الإمام بالأخذ بأرجح البيّنتين في الموردين.

2- خبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «إنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين عليه السَّلام في دابّة في أيديهما و أقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده فاحلفهما علي عليه السَّلام فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلِف، فقضى بها للحالف فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و

أقاما البيّنة؟ فقال: أحلفهما فأيّهما حلفَ و نكل الآخر جعلتها للحالف فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين، قيل: فإن كانت في يد أحدهما و أقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هي في يده». «1»

إنّ الإمام حكم فيها بأحكام مختلفة حسب اختلاف الفروض، و لكن موضوع الجميع هو الدابّة التي هي من الأعيان الشخصية.

3- خبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السَّلام اختصم إليه رجلان في دابّة و كلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها فقضى بها للذي في يده و قال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين». «2»

فالرواية تحمل حكمين، فتارة تحكم بالأخذ بإحدى البيّنتين و أُخرى بكلّ واحدة منهما، و النزاع في الدابّة الشخصيّة.

4- خبر جابر: «إنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه في دابّة فأقام كلّ منهما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لمن هي في يده». «3»

فالنبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أمر بأخذ بيّنة الداخل عند التعارض و النزاع في عين شخصية.

5- خبر منصور، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: رجل في يده شاة فجاء رجل

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(3) المستدرك، ج 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5، رواه غوالي اللئالي، ج 3، ص 526، الحديث 31. و رواه في سنن البيهقي: 10/ 256.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 92

فادّعاها فأقام البيّنة العدول إنّها ولدت عنده و لم يهب و لم يبع، و جاء الذي

في يده بالبيّنة مثلهم عدول، إنّها ولدت عنده و لم يَبع و لم يَهب. فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «حقّها للمدّعي و لا أقبل من الّذي في يده بيّنة، لأنّ اللّه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي فإن كانت له بيّنة و إلّا فيمين الذي هو في يده هكذا أمر اللّه عزّ و جلّ». «1»

ترى أنّ الإمام حكم بتقديم بيّنة الخارج خلافاً لحديث جابر، و الّذي يهمّنا تعيين موضع النزاع و هو الشاة المعيّنة.

6- المرسل عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد يدّعيه الرجلان، أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلَت بيّنة كلّ واحد منهما و ليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، و إن كان في يدي أحدهما فإنّما البيّنة فيه على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه. «2»

فقد حكم الإمام هنا بأحكام ثلاثة حسب اختلاف الفروض، و موردها عين شخصيّة بقرينة كونها بيديهما أو بيد أحدهما.

7- الرضوي عليه السَّلام: «فإذا ادّعى رجل على رجل عقاراً أو حيواناً أو غيره و أقام بذلك بيّنة و أقام الذي في يده شاهدين فإنّ الحكم فيه أن يخرج الشي ء من يد مالكه إلى المدّعي لأنّ البيّنة عليه». «3» و سيوافيك ذيله برقم 14.

و ظهور الرواية في كون النزاع في عين شخصية غير خفي، و مثله الخبر التالي.

8- خبر تميم بن طرفة: إنّ رجلين ادّعيا بعيراً فأقام كلّ واحد منهما بيّنة فجعله أمير المؤمنين عليه السَّلام بينهما. «4»

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 14.

(2) النوري، مستدرك الوسائل: ج 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(3) النوري،

المستدرك: ج 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(4) الوسائل: ج 18، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 93

و هناك روايات تؤكّد بالقرعة، و سوف نحدّد موردها، و لكنّها بين خبر مجمل لا يحتج بإطلاقه و بين وارد في الأعيان الشخصية. و إليك ذلك القسم من الروايات و هي ثمان:

9- خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «كان علي عليه السَّلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود، عدلهم سواء و عددهم، أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين» إلى أن قال: ثمّ يجعل الحقّ للذي تصير عليه اليمين إذا حلف». «1»

الرواية ليست بصدد بيان موضوع القرعة حتّى يتمسك بإطلاقها، بل هي بصدد بيان أنّ من شرائط القرعة مساواة العدول عدالة و عدداً، و أمّا أنّ القرعة في الأعيان الشخصية أو العقود و الذمم فليس بصدد بيانها.

10 موثقة سماعة: أنّ رجلين اختصما إلى علي عليه السَّلام في دابّة فزعم كلّ واحد منهما انّها نتجت على مِذوده و أقام كلّ واحد منهما بيّنة سواءً في العدد فأقرع بينهما سهمين فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة ثمّ قال: «اللّهمّ ربّ السَّماوات السبع و ربّ الأرضيين السبع و ربّ العرش العظيم عالم الغيب و الشهادة الرّحمن الرّحيم أيّهما كان صاحب الدابة و هو أولى بها فأسألك أن يقرع و يخرج سهمه» فخرج سهم أحدهما فقضى له بها. «2»

و الرواية واردة في الدابّة و هي عين شخصية.

1- 1 رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شاهدين شهدا على أمر واحد و جاء آخران فشهدا على غير الذي

شهدا عليه و اختلفوا قال عليه السَّلام: «يقرع بينهم فأيّهم قرع، فعليه اليمين و هو أولى بالقضاء». «3»

و لا يغرّنك لفظ «على أمر واحد» فإنّه وارد على لسان الراوي لا الإمام عليه السَّلام،

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 12.

(3) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 94

و على كلّ تقدير ليس السائل و المسئول بصدد بيان هذا الجانب، و إنّما يريد السائل معرفة حلّ مشكلة المتعارضين فأشار الإمام إلى القرعة، و من يصار إليه اليمين و أمّا ما محلّها فهل هو الأعيان الشخصية أو يعمّ العقود و الذمم؟ فليس بصدد بيانه. و منها يظهر حال صحيح الحلبي التالي.

2- 1 صحيح الحلبي سئل أبو عبد اللّه عن رجلين شهدا على أمر و جاء آخران فشهدا على غير ذلك فاختلفوا قال: «يقرع بينهم فأيّهم قرع فعليه اليمين و هو أولى بالحقّ». «1» فالرواية بصدد بيان من يصار إليه اليمين.

3- 1 رواية زرارة عن أبي جعفر قال قلت له: رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، و جاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم، كلّهم شهدوا في موقف. قال عليه السَّلام: «أقرع بينهم ثمّ استحلف الّذين أصابهم القرع باللّه إنّهم يحلفون بالحقّ». «2»

و الظاهر أنّ الرجل كان ودعيّاً و النزاع في مقدار الدراهم المودوعة، فيرجع النزاع إلى الأعيان الشخصية.

4- 1 الرضوي عليه السَّلام: «فإن لم يكن الملك في يدي أحد و ادّعى فيه الخصمان جميعاً فكلّ من أقام عليه شاهدين فهو أحقّ به، فإن

أقام كلّ واحد منهما شاهدين فانّ أحقّ المدّعيين من عُدِّل شاهداه، فإن استوى الشهود في العدالة فأكثرهم شهوداً يحلف باللّه و يدفع إليه الشي ء». «3»

5- 1 خبر عبد اللّه بن سنان: قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «إنّ رجلين اختصما في دابّة إلى عليّ عليه السَّلام فزعم ... إلى آخر ما في موثّقة سماعة التي مرّت برقم (10) بتفاوت يسير، ثمّ قال: و كان أيضاً إذا اختصم إليه الخصمان في جارية فزعم

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 11.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 7.

(3) النوري، المستدرك، ج 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4 و قد مرّ صدر 5 برقم 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 95

أحدهما أنّه اشتراها و زعم الآخر أنّه أنتجها فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى به للذي انتجت عنده». «1»

و كون مورد الرواية عيناً شخصيّة لا يقبل الإنكار.

6- 1 مرسلة داود العطار عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان و جاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان فاعتدل الشهود و عدلوا. فقال عليه السَّلام: «يقرع بينهم فمن خرج سهمه فهو المحقّ و هو أولى بها». «2»

و هذه الروايات الثمان الواردة في العمل بالقرعة عند تعارض البيّنتين لا تتجاوز عن كون محلّها هو النزاع في الأعيان الشخصية.

ثمّ إنّ السيّد الطباطبائي قد سلّم أنّ عنوان المسألة في كلمات العلماء في تعارض البيّنتين هو النزاع في الأعيان و قال: و هو مورد غالب الأخبار إلّا أنّ الظاهر أنّ الحكم

في غير الأعيان أيضاً كذلك كما إذا تنازعا في دين خاص معيّن من جميع الجهات أو تنازعا في أنّ الموصي أوصى بمائة دينار مثلًا لزيد أو لعمرو أو تنازعا في منفعة ملك أو في حقّ من الحقوق كالتولية للوقف و حقّ الرهن و حقّ الخيار أو تنازعا في نكاح أو طلاق أو نحو ذلك لظهور الأخبار في المثالية كصحيحة الحلبي و خبر داود بن سرحان و خصوص بعضها في الدين كخبر زرارة و بعضها في الزوجيّة كخبر داود العطّار و اختصاص جملة منها بالأعيان من حيث المورد لا يقتضي اختصاص الحكم بها و إلّا فاللازم تخصيص كلّ بخصوصه من البقرة أو الدابّة أو الجارية أو نحو ذلك، فالحكم في الجميع واحد في العمل بالمرجّح و مع فقده فالقرعة ثمّ الحلف. «3»

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 15.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 8.

(3) السيّد الطباطبائي، الملحقات: 2/ 158.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 96

يلاحظ عليه: أنّ قياس النزاع في العقود و النسب و المواريث بالنزاع في الأعيان قياس ممنوع، و ما ادّعى من الإطلاق في الأخبار غير واضح.

أمّا صحيحة الحلبي فقد عرفت أنّها ليست في مقام البيان من حيث سعة الموضوع و ضيقه و إنّما هو بصدد بيان استخراج من يصار إليه الحلف، و منه يظهر حال خبر داود بن سرحان حرفاً بحرف، فلاحظ ما ذكرنا.

و أمّا خبر زرارة فمورده هو الودعي لا الدين و لا أقلّ أنّ الأوّل هو المحتمل مثل الدين.

و أمّا خبر داود العطار فالنزاع فيه في العين الخارجية و الزوجيّة المعيّنة.

ثمّ إنّ صاحب المستند قد اختار

ما اخترناه و لكنّه عالج التعارض في غير الأعيان برفض بيّنة المنكر و العمل ببيّنة المدّعي، قال: «إنّ جميع الأخبار المتضمّنة لسماع بيّنة المنكر أيضاً و مزاحمتها لبيّنة المدّعي كانت مخصوصة بالأعيان من الأموال فلا أثر لها في غيرها إلى أن قال: فمورد التعارض الواقع في غير الأعيان إن كان ممّا يكون أحدهما مدّعياً و الآخر منكراً تطرح بيّنة المنكر و يعمل بمقتضى بيّنة المدّعي». «1»

و لكن سيوافيك أنّ بيّنة المنكر كبيّنة المدّعي حجّة جنباً إلى جنب فمقتضى القاعدة تساقطهما و الرجوع إلى الضوابط القضائية.

الثالث: في بعض الروايات الشاذة:

إنّ في المقام روايات و قد عالج الإمام عليه السَّلام فيهما تعارض البيّنتين بشكل غير ما ورد من الأنحاء الخمسة من الأخذ بأرجح البيّنتين أو التنصيف أو الأخذ ببيّنة الداخل أو بيّنة الخارج، أو العمل بالقرعة، و إليك الروايتين الخارجتين عن ذلك

______________________________

(1) النراقي، المستند: 2/ 558.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 97

الإطار، و لكن جميعها ورد في إطار خاص و هو النزاع في الأعيان الشخصية.

7- 1 خبر السكوني عن الصادق عليه السَّلام عن أبيه عليه السَّلام عن آبائه عليهم السَّلام: «إنّ عليّاً عليه السَّلام قضى في رجلين ادّعيا بغلة فأقام أحدهما شاهدين و الآخر خمسة فقال عليه السَّلام: لصاحب الخمسة خمسة أسهم و لصاحب الشاهدين سهمين». «1» و المضمون مناف لما دلّ على الترجيح بالأكثرية فيطرح للإعراض إلّا عن أبي علي الإسكافي.

8- 1 ما عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام «في رجل ادّعى على امرأة أنّه تزوّجها بوليّ و شهود و أنكرت المرأة ذلك، فأقامت أُخت هذه المرأة على رجل آخر البيّنة أنّه تزوّجها بوليّ و شهود و لم يوقتا وقتاً، إنّ البيّنة بيّنة

الزوج، و لا تقبل بيّنة المرأة لأنّ الزوج قد استحقّ بضع هذه المرأة و تريد أُختها فساد النكاح فلا تصدق و لا تقبل بيّنتها إلّا بوقت قبل وقتها أو دخول بها». «2»

الرابع: في وجود التعارض الصريح بينها
اشارة

لا يخفى وجود التعارض بين الروايات و نشير إلى موردين:

1- فيما إذا كانت العين بيدهما

مقتضى معتبرة إسحاق أنّه يقضي للحالف، مع أنّ مقتضى رواية ابن طرفة و المرسل أنّها بينهما.

2- فيما إذا كانت العين بيد أحدهما

ففي حديث إسحاق و خبر جابر و غياث أنّه يقضي لصاحب اليد مع أنّ

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 10.

(2) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 13.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 98

مقتضى خبر منصور و المرسل و الرضوي الأوّل أنّه يقضى لغيره. و أمّا الاختلاف من حيث الإطلاق و التقييد فحدِّث عنه و لا حرج.

و على كلّ تقدير، الروايات الواردة في المقام مشوشة جدّاً كفتاوى العلماء، غير أنّك بفضله سبحانه تقف على رفع التعارض عند دراسة الصور.

الخامس: في صور المسألة

إنّ صور المسألة أربع لأنّ العين إمّا أن تكون في يدي المتداعيين، أو بيد أحدهما، أو بيد ثالث، أو لا يد عليها. و أقام كلّ واحد البيّنة. و الحقّ أنّ المسألة من عويصات الفنّ و قد ألّف بعضهم رسالة خاصّة و المقصود من التعارض ما إذا كانت البيّنتان على وجه لا يمكن الجمع بين مضمونيهما كأن تشهد إحداهما أنّ العين ملك لزيد، و الأُخرى على أنّها ملك لعمرو كذلك، بخلاف ما إذا شهدت الأُولى بأنّها كانت ملكاً لزيد أمس، و الثانية بأنّها ملك لعمرو الآن لعدم المنافاة في المضمون بعد كون الزمان متغايراً

إذا عرفت ذلك فلنشرع في بيان أحكام الصور:
الصورة الأُولى: إذا كانت العين بيدهما و لكلّ بيّنة
اشارة

ذهب المشهور من فقهائنا إلى أنّه يقضي بها بينهما نصفين، من دون إقراع و لا ترجيح بكثرة العدالة و العدد. قال ابن فهد: و أكثر المتأخرين لم يذكروا هذين المرجّحين إلّا في القسم الثالث أعني: خروج أيديهما. «1»

و قال في المسالك: إذا تعارضت البيّنتان و كانت العين في يدهما لا إشكال في الحكم بينهما نصفين لكن اختلف في سببه. «2»

______________________________

(1) ابن فهد الحلي: المهذّب: 4/ 493.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 443.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 99

و قال في الجواهر في شرح قول المحقّق: «يقضي بينهما نصفين» من دون إقراع و لا ملاحظة ترجيح بأعدلية أو أكثرية بلا خلاف أجده بين من تأخّر عن القديمين: الحسن و أبي علي «1» بل صرّح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجّحات الآتية في غير هذه الصورة. «2»

و قال السيّد الطباطبائي: الأشهر التنصيف سواء تفاوتت البيّنتان عدالة و عدداً أم اختلفتا و عن المفاتيح بلا خلاف و عن بعضهم الرجوع إلى المرجّحات من الأكثرية أو الأعدلية و عن

بعضهم: الحاجة إلى الحلف أيضاً. «3»

هذا هو القول المشهور و قد خالفه القديمان و الصدوق و المفيد.

و هؤلاء خالفوا إمّا بالرجوع إلى القرعة، كما هو الظاهر من العمّاني أو بالرجوع إلى المرجّح كما هو الظاهر من الثلاثة الأخيرة و إليك نصوصهم:

1- قال ابن أبي عقيل بالقرعة بينهما و هي لكلّ أمر مشكل لأنّ التنصيف تكذيب للبيّنتين. «4»

2- قال ابن الجنيد: إذا ساوت البيّنتان من حيث الوصف (العدالة) و العدد يطلب من المدّعيين فإن حلف أحدهما استحقّ الجميع و إن حلفا اقتسماها و إذا اختلفتا من حيث العدالة و الأكثرية يقرع فمن أخرجته القرعة حلف و أخذ العين. 5

3- و قال الصدوق: فإن أقام كلّ واحد منهما البيّنة فإنّ أحقّ المدّعيين من

______________________________

(1) كان عليه أن يضيف إليهما الصدوق و المفيد كما سيظهر.

(2) الجواهر: 40/ 410.

(3) السيّد الطباطبائي: ملحقات العروة: 2/ 156155.

(4) 4 و 5 مختلف الشيعة، كتاب القضاء، الفصل الثامن، المسألة الأُولى، 141، و قد لخّصنا عبارة القديمين.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 100

عدل شاهداه و إن استوى الشهود في العدالة فأكثرهم شهوداً. «1»

4- و قال المفيد: إذا تنازع نفسان في شي ء إلى أن قال: و إن رجّح بعضهم على بعض في العدالة حكم لأعدلهما شهوداً ... و إن كان لأحدهما شهود أكثر عدداً حكم لأكثرهما شهوداً. «2»

و ليعلم أنّ استنباط المخالفة من كلامهم مبنيّ على الأخذ بإطلاق كلامهم الشامل للصورة الأُولى التي نحن بصدد بيان حكمها و إلّا فلا تظهر منهم المخالفة و لعلّ كلامهم في غير هذه الصورة.

الاستدلال على قول المشهور
اشارة

إنّ الاعتماد على هذا القول يتوقّف على إثبات أُمور:

الأوّل: ما هو السبب للحكم بالتنصيف؟

الثاني: عدم الرجوع إلى سائر المرجّحات كالأكثرية

عدداً أو عدالة أو القرعة و سائر المرجّحات التي سترد عليك عند البحث عن الصورة الثانية من كون الشهادة على الملك المطلق أو السبب.

الثالث: عدم الحاجة إلى اليمين.

و إليك بيان الأُمور الثلاثة:

أمّا الأوّل: [ما هو السبب للحكم بالتنصيف؟]

فالحكم بالتنصيف لأجل أحد الأُمور التالية:

1- تساقط البيّنتين بسبب التساوي بقي الحكم كما لو لم تكن هناك بيّنة و هذا هو الأقوى عندي كما سيظهر آخر البحث.

______________________________

(1) الصدوق، المقنع، 133، باب القضاء و الأحكام.

(2) المفيد، المقنعة، 114، باب كيفية سماع القضاء، البينات.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 101

2 حجيّة بيّنة الداخل دون بيّنة الخارج أو ترجيح بيّنة الداخل على بيّنة الخارج باليد.

3- حجّية بيّنة الخارج دون بيّنة الداخل، لأنّ البيّنة للمدّعي لا للمنكر، و كلّ منهما مدّع بالنسبة إلى ما في يد الآخر فيقضي لكلّ بما في يد الآخر أخذاً ببيّنة المدّعي و طرحاً ببيّنة المنكر.

و النتيجة على الجميع و إن كانت واحدة، لكن الثمرة تظهر في اليمين فلو قلنا بالأوّل أي تساقط البيّنتين، فلا بدّ لكلّ من يقضى له، من اليمين، لأنّ الدعوى لا تحسم إلّا بالبيّنة أو باليمين فإذا طرحت الأُولى فلا محيص عن الثاني، فيحلف كلّ على الآخر. و هذا بخلاف الأخيرين لأنّ القضاء عليهما بالبيّنة، إمّا ترجيحاً لبيّنة الداخل على الخارج أي ترجيحاً لاحدى البيّنتين على الأُخرى، أو طرحاً لبيّنة الداخل بناء على عدم حجّية بيّنة الداخل (المنكر) في مقابل حجّية الخارج (المدّعي).

و قد ذكر المحقّق الأردبيلي مباني التنصيف في هذه الصورة و قال: لا إشكال حينئذ في التقسيم بينهما نصفان، إنّما الإشكال في سببه فيحتمل أن يكون سببه تعارضَ البيّنات و تساقطها فيكون (لكلِّ واحد) ما كان في يديهما و لا بيّنة، فيحلف

كلّ واحد للآخر بالنفي، و يدفع خصمه عمّا في يده، فيبقى ذلك له بيمينه.

و يحتمل أن يكون السبب تقديم بيّنة ذي اليد، فيرجّح كلّ واحد على الآخر بما في يده بسبب البيّنة و اليد فلا يمين.

و يحتمل أن يكون كلّ واحد خارجاً بالنسبة إلى ما في يد الآخر و معه البيّنة فيكون القول قوله، مثل من كان له بيّنة على ذي اليد و لا يمين حينئذ أيضاً و ظاهر كلامهم و هو الظاهر أيضاً مع قطع النظر عن الأخبار عدم اليمين و كون الحكم مستنداً إلى التساوي إذ لكلّ واحد يد و بيّنة فالعقل يحكم بالتساوي لعدم الترجيح و لا يمين، فإنّ اليمين في عرف الشرع، إنّما هي مع عدم البيّنة و بدونها

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 102

نادرة في صورة مخصوصة و ليس هذه منها. «1»

و مع ذلك كلّه فالظاهر أنّ السبب هو تساقط البيّنتين، لا ترجيح بيّنة الداخل أو تقديم الخارج على الآخر و ذلك لوجهين:

1- إنّ يد كلّ منهما على الكلّ لا على النصف، فما دلّ على تقديم بيّنة الخارج أو الداخل فيما إذا كان لأحدهما يد دون الآخر لا في مثل المقام الذي لكلّ يد على الجميع غاية الأمر يد غير مستقلّة أي لها معارض، و على ضوء هذا، فبيّنة كلّ من المدّعيين بالنسبة إلى العين بيّنة الداخل.

2- إنّ كلًّا من البيّنتين يشهد على كون المجموع لصاحبها، فالعمل بها في النصف ليس عملًا ببيّنة الداخل أو الخارج، و هذا يكشف عن أنّ السبب، هو تساقط البيّنتين و رجوع الصورة إلى ما إذا لم يكن لأحدهما بيّنة، التي تسالم القول فيها بالحكم بالتنصيف. كما حقق في

محلّه

هذا كلّه حسب القواعد، و تدلّ على الحكم بالتنصيف عدّة روايات:

1- إطلاق صحيح عبد اللّه بن المغيرة، عن غير واحد من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، و قال الآخر: هما بيني و بينك فقال: «أمّا الّذي قال هما بيني و بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، و أنّه لصاحبه و يقسم الآخر بينهما». «2» و كون الدرهمين تحت يدهما واضح و إطلاقه يعمّ ما إذا كان لهما بيّنة أو لم يكن خصوصاً لو قلنا بأنّ السبب هو سقوط البيّنتين فتكون الصورة داخلة تحت الخبر حقيقة أو حكماً.

2- إطلاق مرسل محمّد بن أبي حمزة عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام نحوه. 3

______________________________

(1) المحقق الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 228. و ما بين القوسين (لكلّ واحد) إضافة منّا للايضاح.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من أبواب كتاب الصلح، الحديث 1 و اوعز إلى المرسل في ذيل الحديث.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 103

3- صريح رواية ابن طرفة: إنّ رجلين ادّعيا بعيراً فأقام كلّ منهما بيّنة فجعله علي عليه السَّلام بينهما. «1»

4- و مفهوم خبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السَّلام اختصم إليه رجلان في دابّة و كلاهما أقاما البيّنة أنّه انتجها فقضى للذي في يده و قال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين». 2

وجه الاستدلال: إنّ لقوله: «لو لم تكن في يده» حالتين، أن لا يكون لهما يد أبداً، أو كان لكليهما يد. كما هو المفروض في المقام.

5- المرسل عن أمير المؤمنين عليه السَّلام

أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد يدّعيه الرجلان، أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما و ليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان و إن كان في يدي أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه. 3

6- رواية السكوني عن الصادق عن أبيه عليهما السَّلام في رجل استودع رجلًا دينارين فاستودعه آخر ديناراً فضاع دينار منها، قال: «يعطي صاحب الدينارين ديناراً و يقسّم الآخر بينهما نصفين. 4 وجه الاستدلال أنّ يد الودعي، يد المودعين فكأنَّ لكلّ واحد يداً على الدينار بضميمة ترك الاستفصال عن إقامة البيّنة و عدمها.

و هذه الروايات الست و إن كانت بعضها خاضعة للنقاش من إنكار الإطلاق، لكن المجموع من حيث المجموع كاف في إثبات الحكم بالتنصيف.

و قال في الجواهر 5 مضافاً إلى إطلاق النبوي و لو كان مراده من النبوي ما

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4، 3.

(2) 3 الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4، 3.

(3) 4 الوسائل: الجزء 13، الباب 12 من أحكام الصلح، الحديث 1.

(4) 5 الجواهر: 40/ 413.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 104

نقله في ص 421، و مرّ برقم 6 و هو المروي في السنن «1» و الخلاف «2» و المستدرك «3». فهو راجع إلى الصورة الثانية و إن كان مراده ما نقله في صفحة 402 فالمفروض فيه عدم البيّنة لهما.

و أمّا الثاني أي عدم العبرة بالمرجّح

لانّ الترجيح فرع وجود الحجّتين، و تساويهما، فعلى السبب الأوّل لا حجّة في البين أصلًا و على الثالث الحجّة منحصرة ببيّنة الخارج و على الثاني

و إن كان كلّ حجة لكن لا تساوي بينهما، لكون اليد مرجّحاً حتّى يتوقّف اختيار أحدهما على المرجّح.

إلى هنا ظهر أنّ القول المشهور مبني على أحد هذه الأسباب الثلاثة و أنّ عدم الرجوع إلى المرجّحات لأجل عدم الموضوع له.

أضف إلى ذلك، أنّ بعض ما دلّ على التنصيف بلا مرجّح، يحكى عن الإمام في مقام القضاء فلو كان الرجوع إلى المرجّح أمراً لازماً يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و إنّما يجوز التأخير إذا كان الإمام في مقام بيان الحكم، لا في مقام تحقيقه و تجسيده في الخارج.

و ما يظهر من إطلاق بعض النصوص السابقة الدالّة على الترجيح بكثرة العدالة، و العدد الشامل لهذه الصورة بإطلاقه لا بنصّه أو إطلاق الأدلّة الدالة على الترجيح بالقرعة الشامل لهذه الصورة، محجوج بالنصوص المتعاضدة من دون ملاحظة شي ء من هذه المرجّحات، فما يظهر من السيّد الطباطبائي من الرجوع إلى القرعة في هذه الصورة بل في عامّة الصور، ممّا لا يمكن المساعدة معه و إنّما انفرد هو بهذه الفتوى بين العلماء على أنّ الظاهر من المرسل «4» من أمير المؤمنين و الرضوي الثاني 5 اختصاص القرعة بما ليس في أيديهما و هو الذي استظهره السيّد

______________________________

(1) البيهقي، السنن: 10/ 255

(2) الطوسي، الخلاف: 3/ 352، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 2.

(3) النوري، المستدرك: الجزء 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.

(4) 4 و 5 مرّا برقم 6 و 14.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 105

الطباطبائي أيضاً في ملحقاته.

و أمّا الثالث: أي عدم اليمين

فظاهر الروايات أنّ الحكم كذلك من غير يمين و لعلّه لأجل أنّ الحكم القضائي في المقام مستند إلى البيّنة، إمّا ترجيحاً كما في السبب الثاني أو

انحصاراً كما في السبب الثالث على ما عرفت على خلاف المختار.

لكن مقتضى معتبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في نفس هذه الصورة: «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين عليه السَّلام في دابّة في أيديهما، و أقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده فأحلفهما عليّ عليه السَّلام فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلف فقضى بها للحالف» «1» هو القضاء للحالف مكان الحكم بالتنصيف إلّا أن يحلفا و في سنده رجلان:

1- غياث بن كلوب قال الشيخ في العدّة: إنّ العصابة عملت برواياته فيما لم ينكر، و لم يكن عندهم خلافه. «2» و قد عرفت وجود المخالف في المورد من الروايات.

2- الخشاب و هو لقب عدّة، منهم: الحجاج بن رفاعة و أحمد بن عيسى، و التواب بن الحسن، و الحسن بن موسى، و عمران بن موسى و ظاهر نقد الرجال للتفريشي انصرافه إلى الحسن بن موسى و لم يثبت. «3» و لعلّ المراد هو أحمد بن عيسى بن جعفر العلوي الذي وثقه الشيخ في رجاله. «4» أو الحسن بن موسى الذي هو من وجوه الحديث و لعلّ الثاني هو المتعيّن كما سيوافيك.

و مع ذلك فالاعتماد على هذه الرواية، مع وجود المخالف المتضافر

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(2) الطوسي، العدّة: 1/ 56.

(3) المامقاني، تنقيح المقال: 3/ 62.

(4) الطوسي، الرجال: 439.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 106

و إعراض المشهور، و اشتماله على حكم شاذ في ذيله كما سيوافيك في الصورة الثالثة (إذا لم تكن يد واحد عليها) مشكل. و لأجله لم يعتمد المشهور عليها. و حكموا بالتنصيف بلا يمين و قال في

الجواهر: إلّا أنّه خبر واحد، و في سنده ما فيه، و المشهور نقلًا و تحصيلًا على خلافه فلا يصلح تقييداً لما دلّ من النصوص على التنصيف بدونه.

و لكن هناك شي ء و هو أنّ الحكم القضائي لا بدّ أن يستند إلى البيّنة أو اليمين و بما أنّك عرفت، سقوط البيّنتين و أنّ التنصيف ليس عملًا بهما، فحسم مادة النزاع يتوقّف على اليمين إلّا أن يكون الحكم بالتنصيف حكماً غير قضائي بل حكماً شرعياً ظاهرياً على التنصيف فليس التنصيف إلّا تصالحاً بين المتداعيين و إن كان الحكم الواقعي محفوظاً في ظرفه فالأحوط لو لم يكن الأقوى الحكم بالتنصيف كما يقوله المشهور لكن مع التحالف و به تقيّد إطلاق سائر الروايات كما هو الحال إذا نكلا، نعم لو حلف واحد منهما دون الآخر يختصّ به.

هذا و قد اختار السيّد الأُستاذ في هذه الصورة قول المحقق و قال: و إن كان في يدهما فيحكم بالتنصيف بمقتضى بيّنة الخارج و عدم اعتبار بيّنة الداخل. «1»

ثمّ إنّ المحقّق الأردبيلي اختار في هذه الصورة التنصيف أوّلًا ثمّ عدل إلى الترجيح بالحكم للأعدل و الأكثر، و مع كون أحدهما أعدل و الآخر أكثر، احتمالات ثالثها القرعة و اليمين كما في صورة اليمين للجمع بين الأخبار فإنّ بعضها مطلقة و بعضها مقيّدة فتحمل الأُولى على الثانية. «2»

______________________________

(1) الإمام الخميني: تحرير الوسيلة: 2/ 433، المسألة 8.

(2) المحقق الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 225 و 232.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 107

الصورة الثانية: إذا كانت العين بيد واحد منهما و لكلّ بيّنة
اشارة

إنّ لهذه الصورة حالات ذكرها المحقّق في الشرائع و نقدّم التعرّف عليها ثمّ نبحث عن حكم كلّ حالة مستقلًا:

1- إذا شهدت البيّنتان بالملك المطلق.

2- إذا شهدت البيّنتان بالسبب كالنتاج في

الحيوان.

3- إذا شهدت بيّنة ذي اليد بالسبب و بيّنة الآخر بالملك المطلق.

4- عكس الحالة الثالثة بأن شهدت بيّنة ذي اليد بالملك المطلق و بيّنة الآخر على السبب.

و إليك البحث في كلّ واحدة.

إنّ في هذه الصورة حسب اختلاف الحالات الأربع أقوال كثيرة أنهاها المحقّق النراقي في المستند إلى تسعة. «1» فكثرة الأقوال راجعة إلى اختلاف الحالات.

و ربّما يوجد في المسألة أقوال أُخر و تردّد جماعة في المسألة أيضاً كما في الدروس و اللمعة و المسالك و الكفاية. «2»

امّا الحالة الأُولى [إذا شهدت البيّنتان بالملك المطلق.]
اشارة

ففيها أقوال أربعة:

1- تقديم بيّنة الخارج

قال المحقق: يقضي بها للخارج دون المتشبّث، أي يحتجّ ببيّنة الخارج و هي بيّنة غير ذي اليد و تترك بيّنة الداخل و هي بيّنة ذي اليد و هو خيرة المحقق في

______________________________

(1) النراقي، المستند: 2/ 555553.

(2) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 155.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 108

الشرائع و ألمح إليها الشيخ الطوسي في الخلاف في آخر كلامه. قال: و قال أحمد بن حنبل لا أسمع بيّنة صاحب اليد بحال في أيّ مكان كان، و قد روى ذلك أصحابنا أيضاً. و تحقيق الخلاف مع أبي حنيفة هل تسمع بيّنة الداخل أم لا، عند الشافعي تسمع، و عنده لا تسمع و الفقهاء يقولون بيّنة الداخل أولى و هذه عبارة فاسدة إلى أن قال: و هذه المسألة ملقّبة به بيّنة الداخل و الخارج فانّ الداخل من كانت يده على الملك و الخارج من لا يد له عليه. «1»

و قال في المبسوط: إذا تنازعا داراً يد أحدهما عليها، فأقام من هي في يديه البيّنةَ أنّها ملكه، و أقام الخارج البيّنةَ أنّها ملكه و أنّه أودعها إيّاها أو آجرها فالبيّنة بيّنة الخارج لأنّ اليد له فإنّ بيّنته أثبتت أنّ يد من هي في يديه نائبة مناب يد الخارج و قائمة مقامه، فاليد له فكانت بيّنة صاحب اليد أولى كما لو أقام الخارج البيّنة أنّها له و أنّه غصبه إيّاها كان عليه ردّها و كذلك هاهنا. «2»

و قال ابن إدريس: إذا تنازعا عيناً و هي في يد أحدهما و أقام كلّ

______________________________

(1) الخلاف، ج 3/ 353، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 2.

(2) المبسوط: 8/ 299 و لا تظن التهافت بين قوله: «فالبيّنة،

بيّنة الخارج» و قوله: «لأنّ اليد له» لأنّ كون صاحب بيّنة الخارج ذا يد حسب ما قرّر، تنزيلي لا حقيقي كما يشير إليه قوله: «فإنّ بيّنته أثبتت».

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 109

واحد منهما بيّنة بما يدّعيه من الملكيّة، انتزعت العين من يد الداخل و اعطيت الخارج، و كانت بيّنة الخارج أولى، و هي المسموعة سواء أشهدت بيّنة الداخل بالملك بالإطلاق أو بالأسباب بقديمه أو بحديثه كيفما دارت القصّة فإنّ بيّنة الخارج أولى على الصحيح بالمذهب و أقوال أصحابنا و لقوله عليه السَّلام: المجمع عليه من الفريقين المخالف و المؤالف الملتقى عند الجميع بالقبول و هو «البيّنة على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه»، فقد جعل عليه السَّلام البيّنة في جنبة المدّعي بغير خلاف «1».

و قال الشهيد الثاني: إذا كانت العين المتنازع فيها في يد أحدهما و أقام كلّ واحد منهما بيّنة ففي ترجيح أيّهما أقوال أحدها ترجيح الخارج مطلقاً سواء أشهد بالملك المطلق أم المقيّد بالسبب بأن شهدت إحداهما بالملك المطلق و الأُخرى بالسبب، ذهب إلى ذلك الصدوقان و سلّار و ابن زهرة و ابن إدريس و الشيخ في موضع من الخلاف. «2»

و لنقتصر بهذا المقدار من أصحاب هذا القول.

استدلّ لهذا القول بوجوه:

1- المرسل عن أمير المؤمنين عليه السَّلام في البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد يدّعيه الرجلان: أنّهما يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ منهما و ليس في أيديهما. فأمّا إن كان في أيديهما فهو نصفان. و إن كانت في يد أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعي و اليمين على المدّعى عليه. «3»

و محل الاستشهاد ذيله أعني قوله: «و إن كانت في يد أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعي» و

مورده إذا كان لكلّ واحد من ذي اليد و غيره بيّنة لأنّ السؤال عن البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد، فقد أجاب الإمام بثلاثة أجوبة على ثلاث صور: 1 الإقراع إذا لم يكن في أيديهما و عدلت بيّنة كلّ منهما. 2 التنصيف إذا كان في أيديهما. 3 تقديم بيّنة المدّعي إذا كانت في يد أحدهما. فلا معنى لحمل الذيل على ما إذا كانت البيّنة لخصوص المدّعي و على أيّ حال فالرواية مرسلة تصلح للتأييد و الاعتضاد.

2- خبر محمّد بن حفص «4» عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد

______________________________

(1) ابن إدريس، السرائر: 2/ 168.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 434.

(3) النوري، مستدرك الوسائل: 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(4) و محمّد بن حفص بن عمر وكيل الناحية الثقة غير محمّد بن حفص الراوي عن منصور بن حازم إذ هما يختلفان طبقة فلا يمكن لوكيل الناحية المقدّسة الرواية عن الإمام الصادق عليه السَّلام بواسطة فرد كمنصور بن حازم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 110

اللّه عليه السَّلام: رجل في يده شاة فادعاها فأقام البيّنة العدول انّها ولدت عنده و لم يهب و لم يبع و جاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول انّها ولدت عنده لم يبع و لم يهب فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «حقّها للمدّعي و لا أقبل من الذي في يده بيّنة لانّ اللّه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة و إلّا فيمين الذي هو في يده. هكذا أمر اللّه عزّ و جل». «1»

و دلالة الحديث لا غبار عليه إلّا أن يقال أنّه لا صلة له بالحالة

الأُولى لأنّ البيّنتين شهدتا بالسبب حيث قالوا انّها ولدت عنده و هو خلاف المفروض أعني الشهادة على الملك المطلق و إنّما يصحّ به الاستدلال على الصور الآتية اللّهمّ إلّا إذا قلنا بما قاله ابن إدريس من أنّ التفصيل بين الشهادة بالملكية و الشهادة بالسبب غير مؤثر و إنّ هذه التفاصيل من فقهاء العامة كما يظهر من الخلاف و سيوافيك حقّ المقال فيها عند دراسة القول الخامس و على أيّ حال فالرواية ضعيفة.

3- الحديث النبويّ: «البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر» و قد قرر دلالته ابن إدريس في كلامه كما مرّ و قال الشهيد الثاني: وجه الدلالة انّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم جعل لكلّ واحد منها حجّة فكما لا يمين على المدّعي، لا بيّنة للمدّعى عليه، و التفصيل يقطع الشركة و في هامش المسالك يقول: لانّ قوله عليه السَّلام يدل على انّ كلّ واحد من المدّعي و المنكر مخصوص بشي ء و ليس للمنكر شركة مع المدّعي في البيّنة. و فيه بحث يظهر بالتأمّل الصادق. «2»

و قد أشار صاحب الجواهر إلى وجه التأمل و قال: ضرورة عدم دلالته على أزيد من استحقاق المدّعي على المنكر اليمينَ دون البيّنة بخلاف المنكر، فانّ له على المدّعي البيّنة، و هو غير (عدم) قبول البيّنة من المنكر و لو في الجملة، المستفاد

______________________________

(1) الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 14.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 434 قسم الهامش.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 111

مما تسمعه من نصوص الباب و فتاوى الأصحاب. «1»

و حاصل النظر انّ مورد النص أو المتيقن هو ما إذا كان للمدّعي بيّنة دون الآخر و أمّا

إذا كانت لهما بيّنة فليس الحديث ناظراً إلى ردّ بيّنة المنكر. و سيأتي توضيحه عند نقل القول الثاني.

4- ما ورد في الفقه الرضوي: «فإذا ادّعى رجل على رجل عقاراً أو حيواناً أو غيره، و أقام بذلك بيّنة، و أقام الّذي في يده شاهدين فانّ الحكم فيه أن يخرج الشي ء من يد مالكه إلى المدّعي، لانّ البيّنة عليه». «2»

و الفقه الرضوي يصلح لأن يكون مؤيّداً إذا قام على الحكم دليل صالح قابل للاعتماد. و قد عرفت عدم قيامه.

إلى هنا تبيّن أنّه ليس لهذا القول دليل يعتمد عليه فمن مرسل يرويه المحدث النوري في مستدركه، إلى ضعيف في سنده، كمحمّد بن حفص، إلى حديث صحيح كالنبوي المجمع عليه لكنّه يفقد الدلالة، إلى ما يصلح للتأييد، لا للاحتجاج كالرضويّ و مع ذلك فإنّ هذا القول خيرة أكثر الفقهاء و السيّد الأُستاذ في تحريره.

2- تقديم بيّنة الداخل
اشارة

و قد اختار الشيخ في الخلاف هذا القول و قال: إذا ادّعيا ملكاً مطلقاً و يد أحدهما على العين كانت بيّنته أولى و كذلك إذا أضافاه إلى سبب، فإن ادّعى صاحب اليد الملك مطلقاً و الخارج أضافه إلى سبب كانت بيّنة الخارج أولى و به قال الشافعي «3» و قد استدل لهذا القول بوجوه:

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 417. و لعلّه سقط لفظ «العدم».

(2) النوري، مستدرك الوسائل: الجزء 17، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(3) الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، 353، المسألة 2 و قد تقدّم أنّ الشيخ أفتى بخلافه.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 112

منها: رواية جابر و قد استدلّ بها الشيخ في الخلاف فقال: إنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم

في ناقة فقال: كلّ واحد منهما نتجت هذه الناقة عندي و أقام كلّ منهما بيّنة فقضى بها رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم للذي هي في يديه. «1»

و يظهر من سنن البيهقي أنّ هذا الرأي كان رائجاً أيّام قضاء شريح حيث نقل بسنده أنّ رجلين اختصما إلى شريح في دابّة فأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها له و أنّه انتجها فقال شريح: هي للذي في يديه، النتاج أحقّ من العارف. «2»

و لكن الاستدلال برواية جابر يرجع إلى الصور الآتية، أعني الشهادة بسبب الملك و المفروض في المقام هو الشهادة على أصل الملك إلّا أن يقال بعدم الفرق بين الصور، و أنّ هذه التفاصيل، راجعة إلى فقهاء العامّة و القيد ورد في السؤال دون كلام النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.

و منها: معتبرة إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين في دابّة في أيديهما و أقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، حلّفهما عليّ فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلف فقضى بها للحالف منهما.

فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة؟ فقال: أحلِّفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين.

قيل: فإن كانت في يد أحدهما و أقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هي في يده». «3»

و محلّ الاستشهاد هو السؤال الثالث، و أمّا السند ففيه غياث بن كلوب و هو ممن عملت العصابة برواياته فيما لم ينكر و لم يكن عندهم خلافه. «4»

______________________________

في تلك المسألة و لا يظهر ما هو المختار عنده

(1) نفس المصدر.

(2) البيهقي، السنن: 10/ 256 و

ما رواه الشيخ عن جابر في الخلاف يختلف لفظاً مع ما نقلناه عن السنن.

(3) مرّ برقم 2.

(4) الطوسي، عدة الأُصول: 1/ 56.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 113

و إسحاق بن عمّار ثقة و قد وصفه الشيخ بها في الفهرست. «1»

و الخشاب و هو الحسن بن موسى الخشاب قال النجاشي من وجوه أصحابنا مشهور كثير العلم و الحديث. «2»

و منها: رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «إنّ أمير المؤمنين اختصم إليه رجلان في دابة و كلاهما أقاما البيّنة أنّه انتجها فقضى بها للذي في يده». «3»

و الرواية معتبرة و أمّا غياث بن إبراهيم التميمي الأسدي فقد وثّقه النجاشي و لكن مورد الرواية فيما إذا شهد على السبب مع أنّ البحث فيما إذا شهدا على الملك المطلق. و سيوافيك عدم الخصوصية له. و ظاهر إطلاق رواية غياث عدم الحاجة إلى الحلف فيقيّد بما ورد في معتبرة إسحاق فتكون النتيجة هو أنّ العين لذي اليد مع يمينه.

فإذا كان المعتمد هو رواية ابن عمّار فيقيد بها إطلاق رواية «غياث» حيث لم يذكر فيها الحلف.

القضاء بين القولين:

إذا دار الأمر بين الأخذ بين القولين، فالقول الثاني، أحقّ بالأخذ لوجود حديثين معتبرين كرواية إسحاق بن عمّار و غياث بن إبراهيم، و إن كانت الأُولى تشمل على حكم شاذ كما سيوافيك في الصور الآتية فلا يجوز العدول عنهما، بالروايات الضعاف، كما عرفت، و جبران ضعفها بعمل المشهور، لا يجعلها عدلًا للروايات المعتبرة على أنّ فتوى المشهور غير واضحة و المسألة مشوّشة جدّاً من حيث الفتوى و الحاصل أنّ المرسل عن علي عليه السَّلام، و خبر منصور بن حازم

______________________________

(1) الطوسي، الفهرست: 39.

(2) النجاشي: الرجال، برقم

84.

(3) مرّ برقم 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 114

و الموجود في الفقه الرضوي، لا تعادل صحيح إسحاق بن عمّار، و معتبر غياث بن إبراهيم.

فلم يبق في المقام إلّا الاستناد بالنبوي في مدلوله السلبي و هو عدم حجّية بيّنة المنكر و لكن كونه حاملًا لهذا المعنى السلبي، غير واضح جدّاً فإنّ المتبادر منه بيان الوظيفة الأوّلية للمدّعي و المنكر، و إلّا فلا مانع من سماع البيّنة للمنكر أيضاً، كما أنّ للمدّعي اليمين المردودة، و اليمين الذي هي جزء البيّنة، و اليمين الاستظهاري و أيضاً يمكن أن يقال: القدر المعلوم من الحديث أنّه لا يُلْزم المنكر بالبيّنة و إنّما يلزم باليمين لا أنّه لا تقبل من البيّنة. «1»

أضف إليه أنّه كيف يمكن نفي حجيّة بيّنة المنكر مع دلالة بعض الروايات على صحّة الاحتجاج بها؟ نظير:

1- صحيح حمّاد بن عثمان قال: بينما موسى بن عيسى في داره التي في المسعى، يشرف على المسعى إذ رأى أبا الحسن موسى عليه السَّلام مقبلًا من المروة، على بغلة فأمر ابن هياج رجلًا من همدان منقطعاً إليه أن يتعلّق بلجامه و يدّعي البغلة فأتاه فتعلّق باللجام و ادّعى البغلة، فثنّى أبو الحسن رجله، و نزل عنها و قال لغلمانه: «خذوا سرجها و ادفعوا إليه» فقال: و السرج أيضاً لي فقال: «كذبت عندنا البيّنة بأنّه سرج محمّد بن علي و أمّا البغلة فأنا اشتريناها منذ قريب و أنت أعلم و ما قلت». «2» فإنّ بيّنة الإمام على أنّ السرج له، بيّنة المنكر.

2- ما رواه حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قال له رجل إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد

أنّه له قال: «نعم». «3» و من المعلوم أنّ المقصود الشهادة، في وقت النزاع، في غيره.

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 154.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 115

و لعلّ في صحيح حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه في حديث فدك «1» إشعاراً بذلك حيث إنّ الإمام اعترض على أبي بكر بأنّه يفرق بينه و بين الناس فعند ما يكون الإمام مدّعياً و غيره منكراً، يطلب منه البيّنة و عند ما يكون الإمام منكراً و غيره مدّعياً، يطلب منه البيّنة أيضاً، فما هو الوجه في هذا التفريق، و الإمام يركّز على بطلان التفريق و لو كان بيّنته المنكر، غير مقبول مطلقاً، لكان هو أولى بالإنكار مع أنّ الإمام لم ينكر عليه و إنّما أنكر، على التفريق.

فهذه الروايات تؤكّد على حجّية بيّنة المنكر كبيّنة المدّعي، أضف إلى ذلك إطلاقات أدلّة البيّنة، بلا تقييد بالمدّعي. بل يمكن استفادة حجّيته من رواية أبي بصير «2»، حيث رجّح إحداهما على الأُخرى بالأكثرية، و من ذيل رواية إسحاق ابن عمّار و موردهما نفس الصورة التي نحن فيها حيث رجّحها على الأُخرى باليد و الترجيح آية حجّية المتعارضين في حدّ نفسهما.

فالقول بتقديم بيّنة الداخل، لتأيّدها باليد هو الأوفق بالقواعد، و الأنسب لدى العقلاء فإن أخذ العين من ذى اليد مع بيّنته، و دفعها إلى المدّعي بحجّة أنّ البيّنة للمدّعي، مما لا يقبله الذوق السليم و العقل الصريح بشرط الحلف على ما ورد في رواية ابن عمّار.

3- تقديم بيّنة الخارج عند التساوي و الأكثر عدداً في غيره

و قد نسب هذا القول إلى الصدوقين و

المفيد فحكموا بترجيح بيّنة الخارج عند التساوي و تقديم ذات الترجيح عند وجوده فالترجيح بالعدالة عند الصدوق، و بالأكثرية عند المفيد .. و ذلك لخبر أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن

______________________________

(1) الوسائل: 18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(2) مرّ برقم 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 116

الرجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم و يقيم البيّنة، و يقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه و لا يدري كيف كان أمرها، قال: «أكثرهم بيّنة يستحلف و تدفع إليه، و ذكر أنّ علياً عليه السَّلام أتاه قوم يختصمون في بغلة فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم انتجوها على مِذْودهم و لم يبيعوا و لم يهبوا و قامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك فقضى عليه السَّلام بها لأكثرهم بيّنة و استحلفهم». «1»

و الرواية صحيحة و شعيب الوارد في السند هو شعيب العقرقوفي هو ابن أُخت أبي بصير يحيى بن القاسم راوي الحديث عن الإمام. قال النجاشي: ثقة عين «2». و لكن الرواية قاصرة عن إفادة تمام المدّعى، لأنّها صريحة في لزوم الترجيح بالأكثر عدداً و أمّا لزوم تقديم بيّنة الخارج عند التساوي فلا دلالة لها عليه، غاية ما يمكن أن يقال أنّه يقيّد القول الثاني المختار بمضمون هذه الرواية، و تصير النتيجة هو تقديم بيّنة الداخل إلّا إذا كان هناك ترجيح من حيث العدد لبيّنة الخارج، نعم النسبة بينها و بين ما دلّ على تقديم بيّنة الداخل عموم من وجه.

و ذلك لعدم التعارض بينهما في المتساويين، و لا فيما إذا كانت بيّنة الداخل ذات ترجيح، و إنّما يتعارضان فيما إذا كانت بيّنة الخارج ذات الترجيح

فعلى ما سبق تقدّم بيّنة الداخل، و على ما ذكر في الحديث تقدّم بيّنة الخارج. فأيّهما يقدّم؟ فيه وجهان، بما أنّ القول بتقديم ذات الترجيح موجب للجمع بين الروايات، يكون الأخذ به أولى.

4- تقديم ذي اليد مع الحلف أو إبائهما

و هذا القول مروي عن ابن الجنيد قال: فإن حلفا جميعاً أو أبيا أو حلف

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(2) النجاشي، الرجال: برقم 518.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 117

الذي في يده كان محكوماً للذي هي في يده بها. فإن حلف الذي ليست في يده و أبى الذي في يده أن يحكم، حكم بها للحالف.

و لعلّ وجه الحلف، مع كون البيّنة كافية في إثبات الحقّ لمن كانت له، هو أنّ المراد من التقديم تعيّن من يُقدَّم قوله منهما و كونه بمنزلة المنكر، لا لكون البيّنة حجّة فعلية في إثبات الحقّ ففائدته جعل من قُدِّمت بيّنته بمنزلة المنكر و حينئذ يحتاج إلى الحلف على قاعدة المدّعي و المنكر. «1»

و لو قلنا بلزوم الحلف، تكون نتيجة الجمع بين الأقوال الثلاثة: الثاني و الثالث و الرابع، هي تقديم بيّنة الداخل لدى التساوي مع الحلف على النحو المذكور، و تقديم الأكثر عدداً، عند عدم التساوي ثمّ الحلف و بذلك يجمع بين الأقوال الثلاثة الأخيرة.

إلى هنا تمّ الكلام في الحالة الأُولى بأقوالها الأربعة و إليك الكلام في الحالات الثلاث الباقية:

الحالة الثانية: إذا شهدتا بالسبب

إنّ البيّنة تارة تشهد على المسبّب كالملك من دون أن تذكر سببه و أُخرى تشهد على السبب كالنتاج و الاشتراء و الصياغة، و النسج من قطن المالك.

ثمّ السبب بين ما لا يتكرّر كالنتاج إذ لا يمكن أن تتولّد الدابّة مرّتين، و ثوب قطن و أبريسم فإنّه لا يمكن نسجهما دفعتين، و ما يتكرّر كآنية الذهب و الفضّة و الصفر و الحديد إذ يصحّ لكلّ واحد أن يقول صيغ في ملكي و كذلك ما يمكن نسجه مرّتين كالصوف و

الخزّ.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ هناك تفاصيل في فقه العامة بين الشهادة

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 154.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 118

بالسبب و الشهادة بالملك المطلق، و من السبب بين ما لا يتكرّر و ما يتكرّر «1» و ليس في أخبارنا شي ء من هذه التفاصيل و لو جاء في بعضها ذكر السبب فإنّما جاء لبيان منشأ الدعوى لا أنّه دخيل في الحكم مضافاً إلى أنّه ورد في كلام السائل فلا تستفاد منها المدخلية. و مع ذلك فقد تأثّر بعض الأصحاب من هذه الفتاوى و جاءوا ببعض التفاصيل التي ذكرها المحقق و نكتفي بما ذكره المحقق الذي منها هذه الحالة الثانية أي إذا شهدتا بالسبب ففيه قولان:

1- تقدّم بيّنة الداخل و هو المحكي عن كتابي التهذيب و الاستبصار للشيخ، و قد استدلّ له بما تقدّم من صحيح إسحاق بن عمّار «2»، و معتبر غياث بن إبراهيم 3، و رواية جابر 4 و أنت خبير بعدم دلالتها على ما رامه فإنّ القيد ورد في الأوّليين في سؤال الراوي و قد ذكر لبيان منشأ الدعوى و علّتها لا أنّ لها دخلًا في الحكم و تقرب منهما رواية جابر، و لأجل ذلك فالأولى الاستدلال بها على تقديم اليد المتصرّفة على غيرها مطلقاً، لا الجمود على صورة ورود السبب في الشهادة كما هو المختار.

2- و من الأصحاب من رفض هذه الروايات و قال بالأخذ ببيّنة الخارج قائلًا بأنّه لا بيّنة على ذي اليد كما لا يمين على المدّعي عملًا بقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «اليمين على من أنكر» و التفصيل قاطع للشركة و قد وصفه المحقق بأنّه أولى لكن

عرفت عدم دلالة النبويّ على المفهوم السلبي، فالأولى الأخذ بهذه الروايات مع إلغاء قيدية ورود السبب.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الضابطة عند القائل بهذا التفصيل تقديم بيّنة الخارج إلّا في هذه الصورة إذا شهدتا بالسبب فتقدم بيّنة الداخل، فلو ورد السبب في بيّنة

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 2.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2 و 3.

(3) 4 البيهقي، السنن: 10/ 256.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 119

الداخل دون الأُخرى، فلا محيص له عن الالتزام به لأنّ ذكر السبب إذا كان موجباً لترجيح ذي اليد، إذا شهدتا بالسبب فليكن كذلك مطلقاً و على ذلك فلو كانت بيّنة الخارج غير مشتملة على ذكر السبب و كانت بيّنة الداخل مشتملة عليها فطبع الحال يقتضي تقديم الثانية و هي الحالة الثالثة الّتي نتلوها.

الحالة الثالثة: إذا شهدت بيّنة ذي اليد بالسبب و الخارج بالملك

فتقدم بيّنة الداخل أيضاً كالحالة الثانية و هو الظاهر من الشيخ في نهايته «و متى كان مع واحد منهما يد متصرّفة، فإن كانت البيّنة تشهد بأنّ الحقّ ملك له فقط و تشهد الآخر بالملك أيضاً انتزع الحقّ من اليد المتصرّفة و أعطى اليد الخارجة و إن شهدت البيّنة لليد المتصرّفة بسبب الملك من بيع أو هبة أو معاوضة كانت أولى من اليد الخارجة. «1» و قال: فإنّه يقضي لصاحب اليد.

و لعلّ مستند الشيخ هو خبر عبد اللّه بن سنان ففيه عن علي عليه السَّلام: إذا اختصم إليه الخصمان في جارية فزعم أحدهما أنّه اشتراها، و زعم الآخر أنّه انتجها، فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى بها للذي نتجت عنده. «2»

يلاحظ عليه: أنّ كلًّا من البيّنتين شهدتا بالسبب: الاشتراء و النتاج،

غير أنّ الإمام رجّح أحد السببين (النتاج) على الآخر و أين هو من المدّعى من تقديم بيّنة الداخل إذا شهدت بالسبب على الخارج إذا شهدت بالملك المطلق.

نعم ظاهر الرواية تقديم الشهادة على السبب القديم (النتاج) على السبب الحادث (الاشتراء) من غير فرق بين كون مدّعي السبب القديم ذا يد أو لا و سيوافيك البحث فيه عند البحث عن مرجّحات تعارض البيّنتين.

______________________________

(1) الطوسي، النهاية: 344.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 12، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 120

الحالة الرابعة: عكس الحالة الثالثة

أي إذا شهدت بيّنة ذي اليد بالملك المطلق و بيّنة الآخر بالسبب، فعلى الضابطة التي اشير إليها في الثالثة، و الثانية، يعلم حكم هذه الحالة و هي تقديم بيّنة الخارج لقوّتها بالشهادة على السبب. و لم يذكرها المحقق و إنّما ذكرناها استيفاءً للصور.

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية:

ما دلّ على تقديم بيّنة الخارج، غير تامّ لا يحتجّ به بخلاف ما دلّ على تقديم بيّنة الداخل، غير أنّ تقديمه ليس بمعنى إنهاء أمر القضاء بل لا بدّ من الحلف على النحو المألوف.

نعم هذه هي الضابطة إلّا إذا كانت إحدى البيّنتين تترجّح على الآخر بالكثرة فيقدّم المرجَّح، أمّا التفصيل بين الشهادة على السبب أو الملك المطلق فليس له دليل صالح و اللازم حذف البحث عن أحكام الحالات الثلاث الأخيرة لعدم مدخلية هذه الحالات على ما علمت و التركيز على الحالة الأُولى، و قد عرفت أنّ لازم الجمع بين الروايات هو تقديم بيّنة ذي اليد بشرط الحلف عملًا برواية ابن إسحاق، و تقديم الأكثر عدداً عند عدم التساوي عملًا برواية أبي بصير. و اللّه العالم.

بقي هنا شي ء و هو أنّ مقتضى صحيحة عبد

الرحمن بن أبي عبد اللّه «1» و صحيح الحلبي 2 و موثقة سماعة 3 هو الرجوع إلى القرعة عند التساوي و اليمين على من خرج اسمه، و اليمين و إن لم تكن مذكورة، في الموثقة لكن يقيد إطلاقها

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 120

______________________________

(1) 1، 2، 3 مرّ الجميع برقم 9، 12، 10، 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 121

بما في الأوّلين. و إطلاقها يعمّ الصورتين إذا كان في أيديهما أو في يد واحد منهما.

و الجواب: أنّ الروايات الثلاث ليست نصوصاً في المورد، غاية الأمر وجود الإطلاق فتحمل على ما إذا لم يكن في أيديهما و لا يد واحد منهما و يشهد على ذلك ما رواه صاحب الدعائم عن أمير المؤمنين عليه السَّلام «1» حيث إنّ الإمام لم يقرع في كلتا الصورتين. و على ذلك فما دلّ على الإقراع راجع إلى الصورتين الأخيرتين.

الصورة الثالثة لو كانت العين بيد ثالث
اشارة

إذا كانت العين بيد ثالث ففيه أقوال تناهز الثمانية «2» نذكر منها ثلاثة:

الأوّل: اجراء الشقوق التالية:

1- أن يُصدِّق ذو اليد أحدَهما.

2- أن يصدِّق كليهما.

3- أن يدفع كليهما.

4- أن يعترف لأحدهما و لا يعرف عينه.

5- أن يقول ليست لي و لا أعرفُ صاحبه.

فعلى الأوّل، إذا اعترف لأحدهما، يكون المقرّ له مالكاً شرعياً للعين، و يكون المفروض كما إذا كان بيد أحدهما و يكون حكمه، حكم الصورة الثانية الماضية.

و على الثاني، يصير المدّعيان مالكين على الظاهر و يكون المفروض كما إذا كانت العين بأيديهما و أقاما البيّنة و يكون حكمه حكم الصورة الأُولى السابقة.

______________________________

(1) نفس المصدر.

(2) لاحظ: ملحقات العروة: 2/ 156.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 122

و على الثالث أُقرّت في يده فيكون هو المدّعى عليه بالنسبة إلى المتنازعين فيحلف لكلّ منهما، و لو نكل عن الحلف يدخل في الصورة الرابعة أعني: ما إذا ادّعيا عيناً لا يد عليها و سيوافيك حكمها.

و على الرابع حيث يقرّ ذو اليد بأنّها لواحد من المتنازعين يعمل بقاعدة العدل و الانصاف فينصَّف إلحاقاً له بالدينار المردّد عند الودعي بين الشخصين و يحتمل القرعة ثمّ الحلف.

قال المحقّق الأردبيلي: «إنّ الحكم بالتصديق و الحلف و جعله مرجّحاً هنا أيضاً ممكن». «1»

و على الخامس يكون من قبيل ما لا يد لأحد عليها أي الصورة الرابعة الأصلية التي سوف يوافيك حكمها.

نعم إنّ الأكثر كما قيل لم يتعرّضوا بتصديق الثالث لأحد المتداعيين كما تعرّضوا به في صورة عدم البيّنة، قيل و إنّما لم يتعرّضوا لأنّ نظرهم إلى بيان المرجّحات إغماضاً عن حكم اليد و إيكالًا إلى ما ذكروه سابقاً في صورة عدم البيّنة.

قال النراقي: لم يتعرّض الأكثر لتصديق الثالث لأحد المتداعيين هنا كما

تعرضوا له في صورة عدم البيّنة، قيل: «لعلّ إطلاقهم هنا مبني على الإغماض عن حكم اليد و خلافها و نظرهم إلى بيان سائر المرجّحات» و يحتمل أيضاً أن يكون بناؤهم على عدم اعتبار تصديقه نظراً إلى إطلاق الأدلّة كما فهمه المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد حيث حكم بتفرقة المصنّف بين صورة عدم البيّنة، و صورة وجودها في سماع تصديق الثالث و قال بأنّ الحكم بالتصديق و الحلف هنا أيضاً ممكن و وجه عدم الاعتبار حينئذ كما يظهر من الفاضل في التحرير أنّ البيّنتين

______________________________

(1) المحقق الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 232.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 123

متطابقتان على عدم ملكية الثالث فلا يكون إقراراً لأنّه إنّما يكون في ملك الشخص واقعاً أو ظاهراً، و مع البيّنتين لا يكون كذلك، و للتأمل فيه مجال. «1»

و قد يقال: يحتمل أن يكون بناؤهم على عدم اعتبار تصديقه، نظراً إلى إطلاق الأخبار لا لتطابق البيّنتين على عدم ملكية الثالث.

و قال صاحب الجواهر: و لو أقرّ الثالث بالعين لأحدهما فالوجه كما في القواعد أنّه كاليد، تقدَّم على قيام البيّنتين أو تأخّر لقيام المعنى القائم في اليد فيه، و يحتمل العدم بعد إقامة البيّنتين لكشفهما عن أنّ يد المقرّ مستحقّة للإزالة، فإقراره كإقرار الأجنبي بل قد يشكل إن لم يكن إجماع اندراج ذلك قبل إقامة البيّنتين فضلًا عمّا بعده فيما دلّ على حكم ذي اليد بالنسبة إلى الدخول و الخروج و لعلّه أطلق بعضهم الحكم من غير فرق بين إقرار الثالث و عدمه. «2»

و قال في مسألة ما إذا تنازع مشتريان و ادّعى أحدهما شراء المبيع من زيد و قبض الثمن و أقام البيّنة، و ادّعى آخر

شراءه من عمرو و قبض الثمن و أقام البيّنة: «و إن كانت بأيديهما و صدق كلّ منهما مشتريه فكلاهما ذو اليد». «3»

و قال السيّد الطباطبائي: إنّ ذلك منهم لوجود الفرق بين صورة وجود البيّنتين و صورة عدمها لزوال حكم يده مع تطابق البيّنتين على كون ما في يده لغيره فلا اعتبار بإقراره بخلاف صورة عدم البيّنة في ظاهر الشرع. «4»

يلاحظ عليه: أنّ البيّنة لو لا التعارض توجب زوال حكم اليد، و أمّا مع التعارض فلا تكون حجّة في مدلولها المطابقي فضلًا عن الالتزامي، و عندئذ يسقط قوله: «لزوال حكم يده مع تطابق البيّنتين على كون ما في يده لغيره فلا اعتبار بإقراره» و ذلك لأنّ الأخذ بالمدلول الالتزامي (أنّه ليس لذي اليد) مع

______________________________

(1) النراقي، المستند: 2/ 557.

(2) الجواهر: 40/ 432431.

(3) الجواهر: 40/ 469.

(4) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 158.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 124

رفض المدلول المطابقي أمر مشكل فلو لم يكن في النصوص ما يخالفه لكان الأخذ به متعيّناً و لا يعلم إلّا بدراسة الأقوال.

الثاني: قول الشيخ في المبسوط

و هو ثلاثي الأجزاء:

1- يقضي بالقرعة، إن شهدتا بالملك المطلق.

2- يقسّم بينهما إن شهدتا بالملك المقيّد بالسبب.

3- و لو اختصّت إحداهما بالتقييد، قضى بها دون الأُخرى.

هذا، و الذي وقفت عليه في المبسوط هو ما يلي:

إذا كانت الدار في يدي رجل فتداعاها رجلان قال أحدهما: الدار التي في يديك لي أودعتكها و أقام البيّنة، و قال الآخر: الدار التي في يديك لي آجرتُكها، و أقام البيّنة قال قوم هما متعارضتان لأنّ التنازع في الملك و قد شهدت كلّ واحدة منهما بالملك في الحال لكلّ واحد منهما و هذا محال، فتعارضتا، و إذا تعارضتا قال

قوم: يسقطان، قال قوم: يقرع بينهما و هو مذهبنا و قال بعضهم: يقسم بينهما. «1»

و العبارة تفي بالشق الأوّل دون الشقّين الأخيرين من كلامه و لعلّه ذكرهما في مكان آخر، وقف عليه المحقّق.

أمّا الجزء الأوّل و هو الإقراع عند الشهادة على الملك المطلق، فيحمل ما ورد بالقرعة على هذه الصورة، نظير صحيح الحلبي: سئل أبو عبد اللّه عن رجلين شهدا على أمر و جاء آخران فشهدا على غير ذلك فاختلفوا قال: «يقرع بينهم فأيهم قرع، فعليه الحلف». «2»

و مثله عبد الرحمن بن عبد اللّه البصري عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: كان

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 269268.

(2) مرّ الجميع برقم 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 125

علي عليه السَّلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء و عددهم أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين «1» و بهذا المضمون غيرهما، و ما في مرسلة داود بن أبي يزيد العطّار 2 من الاكتفاء بالقرعة من دون الإحلاف يقيّد بما ورد فيه الحلف كما لا يخفى.

يلاحظ عليه: أنّ القرعة وردت في الشهادة بالمقيّد أيضاً كموثقة سماعة 3 و خبر عبد اللّه بن سنان 4 فلا وجه لتخصيصها بما إذا شهدت بالملك المطلق منهما.

و أمّا الجزء الثاني و هو التقسيم بينهما إن شهدتا بالملك المقيّد بالسبب فيدلّ عليه خبر غياث بن إبراهيم، أنّ أمير المؤمنين اختصم إليه رجلان في دابّة و هما أقاما البيّنة أنّه انتجها، فقضى بها للذي في يده و قال:

«و لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين». 5

و على ذلك (الشهادة بالملك المقيّد بالسبب) يحمل خبر تميم بن طرفة 6 إنّ رجلين عرفا (ادعيا) بعيراً فأقام كلّ واحد منهما

بيّنة فجعله أمير المؤمنين عليه السَّلام بينهما» فإنّ ظاهره الشهادة بالملك المطلق، و فيه القرعة لكن يحمل على الشهادة بالملك المقيّد بالسبب للجمع بينه و بين ما دلّ على القرعة في الشهادة بالملك المطلق كما مرّ.

يلاحظ عليه: أنّ خبري سماعة 7 و ابن سنان 8 في باب الشهادة على الملك المقيّد بالسبب، و قد جاء فيهما القرعة، دون التقسيم. و خبر طرفة من باب الشهادة بالملك الشهادة بالملك المطلق، و قد جاء فيه الأمر بالتقسيم و حمل الأخير على المقيّد خلاف الظاهر.

______________________________

(1) 1- 4 مرّ الجميع برقم 9، 16، 10 و 15.

(2) 5 و 6 مرّا برقم 3 و 8.

(3) 7 و 8 مرّا برقم 10 و 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 126

و أمّا الجزء الثالث، و هو تقديم من شهدت بالملك المقيّد بالسبب و رفض من شهد بالملك المطلق فيعلم وجهه ممّا سبق لقوّة الأُولى.

على أنّ في خبر إسحاق ما هو خارج عن الجميع و هو تحليفهما معاً فأيّهما حلف و نكل الآخر كانت للحالف قال: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة فقال: أحلفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. «1»

الثالث: قول المحقّق

و ما أفاده في هذه الصورة ثُلاثي الأجزاء و هي:

1- قضى بأرجح البيّنتين عدالة.

2- فإن تساويا قضى لأكثرها شهوداً.

3- و مع التساوي عدداً و عدالة يقرع بينهما فمن خرج اسمه أُحلف و قضي له، و لو امتنع أُحلف الآخر و قضي له و إن نكلا قُضي بها بينهما بالسوية.

أمّا الأوّلان فهما موقوفان على أمرين:

1- حمل أخبار القرعة على الصورة الثالثة (إذا لم يكن في يد واحد

منهما) و إخراج الصورتين الأُوليين من تحتها، و يدلّ على ذلك أمران:

أ: ما دلّ من النصوص على أنّ حكم الصورة الأُولى هو التنصيف، و أنّ حكم الصورة الثانية، هو تقديم بيّنة الخارج أو الداخل على تفصيل و النصوص الواردة فيهما دليل على عدم شمول أخبار القرعة للأُوليين.

ب: تنصيص الإمام بذلك في المرسل عن أمير المؤمنين عليه السَّلام «2» في البيّنتين يختلفان في الشي ء الواحد، يدّعيه الرجلان أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدَلَتْ بيّنة كلّ

______________________________

(1) مرّ برقم 2.

(2) مرّا برقم 6 و 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 127

واحد منهما. و ليس في أيديهما.

2- إنّ قوّة العدالة و كثرتها مرجّحة و في الوقت نفسه الترجيح بها مقدّم على الترجيح بكثرة العدد.

و يمكن استفادة الأمر الأوّل من الحديثين التاليين ففي رواية عبد الرحمن البصري «كان عليّ إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء و عددهم أقرع بينهم». «1» فيدلّ على الترجيح بكثرة العدالة مثل كثرة العدد، فإنّ المراد من كون «عدلهم سواء» مقابل «عددهم سواء» الأعدلية.

و في المرسل «اعتدلت بيّنة كلّ واحد منهما و ليس في أيديهما» «2» و لا يصدق الاعتدال إلّا إذا تساوت البيّنتان في العدالة و العدد.

و لم نجد في الأدلّة ما يدلّ على تقديم الترجيح بالأعدلية على الأكثرية كما هو مفاد كلام المحقّق مع ورود الأكثرية في غالب النصوص، و ورد الأعدليّة في خبرين فلو انحصر المرجّح، بالأعدلية فتقدّم و أمّا لو اشتمل الأخير على الأكثرية فتقديم الأعدلية على الأكثرية كما ترى.

نعم نفى صاحب الجواهر الريبَ في تقديمها على الأكثرية بادّعاء ابن زهرة الإجماعَ المعتضد بالشهرة المحقّقة بين الأصحاب و وجود ذلك في رسالة علي بن بابويه

التي قيل فيها. كانوا إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إليها و النهاية التي هي متون الأخبار.

و أمّا الجزء الثالث و هو الإقراع عند التساوي فمن خرج اسمه أُحلف و قضي له.

و لو امتنع أُحلف الآخر فقضي له.

و إن نكلا قضى بها بينهما بالسوية.

______________________________

(1) مرّا برقم 6 و 9.

(2) الجواهر: 40/ 428.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 128

أمّا اليمين على من خرج اسمه بالقرعة فهو مورد النصوص كرواية البصري «1» و داود بن سرحان. 2

و أمّا توجّه اليمين إلى الآخر، إذا نكل من خرج اسمه فهو ظاهر قوله في خبر البصري: «ثمّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف» على أنّ توجه اليمين إلى من خرج اسمه بالقرعة دون الآخر، عند ما نكل من خرج اسمه لا يرضى به الوجدان. أضف إلى ذلك ما عرفت من أنّ القضاء الحاسم يعتمد على أحد أمرين: البيّنة و اليمين و لا عبرة بالأُولى بعد التعارض فيبقى الثاني.

و أمّا التنصيف فلأنّه المستفاد من ذيل معتبرة إسحاق بن عمّار 3، حيث جاء فيها «فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين» فإذا كان حلفهما سبباً للتنصيف فيفهم عرفاً انّ نكولهما أيضاً سبب له.

اعلم أنّ ما ورد في ذيل معتبرة إسحاق بن عمّار راجع إلى هذه الصورة فقد جاء فيه:

إذا لم تكن العين في يد واحد منهما و أقاما البيّنة، يحلفان فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين فإنّ ظاهرها جواز حلفهما مع أنّ المستفاد من أدلّة القولين: الثاني و الثالث، تحليف من قدّمت يمينه بالمرجّح أو القرعة، فإن حلف قضى له، و إن لم يحلف يحلف الآخر، و لا عامل للذيل و

سيوافيك في الصورة الرابعة ما يجمع به.

الصورة الرابعة إذا ادّعيا ما لا يد عليها لأحد و أقاما البيّنة،

كما إذا ادّعيا الخاتَم الساقط في البئر الذي حُفر للمستطرقين في الصحراء، فقال في الجواهر: إنّ حكمها لهم ما

______________________________

(1) 1 و 2 مرّا برقم 9 و 11.

(2) 3 مرّ برقم 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 129

كانت في يد ثالث لإطلاق الدليل. قال: و لا ينافي ذلك إطلاق خبر تميم بن طرفة بعد تنزيله على غيره. «1»

قال النراقي: لو لم تكن العين في يد أحد، فإن كانت لواحد منهما بيّنة يقضى له، و إن كانت البيّنة فظاهر عبارة الصدوقين أنّ حكمه حكمَ يد الثالث و قال بعض فضلائنا المعاصرين أنّه الأولى و هو كذلك لإطلاق أكثر الأخبار المتقدّمة إن لم نقل جميعها بالنسبة إلى هذه الصورة. «2»

و عليه فيقضى بأرجح البيّنتين عدالة فإن تساويا قضى لأكثرهما شهوداً، و مع التساوي عدداً و عدالة يقرع فمن خرج اسمه أُحْلِف و قُضي له و لو امتنع، أُحلف الآخر و قضى له و إن نكلا قضى به بينهما بالسوية.

و بذلك يجمع بين المرسل «3» الدال على الإقراع، و معتبر إسحاق «4» الدال على تحليفهما، بحملهما على بيان بعض المقصود.

خاتمة المطاف

قد وقفت على الآراء المتضاربة في مسألة تعارض البيّنتين، كرواياتها المشوّشة و قد وافقنا القول المشهور في غالب الموارد و بذلنا غاية الجهد في الجمع بين روايات الباب.

ثمّ إنّ هناك رأياً للسيّد الطباطبائي و حاصله الرجوع إلى القرعة، ثمّ الحلف في عامة الصور إلّا مورد واحد قال: إنّ الأقوى في جميع الصور الأربع الرجوع إلى المرجّحات المنصوصة و غيرها و مع عدمها فإلى القرعة في غير الصورة الأُولى (مراده ما إذا كانت العين بيد ثالث) لما عرفت أنّ اليد مرجّحة لبيّنتها فلا يبقى

محلّ للقرعة فمن خرجت القرعة باسمه يُستحلف فإن حلف يقضى له و إلّا فإن حلف

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 432.

(2) النراقي، المستند: 2/ 557.

(3) مرّا برقم 6 و 2.

(4) مرّا برقم 6 و 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 130

الآخر فكذا يقضى له و إن نكلا قسم بينهما، و في الصورة الأُولى (إذا كانت العين بيد ثالث) إذا قدّمنا إحدى البيّنتين يحتاج إلى الحلف أيضاً لما ذكرناه من أنّ فائدة التقديم سماع قول من قدّمت بيّنته لا أنّها حجّة فعلية كافية. «1»

يلاحظ عليه بوجهين:

1- إنّ القول بشمول روايات القرعة للصورة الأُولى يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنّ ما دلّ على التنصيف فإنّما يعتمد على عمل الإمام في مقام القضاء فلو كان هناك مجال للقرعة فلما ذا لم يعمل بها الإمام و حكم بالتنصيف و لم يكن المقام، مقام بيان الحكم الشرعي حتّى يجوز تأخير القيد.

2- إنّ تقديم القرعة على بيّنة الداخل أو الخارج (في الصورة الثانية) خلاف صريح ما دلّ على أنّ المرجع هو الأخذ بإحدى البيّنتين فلو كان هناك مجال للقرعة لكان ترك ذلك مخلًا.

فالأولى إحالة ما دلّ على الإقراع على الصورتين الأخيرتين كما عليه المشهور من المتأخرين.

نعم إنّ روايات الباب غير نقيّة جدّاً و مشوّشة و لذلك اختلفت الآراء في هذا المقام إلى حدّ ربّما يوجد لشخص واحد رأيان أو أكثر و قد اعتذر عنهم السيّد الطباطبائي و قال: و أمّا الفقهاء فحيث إنّهم لم يلاحظوا مجموع الأخبار بإجراء قاعدة الجمع بينهما و بنوا على الترجيح بذكر السبب فرّقوا بين الصور الأربع و اختلفت أقوالهم فيها خصوصاً فيما إذا كانت العين بيد أحدهما فقد اختلفوا فيها إلى حدّ

أنهاها النراقي في المستند إلى تسعة أقوال. 2

و لكنّك عرفت أنّ السيّد الطباطبائي أيضاً لم يلاحظ جميع الأخبار فقد أسقط العمل بالتنصيف مع وروده في غير واحد من الروايات.

______________________________

(1) 1 و 2 السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 154.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 131

إكمال

قال المحقق: و يتحقق التعارض بين الشاهدين و الشاهد و المرأتين. و لا يتحقق بين شاهدين و شاهد و يمين و لا تعارض بين شاهد و امرأتين و شاهد و يمين.

أقول: أمّا الأوّل فلصدق البيّنة لكلّ واحد منهما و يعبر عنه قوله سبحانه حيث يقول: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ) (البقرة/ 282).

و أمّا الثاني أي الشاهدين و شاهد و يمين فلعدم صدق البيّنة على الثاني و إن كان تثبت به الأموال، و لكن ليس كلّ ما يثبت به الشي ء بيّنة.

و أمّا الثالث فلنفس الدليل المذكور في الثاني.

مواضع القسمة

قال المحقّق: «كلّ موضع قضينا فيه بالقسمة فإنّما هو في موضع يمكن فرضها دون ما يمتنع كما إذا تداعى رجلان زوجة».

قد عرفت موارد الحكم بالتنصيف، فالمراد منه ما يقبل الشركة سواء قبل التقسيم في العين كالحنطة، أو قبل التقسيم في القيمة كالعبد، و أمّا ما لا يقبل ذلك فلا، كما إذا تداعى الرجلان زوجة فهو موضع القرعة، ففي مرسل داود بن أبي يزيد العطّار عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود انّ هذه المرأة امرأة فلان و جاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان فاعتدل الشهود و عدلوا فقال: «يقرع بينهم فمن خرج سهمه فهو الحقّ و هو أولى بها». «1»

______________________________

(1) الوسائل: ج 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 132

و لو لا أنّ بعض روايات القرعة وردت فيما يقبل القسمة و الشركة و لو في القيمة لحملناها على مورد لا يقبل القسمة و الشركة، غير

أنّ ورودها في غير هذا المقام عاقنا عن الحمل.

غير أنّ من خرجت القرعة باسمه تتوجّه عليه اليمين لأنّ القرعة بمعنى من تصير عليه اليمين و قد وردت اليمين في غير واحد من أخبار القرعة. «1»

نعم قال في المسالك بعد نقل الرواية: «فلا فائدة في الإحلاف بعد القرعة لأنّ فائدته القضاء للآخر مع نكوله و هو منفي هنا. و في الرواية دلالة على نفي اليمين هنا». «2»

يلاحظ على الثاني بما عرفت من ورود الحلف في غير واحد من أخبار القرعة، و أمّا الدليل الأوّل فلا ملازمة بين توجّه اليمين و القضاء بالنكول أو ردّ اليمين إلى الطرف الآخر، أمّا القضاء بالنكول فقد عرفت أنّه يجب أن يحبس الناكل حتّى يحلف أو يعترف أو يردّ اليمين. و أمّا ردّ اليمين فليس المقام من موارده لأنّه من شئون المنكر لا من شئون المدّعي الذي خرجت القرعة باسمه و ليس حلفه دليلًا على كونه منكراً بل هو مدّع يُسمع قوله مع اليمين.

في مرجّحات البيّنات
اشارة

ذكر الفقهاء مرجّحات لتقديم إحدى البيّنتين على الأُخرى، و قد ذكر المحقّق منها اثنين و إليك بيانها:

الأوّل: التقديم بزيادة التاريخ

قال المحقّق: «و الشهادة بقديم الملك أولى من الشهادة بالحادث مثل أن

______________________________

(1) لاحظ صحيح الحلبي برقم 11 و خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه برقم 5.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 436.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 133

تشهد إحداهما بالملك في الحال و الأُخرى بقديمه، أو إحداهما بالقديم و الأُخرى بالأقدم فالترجيح لجانب الأقدم، فعلى ذلك لو شهدت إحداهما أنّ العين لزيد من رمضان و قالت الأُخرى إنّها لعمرو الآن، أو شهدت إحداهما بأنّ العين لزيد من قبل ثلاث سنين و قالت الأُخرى إنّها لعمر من قبل سنتين فعلى مذهب المحقّق تقدّم البيّنة التي تشهد على القديم أو الأقدم.

قال الشيخ: إذا تنازعا عيناً من الأعيان عبداً أو داراً أو دابة فادّعى أحدهما انّها له منذ سنتين، و الآخر ادّعى أنّها له منذ شهر و أقام كلّ واحد منهما بما يدّعيه البيّنة أو ادّعى أحدهما أنّه له منذ سنة و قال الآخر: هي الآن ملكي و أقام كلّ واحد منهما بما يدّعيه البيّنة، الباب واحد و العين المتنازع فيها في يد ثالث كانت البيّنة المتقدّمة أولى و به قال أبو حنيفة و هو اختيار المزني و أصح قولي الشافعي و له قول آخر أنّهما سواء.

ثمّ استدل على مختاره بأنّهما إذا تعارضتا فيما تساويا فيه و هو مدّة شهر و سقطتا و بقي ما قبل الشهر ملك و بيّنة لا منازع له فيه فيحكم له بذلك قبل الشهر فلا يُزال عنه بعد ثبوته إلّا بدليل «1».

و حاصله: أنّ البيّنة متقدّمة التاريخ تثبت الملك

في وقت لا تعارضها البيّنة الأُخرى فيه و في وقت تعارضها الأُخرى تتساقطتان في محلّ التعارض و يثبت موجَبها فيما قبل محل التعارض و الأصل في الثابت دوامه.

يلاحظ على الاستدلال: بأنّ الاستصحاب في المقام إمّا مرجع في القضاء أو مرجح لإحدى البيّنتين أو ضميمة لها حتّى يستند إليها القاضي، و الكلّ باطل.

أمّا الأوّل: فلأنّ المرجع في القضاء هو البيّنة و اليمين حسب النبوي الثابت و ليس الاستصحاب منهما و على فرض كونه مرجعاً فإنّما هو إذا علمت الحالة

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 13.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 134

السابقة عن غير طريق البيّنة المتعارضة.

و أمّا الثاني و هو أن يكون الاستصحاب مرجّحاً لإحداهما فإنّما يصحّ إذا كانت الحالة السابقة محرزة لا بالبيّنة بل بدليل آخر فحينئذ يمكن ترجيح احدى البيّنتين بالاستصحاب، و أمّا المقام فليست الحالة محرزة إلّا بنفس البيّنة، و المفروض أنّها سقطت بالتعارض، و أمّا التفكيك بين مدلول البيّنة بمعنى رفضه في مورد التعارض و الأخذ به في خارجه فأمر لا يوافقه العقلاء في مقام الاحتجاج.

و أمّا الثالث: أي القضاء بإحدى البيّنتين بضمّ الاستصحاب و هو أيضاً باطل لأنّ الأصل في طول البيّنة فكيف يمكن أن يكون معها مستنداً للقضاء.

و يردّ على جميع الصور أنّه تبعيض في التصديق أي تصديق البيّنة في السابق دون اللاحق كما أنّ مقتضى بعض الوجوه الاعتبارية تقديم الشهادة بالحادث على القديم لاحتمال اطّلاع الثاني على ما لم يطلع عليه الأوّل إذ من المحتمل أن يكون مصدر شهادته هو الاستصحاب و مصدر شهادة الآخر هو العلم بالانتقال إلى المشهود له بالبيع و الهبة و غيرهما و لأجل ذلك

لو شهدت أنّه اشتراه من الأوّل قدّمت على الأُخرى قطعاً لأنّها لما صرّحت بالشراء علم أنّها اطّلعت على ما لم تطلع عليه الأُخرى.

فإنّها و إن شهدت بأنّها ملك من ابتداء سنتين مثلًا إلى الآن لكن غايته أنّها علمت ملكه و لم تعلم بمزيله في المدّة، و إذا شهدت الأُخرى بالاشتراء فقد أخبرت عن علمها بالمزيل.

و مع ذلك ففي بعض النصوص إشارة إلى تقديم الشهادة بالسبب القديم، على السبب الحادث ففي صحيح ابن سنان عن الصادق عليه السَّلام أنّه إذا كان اختصم الخصمان في جارية فزعم أحدهما انّه اشتراها و زعم الآخر أنّه انتجها فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى بها للذي انتجت عنده. «1»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 135

ثمّ إنّ في مورد ترجيح إحدى البيّنات على الأُخرى بالمرجّح الثاني فروعاً تعرّض بها في الجواهر «1» من حيث كون العين في يدهما أو يد أحدهما تظهر حالهما ممّا ذكرناه.

الثاني: الترجيح بالمدلول

قال المحقّق: و كذا الشهادة بالملك أولى من الشهادة باليد لأنّها محتملة و كذا الشهادة بسبب الملك أولى من الشهادة بالتصرّف.

أمّا الأوّل: لأنّ اليد و إن كانت ظاهرة في الملك إلّا أنّها محتملة لغيره لجواز استنادها إلى العارية و الإجارة و غيرهما بخلاف الملك فإنّه صريح في المطلوب. فكانت الشهادة به مرجّحة و لا فرق على هذا الطريق بين كون تاريخ شهادة اليد متقدّماً بأن شهدت أنّ يده على العين منذ سنة و شهدت بيّنة الملك بتاريخ متأخّر أو متأخّراً لاشتراك الجميع في المقتضي و هو وجود احتمال في اليد بخلاف الملك.

و أمّا الثاني: أعني إذا تعارضت البيّنة بسبب الملك

و البيّنة بالتصرّف، بأن شهدت الأُولى أنّ العين لفلان اشتراها من فلان و شهدت بيّنة الآخر أنّها وجدته يتصرّف في العين تصرّف المالك من البناء و الهدم و البيع و الرهن ففي جميع ذلك تتقدّم الشهادة على سبب الملك على البيّنة بالتصرّف. «2»

و حاصله أنّ اليد و إن كانت أمارة ملكية لكن فيما إذا لم تعارضها البيّنة بالملك فإنّ التصرّف (مثل تصرّف المالك) دليل على الملكيّة حيث لا تعارضه البيّنة على سبب الملك لوجود الاحتمال في التصرّف و عدمه في الشهادة على الملك أو السبب.

كلّ ما ذكروه و إن كان صحيحاً إلّا أنّه لا نحتاج في المقام إلى هذا الإطناب،

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 439.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 437.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 136

لأنّه لو افترضنا وجود العلم الوجداني باليد أو التصرّف لأحد المتنازعين فإنّه يكون محكوماً ببيّنة المتنازع الآخر القائمة على الملكيّة عملًا بقول الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر» و المنكر من له اليد على العين أو المتصرّف فيها مثل تصرّف المالك، فإذا كانت البيّنة متقدّمة على العلم الوجداني فكيف لا تتقدّم على البيّنة القائمة مقام العلم.

تمّ الكلام في المسألة الثانية.

المسألة الثالثة: إذا أقرّ المدّعى عليه بأنّ العين لثالث
اشارة

قال المحقّق: لو ادّعى شيئاً، فقال المدّعى عليه: هو لفلان، اندفعت عنه المخاصمة، حاضراً كان المقرّ له أو غائباً، فإن قال المدّعي: احلفوه انّه لا يعلم أنّها لي، توجهت اليمين، لأنّ فائدتها الغرم لو امتنع لا القضاء بالعين لو نكل أو ردّ، و قال الشيخ: لا يحلف، و لا يغرم لو نكل. و الأقرب أنّه يغرم، لأنّه حال بين المالك و بين ماله، بإقراره لغيره، و لو

أنكر المقرّ له، حفظها الحاكم، لأنّها خرجت عن ملك المقرّ، و لم تدخل في ملك المقرّ له، و لو أقام المدّعي بيّنة، قضي له أمّا لو أقرّ المدّعى عليه بها لمجهول، لم يندفع الخصومة و أُلزم البيان.

أقول: ذكر المحقق في هذه المسألة فروعاً خمسة، نأخذ بالبحث عن كلّ واحد.
الفرع الأوّل: إذا ادّعى شيئاً فقال المدّعى عليه هو لفلان.

اندفعت عنه المخاصمة، حاضراً كان المقرّ له أو غائباً. و المراد من خروجه عن طرف النزاع عدم توجّه الحلف إليه و ذلك لما مرّ من أنّ الحلف يتعلّق بما له صلة بالإنسان و أمّا كون هذا المال للغير فليست له صلة بالمقرّ فلا يتوجّه إليه اليمين.

الفرع الثاني: إذا ادّعى المدّعي أنّ المقرّ كان يعلم بأن العين له

و مع ذلك أقرّ بأنّها للغير، فهل له إحلاف المقرّ أو لا؟ قولان: أحدهما للشيخ و الآخر للمحقّق:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 137

1- قال الشيخ: ليس له الإحلاف، فإنّه لو نكل، أو ردّ اليمينَ إلى المدّعي و حلف، لا يحكم على المقرّ بالغرامة، لأنّه من آثار الإتلاف و هو بعدُ لم يُتلف و إنّما اعترف بأنّه للغير.

2- قال المحقّق ما هذا توضيحه: له الإحلاف، لأنّه لو حلف دفع عن نفسه التهمة و إن نكل أو ردّ اليمين إلى المدّعي و حلف، يغرم لأنّه حال بين المالك و ماله بإقراره لغيره و ليست الغرامة من آثار الإتلاف بل أعمّ منه و من مطلق الخسارة الواردة على المالك لأجل إقراره.

و هناك قول بالتفصيل لصاحب المسالك و هو أنّه لو قلنا في رجل أقرّ لشخص بعد الإقرار لآخر بأنّه يَغْرُم القيمة للثاني فله إحلافه في المقام فلعلّه لا يحلف بل يقرّ فيغرمه القيمة. و إن قلنا في ذلك الباب بأنّه لا يغرم، فعند ذلك يأتي التفصيل المذكور في بابه: إنّ يمينَ المدّعي كإقرار المنكر أو كبيّنة المدّعي فإن قلنا بالأوّل فلا يحلف لعدم ترتّب الأثر على إقراره بانّه للغير، مع العلم بأنّه للمدّعي لأنّ إقراره بأنّه للثالث بمنزلة الإقرار بعد الإقرار لآخر و المفروض عدم ترتّب الأثر عليه في صورة العلم الوجداني فكيف إذا ثبت بيمين

المدّعي و إن قلنا بأنّه كبيّنة المدّعي فله التحليف لأنّه إذا نكل و حلف المدّعي (أثبت بدليله الشرعي أنّ العين له) فإذا كانت العين تالفة أخذ القيمة و لو ردّ عليه العين (إذا لم تكن تالفاً) ردّ القيمة لأنّه إنّما غرم القيمة للحيلولة «1».

و أورد عليه في الجواهر بأنّه لو افترضا أنّ يمين المدّعي المردودة بمنزلة بيّنة المدّعي، لكن مفاد البيّنة في المقام هو أنّ المقرّ مع علمه بأنّ العين للمدّعي، أقرّ بأنّه للثالث، و هذا لا يترتّب عليه الأثر حسب الفرض. و بعبارة أُخرى ليست يمين المدّعي المنزّل منزلة البيّنة فوق العلم الوجداني بأنّه قد أقرّ للغير مع العلم بانّه للمدّعي، و المفروض عدم ترتّب الأثر عليه. نعم لو كانت مفاد البيّنة التنزيلية

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 437.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 138

هو أنّ العين للمدّعي، كان له إحلافه فلو نكل أو ردّ اليمين يغرم، لأنّ يمين المدّعي بمنزلة البيّنة على كون المدّعي مالكاً و لكن أين هو من مفاد اليمين المردودة في المقام حسب الفرض.

و مع ذلك فالحقّ هو الغرامة و ذلك لأنّه لو حلف دفع الاتّهام عن نفسه و أمّا لو نكل أو ردّ اليمين إلى المدّعي، ثبت أنّه صار سبباً للحيلولة بين المالك و ماله و هذا المقدار من السببيّة كاف في تغريمه إلى أن تعود العين إليه بإقامة الدعوى على المقرّ له، و عندئذ تدفع الغرامة المؤقّتة إلى المقرّ.

الفرع الثالث: و لو أنكر المقرّ له

قال المحقّق: حفظها الحاكم لأنّها خرجت عن ملك المقرّ و لم تدخل في ملك المقرّ له. و لو أقام المدّعي بيّنة قضى له.

حاصله أنّ العين تبقى بيد الحاكم، لكونها مجهولَ المالك، فلو أقام

المدّعي البيّنة على أنّها له، قضى له. و قال العلّامة في قواعده: تدفع إليه بلا بيّنة و لا يمين، لكون دعواه دعوى بلا منازع و هو غير تامّ لأنّه إنّما يكون كذلك فيما إذا لم يكن عليها يد و المفروض استقرار يد الحاكم عليها و هو يد نيابيّة عن مالكها الواقعي، فلا يدفع إلّا إلى مالكها الواقعي، نظير اللقطة، فلا يدفع لمن ادّعاها إلّا بعد ثبوت كون المدّعي مالكاً.

الفرع الرابع: لو اعترف ذو اليد (المدّعى عليه) بأنّها لمجهول

لم تندفع الخصومة و أُلزِمَ البيان.

أقول: إنّ المقرّ تارة يقول ليست لي بل هي لغيري على وجه يحتمل دخول المدّعي في ضمنه فعندئذ أُلزم البيان، لأنّه متّهم بأنّه حال بينه و بين ماله، و أمّا إذا صرّح بأنّها ليست للمدّعي و إنّما هي لغيره، فبذلك دفع عن نفسه الخصومة، فلا دليل على إلزامه بالبيان فيخرج المقرّ عن أطراف النزاع و بما أنّ المقرّ اعترف بانّها للغائب فلو أثبت المدّعي بالبيّنة أو الشاهد و اليمين أنّ العين له يقضى له، لكن الغائب على حجّته، و لأجل ذلك يلزم على الحاكم أخذ الضامن لئلّا يتضرّر

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 139

الغائب إذا ثبت خلافه.

المسألة الرابعة: دوران الأمر بين الإجارة و الإيداع

قال المحقّق: إذا ادّعى أنّه أجّره الدابة و ادّعى آخر أنّه أودعه إيّاها تحقّق التعارض مع قيام البيّنتين بالدعويين، و عُمِل بالقرعة مع تساوي البيّنتين في عدم الترجيح.

ما ذا يريد المحقّق من كلامه هذا فهل الدعويان المختلفتان من مصاديق الدعوى في الأملاك أو من مصاديق الدعوى في العقود؟ و بما أنّ الثاني يأتي في المقصد الثاني و هو بعدُ لم يخرج عن المقصد الأوّل يلزم حمل العبارة على الاختلاف في دعوى الملك. فنقول:

المقصود أنّه إذا كانت العين بيد ثالث غائب فادّعى أحد المدّعيين أنّه أجّرها له و ادّعى المدّعي الآخرُ أنّه أودعه إيّاها فيعود واقع النزاع إلى الاختلاف في مالك العين فالأوّل يدّعي أنّه المالك آجرها للثالث و الثاني يدّعي أنّه المالك لكنّه أعاره إيّاها فليس النزاع في العقد الخارجي حتّى يدّعي أحدهما أنّه كان إجارة و الآخر أنّه كان إيداعاً، بل النزاع في المالكية يدّعي أحدهما بتصرّفه فيها بالإجارة، أنّه المالك، و الآخر يدّعي بتصرّفه فيها

بالإيداع، أنّه المالك و عند ذلك يعود النزاع إلى الاختلاف في دعوى الملكيّة و بذلك يظهر ضعف ما ذكره في المسالك من أنّ ذكر هذه المسألة في المقصد الثاني أولى لأنّ الاختلاف فيها اختلاف في العقود. «1»

و ذلك لأنّه إنّما يكون النزاع في العقود إذا كان النزاع ثُنائياً لا ثلاثياً كما في المقام و ذلك بأن اتّفق المالك و القابض على صدور عقد من المالك فيدّعي الأوّل أنّه كان إيداعاً و الآخر أنّه كان إجارة أو بالعكس و لو كان كذلك فالمرجع في

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 437.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 140

الصورتين هو ضمان ما أتلف إلّا إذا ثبت تسليط المالك على ماله بالمجّان.

ثمّ إنّ المفروض أنّ من بيده المال إمّا غائب عن محلّ المحاكمة أو ميّت و ليس للوارث فيها ادّعاء فلا تلحق المسألة بالصورة الثالثة التي، قلنا إنّ لها حالات خمس: حيث إنّ الثالث إمّا أن يصدّقهما أو يصدّق أحدهما أو يكذبهما إلى آخر ما ذكرناه بل الأولى إلحاقها بالصورة الرابعة الأصلية الماضية، التي يدّعي المدّعيان فيها عيناً، ليس لأحد عليها يد و المقام أيضاً نظيرها و قد تقدّم أنّ المرجع فيها هي القرعة، لخبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه البصري و فيه: كان علي عليه السَّلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء و عددهم أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين «1» و نظيره خبر داود بن سرحان 2 و حسنة زرارة 3 و صحيح الحلبي 4.

ترى أنّ جميعها تؤكد على القرعة عند عدم الترجيح و إلّا فالعمل بأرجح البيّنتين و قد اتخذ المحقق هذه الروايات سنداً لفتواه و روايات القرعة و

إن كانت مطلقة تعم الصور الأربع، لكنّها محمولة على غير الصورتين الأُوليين جمعاً بين الأدلّة كما أنّها ساكتة عن ردّ اليمين إذا نكل من خرجت القرعة باسمه، لكنّه ورد في صحيح إسحاق بن عمّار 5 و فيه: «فقيل له فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة. فقال: احلفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين». 6 بعد تقييد الإحلاف في الصحيح بالإقراع جمعاً بينه و بين الروايات السابقة كما يقيّد معتبر غياث بن إبراهيم بمجموع ما سبق حيث جاء فيها: «لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين».

المسألة الخامسة: قد ذكر المحقّق فيها فروعاً ثلاثة:
اشارة

______________________________

(1) 1، 2، 3، 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5، 6، 7، 11.

(2) 5 و 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 141

الفرع الأوّل: لو ادّعى داراً في يد انسان و أقام بيّنة أنّها كانت في يده أمس أو منذ شهر، فهل تُسْمع البيّنة أو يقضى بظاهر اليد؟

التحقيق أنّه يقضى بظاهر اليد لأنّ مفاد البيّنة لا يتجاوز عن كونه مالكاً، أو كون العين تحت يده أمس، أو متصرّفاً فيها في ذلك الظرف، و هي بهذا المضمون لا تعارض ظاهر اليد الدال على كونه مالكاً الآن، إذ لا منافاة بين المضمونين، حتّى يقدّم أحدهما على الآخر.

أضف إلى ذلك، أنّ الشهادة لا تطابق الدعوى إذ بيّنته قائمة على مالكيته في الظرف الغابر و لكنّه يدّعي أنّه المالك الآن، فكيف تثبت بها.

نعم استقرب المحقّق القضاء على وفق البيّنة قائلًا بأنّ اليد الحاضرة و إن كانت دليل الملك لكن الملكية السابقة المسلّمة إذا ضمّ إليها الاستصحاب يثبت انّه المالك الآن، و أمّا كونها أرجح لتضمّن البيّنة مع الاستصحاب شيئاً زائداً على مفاد اليد و هو كونه مالكاً في الزمن السابق.

و ذهب الشيخ إلى عدم السماع و قال:

«إذا ادّعى داراً في يد رجل فقال: هذه الدار الّتي في يديك لي و ملكي فأنكر المدّعى عليه فأقام المدَّعي البيّنة أنّها كانت في يديه أمس أو منذ سنة سواء، فهل تُسمع هذه البيّنة أم لا؟ قال قوم: هي غير مسموعة. و قال آخرون: مسموعة و يقضى للمدّعي، و لا فصل بين أن تشهد البيّنة له بالملك أمس، و بين أن تشهد له باليد أمس، و الصحيح عندنا أنّ هذه الدعوى غير مسموعة.

فمن قال: هي مسموعة حكم بالدار للمدّعي، و من قال: غير مسموعة

فلا بيّنة مع المدّعي فيكون القول قول المدّعى عليه مع يمينه». «1»

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 269.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 142

يلاحظ على مختار المحقّق أوّلًا: أنّه لو افترضنا العلم الوجداني بكون المدّعي مالكاً أمس لا يكون معارضاً لمفاد اليد، فكيف بالبيّنة القائمة مقامها؟!

و ثانياً: أنّ اليد مقدّمة على الاستصحاب و إلّا لزمت لغوية حجّية اليد، إذ ما من عين تحت يد إنسان، إلّا و هي كانت ملكاً للغير قبل استيلاءه عليها فلو كان الاستصحاب مقدّماً على مفاد اليد، لزمت لغوية تشريع حجّيتها و لذلك قالوا بحكومة اليد على الاستصحاب.

و ثالثاً: مَنِ المستصحب، فهل هو الحاكم، أو الشاهد؟ أمّا الأوّل فليس بصحيح لأنّ أداة القضاء حسب النبوي الشريف منحصرة في البيّنة و اليمين لا غير، أمّا الثاني، فقد تعرّض به العلّامة في القواعد و قال لو قال: أعتقد أنّه ملكه بالاستصحاب ففي قبوله إشكال، أوجهه أنّ له الشهادة بما شهد، لا بما استصحب.

الفرع الثاني إذا شهدت بيّنة المدّعي أنّ صاحب اليد غصبها أو استأجرها منه

حكم ببيّنة المدّعي، لأنّها شهدت بالملك و سبب يد الثاني.

حاصله: وجود الفرق بين الفرعين فإنّ البيّنة في الأوّل شهدت بملكية المدّعي في الأمس، و لذلك لم تزاحم مقتضى اليد و هو أنّ المتشبّث مالك، بخلاف هذا.

توضيحه: إنّ البيّنة إمّا أن تشهد بأنّ استيلاء الثاني على العين كان عدوانياً أو أمانيّاً من جانب المالك و هو مستمر إلى حين الشهادة، و إمّا أن تشهد بأنّه كان كذلك في السابق من دون تعرّض للوضع الحاضر.

أمّا الأوّل: فالبيّنة بالدلالة الالتزامية تدلّ على أنّ المدّعي هو المالك و الآخر هو الغاصب أو المستأمن من جانب المالك فتقدم على مقتضى اليد لتبين فسادها.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص:

143

و على الثاني فالشهادة و إن كانت مقتصرة على الماضي غير انّ قول من أقام البيّنة هو الموافق للأصل و هو عدم تجدّد يد أُخرى غير الأُولى له. فيكون منكراً فيكون قول القائل بحدوث يد أُخرى وراء الاستيلاء الغصبي أو الاستيجاري مدّعياً فيحلف.

و بذلك بان الفرق بين الفرعين و حاصله تبيّن فساد اليد في الثاني دون الأوّل. و إلى ما ذكرنا ينظر كلام الشيخ حيث قال:

هذا إذا لم يعلم سبب يد المدّعى عليه، فأمّا إذا علمت سبب يد المدّعى عليه، فقالت البيّنة نشهد أنّه كان في يده، و أنّ الذي هو في يده أخذه منه أو غصبه إيّاها أو قهره عليها فحينئذ يقضى للمدّعي بالبيّنة لأنّها شهدت له بالملك، و سبب يد الثاني، فلهذا حكمنا عليه بذلك، و يفارق إذا لم يشهد بسبب يد الثاني، لأنّ اليد إذا لم يعرف سببها دلّ على الملك، فلا تزال بأمر محتمل، فبان الفصل بينهما. «1»

الفرع الثالث قال المحقق: لو قال غصبني إيّاها و قال آخر بل أقرّ لي بها و أقاما البيّنة

قضي للمغصوب منه و لم يضمن المقرّ لأنّ الحيلولة لم تحصل بإقراره بل بالبيّنة.

قال الشيخ: إذا تنازعا داراً في يدي رجل فادّعى أحدهما فقال هذه الدار غصبتني عليها و أقام البيّنة بذلك و قال الآخر: الدار لي أقرّ لي بها و أقام البيّنة بذلك، حكمنا بها للمغصوب منه لأنّها شهدت له بالملك، و أنّ الدار في يده غصب، و الّتي شهدت على الإقرار بها كان إقراره بدار مغصوبة، فلا ينفذ إقراره فيها فيدفع الدار إلى المغصوب منه و لا يغرم المدّعى عليه شيئاً للّذي شهد له بالإقرار، لأنّه ما حال بينه و بينها، و إنّما حالت البيّنة بينه و بين الدار، فلأجل

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 269.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة

الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 144

ذلك لم يلزمه شي ء. «1»

توضيح صورة الفرع: أنّ النزاع في الفرعين السابقين كان ثنائياً فكان المدّعي ذا بيّنة أمام صاحب اليد غير أنّ البيّنة كانت قائمة في الفرع الأوّل على الملكية في الظرف الغابر، من دون تعرّض لفساد اليد، بخلافها في الصورة الثانية فهي كانت قائمة على فساد اليد على التفصيل السابق، و أمّا المقام فالنزاع ثلاثي فالعين بيد الثالث و أحد الشخصين يدّعي كونه مالكاً بشهادة بيّنته و الشخص الآخر يدّعي أنّ ذا اليد أقرّ بمالكيته و أقام بيّنة على إقرار الثالث لذلك الشخص، ففي هذا الفرع تقدّم بيّنة المدّعي لأنّها أثبتت فساد اليد و أنّها كانت عدوانية أو غير مالكية فيفسد إقراره في زمن اليد لانّه إقرار إمّا بعين مغصوبة أو غير مملوكة، فلا ينفذ في حقّ الآخر.

ثمّ إنّ هناك سؤالًا، و هو أنّ المقرّ أي الشخص الثالث هل يضمن قيمتها للمقرّ له أو لا؟ و الظاهر عدم ضمانها لانّه ليس من قبيل من أقرّ لشخص بعد إقراره لشخص آخر و إنّما أقرّ لشخص واحد و هو بعدُ على إقراره و لم يكن سبباً للحيلولة بينها و بين مالكها (المقرّ له) و إنّما حالت بيّنة المدّعي، فلا يصحّ تنزيل بيّنة المدّعي إقراراً أوّلًا و إقراره للمقرّ له إقراراً ثانياً. غاية ما في الباب يعد إقراره حسب الظاهر إقراراً كاذباً و أمّا الواقع فاللّه هو العالم.

تمّ الحديث حول المقصد الأوّل من المقاصد الأربعة التي تعرفت على فهرسها و إليك الكلام حول المقصد الثاني.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 270.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 145

المقصد الثاني: في الاختلاف في العقود
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأُولى: إذا اتّفقا على استئجار دار معيّنة شهراً معيّناً و اختلفا في الأُجرة
اشارة

و للمسألة شقوق و إليك بيانها:

1- إنّهما إمّا أن يعدما البيّنة.

2- و إمّا أن يقيما البيّنة.

3- و إمّا أن يقيم أحدهما البيّنة.

و على كلّ تقدير فالاختلاف إمّا بعد استيفاء المدّة أو في أثنائها أو في ابتدائها فتكون الصور حينئذ تسع.

أمّا الشقّ الأوّل بصوره الثلاث «1» فالمشهور تقديم قول المستأجر

و عن التذكرة نسبته إلى علمائنا، و أنّ النزاع من قبيل المدّعي و المنكر فالمؤجر يدّعي على المستأجر عشرة دنانير، و المستأجر يعترف بخمسة و ينفي الزائد، فالبيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر، خلافاً للشيخ حيث قال بالتحالف و جعل المقام من قبيل التداعي و قال بوجوب أُجرة المثل «2»، و أفاد ما هذا توضيحه:

إنّ كلًا منهما مدّع و مدّعى عليه، لانّ العقد المتشخص بالعشرة غير العقد

______________________________

(1) لا يخفى على القارئ انّ تفصيل المطالب بصورة المسائل راجع إلينا و إلّا فالمحقق يورد الفروع بلا تفصيل.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 263.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 146

المشتمل على الخمسة خاصة، فيكون كلّ واحد منهما مدّعياً لعقد غير العقد الذي يدّعيه الآخر و هذا يوجب التحالف حيث لم يتفقا على شي ء و يختلفا فيما زاد عنه.

و أورد عليه في المسالك بأنّ العقد لا نزاع بينهما فيه و لا في استحقاق العين المؤجرة للمستأجر و لا في استحقاق المقدار الذي يعترف به المستأجر و إنّما النزاع في القدر الزائد فيرجع فيه إلى عموم الخبر (البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر) و لو كان ما ذكر من التوجيه موجباً للتحالف يورد في كلّ نزاع على حق مختلف المقدار كما لو قال: اقرضتك عشرة فقال: لا بل خمسة، فإنّ العقد المتضمن لأحد المقدارين غير العقد المتضمن للآخر و كما لو قال: ابرأتني

من عشرة من جملة الذي عليه فقال: بل من خمسة، فإنّ الصيغة المشتملة على إسقاط أحدهما غير الأُخرى و هكذا القول في غيره و هذا ممّا لا يقول به أحد، و الحقّ أنّ التحالف إنّما يرد حيث لا يتفق الخصمان على قدر و يختلفان في الزائد عنه كما لو قال الموجر: آجرتك الدار شهراً بدينار فقال المستأجر: بل بثوب، أو قال: آجرتك هذه الدار بعشرة فقال: بل تلك الدار، و نحو ذلك، أمّا في التنازع فالقول المشهور من تقديم قول المستأجر هو الأصح. «1»

ثمّ إنّ صاحب الجواهر بعد ما نقل نقد المسالك أراد إيجاد التصالح بينه و بين الشيخ بأنّه يجب الإمعان في مصبّ الدعوى، فإن كان مصبّ الدعوى هو اختلافها في تشخص العقد الذي هو سبب الشغل فالمورد من قبيل التحالف إذ لا فرق في مشخصاته بين زيادة الثمن و نقصانه و بين غيرهما من المشخصات.

و إن كان مصبّ الدعوى هو طلب الزائد و إنكاره و إن صرّحا بكون ذلك من ثمن الإجارة يكون من باب التنازع و كان الموجر مدّعياً و المستأجر منكراً. «2»

و لا يخفى ما في نظره من التكلّف فإنّ مفهوم المدّعي و المنكر من المفاهيم العرفية الموجودة قبل الإسلام و بعده و ليس الإسلام مخترعاً لهذين المفهومين، و على

______________________________

(1) المسالك: 2/ 438.

(2) الجواهر: 40/ 458.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 147

ضوء ذلك فبما أنّ المترافعين من عامة الناس و ليس لهما غرض إلّا استحصال الحقّ فعلى ذلك لا يكون مصبّ الدعوى و ما يذكرونه في كلامهما مقياساً لتشخيص المدّعي عن المنكر لأنّ كلامهما هذا مرآة و طريق إلى نواياهم و أغراضهم التي دعتهم إلى

الحضور للمحكمة و هي تحصيل الحق، و عليه فلا فرق بين الصورتين سواء قال المدّعي آجرته الدار بعشرة و قال الآخر: آجرني الدار بخمسة، أو قال: لي عليه عشرة دينار من أجل إجارة الدار و قال الآخر: عليّ له خمسة دينار من تلك الجهة و على كلّ تقدير فلو كان النزاع بعد الاستيفاء فالغرض الأصلي للحضور في المحكمة هو استحصال الزائد عن الخمسة.

نعم لو كان هناك اختلاف في المبيع كأن يقول أحدهما: بعتك غنماً و قال الآخر: باعني بقرة، أو قال الأوّل: بعتك الغنم بعشرة دنانير و قال الآخر: باعني بثوب أو كتاب، فلا شكّ أنّ المقام من قبيل التداعي إذ لم يتّفقا على شي ء حتّى يختلفا في الزائد. هذا كلّه حول الصورة الأُولى و إليك الكلام حول الصورة الثانية.

الصورة الثانية إذا اتفقا على استئجار دار معيّنة شهراً معيّناً و اختلفا في الأُجرة و أقام كلّ منهما بيّنة بما قدر

، فقد نقل المحقق قولين:

1- إن تقدّم تاريخ إحداهما عمل به، لأنّ الثاني يكون باطلًا.

و إن كان التاريخ واحداً تحقق التعارض إذ لا يمكن في الوقت الواحد وقوع عقدين متنافيين و حينئذ يقرع بينهما و يحكم لمن خرج اسمه مع يمينه، قال: هذا اختيار شيخنا في المبسوط. «1»

و لنأخذ هذا القول بالبحث.

______________________________

(1) لاحظ المبسوط: 8/ 263، و قد بسط الكلام في الصور و لخصه المحقق.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 148

أمّا الشق الأوّل من كلامه و هو: تقديم أقدم البيّنتين تاريخاً، فكما إذا شهدت إحداهما على إجارة الدار بأُجرة في شهر رمضان و الأُخرى على الإجارة في شهر شوال و هو مبنيّ على أنّ التقدّم بالتاريخ من المرجّحات، و قد تقدّم الكلام منّا عند قول المحقق: «و الشهادة بقديم الملك أولى من الشهادة بالحادث» و قلنا هناك: إنّ التقدّم تاريخياً

ليس بمرجّح، بل ليست البيّنتان عندئذ من المتعارضين إذ لا منافاة بين العقدين لإمكان وقوع إقالة بينهما، و الحكم ببقاء الإجارة الأُولى تمسكاً بالاستصحاب غير تام لانّ المستصحِب إمّا هو الحاكم أو الشاهد.

أمّا الأوّل فالمفروض انّ أداة القضاء منحصرة في الأيمان و البيّنات و ليس الاستصحاب منهما.

و أمّا الثاني، فالمفروض سكوت الشاهد عن الحالة اللاحقة و قد تفطّن صاحب الجواهر بهذا الإشكال و حاول دفعه بقوله: «بعد اتّفاقهما على عدم الإقالة» لكن كلام المحقق مطلق، نعم لو اتّفقت البيّنتان أو الطرفان على عدم الإقالة قُدِّمتْ البيّنة الأُولى لأنّ الاتفاق على عدم الإقالة يثبت بقاء الإجارة الأُولى، فيكون العقد الثاني باطلًا.

و أمّا الشقّ الثاني، أي إذا لم تكونا مؤرختين أو كانت إحداهما مؤرخة دون الأُخرى، فالحكم بالإقراع مبنيّ على دخول المورد في روايات الباب التي مرّت في المسائل السابقة، و الفارق بين هذه الصورة و الصورة الأُولى حيث ذهب الشيخ هناك إلى التحالف و التساقط و الحكم بفسخ العقد و الرجوع إلى أُجرة المثل بخلاف المقام، حيث اختار القرعة ثمّ حَلْفِ من خرجت القرعة باسمه، هو وجود البيّنتين في المقام دون الآخر.

و بعبارة أُخرى لمّا كانت الدعوى في الصورة الأُولى مجرّدة عن البيّنة دخل المورد عند الشيخ في باب التداعي و الحكم فيه هو التحالف و انفساخ العقد بحكم الحاكم و الرجوع إلى أُجرة المثل، بخلاف الصورة الثانية فإنّ اقترانها بالبيّنتين

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 149

جعلها داخلة في باب تعارض البيّنتين و الحكم في مثلها هو الإقراع إذا لم تكن إحداهما مرجّحة، و في الحقيقة تكون الصورة الثانية أشبه بالصورة الرابعة من الصور الأربع الماضية في المسائل السابقة و

هو إذا ما ادعيا شيئاً و لم يكن عليه يد واحد منهما، فإنّ العين المستأجرة خارجة عن حريم النزاع، و أمّا المنافع فليست عليها يد لأنّ استيفاءها تدريجي لا يقبل الاستيلاء.

هذا توضيح لكلام الشيخ و سيوافيك ما فيه.

2- ما حكي عن ابن ادريس أنّه يقضى ببيّنة المؤجر. لأنّ القول قول المستأجر لو لم يكن بيّنة، و من كان القول قوله مع عدم البيّنة كانت البيّنة في طرف المدّعي، و حينئذ نقول هو مُدعى زيادة و قد أقام البيّنة بها فيجب أن يثبت.

ثمّ إنّ المحقق بعد ما نقل القولين قال: و في القولين تردّد، و فسّره في الجواهر بقوله: «و في إطلاق القولين تردّد». بناء على ما مضى منه من جعل الدعوى تارة من قبيل المدّعي و المنكر، و أُخرى من قبيل المتداعيين. و حاول بذلك أن يثبت أنّ المحقق تأمل في إطلاق كلّ من القولين و إلّا فالقولان بلا إطلاق صحيحان لكن كلًا في مورده.

يلاحظ على هذا القول، بأنّه لم يدل دليل على ما ادعاه «من أنّ كل من كان القول قوله مع عدم البيّنة كانت البيّنة في طرف المدّعي» و ذلك لأنّه إن أراد انّه تسمع بيّنة المدّعي إذا لم تكن للآخر بيّنة فهو متين و لكنّه غير المدّعى، و إن أراد أنّه تقدّم بيّنة المدّعي على بيّنة المنكر فهو أوّل الكلام لما مرّ من أنّ قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «البيّنة للمدّعي و اليمين على من أنكر» لا يحمل معنىً سلبياً و هو عدم حجّية بيّنة المنكر إذا كانت مع المدّعي بيّنة، بل أقصى ما يستفاد منه هو أنّ إقامة البيّنة من واجب المدّعي في مقابل المنكر و أنّ المنكر

يكفيه عدم الدليل على الإثبات، و بعبارة أُخرى أنّ العب ء على عاتق المدّعي و ليس على عاتق المنكر شي ء، لانّ المدّعي يريد إثبات حقّ أو إزالته، فعليه السعي و الجهد دون المنكر، و أمّا أنّه إذا سعى

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 150

المنكر و تحمل العب ء و أقام بيّنة فلا تسمع، فهذا ما لا يستفاد من الحديث النبوي.

و على ذلك تكون البيّنتان متعارضتين، فيؤخذ بأرجحهما كالأكثرية عدداً و عدالة، و إلّا فيرجع إلى القرعة كما ذكره الشيخ.

و مع ذلك كلّه فقول الشيخ من الرجوع إلى القرعة في المقام، مبنيّ على وجود الإطلاق في الروايات الآمرة بالقرعة عند تعارض البيّنتين بحيث يشمل الاختلاف في العقود و قد قدّمنا الكلام فيه بدراسة روايات الباب و حاصله أنّ موردها بين مجمل فاقد للإطلاق كخبر عبد الرحمن البصري فيه: ثمّ يجعل الحق للذي يصير عليه اليمين إذا حلف. «1» و خبر داود بن سرحان في شاهدين شهدا على أمر و جاء ... فأجاب يقرع بينهم فأيّهم قرع، عليه اليمين و هو أولى بالقضاء 2 و صحيح حمّاد في رجلين شهدا على أمر 3 و بين وارد في الحقوق كخبر داود بن أبي يزيد العطّار 4 الوارد فيما إذا ادعيا زوجيّة امرأة، أو الأموال و هي أكثرها كرواية زرارة الواردة في الاختلاف في مقدار الدرهم الذي كان عنده و رواية سماعة 5 و رواية عبد اللّه بن سنان 6 الواردتين في الاختلاف في ملكية الدابة فكيف يمكن التمسك بها في الاختلاف في العقود كما في المقام حيث إنّ أحدهما يدّعي أنّه آجره بعشر و الآخر بخمس، ففي مثل المقام لا محيص من الرجوع إلى

أحد الأُمور الثلاثة:

1- ترجيح بيّنة المدّعي على بيّنة المنكر، كما عليه ابن إدريس قائلًا بعدم حجّية بيّنة المنكر، عند التعارض.

2- ترجيح بيّنة المنكر أي الداخل لما مرّ من ورود ترجيحها على الأُخرى في الروايات و لكن شمولها للمقام مشكل، لأنّ ترجيح بيّنة المنكر عند الاختلاف في الملكية لأجل أنّ استيلاءه على العين يكون مؤكداً لصدق بيّنته و مرجحاً لها فتقدّم

______________________________

(1) 1- 6 الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5، 6، 11، 8، 7، 12، 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 151

على الأُخرى. و أمّا المقام فليس النزاع في ملكية العين حتّى يعدّ الاستيلاء مرجّحاً لها بل في أُجرة منفعة العين قبل الاستيفاء أو بعده أو أثنائه و نسبة المنفعة التي اتّفقا على نقلها، إلى المدّعي و المنكر، سواء.

3- الرجوع إلى قواعد القضاء بعد سقوط البيّنتين من الحجّية و هو إمّا التحالف و انفساخ العقد و الرجوع إلى أُجرة المثل إذا كان المورد من قبيل التداعي أو استحلاف المنكر إذا كان من باب التنازع و اختلاف المدّعي و المنكر، فيحلف المنكر أو يردّه إلى المدّعي و بما أنّ المقام من قبيل الثاني، بشهادة أنّ المؤجر بصدد إثبات حقّ غير ثابت، فالمرجع حلف المنكر.

الصورة الثالثة: إذا كانت البيّنة لأحدهما

إذا كانت البيّنة لأحدهما فعلى ضوء ما ذكرنا يؤخذ بها سواء كانت للمدّعي أو للمنكر، و على ما ذكره ابن إدريس من عدم حجّية بيّنة المنكر فيؤخذ بها إذا أقامها المدّعي لا المنكر، و قد عرفت ضعفه.

المسألة الثانية لو ادّعى استئجار دار فقال المؤجر بل آجرتك بيتاً منها
اشارة

للمسألة صور ثلاث:

الأُولى: إذا لم تكن لهما بيّنة.

الثانية: إذا كان لهما بيّنة.

الثالثة: إذا كانت لأحدهما بيّنة.

[أما الصورة الأولى إذا لم تكن لهما بينة.]

أمّا الأُولى: ففيها قولان:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 152

1 قول الشيخ و هو أنّه يقرع بينهما.

2- قول ابن إدريس و هو أنّ القول قول الموجر.

أمّا قول الشيخ فهو مبنيّ على أنّ المقام من باب التداعي فيقرع بين المدّعين.

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ المقام من قبيل الأقلّ و الأكثر فالمستأجر يدّعي استئجار جميع البيت و الموجر يدّعي غرفةً واحدة، و على ضابط القضاء يحلِفُ المنكر و هو الموجر كما عليه القول الثاني. نعم إنّما يكون من باب التداعي إذا اختلفا في الدار المستأجرة فادّعى كلّ، إجارة دار، غير ما يدّعيه الآخر، و المفروض في كلام المحقّق غير ذلك.

و ثانياً: نفترض أنّه من باب التداعي لكن حكمه التحالف لا القرعة فيتحالفان فينفسخ العقد بحكم الحاكم فيرجع إلى أُجرة المثل عند الاستيفاء، و العجب أنّ المحقّق اختار القرعة و استدل عليه بقوله: «لأنّ كلًا منهما مدع» مع أنّ مقتضى تعليله التحالفُ و الفسخ، لا القرعة.

و أمّا قول ابن إدريس فهو الحقّ كما تبيّن.

و أمّا الصورة الثانية [أي إذا كان لهما بينة]

فقد أفاد المحقّق و قال:

«و لو أقام كلّ منهما بيّنة تحقّق التعارض مع اتّفاق التاريخ و مع التفاوت يحكم للأقدم لكن إن كان الأقدمُ بيّنةَ البيت حكم بإجارة البيت بأُجرته، و بإجارة بقيّة الدار بالنسبة من الأُجرة».

فله دعويان:

الأُولى: أنّه مع اتّفاق التاريخ أو إطلاقهما أو إطلاق إحداهما و تاريخ الأُخرى و التساوي في العدد و العدالة، يقرعُ بينهما، و لكنّه مبنيّ على شمول أدلّة القرعة عند تعارض البيّنتين للاختلاف في العقود كما في المقام، حيث يختلفان في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 153

أنّ العقد هل تعلّق بالبيت وحده أو على مجموع الدار، و قد

عرفت أنّ روايات القرعة بين مجمل لا يحتج به، أو مختص بالأعيان الشخصية و لا يعمّ الاختلاف في العقود، و على ذلك فالرجوع إلى القرعة غير واضح و سيوافيك ما هو المرجع في هذه الحالة.

الثانية: أنّه مع التفاوت في التاريخ يحكم للأقدم، و لكن إن كان الأقدم بيّنة البيت حكم بإجارة البيت بأُجرته و بإجارة بقية الدار بالنسبة من الأُجرة. و ذلك لأنّه إذا كانت بيّنة البيت متقدّمة التاريخ يؤخذ بها فتكون الأُجرة المدعاة على ذمّة المستأجر شرعاً.

و بما أنّ بيّنة المستأجر قامت على استئجار الدار بنفس الأُجرة يحكم بها عليه و لمّا ثبت استئجار البيت بالبيّنة السابقة تستقر بها عليه أُجرة الدار سوى ما يقابل البيت مثلًا إذا فرض أنّ الأُجرة التي اتّفقا عليها عشرة دنانير لكن ادّعى المستأجر أنّها أُجرة الجميع و ادّعى الموجر أنّها أُجرة البيت و كان المتقدّم تاريخاً بيّنة البيت، ثبت على المستأجر خمسة عشرة: عشرة دنانير أُجرة البيت ببيّنة المؤجر و خمسة في مقابل باقي الدار ببيّنة المستأجر.

يلاحظ عليه: أنّه كيف يمكن أن يحكم على المستأجر بدفع خمسة عشر دينار مع أنّهما متسالمان على أنّ الموجر لا يستحق أكثر من عشرة دنانير فكيف يستحق الخمسة مع العلم التفصيلي بعدم الاستحقاق و قياس المخالفة في المقام بالمخالفة في مورد الودعيّ حيث إنّ الدينار المتروك لواحد منهما فكيف يُقسَّم بينهما قياس مع الفارق، لأنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظ في العلم الإجمالي بالمخالفة دون العلم التفصيلي بها، فلا يجوز المخالفة معه أبداً.

و بذلك يظهر أنّ ما اعتذر به صاحب الجواهر عن هذا الإشكال غير تامّ، حيث قال: و لا ينافي ذلك خروجُه عن دعواهما الّتي هي وقوع عقد واحد منهما و كون

العوض فيه عشرة، و إنّما الاختلاف فيما تضمّنه في مقابلة العشرة، الدار

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 154

أو البيت لأنّ الثابت في الشرع حجّية بيّنتهما لا دعواهما و قد اقتضتا ما عرفت. «1» و ذلك لأنّهما إذا اتّفقا على وحدة العقد و مقدار الثمن فكيف يستحقّ أكثر ممّا اتّفقا عليه و ما ذكره إنّما يصحّ في مورد العلم الإجمالي لا التفصيلي كما في المقام.

و الظاهر وحدة الحكم في الصورتين (فقدان البيّنة و واجد منها)، و ذلك لأنّه إذا لم تشمله أدلّة القرعة (لأجل كون النزاع في العقود لا الأعيان الشخصية) فالمرجع هو تساقط البيّنتين عن الحجّية و الرجوع إلى قواعد القضاء و بما أنّ المورد من قبيل الأقلّ و الأكثر فيؤخذ بقول المنكر و هو الموجر لما عرفت في الصورة الأُولى.

اللّهمّ إلّا إذا لم يكن بين البيّنتين تعارض كما إذا كان إحداهما أقدم تاريخاً فيؤخذ بها إذا اتّفقا على عدم عقد ثان فيقضى به سواء كان الأقدم بيّنةَ الموجر أو بيّنة المستأجر، و تكون ذمة المستأجر مشغولة بثمن واحد، فتكون النتيجة:

الأخذ بقول المنكر (الموجر) عند فقدان البيّنة.

الأخذ بقول الموجر عند وجود البيّنتين مع وحدة التاريخ.

الأخذ بأقدم البيّنتين إذا كان هناك اختلاف في التاريخ.

و أمّا الترجيح بالأكثرية عدداً و عدالة فإنّما هو إذا كانت البيّنتان حجّتين و قد قلنا بالتساقط، و إنما أخذنا بالأقدم لأنّه يبطل مفاد البيّنة الثانية و لأجل ذلك لم نأخذ بهما عند وحدة التاريخ.

الصورة الثالثة: إذا كان لأحدهما بيّنة

و حكمها أنّه يؤخذ بها سواء كان المؤجر أو المستأجر.

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 463.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 155

المسألة الثالثة: فيما إذا اتّحد البائع و تعدّد المشتري
اشارة

هذه المسألة و ما تليها من الرابعة و الخامسة فيها جهة اشتراك، و جهة اختلاف: أمّا وجه الاشتراك فالاتفاق على المبيع المعيّن في جميعها و أمّا وجه الاختلاف ففي الثالثة وحدة البائع و تعدّد المشتري حسب الظاهر و في الرابعة تعدد البائع و وحدة المشتري كذلك، و في الخامسة تعددهما حسب مفهوم البيّنة.

ففي المسألة الثالثة أي وحدة البائع و تعدد المشتري، يكون المحور عندنا هو إقرار البائع و إنكاره من غير فرق بين صورة فقدان البيّنة و وجدانها على الإطلاق نعم على فرض وجود البيّنة لواحد منهما، يقضى على صاحبها و يغرم البائع لو أقرّ على غير صاحبها. هذا إجمال الكلام و إليك التفصيل:

لو ادّعى كلّ منهما أنّه اشترى داراً معيّنة من شخص بعينه، و أقبض الثمنَ و هي في يد البائع «1» فللمسألة صور ثلاث:

الصورة الأُولى: إذا لم يكن لهما بيّنة

فعندئذ يرجع إلى صاحب اليد فإن كذّبهما حلفَ لهما و اندفعا عنه. و إن صدّق أحدهما دفع له العين و حلف للآخر.

الصورة الثانية: لو أقام كلّ منهما بيّنة مع تساوي البيّنتين عدالة و عدداً و تاريخاً أو مطلقتين أو إحداهما مطلقة و الأُخرى مؤرخة

، و تحقّق التعارض و لم يمكن الجمع بينهما قال المحقق:

«حكم لمن يخرج اسمه مع بيّنته» و على ضوء ما ذكره فإن حلف يقضى له و يلزم البائع إعادة الثمن إلى الآخر لأنّ قبض الثمنين غير ممكن فإن نكل الخارج بالقرعة أُحلِف الآخر، و إن نكلا قسّمت العين بينهما و رجع كلّ منهما بنصف الثمن.

______________________________

(1) لاحظ المبسوط: 8/ 281280 فقد بسط الكلام في المسألة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 156

و هل لهما الفسخ حينئذ لتبعّض الصفقة؟ وجهان: الخيار لوجود المقتضي للفسخ، و عدمه لأنّ التبعّض جاء مِن قبلهما فإنّ الخارج بالقرعة لو حلف لأخذ الجميع، فكان التبعيض من قبله و على كلّ تقدير فإن فسخ أحدهما أخذ الآخر الجميع لعدم المزاحم و لا خيار له لأنّ المقتضي للخيار تبعّض الصفقة و قد انتفى و يحتمل وجود خيار لأنّه إذا ثبت له ابتداء يستصحب بقاؤه. «1»

يلاحظ عليه: أن لا فرق بين الصورتين (وجود البيّنة و عدمها) فكما يرجع إلى البائع عند عدم البيّنة، فهكذا يرجع إليه عند وجودها فلو أقرّ بهما، يكون المقرّ لهما بمنزلة ذوي اليد فيدخل تحت الصورة الأُولى من الصور الأربع الماضية في مبحث تعارض البيّنات، و إن أقرّ بأحدهما يدخل تحت الصورة الثانية منهما و قد وقفت على حكمهما.

و وجهه، أنّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به، فكما أنّ إقراره حجّة فيما إذا لم تكن هناك بيّنة، فهكذا فيما إذا كانت بيّنة، و قيام البيّنة إنّما يزاحم إقراره لثالث لاتّفاقهما على نفي الثالث، و أمّا

الإقرار لواحد منهما أو لكليهما فلا يزاحمه قيام البيّنة كعدم حجّيتهما في مفادهما المطابقي أي كون المالك واحد منهما فقط مثلًا و إن كانتا حجّة في مفادهما الالتزامي. و قد صرّح صاحب الجواهر بأنّ تصديق البائع يجعل المقرّ له بمنزلة ذي اليد. «2»

نعم نقل صاحب الجواهر عن كشف اللثام بعدم الاعتبار بإقراره لاعترافه بأنّه ليس له عليها يد ملك و لكنّه مشترك بين الصورتين (وجود البيّنة و عدمها) لأنّه في كلتا الصورتين غير مالك للمقرّ به و إنّما المالك أحد المشتريين أو كلاهما، و قيام البيّنتين لا يفيد أكثر من إقراره بانّه ليس مالكاً الآن و لكن إقراره الآن من آثار مالكيته السابقة.

و الحاصل أنّ الإقرار لهما يجعلهما كالمتنازعين في شي ء إذا أقاما بيّنة و لهما يد

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 439.

(2) الجواهر: 40/ 469.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 157

عليه فيقسم بينهما. و إن أقرّ لأحدهما يكون المقرّ له كالمتنازعين إذا أقاما بيّنة لأحدهما يد عليهما، فقد مضى فيها القولان: تقديم بيّنة الداخل كما هو الأقوى أو تقديم بيّنة الخارج و قد تقدّم. و هل للبائع ردّ مثل الثمن إليهما إذا أقرّ لهما، أو إلى واحد إذا أقرّ لغيره، الظاهر ذلك لإمكان صدق البيّنتين.

نعم ليس له تكذيبهما لقيام البيّنتين على البيع فهما حجّتان في القدر المتيقّن و هو بيعه منهما.

[الصورة] الثالثة: إذا كان لواحد منهما بيّنة فيؤخذ بها سواء أ كانت موافقة لما يقرّ به البائع أو لا،

غاية الأمر إذا أقرّ البائع بغير ما قامت البيّنة عليه يلزم على البائع إعادة الثمن إلى المقرّ له، لأنّه بإقراره أخذ الثمن و لم يدفع إليه المثمنَ و اللّه العالم.

المسألة الرابعة: فيما إذا تعدّد البائع و اتّحد المشتري
اشارة

لو ادّعى اثنان، أنّ ثالثاً، اشترى من كلّ منهما هذا المبيع.

هذه المسألة عكس المسألة السابقة حيث كان البائع هناك واحداً و المشتري حسب الظاهر متعدداً على عكس المقام حيث إنّ البائع حسب الظاهر متعدد، و المشتري واحد.

و المحور عندنا في هذه المسألة إقرار المشتري لواحد أو كليهما أو إنكارهما إلّا إذا أمكن صدق البيّنتين أو كانت البيّنة لواحد منهما فيقضى حسب مفهومهما أو مفهومها. و إليك التفصيل:

أقول: للمسألة صور ثلاث:

إمّا أن لا يكون لواحد من المدّعيين بيّنة.

أو يكون لواحد منهما.

أو يكون لكليهما بيّنة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 158

أمّا الصورة الأُولى [إمّا أن لا يكون لواحد من المدّعيين بيّنة.]

، فإن اعترف المشتري لأحدهما قضى عليه بالثمن و عليه الحلف بالنسبة إلى المدّعي الآخر، و إن اعترف لهما قضى لهما بالثمنين حيث أمكن شراؤه من أحدهما ثمّ بيعه من آخر، ثمّ اشتراؤه منه و إن أنكرهما، فعليه اليمين لكلّ منهما.

و أمّا الصورة الثانية أعني: ما إذا كان لواحد من المدّعيين بيّنة

، فيقضى له عليه بالثمن، و للآخر عليه اليمين فإن حلف فهو و إن ردّ اليمين عليه و حلف، يقضى له أيضاً عليه بثمن مثله. نعم لو أقرّ المشتري بغير ما قامت البيّنة عليه، يلزم عليه الثمنان أحدهما لأجل قيام البيّنة و الآخر لأجل إقراره بأنّه اشترى منه.

و أمّا الصورة الثالثة [أي يكون لكليهما بيّنة]

فهي على قسمين: تارة لا يكون بينهما تناف و أُخرى يكون كذلك.

أمّا القسم الأوّل كما إذا كانتا مختلفتي التاريخ أو مطلقهما أو كانت إحداهما مطلقة و الأُخرى مؤرخة فلإمكان صدق البيّنتين، فيؤخذ بالبيّنتين من دون جعلهما من المتعارضين من غير فرق بين إقراره لأحدهما دون الآخر، أو لكليهما، أو إنكارهما فالبيّنتان مؤثرتان في إشغال ذمّته بالثمن.

نعم لو فرض كون الثمن معيّناً و ادّعاه كلّ منهما بسبب كونه البائع و أقام كلّ منهما بيّنة فيتحقق التعارض في الصورة المذكورة لكنه نادر.

و ممّا ذكرنا (إعمال البيّنتين فيما إذا أمكن الصدق) يظهر انّ ما ذكره المحقق في هذا القسم من الإطناب المخلّ حيث قال: «و أقام كلّ منهما بيّنة فإن اعترف لأحدهما قُضي له بالثمن و كذا إن اعترف لهما قُضي عليه بالثمنين و لو أنكر و كان التاريخ مختلفاً أو مطلقا قُضي بالثمنين لمكان الاحتمال» لما عرفت من أنّه لا تأثير للاعتراف و الإنكار بعد إقامة البيّنتين و إمكان صدقهما.

و أمّا القسم الثاني: و هو ما إذا كان بين البيّنتين تناف و تعارض كما إذا شهدت بيّنة بأنّ هذا المشتري اشترى العين من زيد يوم السبت في ساعة كذا

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 159

و شهدت بيّنة أُخرى، أنّ هذا المشتري اشترى هذه العين يوم السبت في نفس الساعة من عمرو. فلا محالة

يتحقق التعارض إذ لا يمكن الملك الواحد في الوقت الواحد لاثنين، و لا يمكن إيقاع العقدين من الأصيلين في الزمان الواحد.

فقد قال المحقق بأنّه يقرع بينهما فمن خرج اسمه أحلف و قُضي له و لو امتنعا من اليمين قُسّم الثمن بينهما.

و ما ذكره مبني على وجود عموم أو إطلاق في أدلة الرجوع إلى القرعة عند تعارض البيّنتين فيترتّب عليه ما ذكر، و كان عليه أن يضيف إلى كلامه: «لو نكل من خرجت القرعة باسمه و ردّ اليمين على الآخر و حَلف يقضى له».

و لكنك قد عرفت عند دراسة الرواية أنّ الأصل في تعارض البيّنات هو التساقط، و ما دلّ على الأخذ بهما، بنحو من الأنحاء، بتنصيف العين المتنازع فيها، أو تقديم بيّنة الداخل أو الخارج، أو الرجوع إلى القرعة فيما إذا كان النزاع في العين الخارجية و ما سوى ذلك كالعقود و غيرها فانّ التنازع يرجع إلى اشتغال ذمّة المشتري الواحد، لشخصين يدّعيان شراء المبيع المعيّن منه. و ليس النزاع في العين الشخصية حتّى يشمله أدلّة القرعة و لا سائر ما يتمحّل به لانهاء النزاع كالتنصيف و تقديم ذات اليد. فالمرجع فيه القواعد القضائية فيكون حكم هذه الصورة مثل ما إذا لم يكن بيّنة حرفاً بحرف أي أنّه لو اعترف بواحد، يقضى له، و عليه الحلف للآخر، و لو اعترف بهما يقضى عليه بثمنين و لو أنكرهما، يحلف لهما.

المسألة الخامسة: فيما إذا تعدّد البائع و المشتري
اشارة

لو ادّعى رجل، أنّه اشترى العينَ المعيّنة من زيد و قبض ثمنَها و ادّعى آخر أنّه اشترى نفسَ المبيع من عمرو و قبض ثمنَها. و هذه المسألة تمتاز عن السابقتين،

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 160

بأنّ النزاع فيهما كان في العقود،

و هنا في العين الشخصية، و المرجع فيهما هو القواعد القضائية في جميع الصور من إقامة البيّنة و عدمها بخلاف المقام ففيما إذا لم تكن هناك بيّنة أو كانت لأحدهما يعمل بالقواعد القضائية، و أمّا في صورة تعارض البيّنتين، فيعمل بهما لا بالضوابط القضائية، على النحو الذي تعرفت عليه، و على ضوء هذا ندرس أحكام الصور.

الصورة الأُولى: إذا ادّعيا اشتراء عين فكانت العين بيد البائعين أو الخامس و لم يقيما بيّنة

فلو أقرّا بهما، يكون كلٌّ، ذا يد بالنسبة على تمام العين و قد ادّعيا و لا بيّنة لهما و الحكم هو التنصيف كما مرّ و مثله ما إذا أقرّ الخامس بهما و لو أقرّا بواحد أو أقرّ الخامس بواحد، يقضى له، بحلفه و يرجع الآخر إلى بائعه بالنسبة إلى ثمنه.

الصورة الثانية: إذا ادّعيا كذلك و لكن كانت البيّنة لواحد منهما،

فيؤخذ بمفادها سواء أقرّ البائعان أو الخامس له، أو لهما لأنّ إقرارهما لغيره لا يزيد على كونه ذا يد لكن بيّنة المدّعي، متقدّمة على يد المنكر.

الصورة الثالثة: إذا ادعيا الشراء كذلك و أقاما بيّنتين متساويتين في العدالة و العدد و التاريخ فالتعارض متحقّق

فقال المحقق يحكم عليه بأحكام تالية:

الف: يقضى بالقرعة، و يحلف من خرج اسمه و يقضى له.

ب: لو نكلا عن اليمين قُسّم المبيع بينهما و رجع كلّ منهما على بائعه بنصف الثمن.

ج: و لهما الفسخ و الرجوع بالثمنين.

د: و لو فسخ أحدهما جاز، و لم يكن للآخر أخذ الجميع لأنّ النصفَ الآخر لم يرجع إلى بائعه.

و إليك دراسة هذه الأحكام:

أمّا الأوّل: فالحكم بالقرعة على إطلاقه ليس بتامّ و إنّما تصل النوبة إليها

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 161

بعد مرحلتين:

1- إذا أقرّ البائعان أو الخامس بهما، تكون لكلّ يد على تمام العين و قد أقاما البيّنة و قد عرفت عند البحث عن تعارض البيّنات أنّه إذا كانت لكلّ يد على تمام العين فالحكم هو التنصيف.

2- إذا أقرّا لواحد منهما يكون هو ذا اليد، فالحكم فيه هو تقديم بيّنة الداخل، على الأقوى أو الخارج. و يرجع غير المقَرّ له في ثمنه إلى بائعه.

نعم إذا لم يصدقوهما أو كذبوهما فالحكم هو القرعة و قد عرفت أنّ روايات القرعة ناظرة إلى ما إذا لم تكن العين بيد المتداعيين لكن عدم التصديق أو التكذيب يخرجهما عن كون كلّ، ذا يد على العين كما في المقام.

ثمّ إنّه قدس سره لم يذكر حكم من لم تخرج القرعة باسمه و هو أنّه يرجع في ثمنه إلى بائعه.

أمّا الثاني: أعني قوله: «و لو نكلا عن اليمين قسّم المبيع بينهما و رجع كلّ على بائعه بنصف الثمن» ففيه ملاحظات:

أ: إذا نكل من خرجت القرعة

باسمه، فهل يرجع إلى بائعه بالثمن أو لا؟ وجهان الأقوى، لا لأنّ عدم تسلّم المبيع جاء من قبله فلا وجه للرجوع إلى بائعه مع أنّ الظاهر منه الرجوع بقرينة تصريحه بالرجوع إلى النصف إذا نكلا.

ب: لم يذكر حكم المدّعي الآخر إذا نكل من خرجت القرعة باسمه و هو أنّه يقضى له بعد اليمين.

ج: صرّح بأنّهما لو نكلا رجعا في نصف الثمن إلى بائعهما و هو مورد نظر، لأنّ القصور مستند إليهما أنفسهما لا إلى البائعين.

و أمّا الثالث: و هو جواز الفسخ و الرجوع بالثمن و هو أيضاً مورد نظر لكون التبعض مستنداً إليهما إلّا أن يقال إنّ البيع كان على أساس أن يدفع الثمن و

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 162

يقبض المبيع بلا حلف، فإلزامه على الحلف إلزام بما لم يلتزم به في نفس العقد فإذا توقّف التسلم على ما لم يلتزم به. جاز له فسخ العقد من رأس.

و أمّا الرابع: فهو ظاهر و الفرق بين هذه الصورة، و المسألة الرابعة، حيث صرّح بجواز أخذ الجميع هناك دون المقام هو ما صرّح به المحقق من «أنّ النصف الآخر لم يرجع إلى بائعه»، و واقع الفرق يَكْمُنُ في وحدة البائع في الرابعة و تعدده هنا، فلو فسخ أحد المدّعيين في مورد المسألة الرابعة، جاز للآخر أخذ الجميع، لأنّ العين كلّها للبائع الواحد، غير أنّ الفاسخ يدّعي أنّه اشتراها منه. و المانع من الأخذ موجود قبل الفسخ، فإذا ارتفع بفسخه يؤثر المقتضي بخلاف المقام فانّ ظاهر الحال، كون كلّ من البائعين مالكاً للنصف، فإذا فسخ من اشترى من أحدهما، لا يرجع النصف إلّا إلى بائعه لا إلى البائع الآخر، الذي اشترى

منه مَنْ خرجت القرعة باسمه.

الصورة الرابعة: إذا كانت العين بيد المدّعيين

، فيعلم حكمها ممّا ذكرنا في حكم الصورة الثالثة فلاحظ.

الصورة الخامسة: إذا كانت بيد أحد المدّعيين و أقاما بيّنة

، ففيه قولان: تقديم بيّنة الداخل، أو تقديم بيّنة الخارج و قد عرفت أنّ الأقوى هو الأوّل.

و هناك صور أُخرى تعرّض لبعضها صاحب الجواهر تعلم حكمها ممّا ذكرناه.

المسألة السادسة لو شهد اثنان للمدّعي بأنّ الدابة ملكه منذ مدّة كسنتين فدلّت سنّها على أقل من ذلك قطعاً أو أكثر

، سقطت البيّنة لتحقق كذبها. هذا نص المحقق، و الظاهر أنّ قوله «أكثر» عطف على قوله «أقل»، أي إذا شهدت البيّنة على أقل أو أكثر ممّا عليه الدابة من السن، فلنفرض سنها سنتين، فشهدت على واحدة أو

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 163

ثلاث، و ربّما يفسر قوله أكثر بمعنى الأكثرية الظنية المعادلة لقول العلامة في الإرشاد «قطعاً أو ظاهراً» و لكنّه غير صحيح لأنّ تعليل الحكم بقوله: «لتحقق كذبها» مختص بما إذا ثبت كذبه قطعاً لا ظناً. و لأجل إيضاح الحال نأتي بنص الشيخ في المسألة، قال: إذا ادّعى رجل دابة في يد رجل و أقام شاهدين أنّها ملكه منذ ثلاث سنين فنظر الحاكم فإذا الدابة ليس لها إلّا سنتان، سقطت الشهادة لأنّه قد عرف كذبها قطعاً. «1»

إنّ سيرة العلماء في الخبر على التبعيض إذا خالف بعضُ مفاده الإجماعَ أو الدليل القطعي فيؤخذ بالباقي و لا يكون اشتمال الخبر على حكم شاذ سبباً لرفض الخبر أساساً. و أمّا البيّنة فهي على قسمين؛ تارة تشهد على أمر واحد لكن بعض أجزائه غير صحيح، و أُخرى تشهد على أمرين متغايرين، و المقام من قبيل القسم الأوّل، لأنّها تشهد على ملكية زيد منذ سنتين مع أنّه يملكها إمّا فوقهما أو دونهما. نعم لو كان المشهود به أمرين متغايرين و كان أحدهما غير صحيح يؤخذ بالجزء الصحيح.

المسألة السابعة «2» إذا ادّعى دابة في يد زيد و أقام بيّنة أنّه اشتراها من عمرو

، قال المحقق: يقضى بها في صور ثلاث:

أ: إذا شهدت بالملكية مع ذلك للبائع.

ب: أو للمشتري.

ج: أو بالتسليم.

أمّا الصورة الثانية فواضحة لأنّها شهدت بملكية المشتري حالياً فتقدم على

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 294.

(2) و قد عنونها الشيخ في المبسوط: 8/ 295.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية

الغراء، ج 2، ص: 164

مقتضى اليد إنّما الكلام في الصورتين: الأُولى و الثالثة، فيمكن توجيهه بما يلي:

أمّا الأُولى فلتقديم البيّنة على اليد، حيث تثبت الملكية للبائع و انتقالها منه إلى المشتري.

و أمّا الثالثة فانّ الشهادة على التسليم شهادة على كون البائع ذا يد سابقة على يد زيد و انتقالها منه إليه.

و لكن الحكم في الصورتين: الأُولى و الثالثة غير واضحة، فانّ أقصى ما تثبته البيّنة كون البائع مالكاً فيما سبق، و أنّه نقل العين إلى المدّعي بعقد صحيح، و هذا لا ينافي أن يكون المالك حالياً هو زيد، لإمكان أن يشتري المشتري من عمرو ثمّ يبيعه من زيد.

فإن قلت: إذا ثبت كون المدّعي مالكاً تستصحب مالكيته.

قلت: لا قيمة للاستصحاب في مقابل اليد الحاضرة، و على فرض صحّة الاستصحاب فمن المستصحب؟ أمّا القاضي فأدوات قضائه البيّنات و الايمان، و أمّا الشاهد فالمفروض أنّه لا يشهد على الملكية الفعلية.

و منه يعلم حكم الصورة الثالثة، فانّ تسليم البائع الدابة للمشتري لا يدل على أكثر من كون تصرّفه تصرّفاً صحيحاً و نقلًا عن ملك و لكنّه لا ينافي أن يكون المالك حين الدعوى هو زيد و أنّه اشتراها من المدّعي.

و بالجملة التقديم فرع التعارض بالمطابقة، و لا تعارض بين كون زيد مالكاً فعلًا و كون عمرو مالكاً أو متصرّفاً في المبيع قبل ذلك الوقت.

و منه يظهر حال الصورة الرابعة و هي أنّه إذا شهدت البيّنة بملكية المشتري لأجل الشراء، و علله المحقق بقوله: «لانّ ذلك قد يفعل فيما ليس بملك فلا تدفع اليد المعلومة بالمظنونة، و قيل يقضى له لأنّ الشراء دلالة على التصرّف السابق الدالّ على الملكية».

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 165

مراده

من قوله: «لأنّ ذلك قد يفعل فيما ليس بملك» و هو أنّ الإنسان قد يبيع ما لا يملكه، كما إذا باع فضولياً قال الشيخ: «لانّ الإنسان قد يفعل فيما ليس بملك له، فلا يزيل الملك عن يد المدّعى عليه بأمر متوهم مظنون» «1» و لكن الدليل عليل لجريان أصالة الصحة في فعل الغير، و الأولى أن يقال انّ بيع عمرو كما في الصورة الأُولى، و تسليم المبيع كما في الصورة الثالثة و شراءه من عمرو كما في الصورة الرابعة لا يدل على أزيد من وقوع بيع صحيح في الماضي، و أمّا بقاء أثره (الملكية) إلى وقت الدعوى بحكم الاستصحاب فلا يقاوم حكم اليد، فظهر أنّ الصحيح من الصور هي الصورة الثانية.

المسألة الثامنة قال المحقق: لو ادّعى كلّ واحد منهما أنّ الذبيحة له و في يد كلّ واحد بعضها و أقام كلّ واحد منهما بيّنة،

قيل يقضي لكلّ واحد بما في يد الآخر و هو الأليق بمذهبنا، و كذا لو كان في يد كلّ واحد شاة و ادّعى كلّ منهما الجميع و أقاما بيّنة قضي لكلّ منهما بما في يد الآخر. «2»

قد تعرفت أنّ بيّنة المنكر حجّة في القضاء، و على ذلك فيكون المورد من قبيل النزاع في الأعيان الشخصية. و مقتضى القاعدة هو الأخذ بمقتضى بيّنة الداخل في كلّ مورد لأنّ كلّ واحداً منهما يعد مدّعياً لما في يد الآخر و منكراً لما في يده، و في مثله يؤخذ ببيّنة الداخل و يقضى لكلّ واحد بما تحت يده و قد عرفت أنّه الأقوى، غير أنّ هنا قولًا و هو الأخذ ببيّنة الخارج ترجيحاً لها على بيّنة الداخل و حينئذ ينعكس الحكم فيقضى لكلّ واحد بما في يد الآخر، و مما يتفرّع على ذلك فيما لو كان المتخاصمان في بعضي الذبيحة المنفصلين كافراً و مسلماً حكم بكون ما يقضى

به للكافر ميتة و للمسلم مذكى و إن كان كلّ واحد من الجزءين انتزعه من الآخر

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 295.

(2) الشرائع 4/ 902 و لاحظ: المبسوط: 8/ 300.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 166

عملًا بظاهر اليد المعتبرة شرعاً، و لا تقدح في ذلك اليد السابقة بل لعلّ الحكم كذلك في الجزءين المتصلين ضرورة اتحاد المدرك فيهما. «1»

يلاحظ عليه: أوّلًا: أنّ الحكم بعدم التذكية فيما يرجع إلى الكافر نابع من استصحابه حال كون الحيوان حيّاً، و الحكم بالتذكية فيما يرجع إلى المسلم ناش من ظاهر حال المسلم و يده. و كلاهما مخدوش.

أمّا الأوّل فبوجهين:

1- إنّ المتيقّن هو عدم التذكية بعنوان العدم المحمولي الذي يصدق مع عدم الموضوع حيث إنّه كان غير مذكّى باعتبار عدم ورود ذبح له، و المشكوك فيه هو عدم التذكية بعنوان العدم النعتي حيث ورد عليه الذبح لكن نشك في تحقق شرائطه و استصحاب العدم المحمولي و إثبات العدم النعتي من الأصل المثبت.

2- يشترط في صحة الاستصحاب اتصال زمان الشك بزمان اليقين و هو منتف في المقام، لتوسط يد المسلم على الذبيحة في زمان الشك أي بعد الانتزاع من الكافر، و حالة اليقين بكونها غير مذكّى أي قبل استيلاء المسلم، اللهمّ إلّا أن يقال بعدم الاعتبار بيد المسلم المتوسطة بين الشك و اليقين.

و أما الثاني أي حجيّة ظاهر حال المسلم في المقام فهي خاصة بما إذا لم تجر على الذبيحة يد كافر كما في المقام.

و الظاهر سقوط الدليلين عن الاعتبار و الرجوع إلى أصول آخر، و هو الطهارة في الأشياء، و الحرمة في اللحوم ما لمتحرز التذكية.

المسألة التاسعة قال المحقق: لو ادّعى شاة في يد عمرو و أقام بيّنة فتسلّمها،

ثمّ أقام الذي

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 479.

نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 167

كانت في يده بيّنةً أنّها له، قال الشيخُ: «يُنقض الحكمُ و تُعاد» و هو بناء على القضاء لصاحب اليد مع التعارض، و الأولى أنّه لا يُنقض.

إنّ الحكم بتقدّم بيّنة عمرو يمكن أن يكون للوجهين التاليين:

الأوّل: إنّه من قبيل تقديم بيّنة الداخل على بيّنة الخارج، فانّ بيّنة عمرو الذي كان ذا اليد حين الدعوى و إن اقيمت متأخّرة، لكن مضمونها كونه مالكاً حين الدعوى فكأنّها كانت موجودة حينَها و الضابطة في تعارض البيّنتين فيما إذا كانت يد لواحد منهما، هو تقديم بيّنة الداخل.

هذا ما نقله المحقق عن الشيخ و إليك نصّه: قال في وجه الحكم الأوّل: «حكمنا له بها لأنّ بيّنته أولى من يد عمرو، فإن أقام عمرو البيّنةَ بعد هذا، أنّ الشاة ملكُه، نقض الحكم، و ردّت الشاةُ إلى عمرو لأنّ عمرواً كانت له اليد و لزيد بيّنة بغير يد و قد ظهر أنّه لعمرو مع يده، بيّنة، فظهر أنّ بيّنة عمرو، الداخل و بيّنة زيد، الخارج و بيّنة الداخل أولى فلهذا قضي بها لعمرو دون زيد. «1»

يلاحظ عليه أوّلًا: مضافاً إلى أنّه مخالف لما قوّاه في غير مورد من تقديم بيّنة الخارج على الداخل أنّ التقديم فرع وجودها حين الحكم، و المفروض إقامتها بعده، فلا يكون مشمولًا لما دلّ على تقديم بيّنة الداخل.

و ثانياً: لو افترضنا شمولها للمورد، فلما ذا لا يكون من قبيل ترجيح الخارج، لأنّ المفروض أنّ العين بيد زيد فتكون بيّنة عمرو المتأخرة من قبيل بيّنة الخارج.

و التحقيق أن يقال: إنّ مفاد البيّنة الثانية إمّا أن يكون دعوى الملكية المطلقة، أو الملكية اللاحقة على إزالة اليد، أو الملكية السابقة عليها.

لا شكّ في عدم جواز نقص

الحكم في الأُولى. إذ لا منافاة بين الملكية المطلقة لعمرو، و ملكية زيد في ظرف إقامة البيّنة، فلا تعارض بين البيّنتين كما لا

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 301.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 168

شكّ في وجوب النقص في الثانية، لعدم التعارض بين الملكيتين. إنّما الكلام في الصورة الثالثة، فالتعارض متحقّق لأنّ كلًا من البيّنتين، ينفي مفاد الأُخرى، فلو قلنا بعدم جواز نقص الحكم للوجوه الضعيفة الّتي ذكرها صاحب الجواهر «من: 1 انقطاع الخصومة. 2 حكومة الحاكم المبنية على الدوام. 3 الأصل المؤيد بالحكم. 4 ظاهر الأدلة»، لم تسمع الثانية فهو و إلّا فللقاضي، فسح المجال للاعتراض إذا احتمل صحّة مقاله، فإن ثبت خلاف ما قضى، نقض و إلّا فالحكم باق على صحّته و نفوذه من دون ابتناء النقض على تقديم إحدى البيّنتين على الأُخرى بل التقديم من باب كشف الخلاف.

المسألة العاشرة: في الاختلاف في الدار النزاع في الدار تارة يكون ثنائياً و أُخرى ثلاثياً و ثالثة رباعيّاً
اشارة

و إليك بيان الصور حسب ما ذكرها المحقق في الشرائع.

الصورة الأُولى: فيما إذا كان النزاع ثنائيّاً

قال المحقق: لو ادّعى داراً في يد زيد، و ادّعى عمرو نصفَها، و أقاما البيّنة قضي لمدّعي الكل بالنصف لعدم المزاحم، و تعارضت البيّنتان في النصف الآخر، فيقرع بينهما و يقضى لمن خرج اسمه مع يمينه، و لو امتنعا قضي بها بينهما بالسوية فيكون لمدّعي الكلّ ثلاثة الأرباع و لمدّعي النصف الربع.

توضيح مرامه:

لمّا كان أحدهما يدّعي الكلّ، و الآخر يدّعي النصف، فقد اتّفقا على أنّ النصف لمدّعي الكلّ فيختص به، و إنّما النزاع في النصف الثاني و لو كان المقام من مواضع القرعة فيقرع لمن يصار إليه اليمين، فلو قرع و خرج اسم مدّعي الكل و حلف، يقضى له بالكلّ، نصفه من باب التسليم و النصف الآخر باليمين، فإن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 169

امتنع حلف الآخر، فيقضى له بالنصف المتنازع فيه، و إن امتنعا من الحلف يقسم النصف المتنازع فيه بينهما فيكون لمدّعي الكلّ ثلاثة أرباع: ربعان من النصف غير المتنازع فيه، و ربع من النصف المتنازع فيه، و لمدّعي النصف، الربع.

يلاحظ عليه: بما تقدّم من لزوم سؤال القاضي من بيده العين قبل الإقراع حتّى يتعيّن من عليه اليمين فربّما تنحلّ العقدة قبل أن تصل النوبة بالقرعة و ذلك لأنّه إمّا:

1- أن يُصدِّق أحدهما.

2- أو يُصدِّق كليهما.

3- أو يُكذِّب كليهما.

4- أو يعترف بأحدهما و لا يعرفه عينه.

5- أو يقول لا أعرف صاحب العين.

فعلى الأوّل، يكون المقرّ له بمنزلة ذي اليد و قد صرّح صاحب الجواهر بأنّ تصديق ذي اليد، يجعل المقرّ له بمنزلة ذي اليد «1» فيكون من قبيل ما إذا كانت العين بيد أحدهما. و قد عرفت

أنّ الحقّ تقديم بيّنة الداخل، و على ضوء هذا لو اعترف لمدّعي الكلّ يكون الكل له، و لو اعترف لمدّعي النصف يكون النصف المتنازع فيه له، و النصف الآخر غير المتنازع فيه لمدّعي الكلّ.

و على الثاني، يكون المفروض كما إذا كانت العين بأيديهما و أقاما البيّنة و الحكم فيه التقسيم بالمناصفة.

و على الثالث، أُقرّت في يد الثالث، فيكون هو المدّعى عليه و المتنازعان، مدّعيين و لهما عليه الحلف.

فإن قلت: إنّ البيّنتين تدلان التزاماً على أنّ ملكية المال غير خارجة عن المتنازعين، و معه كيف يترتّب الأثر على يد الثالث و يكون لهما عليه حقّ اليمين؟!

______________________________

(1) الجواهر: 40/ 469.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 170

قلت: إنّ حجّية الدلالة الالتزامية تابعة لحجّية الدلالة المطابقية فإذا سقطت لأجل التعارض، فكيف يؤخذ بمفادها الالتزامي، و لذلك قلنا بانّه لهما على الثالث الحلف فإن حلف يقضى له. و لو نكل فتخرج يده عن الاعتبار، و يدخل المفروض تحت القسم الخامس أعني إذا ادعيا شيئاً ليس لأحد عليه يد فعندئذ يصحّ ما ذكره المحقق من الإقراع لمن يصار إليه اليمين، فلو حلف من خرجت القرعة باسمه قضى له بالنصف المتنازع فيه، و إن نكل و حلف الآخر، قضى له، و إن نكلا. أقرت بيد من كانت العين بيده إلى أن تعلم الحال.

و على الرابع، فالمرجع هو قاعدة العدل و الانصاف و إن احتملت القرعة لكنّها خاصة بما إذا لم تكن عليها يد أصلًا.

و على الخامس، فيعمل بالقرعة لمن يصار إليه اليمين، فلو حلف فهو، و إلّا فيحلف الآخر، و إن نكلا، يُقسَّم بينهما.

نعم ورد في معتبرة إسحاق بن عمار «و لو لم تكن في يد واحد

منهما، و أقاما البيّنة فقال: أحلفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين». «1»

فإنّ ظاهرها جواز حلفهما، مع أنّ المستفاد من سائر الروايات «تحليف من قدِّمت يمينه بالمرجّح أو القرعة فإن حلف قضى له، و إن لم يحلف، يحلف الآخر» و لا عامل بها إلّا ما عن كشف اللثام من ظاهر كلام أبي علي، حيث قال: «و لو كانت العين في أيديهما جميعاً أو لم تكن في يد واحد، و تساوى عدد البيّنتين عرضت اليمين على المدّعيين فأيّهما حلف استحقها الآخر إن أبى الآخر، و إن حلفا جميعاً كانت بينهما نصفين و عن الشيخ حملها على ما إذا تصالحا على ذلك و قال في الاستبصار: و يمكن أن يكون ذلك نائباً عن القرعة إذا اختار كلّ واحد منهما اليمين فيكون الإمام مخيراً بين العمل به و العمل بالقرعة. و الحملان بعيدان

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 171

و العمل بها في قبال الأخبار لا وجه له و الأولى طرحه في خصوص جواز الحلفين لعدم مقاومته لسائر الأخبار. «1»

و أمّا رواية غياث بن إبراهيم في حديث: «و قال و لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين» «2» فهي محمولة على ما إذا كانت في أيديهما من غير حاجة إلى الحلف أو لم تكن بهما، و لكنّهما نكلا.

فتلخص أنّ ما ذكره المحقق يصحّ في بعض فروع القسم الثالث أعني: ما إذا كذبهما و القسم الخامس، و ما يتراءى من رواية إسحاق بن عمّار فهي معرض عنها و أمّا رواية غياث بن إبراهيم فهو مؤوّل.

الصورة الثانية: فيما إذا كانت يدهما على الدار

قال

المحقق: و لو كانت يدهما على الدار و ادّعى أحدهما الكلّ و الآخر النصفَ و أقام كلّ واحد منهما بيّنة.

ففي المسألة أقوال ثلاثة:

1- ما اختاره المحقّق من أنّ الكلّ لمدّعي الكلّ و لم يكن لمدّعي النصف شي ء تقديماً لبيّنة الخارج كما سيوافيك.

2- يقسم النصف المتنازع فيه بينهما نصفين و بالتالي: تقسم العين بينهما أرباعاً و هذا هو الأقوى.

3- تقسم العين بينهما أثلاثاً، و هو المنقول عن ابن الجنيد.

و إليك بيان أدلّة الأقوال.

أمّا القول الأوّل: فتوضيحه:

______________________________

(1) السيّد الطباطبائي، ملحقات العروة: 2/ 157156.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 172

انّ الكلّ لمدّعي الكلّ حيث إنّ نصفَ العين التي هي تحتَ يده خارجة عن محلّ النزاع، و النصف الآخر الّذي ليس تحت يده تُقدَّم فيه، بيّنة مدّعي الكلّ، لأنّ بيّنته بالنسبة إليه، بيّنة الخارج، و بيّنة مدّعي النصف بالنسبة إليه بيّنة الداخل أي المنكر، و المفروض عدم حجّية بيّنة المنكر بل دليله ينحصر باليمين.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من حديث بيّنة الداخل و الخارج مبني على أنّ كلا من المتنازعين مستول على النصف المعين فمدّعي الكلّ مستول على النصف غير المتنازع فيه، و مدّعي النصف مستول على النصف المتنازع فيه.

و لكن الاستيلاء بهذا النحو إنّما يتصوّر في النصف المفروز، كما في جزئي «الذبيحة» فتكون بيّنة مدّعي الكلّ بالنسبة إليه بيّنة الخارج و الآخر بيّنة الداخل و أمّا إذا كان على نحو المشاع، فلا تكون بيّنة مدّعي النصف بيّنة الداخل، لأنّ كلّ جزء استولي عليه، مشاع بين المتنازعين فما استولى عليه مدّعي الكلّ، إنّما استولى على النصف المشاع، كما أنّ ما استولى عليه مدّعي

النصف إنّما استولى عليه بوصف المشاع و على ذلك تكون القاعدة بلا موضوع.

أمّا القول الثاني: فهو مقتضى القاعدة الثانوية في إعمال البيّنتين في النصف المشاع فيما إذا كان لهما يد، بقدر ما يمكن، و هو الحكم بالتنصيف، فلكلّ ربع من النصف، و من العين لمدّعي الكلّ ثلاثة أرباع و لمدّعي النصف ربع واحد.

أمّا القول الثالث: فهو قول ابن الجنيد و هو يُسلِّم التقسيم أرباعاً فيما إذا كان بيدهما جزءان خارجيان و اتّفقا على أنّ أحد الجزءين لواحد منهما و اختلفا في الجزء الآخر و في هذه الصورة يُقسم الجزءان أرباعاً كما ورد في الصحيح عن عبد اللّه بن المغيرة «1» في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي و قال الآخر: هما بيني و بينك، فقال: أمّا الذي قال هما بيني و بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، و أنّه لصاحبه و يُقسم الآخر و نحوه مرسل محمّد بن أبي

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من كتاب الصلح، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 173

حمزة. «1» و أمّا إذا كان التنازع في النصف المشاع فيقسم المال أثلاثاً، على طريق العول فيجعل لمدّعي الكلّ الثلثان، و لمدّعي النصفِ الثلث، لأنّ المنازعة وقعت في أجزاء غير معيّنة لا تشار إليها بل كلّ جزء من أجزائها لا يخلو عن دعوى كلّ منهما بالإشاعة فلا يتم ما ذكروه من خلوص النصف لمدّعي الكلّ بغير منازع بل كلّ جزء، يدعى مدّعي النصف نصفَه، و مدّعي الكلّ كلَّه و نسبة إحدى الدعويين إلى الأُخرى بالثلث فيقسم أثلاثاً، لمدّعي النصف واحد، و لمدّعي الكلّ اثنان و يكون كما يضرب الديان في مال

المفلس و الميّت.

و بعبارة أُخرى إذا أردنا تصديقهما مع عدم قابلية العين لتصديقهما فيها بالنسبة إلى تمام ما يدّعيانه، فلا بدّ من أن يرد النقص على كلّ منهما بالنسبة إلى نصيبه، و بما أنّ نسبة النصف إلى الكلّ كنسبة الثلث و الثلثين (يك بر دو) فلا بدّ أن يقسّم على نحو الثلث و الثلثين و هذا معنى العول في الإرث الّذي قالت به العامة و لم تقل به الخاصة كما في الزوج و الأُختين للأب. فللأوّل النصف، و للأُختين الثلثان و ليس في التركة ما يفي الفريضتين فتقسم.

يلاحظ عليه؛ بالفرق الواضح بينه و بين العول فإنّ صاحب الحقّ الزائد يعترف في مورد العول، بثبوت الحقّ الناقص لصاحبه و أنّه لو وفى به المال كان له أخذ حقّه كالزوج بالنسبة إلى كلّ واحد من الأُختين، و هكذا العكس و هذا بخلاف المقام فإنّ مدّعي النصف و إن كان لا يُكذِّب المدّعي الآخر بالنسبة إلى النصف المشاع و إنّما يكذبه في النصف الآخر و النزاع فيه، فيقسم أرباعاً و لا معنى يتناسب مع العول.

كما لا معنى لقياسه على اجتماع حقوق الغرماء في مال المفلس كما إذا ترك ألفاً، و عليه ألف لشخص و ألفان لشخص آخر يقسم أثلاثاً حسب نسبة الديون. وجه الفرق بينه و بين المقام عدم التكذيب من جانب الغرماء، بحيث لو كان

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من كتاب الصلح، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 174

المال وافياً لما كان بينهما تنازع بخلاف المقام.

الصورة الثالثة: فيما إذا كانت العين في يد ثلاثة

كان النزاع في الصورتين السابقتين بين اثنين، و ربّما يقع النزاع بين ثلاثة، و هو على وجهين، فتارة لا تزيد سهام المدّعين عن

أجزاء العين و هي هذه الصورة (الثالثة) و ربّما تزيد و هي الصورة الآتية (الرابعة).

فلو ادّعى أحدهم النصفَ و الآخر الثلث و الثالث السدسَ فكانت يدهم عليها، فيدُ كلّ واحد منهم على الثلث، لكن صاحب الثلث لا يدّعي زيادة على ما في يده، و صاحب السدس يَفْضُلُ ما في يده، ما لا يدّعيه هو و لا مدّعي الثلث، فيكون لمدّعي النصف، فيكمل له النصف و كذا لو قامت لكلّ منهم بيّنة بدعواه.

و الحاصل لما كانت سهام المدّعين، لا تزيد عن أجزاء العين، فلا نزاع بينهم من غير فرق بين إقامة البيّنة و عدمها.

نعم يلاحظ على قول المحقّق: «فيدُ كلّ واحد منهم على الثلث»، فانّ الظاهر أنّ يد كلّ على الجميع على نحو عدم الاستقلال و قد مرّ نظيره. و لأجل ذلك يتوقّف تصرّف الكلّ على إذن الكلّ.

الصورة الرابعة: إذا زادت سهام المدّعين عن أجزاء العين
اشارة

إذا كان النزاع بين ثلاثة، و كانت سهام المدّعين أزيد من أجزاء العين كما لو ادّعى أحدهم الكلّ، و الآخر النصفَ، و الثالث الثلثَ. و له قسمان:

الأوّل: إذا لم يكن لواحد منهم بيّنة.

الثاني: إذا كان معهم بيّنة.

أمّا الأوّل، أي ما إذا لم يكن لواحد منهم بيّنة

فقد قال المحقق فيها:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 175

قُضي لكلّ واحد منهم بالثلث، لأنّ يده عليه و على الثاني و الثالث اليمين لمدّعي الكلّ، و عليه و على مدّعي الثلث اليمين لمدّعي النصف.

أمّا حلف الثاني و الثالث لمدّعي الكلّ، لأنّه يدّعي أنّ ما بأيديهما من الثلثين له فلا ينفى إلّا بالحلف.

و أمّا حلف الأوّل و الثالث لمدّعي النصف، فلأنّ الواصل إليه (الثلث) ينقص ممّا يدّعيه (النصف) بسدس منقسم بين الأوّل و الثالث فلا ينفى إلّا باليمين.

نعم ليس للثالث يمين على الأوّل و الثاني، لأنّه لا يدّعي أزيد ممّا أخذ.

و يمكن أن يقال: إنّ مورد النزاع هو خمسه أسداس من العين دون جميع أسداسها فانّ مدّعي النصف يدّعي ثلاثة أسداس و مدّعي الثلث يدّعي السدسين فيكون موضع النزاع بين الأشخاص الثلاثة، هو خمسة أسداس، و أمّا السدس الواحد، فالثاني و الثالث متفقان على كونه للأوّل، أو غير رادين له فإذاً يكون موضع النزاع هو الخمسة من الأسداس الستة فلو قلنا بالتقسيم أثلاثاً، فلا بدّ أن يكون المقسوم هو خمسة أسداس، لا ستة أسداس. و عندئذ يتغير سهامهم، فيكون:

لمدّعي الكلّ 8/ 3+ 5

لأنّ السهام ثمانية عشر حاصلة من ضرب الستة في ثلاثة فسدسها، غير المتنازع فيه و يبقى خمسة عشر فيقسم بينهم أثلاثاً و إليك الصورة العملية الحسابية:

3-/ 6: 18 غير المتنازع فيه

8- 151/ 3 المتنازع فيه

5-/ 3: 15

و لمدّعي

النصف (5).

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 176

و لمدّعي الثلث (5).

و أمّا الثاني أي إذا أُقيمت البيّنة
اشارة

فهو على نوعين:

فتارة: يقيمها أحد المتنازعين، و أُخرى: يقيمها الجميع.

أمّا الأوّل فالمقيم:

إمّا مدّعي الكلّ.

أو مدّعي النصف.

أو مدّعي الثلث.

فلو أقام الأوّل فيأخذ الكلّ، تقديماً للبيّنة على اليد في الموردين، و لو أقام الثاني، يأخذ مضافاً إلى الثلث الذي بيده جزء من مدّعي الكلّ، و جزء من مدّعي الثلث و لو افترضنا أنّ للعين اثني عشر جزءاً، فقد كانت تحت يده أربعة أجزاء (الثلث) و كان ما يدّعيه ينقص مما تحت يده، اثنين، فيأخذ جزءاً من مدّعي الكلّ و جزءاً من مدّعي الثلث فتكون له من اثني عشر جزء، ستة أجزاء، و لكلّ من الآخرين ثلاثة أجزاء.

و لو أقام الثالث، لا يغيّر الموضع السائد على الموضوع، إذ ليس ما تحت يده أنقص و لا أزيد ممّا عليه.

إذا أقام الجميع البيّنة
اشارة

أمّا إذا أقام كلّ بيّنة فقال المحقق: فإن قضينا مع التعارض ببيّنة الداخل فالحكم كما لو لم تكن بيّنة لأنّ لكلّ واحد بيّنة و يداً على الثلث. فإن قضينا ببيّنة الخارج و هو الأصحّ، كان لمدّعي الكلّ ممّا في يده الأجزاء التالية:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 177

1 ثلاثة من اثني عشر جزءاً بغير منازع.

2- الأربعة التي في يد مدّعي النصف، لقيام البيّنة لصاحب الكلّ بها، و سقوط بيّنة صاحب النصف بالنظر إليها. إذ لا تقبل بيّنة ذي اليد.

3- الثلاثة ممّا في يد مدّعي الثلث، فيكون سهمه من اثني عشر سهماً: عشرة أجزاء: 7/ 4+ 3، 10/ 3+ 7

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 177

و

يبقى واحد ممّا في يد مدّعي الكلّ لمدّعي النصف. و واحد ممّا في يد مدّعي الثلث، يدّعيه كلّ واحد من مدّعي النصف و مدّعي الكلّ، يقرع بينهما، و يحلف من يخرج اسمه و يقضى له. فإن امتنعا، قسِّم بينهما نصفين، فيحصل لصاحب الكلّ عشرة و نصف، و لصاحب النصف واحد و نصف، و تسقط دعوى مدّعي الثلث. «1»

توضيحه:

1- كيف يكون لمدّعي الكلّ ممّا في يده ثلاثة من اثني عشر بغير منازع، مع أنّ غير المعارض لا يتجاوز عن اثنين لأنّه إذا أخذ مدّعي النصف ثلاثة أسداس، و مدّعي الثلث، سدسين يبقى في البين سدس واحد، فلو كان المأخذ اثني عشر جزءاً، يكون غير المنازع اثنين فكيف يقول المحقق ثلاثة؟

و الجواب أنّ كلّ واحد استولى على ثلث العين فتكون تحت يد كلّ، أربعة أجزاء، لكن مدّعي النصف ينقص ما تحت يده جزءين، فيطلب من مدّعي الكلّ جزءاً، و من مدّعي الثلث جزءاً، فيبقى ما تحت يد مدّعي الكلّ ثلاثة أجزاء بلا منازع، لا يطلبه مدّعي النصف، لأنّ المفروض أنّه أخذ حقّه منه، و لا مدّعي الثلث، لأنّ ما بقي له و إن كان أقل ما يدّعيه، لكن السبب له هو مدّعي النصف، لا مدّعي الكلّ فلذلك تكون الثلاثة من اثني عشر جزءاً خالصة لمدّعي

______________________________

(1) الشرائع: 4/ 117 بتصرّف.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 178

الكلّ.

2- إنّ بيّنة مدّعي الثلث لمّا كانت بيّنة الداخل، يسقط عن الحجّية حتّى في ما بقي له من ثلاثة أجزاء و يضمّ إلى مدّعي الكلّ لأنّ بيّنته بالنسبة إليها، بيّنة الخارج فيكون مجموع ما حصل له إلى الآن، ستة أجزاء.

ثلاثة أجزاء غير متنازعة.

ثلاثة مما كانت تحت

يد مدّعي الثلث فيصير ستة 3+ 3/ 6

3- إنّ بيّنة مدّعي النصف بالنسبة إلى أربعة أجزاء كانت بيّنة الداخل فلا تكون حجّة فيها و إنّما تكون حجّة في الجزءين اللّذين انضمّ إليهما من مدّعي الكلّ و الثلث لو لا المعارض و عندئذ تضمّ الأربعة إلى الأجزاء الستة الّتي صارت خالصة لمدّعي الكلّ فيكون سهمه إلى الآن: عشرة أجزاء:

ثلاثة أجزاء: و هي التي كانت خارجة عن التنازع

ثلاثة أجزاء: ممّا كان تحت يد مدّعي الثلث

أربعة أجزاء: ممّا كان تحت يد مدّعي النصف

فتكون النتيجة: 6/ 3+ 3، 10/ 4+ 6

4- بقي في المقام الجزءان اللّذان، حازه مدّعي النصف أحدهما من مدّعي الكلّ و الأُخرى من مدّعي الثلث، فيختص الجزء الأوّل له، لأنّ بيّنته بالنسبة إليه بيّنة الخارج، على خلاف بيّنة مدّعي الكلّ فانّ بيّنته بالنسبة إليه، بيّنة الداخل فيكون ذلك الجزء خالصاً له. و يبقى الجزء الآخر الذي أخذه من مدّعي الثلث موضع النزاع.

5- بما أنّ بيّنة كلّ بالنسبة إليه، بيّنة الخارج، و النزاع في العين الشخصية لا يد لأحد عليها، يقرع فإن خرجت القرعة باسم مدّعي الكلّ و حلف

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 179

يقضى له به و يصير سهمه 11 جزء من 12 جزء و إن خرج باسم مدّعي النصف و حلف يقضى له و يكون سهمه جزءان من 12 جزء. و إن نكلا يقسم بينهما فيكون سهم مدّعي الكلّ 10 أجزاء و نصف جزء، و سهم مدّعي النصف جزءاً و نصفا.

و لو فرضنا النزاع في أربعة و عشرين يكون سهم كلّ بلا كسر فإنّ لمدّعي الكلّ منهما واحداً و عشرين، و لمدّعي النصف ثلاثة.

هذا

توضيح مرامه.

يلاحظ على هذه النظرية بوجهين:

1- انّ نفس ما خرجنا من النتيجة، أوضح دليل على بطلان الفرضية و هو تقديم بيّنة الخارج حيث صارت النتيجة خلع يد مدّعي الثلث من العين أساساً، مع أنّ له اليد عليها و البيّنة، و تخصيص جزءين أو جزء و نصف لمدّعي النصف مع انّ له اليد و البيّنة، و تخصيص أحد عشر جزء أو عشرة أجزاء و نصف لمدّعي الكلّ. و لو عرضنا النتيجة على الفطرة السالمة تعدّ الحكم عدولًا، عن العدل في القضاء و القسط في الحكم، حيث إنّ المدّعين مشتركون في الدليل، لا ترجيح لواحد بالنسبة إلى الآخر.

2- إنّ لكلّ واحد من المدّعين يداً على جميع العين لكن لا على سبيل الاستقلال.

و إن شئت قلت: لكلّ يد على جميعها لكن بوجه معارض، لا أنّ لكلّ واحد يداً على ثلثها، بلا معارض كماً هو أساس محاسبة المحقق.

و على ضوء ذلك فلو قلنا بأنّ الكلّ مستول على جميع العين، لا موضوع لبيّنة الداخل و لا للخارج، فيقسم مورد التنازع بينهم أثلاثاً، و تكون النتيجة كما مرّت.

و على كلّ تقدير لا منازعة في الجزءين من اثني

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 180

عشر جزء، فانّ مدّعي النصف يدّعي ستة أجزاء، و مدّعي الثلث يدّعي أربعة أجزاء فالجزءان من اثني عشر جزء خارج من محطّ المنازعة و هما خالصان لمدّعي الكلّ.

و ممّا ذكرنا يظهر حال الصورة الخامسة و ما فوقها التي تعرض لهما المحقّق رضوان اللّه عليه.

المسألة الحادية عشرة ثمّ إنّ المحقّق افترض ما إذا كانت العين في يد أربعة

و فصّل الكلام في شقوقه و لعلّ حالها يعلم ممّا ذكرنا. و إليك التوضيح:

10/ 6+ 4

2- 21/ 10 غير المتنازع فيه

فيضرب الكل في ثلاثة لوجود عدد صحيح و يكون التقسيم من ستة

و ثلاثين فالمتنازع فيه ثلاثون و غير المتنازع فيه ستة و إليك الصورة العملية الحسابية:

6- 303/ 6 المتنازع فيه

10/ 3: 30

فلمدّعي الكل (16) لأنّ 16/ 6+ 10

و لمدّعي النصف (10).

و لمدّعي الثلث أيضاً (10).

المسألة الثانية عشرة إذا تداعى الزوجان متاع البيت
اشارة

فللمسألة صورتان:

الأُولى: إذا أقام واحد منهما البيّنة، يقضى لصاحبها تقديماً لها على اليد.

الثانية: إذا لم تكن لهما بيّنة فهناك أقوال أربعة:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 181

1 ما اختاره الشيخ في المبسوط من الحكم بالتنصيف قال: و إن لم يكن مع أحدهما بيّنة فيدُ كلّ واحد منهما على نصفه، يحلف كلّ واحد منهما لصاحبه و يكون بينهما نصفين، و سواء كانت يدهما من حيث المشاهدة، أو من حيث الحكم و سواء كان ممّا يصلح للرجال دون النساء كالعمائم و الطيالسة و الدراريع و السلاح أو يصلح للنساء دون الرجال كالحليّ و المقانع و قمص النساء أو يصلح لكلّ واحد منهما كالفُرش و الأواني و سواء كانت الدار لهما أو لأحدهما أو لغيرهما و سواء كانت الزوجيّة باقية بينهما أو بعد زوال الزوجيّة، و سواء كان التنازع بينهما أو بين ورثتهما أو بين أحدهما و ورثة الآخر و فيها خلاف. «1» و ما اختاره هو مختار الشافعي كما سيوافيك من الخلاف.

و اختاره العلّامة في القواعد و ولده فخر المحققين. «2»

2- ما اختاره الشيخ في الخلاف من أنّ ما يصلح للرجال، للرجل، و ما يصلح للنساء للمرأة، و ما يصلح لهما يُقَسّم بينهما بعد التحالف و النكول حيث قال: إذا اختلف الزوجان في متاع البيت فقال كلّ واحد منهما: كلّه لي و لم يكن مع أحدهما بيّنة، نُظِر فيه فما يصلح للرجال، القول قوله مع

يمينه، و ما يصلح من النساء فالقول قولها مع يمينها، و ما يصلح لهما كان بينهما.

و قد روي أيضاً أنّ القول في جميع ذلك قول المرأة مع يمينها و الأوّل أحوط.

و قال الشافعي: يد كلّ واحد منهما على نصفه يحلف كلّ واحد منهما لصاحبه و يكون بينهما نصفين سواء كانت يدهما من جهة المشاهدة أو من حيث الحكم و سواء كان ممّا لا يصلح للرجال دون النساء أو للنساء دون الرجال، أو يصلح لهما، و سواء كانت الدار لهما أو لأحدهما أو لغيرهما، و سواء كانت الزوجيّة قائمة بينهما أو بعد زوال الزوجيّة، و سواء كان التنازع بينهما أو بين ورثتهما أو بين أحدهما و ورثة الآخر، و به قال عبد اللّه بن مسعود و عثمان البتي و زُفر، و قال

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 310.

(2) العلامة الحلي، الإيضاح: 4/ 381380.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 182

الثوري و ابن أبي ليلى: إن كان التنازع فيما يصلح للرجال دون النساء فالقول قول الرجل، و إن كان ممّا يصلح للنساء دون الرجال فالقول قول المرأة. «1»

و ممّا نقله الشيخ في الخلاف عن الشافعي يعلم أنّ خيرة الشيخ في المبسوط هو مختار الشافعي كما مرّ و أنّ ما اختاره في الخلاف، قول عبد اللّه بن مسعود و عثمان البتي و زفر. و أمّا ما نقله عن الثوري و ابن أبي ليلى فهو نفس ذاك القول لكنّهما لم يتعرضا لما يصلح لهما.

3- كلّه للمرأة، و هو خيرة الشيخ في الاستبصار. «2»

4- كلّه للرجل، لم يذهب إليه أحد من أصحابنا و إنّما أفتى به ابن أبي ليلى في بعض محاكمه كما سيوافيك.

و إليك دراسة الأقوال:

أمّا

الأوّل: فلأنّ لكلّ واحد يداً على نصف المتاع، فهو مدّع بالنسبة إلى ما في يد الآخر، و منكر بالنسبة إلى ما في يده فإذا حلف يبقى لكلّ لما تحت يده.

و الأُولى أن يقال إنّ لكلّ يداً على الجميع غير مستقل، و قد مرّ في محلّه انّ التنصيف مقتضى إطلاق صحيح عبد اللّه بن المغيرة «3» و مرسل محمّد بن أبي حمزة 4 و قد مرّ الكلام فيه فلاحظ.

و لكن العمل بهما متوقّف على عدم ورود نص خاص في المورد، باسم التنازع في متاع البيت و إلّا فيقدّم عليها.

و أمّا الثاني: فهو مقتضى صحيح النحاس عن أبي عبد اللّه قال: «إذا طلّق الرجل امرأته و في بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، و ما يكون للرجال و النساء

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: الجزء 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، المسألة 27.

(2) الطوسي، الاستبصار: 4.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 13، الباب 9 من أبواب الصلح، الحديث 1 و 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 183

قسم بينهما. قال و إذا طلّق الرجل المرأة فادّعت أنّ المتاع لها، و ادّعى الرجل أنّ المتاع له، كان له ما للرجال، و لها ما يكون للنساء و ما يكون للرجال و النساء قسم بينهما». «1»

و التعبير الأخير أجمع حيث صرّح بالشق الثاني أي ما للرجال، فهو له، و إن كان التعبير الأوّل كاملًا أيضاً و ذلك لأنّ موردها طلاق المرأة و في مثله تترك المرأة البيت و ما فيه للزوج فإذا قال: «فلها ما يكون للنساء» يكون معناه أنّ الباقي للرجل.

و مثله موثق يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في امرأة تموت قبل الرجل أو

رجل قبل المرأة، قال: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولى على شي ء منه فهو له». 2

و لعلّ وجه الاكتفاء بشقّ واحد، و هو ما يختص بالنساء، من دون إيعاز إلى شق آخر و هو ما يختص بالرجل، هو ما مرّ.

و خبر زرعة عن سماعة قال: سألته عن رجل يموت ما له من متاع البيت؟

قال: «السيف و السلاح و الرحل و ثياب جلده». 3

و قد نسب صاحب المسالك هذا القول إلى الأكثر 4 و نقل عن المحقق انّه نسبه في نكت النهاية إلى المشهور.

نعم يعارضه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه. و هو الدليل للقول الثالث أي كلّ المتاع للمرأة.

روى الكليني بسند صحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألني هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟ فقلت له:

______________________________

(1) 1- 3 الوسائل: الجزء 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 2، 3، 4.

(2) 4 زين الدين، المسالك: 2/ 443.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 184

بلغني أنّه قضى في متاع الرَّجل و المرأة إذا مات أحدهما فادّعاه ورثة الحيّ و ورثة الميّت أو طلّقها فادّعاه الرّجل و ادّعته المرأة بأربع قضايا فقال: «و ما ذاك؟» قلت:

1- أمّا أوّلهنّ فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي: كان يجعل متاع المرأة الّذي لا يصلح للرّجل، للمرأة، و متاع الرجل الّذي لا يكون للمرأة، للرّجل، و ما كان للرّجال و النّساء بينهما نصفين.

2- ثمّ بلغني أنّه قال: إنّهما مدّعيان جميعاً فالّذي بأيديهما جميعاً يدّعيان جميعاً بينهما نصفان.

3- ثمّ قال: الرّجل صاحب

البيت و المرأة الدّاخلة عليه، و هي المدّعية، فالمتاع كلّه للرّجل إلّا متاع النساء الّذي لا يكون للرّجال فهو للمرأة.

4- ثمّ قضى بقضاء بعد ذلك لو لا أنّي شهدته لم أروه عنه:

ماتت امرأة منّا و لها زوج و تركت متاعاً فرفعته إليه فقال: اكتبوا المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرّجال و المرأة فقد جعلناه للمرأة إلّا الميزان فإنّه من متاع الرَّجل فهو لك، فقال عليه السَّلام لي: «فعلى أيّ شي ء هو اليوم؟» فقلت: رجع إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي أن جعل البيت للرّجل.

ثمّ سألته عليه السَّلام عن ذلك فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال: «القول الّذي أخبرتني أنّك شهدته و إن كان قد رجع عنه» فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال: «أ رأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟» فقلت: شاهدين فقال: «لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين، و نحن يومئذ بمكّة لأخبروك أنّ الجهاز و المتاع يُهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها فهي الّتي جاءت به و هذا المدّعي فإن زعم أنّه حدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة». «1»

______________________________

(1) الوسائل: ج 17، الباب 8، من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 185

علاج التعارض بين الروايات

قد تعرَّفت أنّ مقتضى القاعدة، هو التنصيف مع الحلف، خرج منه موردان:

1- إذا كان أحدهما مستولياً على متاع من أمتعة البيت، بحيث تعدّ اليدُ، يدَه، و يصدق عليه قوله عليه السَّلام في موثقة يونس بن يعقوب: «و من استولى على شي ء منه فهو له». «1» فيقدّم قوله، و عليه اليمين للآخر.

2- إذا أقرّ واحد من الزوجين، بانتقال المتاع من الآخر إليه، فعندئذ تنقلب الدعوى، فعلى مدّعي الانتقال

إثباته.

و أمّا إذا لم يكن واحد من الأمرين فمقتضى القاعدة، هو التنصيف بعد حلف كلّ واحد منهما للآخر إلّا أنّه وردت الروايات على خلافه و هي تصدّنا عن الأخذ بمقتضاها، و في الوقت نفسِه هما متعارضان إذ أين القول بالتفصيل بين المختصات، و الشركة في غيرها، من القول بكونه كلّه للمرأة.

و يمكن التخلص من المعارضة بالنحو التالي:

إنّ رواية ابن الحجاج ناظرة إلى ما هو المتعارف في ذلك اليوم، من زفّ المرأة إلى بيت الزوج مجهزة بالمتاع التي يحتاجه البيت من الأمتعة الخاصة حتّى يتمتع بها الزوجان إلى مدّة، و من المعلوم أنّه كالقرينة المتصلة بأنّه لها خصوصاً إذا كان الفصل بين النكاح و الطلاق أو الموت قليلًا و على ذلك لا يكون مفاده حكماً شرعياً تعبّدياً سارياً في جميع الاصقاع و الأزمنة حتّى و لو لم تكن هناك تلك العادة و على ذلك فما قاله الإمام ليس حكماً تعبدياً، و إنّما هو حكم قضائي نابع عن القرينة المفروضة في مورد السؤال فيحتجّ به في كلّ مورد مماثل له. و تعدّ تلك السيرة قرينة خاصة لهذا الحكم.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 186

و أمّا الحكم بالتفصيل بين المختصات و الإشراك في المشتركات، فهو قضاء على وفق الظاهر في غير الظرف الوارد في صحيحة ابن الحجاج فإنّ الاختصاص و إن لم يكن قرينة قطعية لجواز أن ترث المرأة من أبيها العمائم و الطيالسة و الدروع و السلاح، أو يرث الرجل من أُمّه الحُليّ و المقانع و القمص المطرزة بالذهب، و يكون كلّ تحت يدهما، و لكنّه لمّا كان أمراً نادراً، أُلغي

ذلك و أُخذ بالظاهر و مقتضى العادة، فإنّ مقتضاها أنّ ما يصلح للرجال خاصة، فإنّه من مقتضياته، دون مقتضيات المرأة، و كذا ما يصلح للمرأة خاصة يكون من مقتضياتها دون مقتضيات المرء و أمّا المشترك فبما أنّه فاقد للقرينة الظاهرة فهو يُقسّم بينهما.

و على ما ذكرنا يكون حكمه عليه السَّلام حكماً قضائياً أوسع ممّا جاء في رواية ابن الحجاج و في غير موردها فيحتج بها في كلّ مورد كانت فيها تلك العادة و القرينة العامة، و إلّا فالمرجع هو موازين القضاء من الحلف و التقسيم.

و ما ذكرناه يرجع إلى ما ذكره صاحب المسالك من قوله: «و الرابع الرجوع في ذلك إلى العرف العام أو الخاص فإن وجد عمل به و إن انتفى أو اضطرب كان بينهما، لتصادم الدعويين و عدم الترجيح، و ذهب إلى ذلك العلّامة في المختلف و الشهيد في الشرح و جماعة من المتأخرين لما فيه من الرجوع إلى العرف و الجمع بين الأخبار مع مراعاة الأُصول المقرّرة». «1»

نعم ما ذكره ليس قولًا رابعاً، كما عبّر به، و إنّما هو جمع بين الروايات و مقتضى القاعدة، و المهم، هو التركيز على أنّ حكم الإمام فيما سبق من الروايات ليس حكماً تعبديّاً، واقعياً أو ظاهرياً، و إنّما هو حكم قضائي في مورد النزاع و ليس المراد من الحكم القضائي، أنّ الإمام جلس مسند القضاء و حكم بهما، بل المراد أنّ سؤال السائل، صار سبباً لفرض النزاع و الإجابة بما هو مقتضى أدلة القضاء و لو وجد مورد، خال عن الخصوصيات الحافّة بهذه الروايات وجب فصل النزاع

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 443.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 187

بالقاعدة

الأوّلية في باب القضاء.

و في نهاية المطاف ما جاء في رواية ابن الحجاج قرينة خاصة و ما جاء في روايات القول الثاني قرينة عامة و إن شئت فعبّر بالعرف الخاص و العام.

إذا ادّعى أبو الزوجة إعارة الجهاز

و لو ادّعى أبو الميّتة: أنّه أعارها بعض ما في يدها من متاع أو غيره. ففيه قولان:

1- كلّف البيّنة.

2- يقبل قول الأب دون غيره.

و الأوّل خيرة المحقّق في الشرائع، و نَسَبَ القول الثاني إلى رواية ضعيفة.

أمّا القول الأوّل، فلأجل أنّه المدّعي و لا تقبل دعواه بدونها.

يلاحظ عليه: إذا صدّق الزوجُ سبقَ يد الأب على المتاع و جريانها عليه، فهو يسلِّم كونه مالكاً و ذا يد على المتاع قبل تجهيز بنته به، و انتقاله إلى بيته، فيستصحب حكم اليد حتّى يعلم الخلاف و معه لا يحتاج إلى البيّنة.

و أمّا الرواية التي وصفها المحقق بالضعف فقد رواها الكليني بالسند التالي:

عن محمّد بن جعفر الكوفي الأسدي، عن محمّد بن إسماعيل عن جعفر بن عيسى قال كتبت إلى أبي الحسن يعني علي بن محمّد عليهما السَّلام: المرأة تموت فيدّعي أبوها أنّه كان أعارها بعض ما كان عندها من متاع و خدم أتقبل دعواه بلا بيّنة أم لا تقبل دعواه بلا بيّنة؟ فكتب إليه (يعني علي بن محمّد): «يجوز بلا بيّنة». «1»

و أمّا تفصيل السند فمحمّد بن جعفر بن محمّد بن عون الكوفي الأسدي ممّن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 23 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 188

وثّقه النجاشي و قال: ثقة، صحيح الحديث.

و أمّا الثاني فهو محمّد بن إسماعيل بن أحمد بن بشير، البرمكي صاحب الصومعة فقد قال النجاشي: إنّه ثقة و لا عبرة بتضعيف ابن الغضائري

كما حقّق في محلّه.

و أمّا الثالث فهو جعفر بن عيسى بن عبيد اليقطيني أخو محمّد بن عيسى ابن عبيد بن يقطين، فلم يرد فيه توثيق سوى ما رواه الكشي بسند صحيح عن أبي الحسن الهادي أنّه قال: «ما أعلمكم إلّا على هدى جزاكم اللّه على النصيحة القديمة و الحديثة خيراً» «1» و أمّا أخوه فقد وصفه النجاشي بأنّه ثقة عين و لعلّ هذا المقدار يكفي في الاعتماد على الرواية.

و رواه الشيخ بنفس هذا السند، و رواه الصدوق، و قال: روى محمّد بن عيسى بن عبيد عن أخيه جعفر بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السَّلام و سنده في المشيخة إلى محمّد بن عيسى صحيح قال فيها و ما رويته عن محمّد بن عيسى فقد رويته عن أبي رضي اللّه عنه عن سعد بن عبد اللّه عن محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، و رويته عن محمّد بن الحسن رضي اللّه عنه عن محمّد بن الحسن الصفار، عن محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني. «2»

ثمّ إنّ ابن إدريس قد أطنب الكلام حول الحديث و أورده في باب النوادر من القضاء و الأحكام و قال: إنّه خبر واحد لا يفيد علماً و لا عملًا، مضافاً إلى انّه مكاتبة فقد يُزور على الخطوط و لا يجوز للمستفتي أن يرجع إلّا على قول المفتي دون ما يجده بخطه ثمّ ذكر في ردّ الحديث وجوهاً أُخر، ليست صالحة للردّ. «3»

______________________________

(1) الكشي، الرجال: 420، برقم 353.

(2) الفقيه: ح 4، قسم المشيخة: 92. و قد حقّقنا في محلّه أنّ محمّد بن عيسى بن عبيد ثقة و أنّ استثناء ابن الوليد إيّاه عن رجال نوادر الحكمة، غير صحيح.

(3) الحلي، السرائر: 2/

187.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 189

نعم ذيل الحديث يشمل على الفرق بين الأب و غيره قال:: و كتبت إليه إن ادّعى زوج المرأة الميتة أو أبو زوجها أو أُم زوجها في متاعها و خدمها مثل الذي ادّعى أبوها في عارية بعض المتاع و الخدم أ يكون ذلك بمنزلة الأب في الدعوى فكتب: «لا».

و لعلّ الوجه عدم جريان أيديهم على المتاع، و ذلك لما يظهر من صحيحة ابن الحجاج كون الرسم في تلك الظروف هو إتيان المرأة بمتاع البيت من بيت الأب، و إلّا فلو كان الرسم مشاركة الزوج أو أبيه أو أُمّه في تجهيز البيت بالمتاع لقبل قولهم بلا بيّنة و اللّه العالم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 190

المقصد الثالث في دعوى المواريث
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأُولى لو مات المسلم عن ابنين، فتصادقا على تقدّم إسلام أحدهما على موت الأب و ادّعى الآخر مثلَه فأنكر أخوه.
اشارة

قال المحقّق: فالقول قول المتّفق على تقدّم إسلامه، مع يمينه أنّه لا يعلم أنّ أخاه أسلم قبل موت أبيه.

و استُدلّ على قول المحقّق بأنّ الأصل بقاء الأخ على كفره إلى أن يثبت المزيل، نعم على الآخر الحلف على عدم علمه بتقدّم إسلامه إن ادّعي عليه العلم.

أقول: إنّ للمسألة صوراً ثلاثاً:

الصورة الأُولى: إذا كان موت المورّث معلوماً تاريخاً و أنّه تُوفي في مُستهلّ شعبان، و كان إسلام الأخ الثاني مختلفاً فيه

، فهو يدّعي أنّه أسلم في شهر رجب، و أخوه يدّعي أنّه أسلم في رمضان فلا شكّ أنّ الأصل لا يجري في معلوم التاريخ، لعدم الشكّ فيه و لا في تاريخه، فانّ ظرف وقوعه في عمود الزمان معلوم و واضح فلا تشمله أدلّة الاستصحاب، و كونه مجهولًا بالنسبة إلى حالة الحادث الآخر من تقدّم إسلام الوارث عليه أو تأخّره عنه، لا يجعله مجهولًا أو مشكوكاً فيه حتّى يجري فيه الأصل، إذ الجهل أو الشكّ في إسلام الوارث بالذات، لا في موت المورّث و تصوير الجهل أو الشكّ فيه بالنحو المذكور لا يجعله من أقسام المجهول أو

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 191

المشكوك بالذات و على ضوء ذلك فيجري الاستصحاب في جانب المجهول، دون المعلوم فتجري أصالة بقائه على كفره إلى حال موت مورّثه و يكفي ذلك في الحجب من الإرث و شمول قوله: «لا يرث الكافر المسلم» «1». أو «لا يرث المشرك المسلم». 2 أو «لا يرث اليهودي و النصراني المسلمين». 3 على المورد.

و أورد عليه صاحب الجواهر بوجهين:

1- انّ استصحاب البقاء على دينه، لا يفيد تأخّر المدّعى به (الإسلام) عن الحادث الآخر المعلوم تاريخه.

2- انّ ذلك يقتضي عدم الحكم بإسلامه قبل موت الأب و ذلك لا يكفي في نفي الإرث المقتضي له نفس الولدية، و ذلك لأنّ الكفر

مانع، و ليس الإسلام شرطاً حتّى يكفي عدم تحقّق الشرط.

يلاحظ على الأوّل: أنّ الأثر (الحجب) مترتّب على كفر الوارث حين موت المورّث و هو محرز بالاستصحاب، من دون حاجة إلى إثبات تأخّر الإسلام عن موت المورِّث.

و أمّا الثاني الذي حاصله: «أنّ الإسلام ليس شرطاً في التوريث حتّى يحتاج إلى الإحراز بل الكفر مانع بعد وجود المقتضي و هو الولدية، و يكفي فيه عدم احرازه» فيردّه أنّ الحاجب محرز بالاستصحاب فكيف نتوقّف في حرمانه؟!

نعم هنا إشكال و هو أنّ الأثر (الحجب) ليس مترتّباً على كفر الوارث حين موت المورّث بل هو مترتّب على موت المورِّث عن وارث كافر و هو لا يثبت بالأصل. لكن الإجابة عنه واضحة بعد الإحاطة بكلمات المشايخ، و هو أنّه إذا كان موضوع الأثر من اللوازم البيّنة للمستصحب، بحيث يراه العرف نفسه و إن كان غيره عقلًا يثبت به، ذلك اللازم البيّن كما في المقام فإنّ موت المورِّث عن وارث

______________________________

(1) 1 و 2 و 3 الوسائل: الجزء 17، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 3، 5، 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 192

كافر، تعبير آخر عن كفر الوارث حين موت المورّث، و إلّا فلو توقّفنا في حجّية هذا النوع من الأصل لزم عدم سلامة أكثر الاستصحابات الموضوعية عن مثل هذا الإشكال، مثلًا:

إذا غُسِل الثوبُ النجس في ماء مسبوق بالكرّية، فإنّ استصحاب كرّية الماء لا يثبت انغسال الثوب في الماء الكرّ الذي هو الموضوع الحقيقي للأثر، و كذا استصحاب بقاء الوقت لا يثبت الإتيان بالصلاة فيه إلّا على النحو الذي عرفت.

الصورة الثانية: إذا كان إسلام الوارث معلوماً تاريخاً، و موت المورّث مجهولًا،

لا يجري الأصل في المعلوم لما عرفت من عدم الإبهام في الخارج، و إنّما مجراه

هو المجهول أعني: استصحاب حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث أو عدم موته إلى ذلك الزمان، و لكنّه عقيم لعدم كونه موضوعاً للأثر و لا ملزوماً للموضوع، إذا أقصاه حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث و هو ليس موضوعاً لأثر شرعي و إنّما الموضوع موت المورّث في زمان إسلامه، اللّهمّ إلّا أن يقال بحجّية الأصل المثبت. فانّه إذا كان المورّث حيّاً حين إسلام الوارث و المفروض أنّه توفي الآن، فيلزم موته عن وارث مسلم.

الصورة الثالثة: إذا كان كلّ من الحادثين (إسلام الوارث و موت المورّث مجهولًا)

فيجري الأصل في جانب دون الجانب الآخر، لما عرفت من ترتّب الأثر على أصالة بقاء الوارث على كفره إلى زمان موت المورّث، لا على الآخر، و هو استصحاب حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث، و تكون النتيجة الحجب و الحرمان في جميع الصور الثلاث.

و على ضوء ذلك فالأخ المتّفق على تقدّم إسلامه منكر لكون مدّعاه موافقاً

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 193

للأصل، و الآخر مدّع لا يثبت إلّا بالبيّنة. و لك أن تقول انّه لا حاجة في تشخيص المدّعي عن المنكر، إلى هذه الأُصول المعقّدة، بل يكفي الرجوع إلى العرف و النتيجة في المآل واحدة لأنّ مدّعي تقدّم إسلامه على موت مورّثه، يدّعي شيئاً جديداً بعد ما كان الحكم السائد على الموضوع هو الحرمان فمن يدعي شيئاً جديداً فعليه البيّنة و إلّا فيدفع ادّعاؤه بيمين المنكر.

المسألة الثانية لو اتّفقا على أنّ أحدهما أسلم في شعبان، و الآخر في غرّة رمضان

ثمّ قال المتقدّم: مات الأب قبل دخول شهر رمضان و قال المتأخّر: مات بعد دخول رمضان.

قال المحقّق: «كان الأصل بقاء الحياة و التركة بينهما نصفين» و أضاف صاحب الجواهر إليه قوله: «بلا خلاف و لا إشكال».

هذه هي الصورة الثانية من الصور الثلاث المذكورة في المسألة المتقدمة التي أوضحنا حالها و قد عرفت أنّ استصحاب حياة المورّث إلى زمان اسلام الوارث لا يترتّب عليه الأثر، و إنّما يترتّب على لازمه العقلي أعني: تأخر موت المورِّث عن إسلامه.

المسألة الثالثة دار في يد إنسان ادّعى آخر أنّها له و لأخيه الغائب، إرثاً عن أبيهما و أقام بيّنة
اشارة

فلها صور:

الصورة الأُولى: إذا كانت البيّنة كاملة و شهدت أنّه لا وارث سواهما،

فلا شكّ أنّه يُسلَّم إليه النصف لشهادة البيّنة على كونه مالكاً له إنّما الكلام في النصف الآخر، الّذي

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 194

شهدت البيّنة انّه للغائب فهل يبقى في يد من في يده الدار، كما في المبسوط؟ «1» أو يجعل في يد أمين حتّى يعود كما في الخلاف؟ «2» و ربّما يؤيّد الثاني بأنّ من كانت الدار في يده، سقط بإنكاره عن الأمانة و لكنّه ليس بإطلاقه صحيحاً إذ ربّما يكون استيلاؤه على الدار عن طريق الاشتراء أو الاتّهاب من دون أن يقف على كون البائع أو الواهب غاصباً، و بما أنّ الحاكم وليّ الغائب يُسلّم النصفَ الآخر إلى الأمين من غير فرق بينه و بين غيره.

ثمّ إنّ القابض للنصف لا يُلزم بإقامة ضمين بما قبض، لقيام الحجّة على انحصار الوارث في شخصين متساويين في الإرث.

و أمّا المراد من البيّنة الكاملة فقد فسّره الشيخ في الخلاف و قال: «و أقام بيّنة من أهل الخبرة الباطنة و المعرفة أنّهما ورثاه و لا نعرف له داراً سواهما». «3» و قال في المبسوط: و هي أن تكون البيّنة خبرة بباطن أمره و لو كان له ولد عرفاه و الخبرة المتقادمة حتّى لا يخفى عليها قديم أمره و جديده. «4»

و بذلك يعلم أنّ ما استظهره صاحب الجواهر من عبارة المحقق أعني: فإن كانت كاملة و شهدت أنّه لا وارث سواهما من أنّ قوله: «لا وارث سواهما» بمنزلة التفسير لها، متين، و أنّ ما احتمله صاحب المسالك من أنّ المراد بها، ذات الخبرة و المعرفة بأحوال الميّت سواء شهدت بأنّها لا تعلم وارثاً غيرهما أم لا، غير تامّ.

الصورة الثانية: إذا لم تكن البيّنة كاملة و شهدت أنّها لا تعلم وارثاً غيرهما

قال المحقّق: «أُرجئ التسليم حتّى

يبحث الحاكم عن الوارث مستقصياً بحيث لو كان وارث

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 274، كتاب الدعاوي و البيّنات، فصل الدعوى على الميراث.

(2) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوي و البيّنات، مسائل تعارض البيّنتين، المسألة 12.

(3) الطوسي، الخلاف: المصدر نفسه.

(4) الطوسي، المبسوط، المصدر السابق.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 195

لظهر، و حينئذ يسلّم إلى الحاضر نصيبه و يضمنه استظهاراً».

فكلامه هذا يدل على أمرين:

1- لا يجوز الدفع إلّا بعد البحث و الفحص.

2- و لو تمّ البحث لا يدفع إلّا بعد أخذ الضامن بما يقبضه لو ظهر بعد ذلك مراعاة للاحتمال الذي يبقى بعد البحث و الفحص.

أمّا الأوّل: فلأنّ البيّنة دلّت على كونه وارثاً و أمّا الكمّية فهي مجهولة و أصلُ عدم وارث آخر، لا يثبت الكمية إلّا على القول بالأصل المثبت هذا من جانب و من جانب آخر، يحتمل أن يكون الإمساك، ضرراً على المدّعي فمقتضى الجمع بين الحقّين إرجاء الواقعة حتّى تتبيّن الحال.

و أمّا الثاني: أي تضمينه استظهاراً فليس عليه دليل صالح سوى أصل الاحتياط في الأموال خصوصاً إذا كان الوارث موثوقاً بوفائه و ملئه.

على أنّ الظاهر من رواية معاوية بن وهب، جواز التقسيم مع احتمال وجود وارث آخر، من دون تضمين.

قال قلت: لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: الرجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدث في داره، و لا ندري ما أحدث له من الولد، إلّا أنّا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئاً و لا حدث له ولد و لا تقسّم هذه الدار، على ورثته الذين تَرَك في الدار حتّى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار،

دار فلان بن فلان مات و تركها ميراثاً بين فلان و فلان أو نشهد على هذا؟ قال: «نعم». «1»

الصورة الثالثة: إذا كان الوارث ذا فرض ينقص على تقدير وجود الوارث عن فرضه

، قال

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 17 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 196

المحقّق: أعطي مع اليقين بانتفاء الوارث (أو مع الشهادة الكاملة) نصيبه تامّاً، و على التقدير الثاني (عدم اليقين واقعاً و لا شرعاً) يعطيه ما يتيقن استحقاقه له، إن كان وارث آخر فيعطى الزوج الربع، و الزوجة ربع الثمن معجّلًا من غير تضمين و بعد البحث و عدم ظهور وارث آخر تتمم الحصّة مع التضمين.

و قد تقدّم عدم وجود التضمين.

الصورة الرابعة: إذا كان الوارث ممّن يحجبه غيره كالأخ المحجوب بالأبوين و الأولاد

فإن أقام البيّنة الكاملة أُعطي المال كلّه، و إن أقام بيّنة غير كاملة أُعطي بعد البحث و الاستظهار بالضمين.

و قد تقدّم عدم الدليل على أخذ الضامن.

و لو صدق المتشبّثُ المدّعي على عدم وارث غيره فإن كان المدّعى به عيناً فلا تُسمع الدعوى لأنّه ليس إقراراً على نفسه بل إقرار في حقّ الغير المحتمل و إن كان ديناً يسمع لأنّه إقرار في نفسه، لانّه لا يتعيّن ما يدفعه للغائب إلّا بقبضه أو قبض وكيله أو وليه. «1» و المفروض عدمه.

المسألة الرابعة إذا ماتت امرأة و ابنها، فقال أخوها: ماتَ الولد أوّلًا ثمّ المرأة فالميراث لي و للزوج نصفان.

و قال الزوج: بل ماتت المرأة ثمّ الولد فالمال لي.

فلو أقام واحد منهما البيّنة يُقضى بها و مع عدمها قال المحقّق:

1- لا يقضي بإحدى الدعويين، لأنّه لا ميراث إلّا مع تحقّق حياة الوارث

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 444، الطبعة الحجريّة عام 1268.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 197

فلا ترث الأُمّ من الولد، و لا الابن من أُمّه.

2- و تكون تركة الابن لأبيه و تركة الزوجة بين الأخ و الزوج.

للمحقّق هنا دعويان:

أ: عدم وراثة واحد من الأُمّ و الولد عن الآخر، وجهه: إنّ سبب الميراث حياة الوارث عند موت المورِّث و هي و إن كانت محرزةً بالأصل، لكنّه معارض لأنّ أصالة بقاء حياة الولد إلى زمان موت الأُمّ و إن كان يوجب الإرث، لكنّه معارض بأصالة بقاء الأُمّ إلى زمان موت الولد، و لا نحتاج في التوريث إلى التأخّر، حتّى يقال إنّه مثبت، و إنّما الإشكال في كونه معارضاً.

ب: تكون تركة الزوجة الأصلية (غير ما ترثه من الولد على فرض تأخر موتها) بين المدّعيين، لأنّ المقام أشبه بعين يتنازع فيها اثنان، لكلّ عليها يد، أو ليس لواحد منها عليها يد

فيقسم بينهما.

هذا تحليل ما في الشرائع.

و لنا هنا تعليقان:

الأوّل: ذكر المحقق من صور إقامة البيّنة خصوص ما إذا أ قامها واحد منهما و لكن لو افترضنا إقامتهما البيّنة، فقد سبق أنّ الحكم عند التكافؤ و عدم يد واحد منهما عليه، هو القرعة لمن تصار إليه اليمين و المقام من مصاديق هذه القاعدة و تصوّر استيلاء كلّ منهما على العين و يدهما عليها غير تام إذ العبرة باليد الكاشفة عن الملكية و ليست هي في المقام كذلك للعلم بأنّ سبب استيلاء كلّ على العين لأجل ادّعاء الوراثة الذي لم يثبت بعدُ فكيف نعتمد على مثلها.

و على ضوء ذلك فلو خرجت القرعة باسم الزوج و حلف يأخذ الكلّ.

و لو خرجت باسم الأخ، و حلف يأخذ نصف تركة الأُم الأصلية، و نصف ما ورثه من الولد، أمّا الأوّل فواضح و أمّا الثاني فلأنّه لو افترضنا صدق بيّنة الأخ،

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 198

فتركة الولد، تقسّم بين الأُم و الزوج أثلاثاً، ثلث للأُمّ، و الثلثان للوالد لقوله سبحانه: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوٰاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (النساء/ 11) أي لأُمّه الثلث فرضاً و أمّا الثلثان فهو للأب لا فرضاً بل ردّاً، لعدم وارث آخر في طبقتها فإذا أخذت الأُم فريضتها، يرث الأب الباقي.

فإذا ماتت الأُمّ عن ثلث واصل إليها من الولد، فالنصف منه (السدس) للزوج لقوله سبحانه: (وَ لَكُمْ نِصْفُ مٰا تَرَكَ أَزْوٰاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) (النساء/ 12) فيبقى النصف الآخر من الثلث (السدس) للأخ.

فتكون النتيجة أنّه إذا خرجت القرعة باسم الأخ يرث هو نصف أصل التركة، و نصف ما ورثته الأُمّ من الولد.

الثاني: لو افترضنا عدم البيّنة مطلقاً،

قال المحقّق: تقسم تركة الأُمّ الأصلية بين المدّعيين، مع أنّ مقتضى القاعدة، هو تقسيم نصف التركة، بينهما نصفين لأنّ الأخ يسلّم بأنّ نصفها للزوج بلا إشكال و إنّما يتداعيان في النصف الباقي منها فكلّ من الزوج و الأخ يدّعيه فمقتضى القاعدة، هو تنصيف موضع النزاع بين المدّعين، لا تنصيف ما هو خارج عن محلّ الدعوى.

فتلخّص من ذلك أمران:

1- انّه لو أقاما بيّنة و خرجت القرعة باسم الأخ فهو يرث سدس مال الولد، منضماً إلى نصف تركة الأُمّ الأصلية.

2- و لو لم تكن هناك بيّنة فإنّما يقسم، نصف تركة الأُمّ انصافاً لا كلّ التركة كما هو ظاهر كلام المحقّق.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 199

المقصد الرابع في الاختلاف في الولد
اشارة

إذا وطأ اثنان امرأة، وطأ يلحق به النسب إمّا أن تكون زوجةً لأحدهما و مشتبهة على الآخر، أو مشتبهة عليهما، أو يعقد كلّ واحد منهما عليها عقداً فاسداً.

فللمسألة صور:

الأُولى: أن لا يمكن إلحاقه بالثاني و أمكن بالأوّل

كما إذا وضعت لأقلّ من ستة أشهر من وطء الثاني، و لتسعة أشهر فما دون إلى ستة أشهر عن وطء الأوّل، فيلحق بالأوّل لعدم إمكان إلحاقه بالثاني لعدم مضيّ مدّة تمكن ولادتُه منه مع إمكان ولادته من الأوّل و هو زوجها في هذه المدّة.

الثانية: أن لا يمكن إلحاقه بالأوّل و أمكن بالثاني

كما إذا وضعت لستة أشهر فصاعداً إلى أقصى الحمل من وطء الثاني و للزائد عن أقصى الحمل من وطء الأوّل فيلحق بالثاني لعدم إمكان إلحاقه بالأوّل.

الثالثة: أن لا يمكن إلحاقه بواحد منهما

كما إذا وضعت لأقلّ من ستة أشهر من وطء الثاني و لأكثر من أقصى الحمل من الأوّل فينتفي عنهما لفقد شرط اللحوق بواحد منهما.

الرابعة: إذا أمكن اللحوق بكليهما

كما إذا وضعت لستة أشهر فصاعداً إلى ما دون أقصى الحمل من وطء الثاني و لأقصى مدّة الحمل فما دون من وطء الأوّل حيث يمكن تولّده منهما.

و هذا القسم الأخير، هو الّذي طرحه المحقّق في المقام فقال:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 200

إذا أتت بولد لستة أشهر فصاعداً ما لم يتجاوز أقصى الحمل فحينئذ يقرع بينهما.

هذا هو رأي المحقّق و أمّا غيره فقال الشيخ في الخلاف:

إذا اشترك اثنان في وطء امرأة في طهر واحد و كان وطئان يصحّ أن يلحق به النسب و أتت به لمدّة يمكن أن يكون من كلّ واحد منهما أقرعنا بينهما فمن خرجت قرعته ألحقناه به، و به قال علي عليه السَّلام.

و قال الشافعي: نريه القافة فمن الحقته به ألحقناه به، فإن لم تكن قافة أو اشتبه الأمر عليها أو نفته عنهما تُرك حتّى يبلغ فيُنسب إلى من شاء منهما ممّن يميل طبعه إليه، و به قال أنس بن مالك و هو إحدى الروايتين عن عمر، و به قال في التابعين عطاء، و في الفقهاء مالك و الأوزاعي و أحمد بن حنبل.

و قال أبو حنيفة: ألحِقه بهما معاً و لا أُريه القافة، و حكى الطحاوي، و في المختصر قال: إن اشترك اثنان في وطء الأمة فتداعياه فقال: كلّ واحد منهما هذا ابني الحقته بهما معاً فأُلحِقه باثنين، و لا أُلحقه بثلاثة، و قال أبو يوسف: ألحقه بثلاثة، و اختار الطحاوي طريقة أبي يوسف هذا قول المتقدّمين.

و قال المتأخّرون منهم الكرخي و الرازي

يجوز أن يلحق الولد بمائة أب على قول أبي حنيفة و المناظرة على هذا يقع. قال أبو حنيفة فإن كان لرجل أمتان فحدث ولد فقالت: كلّ واحدة منهما هو ابني من سيدي قال: ألحقه بهما فجعله ابناً لكلّ واحدة منهما و للأب أيضاً. قال أبو يوسف و محمّد: لا يُلحق بأمتين لأنّا نقطع أنّ كلّ واحدة منهما ما ولدته و أنّ الوالدة إحداهما و أبو حنيفة ألْحق الولد الواحد بآباء عدة، و بأُمهات عدة. «1»

فقد ذهب الشيخ و المحقق و لعلّ المشهور إلى القرعة و يدلّ عليه

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الدعاوى و البيّنات، المسألة 23.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 201

ما يلي:

روى زيد بن أرقم: إنّهم أتوا أمير المؤمنين عليه السَّلام في امرأة أتوها في طهر واحد كلّهم يدّعي الولد فأقرع و الحق الولد بمن أقرع، و غرمه ثلثي قيمة الأُمّ، و أنّهم سألوا رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن ذلك فقال: لا أعلم إلّا ما قال علي عليه السَّلام. «1»

و عن الباقر عليه السَّلام: «إنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم سأل أمير المؤمنين عليه السَّلام عن أعجب ما ورد عليه فخبره بذلك، فقال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: ليس من قوم يتنازعون ثمّ فوضوا أمرهم إلى اللّه تعالى إلّا خرج سهم المحق» «2»، إلى غير ذلك.

و على كلّ حال فالظاهر الرجوع إلى القرعة، قال المحقّق: سواء كان الواطئان مسلمين أو كافرين أو عبدين أو حرّين أو مختلفين في الإسلام و الكفر و الحريّة و الرّق، أو أباً و ابنه و في الجواهر: بلا خلاف معتدّ

به أجده بيننا في ذلك، بل الظاهر الإجماع عليه، بل ادّعاه بعض صريحاً. «3»

ثمّ إنّهم اشترطوا في الرجوع إلى القرعة أُموراً:

1- أن يكون الإتيان في طهر واحد و لو تخللت بينهما حيضة انقطع الإمكان عن الأوّل لأنّ الحيض علامة براءة الرحم شرعاً.

يلاحظ عليه: أنّه إذا صحّت نسبتهما إليهما و كان أحدهما زوجاً يلحق بالفراش و إن كان الإتيان في طهرين يتخلّل بينهما حيضة واحدة، لقوّة الفراش.

______________________________

(1) النوري، المستدرك: 17، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3 و 5.

(2) الوسائل، الجزء 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.

(3) الجواهر: 40/ 517.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 202

2 أن لا يعرف السابق و اللاحق و إلّا فيلحق بالأخير.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ إذا لم يكن الأوّل زوجاً و إلّا فيلحق بالمتقدّم إذا كان زوجاً لقوّة الفراش.

3- إذا لم يكن لأحدهما بيّنة و إلّا حكم لمن كانت له البيّنة.

يلاحظ عليه: بأنّ إقامتها صعب جدّاً، إذ كيف يمكن أن تشهد على أنّ الولد لأحدهما المعيّن و التفصيل موكول إلى محلّه.

تمّ الكلام في تحرير مسائل القضاء بعون اللّه سبحانه و تعالى

و قد لاح بدر تمامه يوم الأحد لعشرين خلون من شهر ربيع الأوّل

من شهور عام 1404 ثمّ أعدنا النظر في الدورة الثانية

و تمّت المراجعة و التبييض في اليوم الثالث من شهر شعبان المعظم، يوم

ميلاد الإمام الطاهر الحسين بن علي عليهما السَّلام من شهور عام 1416.

نشكره سبحانه على آلائه و نعمائه اللّهمّ ما بنا من نعمة فمنك و إليك

و الحمد للّه ربّ العالمين

و صلّى اللّه على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية

الغراء، ج 2، ص: 203

كتاب الشهادات

اشارة

تاليف

العلّامة الفقيه

جعفر السبحاني

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 205

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين و الصّلاة و السّلام على سيّد رسله و خاتم أنبيائه، محمّد و آله الطاهرين الّذين هم أساسُ الدين و عمادُ اليقين، إليهم يفي ء الغالي، و بهم يلحق التالي، صلاة دائمة ما دامت السماء ذات أبراج، و الأرض ذات فجاج.

أمّا بعد: فلمّا انتهينا من دراسة كتاب القضاء رأينا اشتياق حضّار بحثنا إلى اردافها بدراسة كتاب الشهادات على غرار كتاب شرائع الإسلام للمحقّق الحلّي قدس سره. للصلة القوية بين بحوث الكتابين فلا يكتمل أحدهما إلّا بالآخر. فنزلنا عند رغبتهم متوكّلين عليه سبحانه أنّه خير مسئول، و خير معين. فنقول:

الشهادة في اللغة و الاصطلاح

الشهادة: اسم من المشاهدة، و هي الاطّلاع على الشي ء عياناً يقال: شهدتُ الشي ء اطلعتَ عليه و عاينتَه، فأنا شاهد، و الجمع أشهاد و شهود. و منه قوله سبحانه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185) و كأنّ المقيم يعاين الشهر فيجب عليه الصوم، بخلاف المسافر و قوله: (وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2) أي و لتحضر و مرجع الحضور في الواقعة إلى تحمّل العلم عن حضور و حسّ، ثمّ استعمل في أدائها و إظهار الشاهد ما تحمّله من العلم، ثمّ صار كالمشترك بين التحمّل و التأدية بعناية وحدة الغرض فانّ التحمّل يكون

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 206

غالباً لحفظ الحقّ و الواقع من طروء البطلان عليه بنزاع أو تغلّب أو نسيان، أو خفاء، فكانت الشهادة سبباً لحفظ الحقّ و الواقع، فبهذه العناية كان التحمّل و التأدية كلاهما شهادة لوحدة الغرض و هو حفظ الحقّ و إقامته. «1»

هذا

هو حسب اللغة و أمّا في الاصطلاح فقد عرّفه الشهيد قدس سره في القواعد بقوله: «إخبار جازم عن حقّ لازم للغير، واقع من غير حاكم». «2» و قال أيضاً: الشهادة و الرواية تشتركان في الجزم و ينفردان في أنّ المخبر عنه إن كان أمراً عاماً لا يختص بمعين فهو الرواية كقوله عليه السَّلام: «لا شفعة فيما لا يقسم» فإنّه شامل لجميع الخلق إلى يوم القيامة و إن كان لمعين فهو الشهادة كقوله عند الحاكم أشهد بكذا لفلان.

و قال أيضاً: الفرق بين الفتوى و الحكم أنّ الفتوى مجرّد إخبار عن اللّه تعالى بأنّ حكمه في هذه القضية كذا، و الحكم إنشاء إطلاق أو إلزام ممّا يتنازع فيه الخصال لمصالح المعاش. «3»

فنقول: إنّ أُصول البحث في كتاب الشهادات لا تتجاوز عن خمسة و هي:

1- في صفات الشاهد.

2- بما ذا يصير الشاهد شاهداً (مستند الشهادة).

3- في المواضع التي تقبل فيها الشهادة من أقسام الحقوق.

4- في الشهادة على الشهادة.

5- في اللواحق.

و إليك الكلام فيها واحداً بعد واحد.

______________________________

(1) الطباطبائي، الميزان: 3/ 118، بتصرّف يسير.

(2) النجفي: الجواهر: 41/ 7.

(3) مكي العاملي، القواعد و الفوائد: ح 1 في ذيل القاعدة 82، ص 247 و القاعدة 114.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 207

المقصد الأوّل في صفات الشهود

اشارة

يشترط في الشاهد أُمور:

الأوّل: البلوغ

لا تقبل شهادة الصبيّ عند جميع الشعوب ما لم يبلغ حدّاً يستطيع معه على تمييز الأشياء و الأفعال، و حفظ ما عاين منهما في الذاكرة، ثمّ أدائها إلى الغير، حسب ما شاهد، و بما أنّ الصبيان مختلفون في الذكاء و الحفظ و الأداء، أخذ الشارع موقفاً حاسماً باشتراط البلوغ فلا يقبل إن لم يبلغ و إن كان ذكياً، حفيظاً، منطيقاً، لأنّ العبرة بالغالب لا الشاذ، إلّا أن يفيد العلم للقاضي، و عند ذلك يكون المرجع علمه، لا شهادته.

و يستطيع الإنسان، أن يستنبط ذلك التحديد من الإمعان في الروايات الواردة في الأبواب المختلفة التالية و نكتفي من كلّ باب، بالقليل:

1- ما ورد في الباب الرابع من أبواب مقدّمات العبادات و فيه قول الإمام علي عليه السَّلام مخاطباً لعمر: «أما علمتَ أنّ القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتّى يحتلم، و عن المجنون حتّى يفيق، و عن النائم حتّى يستيقظ». «1»

2- ما ورد في كتاب الحجر من عدم جواز أمره حتّى يبلغ «2» حيث يمكن

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 1، الباب 4 من أبواب مقدّمات العبادات، الحديث 11 و لاحظ عامة روايات الباب.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 2 من أبواب أحكام الحجر، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 208

الاستئناس به للمقام.

3- ما دلّ على عدم جواز وصيّة الصبيّ إلّا إذا بلغ عشر سنين. «1» و الاستثناء دليل على عدم العبرة بفعله و قوله إلّا في مورد الوصية.

4- ما يدلّ على أنّهم إذا تحمّلوا في الصغر جازت لهم التأدية إذا بلغوا. «2» و لو جازت شهادتهم قبل البلوغ، لكان التقييد لغواً.

5- ما ورد في باب القصاص من أنّ المجنون

و المعتوه الذي لا يفيق و الصبي الذي لم يبلغ، عمدهما خطأ تحمله العاقلة و قد رفع عنهما القلم. «3»

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في شأن الصبي الّتي يفيد المجموع من حيث المجموع عدم الاعتداد بقول الصبي و فعله إلّا في موارد نادرة و لأجل ذلك عُدّ البلوغ شرطاً في نفوذ الشهادة و إن لم يرد فيه نصّ خاص.

و تمكن استفادة الاشتراط من الاعتداد بشهادة الصبيّ على القتل تحت شروط خاصة، المعرب عن عدم الاعتداد بشهادته في غيره. و إليك بعض كلمات الأصحاب ثمّ سرد الروايات:

1- قال الشيخ في الخلاف: تقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح ما لم يتفرّقوا إذا اجتمعوا على أمر مباح كالرمي و غيره، و به قال ابن الزبير و مالك، و قال قوم: إنّها لا تقبل بحال لا في الجراح و لا في غيرها تفرقوا أو لم يتفرقوا ذهب إليه ابن عباس و شريح و الحسن البصري و عطا و الشعبي، و في الفقهاء الأوزاعي و الثوري و ابن أبي ليلى و أبي حنيفة و أصحابه و الشافعي. دليلنا، إجماع الفرقة و أخبارهم، و عليه إجماع الصحابة روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنّه قال: لا تقبل شهادة الصبيان في الجراح، و خالفه ابن الزبير فذهب

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 44 من أبواب كتاب الوصية، الحديث 3.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 21 من أبواب الشهادات، الحديث 41.

(3) الوسائل: الجزء 19، الباب 36 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 209

الناس إلى قول ابن الزبير فثبت أنّهم أجمعوا على قوله، و تركوا قول ابن عباس. «1»

2- و

قال في النهاية: و تجوز شهادة الصبيان إذا بلغوا عشر سنين فصاعداً إلى أن يبلغوا في الشجاج و القصاص و يؤخذ بأوّل كلامهم و لا يؤخذ بآخره و لا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من الديون و الحقوق و الحدود. «2»

3- و قال ابن البراج: فأمّا شهادة الصبيان فهي ضربان: جائز و غير جائز. فالجائز شهادة كلّ صبي بلغ عشر سنين إلى أن يبلغ، في الشجاج و القصاص و يؤخذ بأوّل كلامهم في ذلك و لا يؤخذ بآخره، و يفرّق بينهم في الشهادة فإن اختلفوا لم يحكم بشي ء من أقوالهم. «3»

4- و قال ابن إدريس: و تجوز شهادة الصبيان دون الصبايا إذا بلغوا عشر سنين فصاعداً إلى أن يبلغوا، في شيئين فحسب، الشجاج و القصاص و يؤخذ بأوّل كلامهم و لا يؤخذ بآخره و لا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من جميع الأحكام. «4»

5- و قال ابن حمزة: و الصبي إن كان مراهقاً و هو إذا بلغ عشر سنين فصاعداً تقبل شهادته في القصاص و الشجاج لا غير و يؤخذ بأوّل كلامه. «5»

6- و قال المحقّق بعد نقل الأقوال: فالأولى الاقتصار على القبول في الجراح بالشروط الثلاثة: بلوغ العشر، و بقاء الاجتماع، إذا كان على مباح، تمسّكاً بموضع الوفاق. «6»

7- و قال ابن سعيد: و لا تقبل شهادة الصبيان إلّا إذا بلغوا عشر سنين فصاعداً و ميّزوا، في الشجاج و الجراح خاصة و يؤخذ بأوّل كلامهم. «7»

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 20.

(2) الطوسي، النهاية، كتاب الشهادات: 331.

(3) ابن البراج، المهذّب: 2/ 559.

(4) ابن إدريس، السرائر: 2/ 136.

(5) ابن حمزة الطوسي، الوسيلة: 231.

(6) المحقّق، الشرائع: 4/ 125.

(7) ابن سعيد، الجامع للشرائع: 540.

نظام القضاء و

الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 210

8 و قال العلّامة: فلا تقبل شهادة الصبي و إن راهق إلّا في الجراح بشرط بلوغ عشر سنين فصاعداً و عدم تفرقهم في الشهادة و اجتماعهم على المباح. «1»

هذه نماذج من كلمات الأصحاب و هم:

بين من يجوِّز شهادته في الشجاج و القصاص كالشيخ في النهاية، و ابن البراج في المهذّب، و ابن إدريس في السرائر و ابن حمزة في الوسيلة.

و من يجوِّز شهادته في الشجاج و الجراح دون القصاص كابن سعيد في الجامع.

و من يخصها بخصوص الجراح فقط كالشيخ في الخلاف و المحقّق في الشرائع، و العلّامة في الإرشاد.

إذا تعرّفت على الأقوال فلنذكر النصوص فهي على أقسام:

أ: ما يدلّ على حجّية شهادة الصبيّ إذا بلغ عشراً من دون اختصاص بمورد كصحيح أبي أيّوب الخزاز قال: سألت إسماعيل بن جعفر: متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين، قلت: و يجوز أمره؟ قال فقال: إنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم دخل بعائشة و هي بنت عشر سنين، و ليس يدخل بالجارية حتّى تكون امرأة فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره و جازت شهادته. «2»

و الرواية لا تنهض حجّة لأنّ المروي عنه هو إسماعيل بن جعفر و لم ينسبه إلى الإمام نفسه و إنّما استنبط جواز الشهادة من قياس باطل، و هو قياس الصبي بالصبية، مع أنّه قياس مع الفارق، لأنّ الصبية و إن كانت ضعيفة من حيث الجسم لكنّها أسرع رشداً فتتزوّج بعد التسع، بخلاف الصبي فهو قويّ من حيث الجسم و لكنّه أبطأ رشداً. و هي على أيّ حال فالرواية متروكة.

______________________________

(1) العلّامة الحلّي، الإرشاد: 2/ 156.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 22

من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 211

و مثله رواية عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن شهادة الصبي و المملوك فقال: «على قدرها يوم أشهد، تجوز في الأمر الدون و لا تجوز في الأمر الكبير» «1» و هي أيضاً غير معمولة.

ب: ما خصّ بالقتل كصحيح جميل 2 و محمّد بن حمران. 3

ج: لم يذكر الموضوع و لكن القرائن تشهد على أنّ المراد ما يرجع إلى ما يتركه لعب الصبيان من نتائج سلبية كخبر طلحة بن بريد عن الصادق عن آبائه عن علي قال: «شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرقوا أو يرجعوا إلى أهلهم». 4

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ مقتضى التعبّد بالنصوص، هو حصر حجّية شهادتهم على القتل فقط كما هو مقتضى تصريح رواية محمّد بن حمران و ظاهر رواية جميل. و مع ذلك نرى أنّ الأصحاب، تركوا الموضوع الوارد فيهما، و جعلوا مكانه ما عرفت. فالمحقّق ترك العمل بالروايات في موردها (القتل) و مع ذلك عمل بها في مورد الجراح و هو كما ترى و مثله العمل بها في مورد الشجاج أيضاً لوضوح خروجهما عن القتل، و إلحاقهما به بقياس أولوي فرع العمل بها في موردها و المفروض ترك العمل بها في موردها، على أنّ الأولوية ممنوعة كما سيوافيك.

نعم ترك المحقّق العمل بها في مورد القتل، لاستلزامه التهجم على الدماء بخبر الواحد و هو خطر و لكنّه إنّما يلزم لو أُريد به القصاص دون الدية، و ذلك لكون القصاص فرع كون القاتل مكلّفاً، و المفروض أنّ قلم التكليف مرفوع فيكون هذا قرينة على حملها على الدية و يشهد على

ذلك تفريق الإمام الدية عليهم عند الاشتباه و الاختلاف في القاتل. 5

و بما ذكرنا صرّح في الجواهر و قال: بل منه ينقدح اختصاص قبول

______________________________

(1) 1- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 22 من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 5، 1، 2، 6.

(2) 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كتاب الديات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 212

شهادتهم في الدية لأنّ عمدهم خطأ، و هذا هو المناسب لعدم التهجم على الدماء بشهادتهم على وجه يُقتصّ بها من البالغين في نفس أو طرف، كما أنّه المناسب لشدة الأمر في الدماء و عدم إبطالها فيختص حينئذ قبول شهادتهم في ما بينهم لإيجابها الدية و لو كان المشهود به هو القتل. «1»

و منه يعلم أنّ قياس الشجاج و الجراح بالقتل قياس مع الفارق و الأولوية ممنوعة في المقام.

و ذلك لأنّ الأهميّة الخاصة بالنفس دعت الشارع إلى جعل الحجّية لشهادة الصبي، في القتل حتّى لا يذهب دم المسلم سدى و لكنّها ليست بموجودة في الشجاج و الجراح فلا يكون ذلك دليلًا على حجّية شهادته في غير النفس.

ثمّ قبول شهادته مشروط بشروط ذكر المحقق منها ثلاثة، أعني:

1- البلوغ عشراً، 2 بقاء الاجتماع، 3 لو اجتمعوا على أمر مباح و قد أُشير في بعض النصوص إلى شروط أُخر، 4 أن لا يوجد غيرهم 5 اعتبار الأخذ بأوّل كلامهم 6 أن تكون شهادة بعضهم على بعض، لا على الخارج عن حوزتهم، أمّا الرابع فهو القدر المتيقن و أمّا الخامس فهو المنصوص في غير واحد من روايات الباب «2» و أمّا السادس فهو المنصوص في رواية طلحة بن زيد. 3

الثاني: كمال العقل

و قد اتّفق على هذا الشرط العقلاء

فلا عبرة بقول المجنون إخباراً و إنشاءً إنّما الكلام في من يناله الجنون أدواراً فله صور:

1- أن يتحمّل في حال الإفاقة، و يؤدّي فيها، سواء أ تخلّل بينهما الجنون

______________________________

(1) الجواهر: 41/ 1413.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2، 4، 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 213

الموقّت أم لا.

2- أن يتحمّل في حال الجنون، و يؤدي حال الإفاقة.

3- عكس الثاني، يتحمل حال الإفاقة و يؤدّي حال الجنون.

لا إشكال في حجّية شهادته في الصورة الأُولى، كما لا إشكال في عدمها في الصورة الثالثة، إنّما الكلام في الصورة الثانية، و لعلّ عدالته تصدُّه عن الإخبار بشي ء غير جازم و لا محقّق، لكن بعد استظهار الحاكم بما يتيقن معه حضور ذهنه و استكمال فطنته. و إلّا طرحت شهادته.

و لعلّ التعبير بكمال العقل لإخراج الصنفين التاليين:

1- الساهي و هو الذي يعرض له السهو غالباً فربّما سمع الشي ء و نسي بعضه فيكون ذلك مغيّراً معنى اللفظ ناقلًا لمعناه، لانصراف الأدلّة عن مثله و لصدق الظنين عليه. «1» فحينئذ يجب على القاضي الاستظهار حتّى يتثبَّت ما يشهد به على وجه يطمئن بعدم غفلته فيما شهد به، و لو لكون المشهود به ممّا لا يُسهى فيه و مع ذلك ففي جواز الاعتماد على شهادته تأمّل إلّا أن يحصل اليقين فتكون الحجّة هو يقينه.

2- المغفَّل الذي في جبلَّته البله فربّما استغلط لعدم تفطّنه لمزايا الأُمور و تفاصيلها فيدخل فيه الغلط و الاشتباه من حيث لا يشعر و يأتي فيه ما ذكر في الساهي.

الثالث: الإسلام

يعتبر في الشاهد الإسلام، لأنّ الكافر فاسق و لا عبرة بشهادة الفاسق إجماعاً و عليه استفاضت الروايات

و قال الصادق عليه السَّلام: «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل و لا تجوز شهادة أهل الذمّة على المسلمين» نعم استثني مورد واحد

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 214

و هو شهادته في باب الوصيّة على الشروط الآتية.

الرابع: الإيمان
اشارة

المراد من الإيمان في المقام كون الشاهد إمامياً معتقداً بإمامة الأئمّة الاثني عشر فلا تُقبل شهادة المخالف على المؤمن، و قد ادّعى صاحب الجواهر كون المسألة إجماعية أو من ضروريات المذهب.

قال الشيخ: كل من خالف الحقّ لا تُقبل شهادته سواء كان ممن يُكفَّر أو يفسَّق و سواء كان فسقه على وجه التديّن أو على غير وجه التدين. و من وافق الحقّ لا تقبل شهادته إلّا إذا كان عدلًا لا يعرف بشي ء من الفسق. و قال قوم: من كان فاسقاً على وجه التديّن به، فلا تردّ شهادته، و إنّما يردّ من فَسَق بأفعال الجوارح من الزنا و اللواط و شرب الخمر و القذف و غير ذلك. «1»

و قال في الخلاف: لا تجوز قبول شهادة من لا يعتقد إمامة الأئمّة الاثني عشر، و لا منهم إلّا من كان عدلًا يعتقد العدل و التوحيد و نفي القبيح عن اللّه تعالى و نفي التشبيه و من خالف في شي ء من ذلك كان فاسقاً لا تُقبل شهادته.

أقول: «2» لو قلنا بكفر المخالف فعدم الجواز واضح لكنّه غير صحيح لما قرّر في محلّه من أنّه يكفي في الدخول في حظيرة الإسلام، الإقرار بالتوحيد، و الرسالة و المعاد منضمّاً إلى عدم إنكار ما يستلزم إنكارُه، إنكارَ الرسالة و كان النبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم

يقبل إسلام من يعترف و يشهد على الثلاثة: التوحيد و الرسالة و المعاد.

نعم لا شكّ في كفر الناصب و قد بيّن في محله و ما ورد حول جواز شهادته، فهو مؤوَّل. روى عبد اللّه بن المغيرة قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السَّلام:

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 220.

(2) الطوسي، الخلاف: 3/ 343، كتاب الشهادات، المسألة 50.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 215

رجل طلّق امرأته و أشهد شاهدين ناصبيين قال: «كلّ من وُلد على الفطرة و عُرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته». «1» فإنّ الإمام عليه السَّلام أشار بقوله: «ولد على الفطرة ...» إلى عدم صحّة شهادته لأنّه لم يولد على فطرة الإسلام. و فقد الصلاح في نفسه، و على هذا لا حاجة إلى حمله على التقيّة، نعم السند ضعيف لوجود السيّاري فيه.

ثمّ إنّ المحقّق، استدل على عدم جواز شهادة المخالف «بكونه ظالماً و فاسقاً»، لكونه ظالماً لنفسه، و خارجاً عن الطاعة و إن كان عدلًا في مذهبه و قد قال اللّه تعالى: (إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات/ 6). و قوله: (وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ) (هود/ 113).

و أورد عليه في المسالك بأنّ الفسق يتحقق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية أمّا مع عدمه بل مع اعتقاده أنّها طاعة بل من مهمّات الطاعات فلا، و الأمر في المخالف للحقّ للاعتقاد، كذلك لأنّه لا يعتقد المعصية بل زعم أنّ اعتقاده من أهمّ الطاعات و إنّما يتّفق ذلك ممن يعاند الحقّ مع علمه به و هذا لا يكاد يتّفق. «2»

ما ذكره قدس سره إنّما يتم في المخالف القاصر إذ لا يحكم عليه بالفسق و الكفر لافتراض قصوره و فقدان

الشرائط العامة للتكليف بخلاف المقصّر، فانّه محكوم بالعقاب فيكون فاسقاً و ظالماً.

نعم استدل صاحب الجواهر بوجوه عشرة على عدم القبول، أكثرها غير تامّة و المهم هو ما اعتمد عليه المحقق من صدق الظلم و الفسق، و أمّا غيرهما فإمّا قاصر السند أو قاصر الدلالة، فمن الأوّل الاستدلال بما روي عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السَّلام من قول الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام في تفسيره قوله

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41، من أبواب كتاب الشهادات، الحديث 21.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 446.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 216

تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ) «1» ممّن ترضون دينه و أمانته و صلاحه و عفّته. «2» و غير خفي على النابه أنّ التفسير تأليف عالم من علماء الشيعة و ليس تأليفاً للإمام على أنّه من المحتمل أن يكون المراد من الدين هو الإسلام مقابل الكفر أو المراد الدين على صعيد العمل. و من الثاني الاستدلال بقوله عليه السَّلام: لا تقبل شهادة ذي شحناء أو ذي مخزية في الدين» «3» و الشحناء العداوة، كما أنّ المقصود من ذي مخزية في الدين، هو الذي ركب من المعاصي ما يُعد خزياً، و عاراً، و شناراً كالسرقة و الزنا و شرب الخمر و أين ذلك من الاعتقاد الفاسد.

و الحاصل أنّ أكثر ما استدل به، غير تام و من دأبه قدس سره إذا كان الحكم مشهوراً بين العلماء أنّه كان يجمع الأدلة من هنا و هناك لتأييد الحكم، سواء أ كان تامّاً أملا.

و في مقابل ما استدل به المحقق، روايات يمكن استظهار حجّية شهادته منها و هي تتلخص في ما يأتي:

1- صحيح محمّد بن مسلم

عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير». «4» و المراد من الخير إمّا الإسلام أو الملكة الرادعة عن المعصية، أو نيّة الخير أو ما يقرب من ذلك فيصلح للاستدلال كما يحتمل أن يراد منه الإيمان بالمعنى الأخصّ و كان الإمام بصدد بيان حصر الشهادة، بمن كان كذلك.

2- ما روي عن الرضا عن آبائه عن علي عليهم السَّلام قال: «قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدَّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، فهو ممّن كملت مروته و ظهرت عدالته و وجبت أُخوته و حرمت غيبته». 5 فإذا كانت

______________________________

(1) البقرة: 282.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 23.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 5.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 8 و 15.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 217

هذه الأعمال كافية في استكشاف العدالة، فتدل على أنّ المعتبر منها في الشهادة، مطلق الملكة الرادعة عن الحرام، من دون مدخلية للاعتقاد فيها.

3- ما ورد من أنّ الذمي إذا أسلم و أدّى ما تحمّله حال كونه كافراً بعد الإسلام تقبل شهادته «1» فإنّ إطلاقه يعمّ ما إذا أسلم غير إمامي، و كان هو الغالب عصر صدور الروايات.

أضف إلى ذلك أنّ قبول رواية المخالف إذا كان ثقة في اللسان أو عدلًا في مذهبه، يشعر بقبوله في الشهادة فإنّ مضمون الرواية يرجع إلى عموم الناس إلى يوم القيامة و الشهادة ترجع إلى موضوع جزئي خاص فكيف تقبل الرواية و لا تقبل الشهادة؟!

فتأمّل.

فالحقّ التفصيل بين القاصر و المقصّر و ما أكثر القاصر في البلاد الإسلامية فضلًا عن غيرها.

قبول شهادة الذمّي خاصّة في الوصيّة
اشارة

إذا كان الإسلام شرطاً فلازمه عدم قبول شهادة غير المسلم كالذميّ و الحربي و هو كذلك لكن استُثني في الذكر الحكيم مورد خاص و هو الوصية إذا لم يوجد هناك عدول و يدل عليه من الكتاب قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) (المائدة/ 106).

و المراد من حضور الموت هو حضور أسبابه من مرض أو غيره و عندئذ فله

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 39 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2، 3 و غيرها.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 218

أن يوصي و يستشهد على الوصية اثنين مسلمين عدلين كما هو مفاد قوله: (ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أو ذميّين عدلين أيضاً كما يدل عليه قوله: (أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) و يدل ظاهر الآية على أنّ نفوذ شهادة الذمي في الوصية مشروط بشرطين:

1- عدم وجود مسلم كما هو ظاهر قوله: (أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) و ذلك لأنّ ظاهر (أَوْ) في الآية للتفصيل، لا للتخيير.

2- كون التحمّل في أرض الغربة و يعرب عنه قوله: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) و يدل على الأوّل من السنّة صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال: «نعم إذا

لم يُوجد من أهل ملّتهم، جازت شهادة غيرهم، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد». «1»

إنّما الكلام في لزوم الأخذ بالقيد (لم يوجد) لاحتمال ورود القيد مورد الغالب إذ قلّما يتفق لمسلم، أن لا يوجد عنده مسلمان يُشهدهما على الوصية إلّا في أرض الغربة، و يؤيّد ذلك عمومية التعليل للغربة و غيره أعني: قوله في غير واحد من الروايات: «و أنّه لا يصلح ذهاب حقّ امرئ مسلم» 2 أو «لا يصلح ذهاب حق أحد» و على ذلك فلو حضرت أسباب الموت، و لم يجد مسلماً في وطنه، فله أن يُشهد الذميين على الوصية.

ثمّ إذا دار الأمر بين إشهاد الذمي على الوصية أو إشهاد الفاسق من المسلمين فهل الذمي يقدّم على الثاني، أو يقدّم الثاني على الأوّل أو يفصّل؟ فنقول:

إذا أدركه الموت و لديه ذميّان عادلان، و مسلمان فاسقان بعيدان عن الكذب و الخيانة فالذميّان العادلان حسب مذهبهما، مقدّمان عليهما لأنّ الآية محمولة على عدم وجود مقبول الشهادة من المسلمين لا على عدم وجودهم. اللّهمّ

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 13، الباب 20 من أبواب الوصايا، الحديث 3 و 4 و لاحظ التعليل أيضاً في الحديث 1، 3، 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 219

إلّا أن تفسر العدالة في الذميين بعدم الكذب و الخيانة فيقدّم المسلمان لاشتراكهما في العدالة المعتبرة، مع مزية الإسلام.

و منه يظهر حالهما مع مسلمين مجهولين فيقدّمان، إلّا أن يقال بأنّ الأصل في المسلم العدالة إلّا أن يظهر خلافها فيقدّم المسلمان المجهولان.

و أمّا إذا دار الأمر بين الذميين العادلين، و المسلمين الفاسقين بالكذب و الخيانة فلا شكّ في تقدّم الذمي على المسلم.

إكمال

ذكر المحقق بأنّ الإيمان يثبت بمعرفة

الحاكم أو قيام البيّنة أو الإقرار، و ذكر في المسالك أنّ مرجع الثلاثة إلى الإقرار لأنّ الإيمان أمر قلبي لا تمكن معرفته من معتقده إلّا بالإقرار.

و الظاهر أنّ طريق المعرفة غير منحصر بالثلاثة، و الإيمان كسائر الصفات النفسانية من الشجاعة و الجبن و العفة تُعْرف بآثارها في حياة الإنسان و على ذلك فلا ينحصر الطريق بالثلاثة، كما لا يكون مرجع الكلّ إلى الإقرار.

في شهادة الذمي على الذمي

لا إشكال في نفوذ شهادة المسلم على الذمي و الحربي، و عدم نفوذ شهادتهما على المسلم و قد روى أبو عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه قال: «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل و لا تجوز شهادة أهل الذمّة (الملل) على المسلمين». «1»

إنّما الكلام في نفوذ شهادة الذمي على أهل ملّته أو غير أهل ملّته أو على الحربي فقد نقل الشيخ أقوالًا ثلاثة قال:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 38 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 220

1 قال قوم لا يجوز قبول شهادة أهل الذمّة بعضهم على بعض سواء اتّفقت ملّتهم أو اختلفت مثل شهادة اليهود على اليهود، أو على النصارى، أو كذلك النصارى و به قال مالك و الشافعي و الأوزاعي و ابن أبي ليلى و أحمد.

2- و قال آخرون: تقبل شهادة بعضهم على بعض سواء اتّفقت ملّتهم أو اختلفت ذهب إليه قضاة البصرة: الحسن، و سوار، و عثمان البتّي و به قال في الفقهاء حماد بن أبي سلمان و الثوري و أبي حنيفة و أصحابه.

3- و ذهب الشعبي و الزهري و قتادة إلى أنّه إن كانت الملّة واحدة كاليهود على اليهود قبلت، و إن اختلفت ملّتهم لم تقبل كاليهود

على النصارى و هذا هو الذي ذهب إليه أصحابنا و رووه.

دليلنا قوله تعالى: (إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ) (الحجرات/ 6) فأمر اللّه بالتثبت و التبيّن، في نبأ الفاسق، و الكافر فاسق. و روى ابن غنم قال سألت معاذ بن جبل عن شهادة اليهود على النصارى فقال: سمعت النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول: «لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلّا المسلمين فانّهم عدول على أنفسهم و على غيرهم» و هذا الذي اخترناه، و الوجه فيه إذا اختاروا الترافع إلينا، فأمّا إن لم يختاروا فلا يلزمهم ذلك. «1»

و قال في النهاية: و تجوز شهادة بعضهم على بعض و لهم، و كل أهل ملّة على أهل ملّته خاصة و لهم و لا تُقبل شهادة أهل ملّة منهم لغير أهل ملّتهم و لا عليهم. «2»

و قال في المبسوط: فأمّا قبول شهادة بعضهم على بعض فقال قوم لا تقبل بحال، لا على مسلم و لا على مشرك، اتّفقت ملّتهم أو اختلفت و فيه خلاف و يقوى في نفسي أنّه لا تقبل بحال لأنّهم كفّار فساق و من شرط الشاهد أن يكون

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 22.

(2) الطوسي، النهاية: 334 باب شهادة من خالف الإسلام.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 221

عدلًا. «1»

و قال ابن البرّاج: لا تجوز شهادة أهل الملل المختلفة بعضها على بعض بل تقبل شهادة أهل الملّة الواحدة بعضهم على بعض إلّا المسلمين فإنّ شهادتهم مقبولة على الجميع. «2»

و بذلك تبيّن أنّ للشيخ قولين قول بالتفصيل في الخلاف، و قول بالنفي مطلقاً في المبسوط و قد تبع ادريس قول الشيخ

في المبسوط حيث قال بعد نقل كلامه و هذا هو الذي يقوى أيضاً في نفسي. «3»

فإذاً الأقوال لا تتجاوز عن ثلاثة.

احتج النافي مطلقاً بانتفاء بعض الشرائط العامة في الشهادة كالإسلام و الإيمان و العدالة.

يلاحظ عليه: أنّ منصرف هذه الشروط، هو غير هذا المورد بل يمكن أن يقال إنّ المراد من العدل في الشاهد الكافر، هو كونه صادقاً في القول، أميناً في العمل. لا صاحب الملكة الرادعة عن المعاصي الواردة في مذهبه.

احتج المثبت مطلقاً بصحيح عبيد اللّه بن علي الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام: هل تجوز شهادة أهل الذمة على غير أهل ملّتهم؟ قال: «نعم إن لم يوجد من أهل ملّتهم، جازت شهادة غيرهم، أنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد». «4»

ففيه إطلاقان: 1 من جهة عدم اختصاصه بمورد الوصية عند الموت. 2 من جهة أنّ قوله: «على غير أهل ملّتهم» يعمّ المسلم و الكافر غير المماثل خرج المسلم بالدليل و بقي الباقي.

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 187، باب فيما يجب على المؤمن من القيام بالشهادة.

(2) ابن البراج، المهذّب: 2/ 557.

(3) ابن إدريس، السرائر: 2/ 140.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 40 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 222

يلاحظ عليه: أنّ قوله: «نعم إن لم يوجد من أهل ملّتهم» يعرب عن كون مورده الإيصاء عند الموت في الغربة إذ من البعيد أن لا يوجد المماثل في غير هذه الحالة.

و أمّا الإطلاق الثاني، فهو أمر بدويّ يزول إذا قورن مع خبر ضريس الكناس، حيث إنّ ذيله، يعرب عن كون المقصود منه (على غير أهل ملّتهم) هو المسلم.

روى ضريس الكناسي قال سألت أبا جعفر عليه السَّلام عن شهادة أهل

الملل هل تجوز على رجل مسلم من غير أهل ملّتهم؟ فقال: «لا إلّا أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم، و إن لم يوجد غيرهم، جازت شهادتهم في الوصية لأنّه لا يصلح ذهاب حق امرئ مسلم و لا تبطل وصيّته». «1»

فإنّ الروايتين متقاربتا المضمون و العبارة و ذيل الثانية (حق امرئ مسلم) يكشف عن كون المقصود من غير «أهل الملّة» هو المسلم، و اختصاص الجواز بالوصية.

و الروايتان ناظرتان لتفسير الآية المباركة المتقدمة و لا تتضمنان شيئاً جديداً فظهر عدم الدليل على هذا القول.

و أمّا القول بالتفصيل فهذا هو الذي اختاره الشيخ في الخلاف و النهاية و ابن البراج في المهذّب، خلافاً للشيخ في المبسوط و ابن إدريس في السرائر و المحقّق في الشرائع.

احتجّ المفصِّل بموثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام عن شهادة أهل الذمة. فقال: «لا تجوز إلّا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد». «2» و المناقشة في السند لأجل وقوع

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 20 من كتاب الوصايا، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 13، الباب 20 من أبواب كتاب الوصية، الحديث 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 223

العبيدي فيه غير وجيه، لكونه ثقة و كفى في وثاقته توثيق النجاشي له و قد ردّ على ابن الوليد استثناؤه إيّاه من أسناد نوادر الحكمة، و المهم هو تمامية دلالته.

فلو أخذنا بإطلاق الذيل، يكون مفاده حجّية شهادة المماثل مطلقاً في حقّ المماثل، و أمّا غير المماثل فإنّما يكون حجّة فيما لم يكن هناك المماثل و كانَ موردها هو الوصية و الظاهر تمامية الإطلاق خصوصاً على ما روى في كتاب

الوصية من قوله: عن شهادة أهل الذمة، مكان أهل الملّة في كتاب الشهادات. «1»

فتكون النتيجة هو قول رابع و هو الحجّية في المماثل مطلقاً، و عدمها في غيره إلّا في مورد الإيصاء للضرورة.

الخامس: العدالة
اشارة

المشهور، اشتراط العدالة في الشاهد قال الشيخ: لا يجوز للحاكم أن يقبل إلّا شهادة العدول فأمّا من ليس بعدل فلا تقبل شهادتُه لقوله تعالى: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2).

و قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (المائدة/ 106).

و قد ورد اعتباره في غير الشاهد مثل قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بٰالِغَ الْكَعْبَةِ) (المائدة/ 95) و «النعم» في اللغة هي الإبل و البقر و الغنم قوله: (فَجَزٰاءٌ) مبتدأ، خبره قوله (مِثْلُ مٰا قَتَلَ) و قوله: (مِنَ النَّعَمِ) بيان للكفّارة فيجب أن يُهدى إلى الكعبة، مماثل الصيد في الخلقة، ففي النعامة بدنة، و في حمار الوحش و شبهه، بقرة، و في الظبي و الأرنب، الغنم.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 40 من أبواب الشهادات، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 224

فاشترطت العدالة في الحاكم بذلك.

و ما ذكر من الآيات و إن كان لا يثبت شرطية العدالة في الشاهد مطلقاً و لكن إذا ضمّت إليها الروايات ثبت شرطيتها بوضوح.

1- ففي صحيح عبد اللّه بن يعفور قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم. «1» الظاهر في مفروغية شرطية العدالة و إنّما طلب

أن يتعرّف على طريقها.

2- روى الصدوق باسناده عن أبي جعفر عليه السَّلام في حديث أنّ عليّاً عليه السَّلام قال: «لا أقبل شهادة الفاسق إلّا على نفسه». «2»

3- روى الكليني عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال، قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: «لا بأس بشهادة مملوك إذا كان عدلًا». «3» إلى غير ذلك ممّا مرّ في الترجيح بين البيّنتين. «4»

و ما ربّما يستفاد من بعض الروايات كفاية عدم معروفية الفسق «5» فمطروح إنّما المهمّ هو تحديد معنى العدالة على وجه يناسب المقام.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 7.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 23 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5 و 12.

(5) لاحظ: الباب 41 من أبواب الشهادات، صحيح حريز، برقم 18، و الباب 54 رواية العلاء بن سيابة برقم 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 225

بحث في العدالة
البحث عن العدالة له، أطراف ثلاثة:
اشارة

1- بيان ما هو العدالة لغةً و اصطلاحاً؟

2- ما هو الطريق إلى إثباتها؟

3- ما هو المراد من الكبائر و الصغائر التي بها تزول العدالة؟

و التفصيل في المحاور الثلاثة موكول إلى كتاب الصلاة في مسألة شرطية العدالة في إمام الجماعة و المقصود في المقام الإشارة العابرة إلى هذه الجهات.

الجهة الأُولى: في بيان مفهومها

العدالة في اللغة بمعنى القصد و الاقتصاد، خلاف التطرّف و الجور، قال في اللسان: العدل ما قام في النفوس أنّه مستقيم و هو ضدّ الجور، و العدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم. و قال الطريحي: العدل: التسوية بين الشيئين لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: من اعتدل يوماه فهو مغبون.

و المراد منها عند الفقهاء مفهوم خاص، نقل إليه في لسان الشرع أو استعمل فيه مجازاً فصار حقيقة متشرّعيّة، و في الوقت نفسه لا يفقد المناسبة للمعنى اللغوي.

و قد عرّفت بتعاريف نذكر بعضها:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 226

1 العدالة: هي الملكة الرادعة عن معصية اللّه. أو أنّها كيفية نفسانية باعثة على ملازمة التقوى أو عليها مع المروءة و هي الاجتناب عن فعل ما ينبئ عن دناءة الطبع، و سفاهة الرأي.

2- العدالة: الاستقامة الفعلية عن ملكة رادعة.

و الفرق بين التعريفين واضح، فإنّ العدالة على التعريف الأوّل صفة نفسانية قائمة بالنفس، و على التعريف الثاني الملكة رصيد لها، و ليست نفسها بل واقع العدالة كون الإنسان في حياته الفردية و الاجتماعية مستقيماً على الجادّة الوسطى، غير مائل إلى اليمين و الشمال و إن كانت استقامته تعتمد على الملكة على نحو يكون القيد خارجاً و التقيّد داخلًا و سيوافيك في آخر البحث أنّه أقرب من سائر التعاريف.

3- عبارة عن

مجرّد ترك المعاصي أو خصوص الكبائر، أو عدم الإخلال بالواجب و عدم ركوب القبائح. و هذا التعريف يعتمد على نفس القيام بالوظائف.

الظاهر من الروايات أنّها من الصفات النفسانية أو نابعة عنها كما على التعريف الثاني و ليست مجرّد تطبيق العمل على الشريعة و يدلّ عليه لفيف من الروايات.

منها: ما في صحيح ابن أبي يعفور: «أن تعرفوه بالستر و العفاف، و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان و يُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار من شرب الخمر، و الزنا، و الربا، و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و غير ذلك». «1» و الدلالة بوجهين:

1- إنّ الستر و العفاف من الصفات النفسانية، و قد أخذا في مفهومها.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 227

2 إن ترك جميع ما جاء في الصحيح لا يحصل بدون الملكة الرادعة إذ لولاها لما استقام أمره في طول الحياة.

و منها: ما رواه عبد اللّه بن المغيرة و فيه: كلّ من ولد على الفطرة (الإسلام) و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته. «1»

و منها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً. 2

و منها: ما رواه عبد اللّه بن أبي يعفور عن أخيه عبد الكريم بن أبي يعفور عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «تقبل شهادة المرأة و النسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر و العفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء و التبرّج إلى الرجال في أنديتهم». 3

و الإمعان في هذه الروايات يوجب الإذعان بأنّها ليس مجرّد القيام بالوظائف الشرعيّة، بل عبارة

عن كون الإنسان بالغاً في الكمال الديني مرتبة يسهل معها، الإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات، غير أنّ لها مراتب كسائر الصفات النفسانية، فالعدالة المتواجدة في المحقق الأردبيلي غير المتواجدة في السوقي العامي.

الجهة الثانية: ما هو الطريق إلى التعرّف عليها؟

إذا كانت العدالة هي الحالة الخاصّة النفسانية الّتي لا ينحرف معها صاحبها و يكون مستقيماً، معتدلًا في أُموره، فما هو الطريق إلى التعرّف عليها؟

أقول: إنّها كالبخل و الجود و الحسد، و العلم، و الجهل تُعرف بآثارها و قد اشتملت الصحيحة الأُولى على ما يستدلّ به على وجودها في الإنسان حيث قال:

______________________________

(1) 1- 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 5، 10.

(2) 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 20.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 228

«و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه إلى أن قال و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ، و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين، و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا عن علّة فإذا كان كذلك، لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين». «1»

و يظهر من ذيل الحديث أنّ التركيز على الحضور في صلاة الجماعة، لأجل أنّه يعرف به المصلي عن المضيّع لها حيث قال: «إنّما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلِّى، ممن لا يصلّي و من يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيّع و لو لا ذلك لم يمكن أحد أن يشهد على آخر بالصلاح» و إلّا فلو علمت حاله من

طريق آخر فلا إشكال.

و بذلك يعلم أنّ حسن الظاهر طريق إلى الملكة و الحالة النفسانية و ليس نفس العدالة.

قال السيّد الطباطبائي في العروة الوثقى: العدالة عبارة عن ملكة إتيان الواجبات و ترك المحرّمات و تعرف بحسن الظاهر الكاشف عنها علماً أو ظناً.

و الأولى أن يعرف بالاستقامة في جادّة الشرع و عدم الانحراف عنها يميناً و شمالًا و هو أقرب بالمعنى اللغوي كما عرفت من اللسان، و الملكة النفسانية هي السبب لحصول الاستقامة فلا غنى عن وجودها.

الجهة الثالثة: ما هو المراد من الكبائر و الإصرار على الصغائر؟
اشارة

قال المحقّق: و لا ريب في زوالها بمواقعة الكبائر كالقتل و الزنا و اللواط و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 229

غصب الأموال المعصومة و كذا بمواقعة الصغائر مع الإصرار.

تحقيق المقام يستلزم البحث في موردين:

الأوّل: ما هو المراد من الكبائر و الصغائر؟

الثاني: ما هو المراد من الإصرار على الصغائر؟ و يليه البحث عن ترك المندوبات أساساً و المروّة المعتبرة فيها.

و إليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر على وجه موجز.

الأوّل: في تقسيم المعاصي إلى الكبائر و الصغائر و تفسيرهما
اشارة

لا ريب في انقسام المعاصي إلى الكبائر و الصغائر و قد ورد النصّ به في الذكر الحكيم في غير واحد من الآيات:

1- قال سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً) (النساء/ 31) و المراد من السيئة في الآية هو المعصية الصغيرة بقرينة التقابل نعم اللفظة ليست بمعنى خصوص الصغيرة بل اريدت منها بقرينة التقابل و إلّا فلها استعمالات مختلفة لكن بجامع واحد:

أ: المصيبة و ما تستكره النفس نحو قوله سبحانه: (وَ مٰا أَصٰابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء/ 79). بقرينة ما قبله أعني قوله: (مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ).

ب: نتائج المعاصي و آثارها نحو قوله سبحانه: (فَأَصٰابَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا عَمِلُوا) (النحل/ 34).

ج: مطلق المعصية نحو قوله: (وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا) (الشورى/ 40).

و ليست الآية بصدد الإغراء إلى ركوب الصغائر بزعم أنّها لا يعتدُّ بها و

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 230

يتهاون في أمرها، و ذلك لأنّ ركوب أيّةِ معصية بتلك النيّة طغيان على اللّه و استهانة بأمره، بل الآية تعرب عن لطفه و امتنانه على عباده،

بأنّ اجتناب بعض المعاصي يُكفِّر عن البعض الآخر، حتّى يهتمّوا باجتنابه، ليغفر البعض الآخر، على فرض ارتكابه، و أين هذا من فسح المجال لارتكاب الصغائر و لو تمّ التوهم، لتمّ في التوبة أيضاً قال سبحانه: (قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/ 53).

و الآية تدل بوضوح على أنّ المخاطبين إمّا كانوا عالمين قبل نزولها و مميّزين كبار المعاصي عن صغائرها أو أنّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عرّفها لهم بعد نزولها لغاية السعي في ترك الكبائر المكفِّرة عن الصغائر.

و بذلك يعلم أيضاً بطلان ما نقل عن المعتزلة من أنّ في تعريف الصغائر إغراءً بالمعصية، لأنّه إذا علم المكلّف بأنّه لا ضرر في فعلها، ودعته الشهوة إليها، فعلها. «1» و ذلك لأنّ مفاد الآية بصيصُ رجاء لمن لا يرتدع عن المعاصي لغاية إيقافه عن ارتكاب الكبائر ليغفر صغائره و ليست الآية بصدد الدعوة إلى ارتكاب صغائر الذنوب كما أنّ التوبة و الشفاعة ليستا داعيتين إلى اقتراف المعاصي.

2- قال سبحانه: (وَ وُضِعَ الْكِتٰابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لِهٰذَا الْكِتٰابِ لٰا يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لٰا كَبِيرَةً إِلّٰا أَحْصٰاهٰا) (الكهف/ 49) و الإشفاق و الخوف ممّا في الكتاب، دليل على أنّ المراد مما فيه، هو صغائر الذنوب و كبائرها.

3- قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى/ 37) و الفواحش هي أقبح القبيح، فيكون مساوياً «لكبائر الإثم» و على ذلك تكون الفاحشة على قسم واحد، و أمّا الإثم فهو ينقسم

______________________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 2/ 38 في تفسير

الآية.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 231

إلى كبير و صغير. و كبائر الإثم: المعاصي الكبيرة التي لها آثار سوء عظيمة و قد عدّ تعالى منها شرب الخمر و الميسر، قال تعالى: (قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ) (البقرة/ 219) كما عدّ الزنا و اللواط من الفواحش قال تعالى: (وَ لٰا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً) (الاسراء/ 32) و قال حاكياً عن لوط: (أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (النمل/ 54). «1»

4- قال تبارك و تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (النجم/ 32) و ربّما يفرق بين الكبيرة و الفاحشة التي هي بمعنى أقبح الذنوب و أفحشها، بأنّ كلّ ذنب ختم بالنار فهو كبيرة، و الفاحشة كلّ ذنب فيه حدّ. و أمّا اللّمم ففيه أقوال:

1- صغار الذنوب كالنظر و القبلة و ما كان دون الزنا.

2- ما كان في الجاهلية من الإثم فهو معفو عنه.

3- أن يذنب مرّة ثمّ يتوب و لا يعود، فكلّ معصية إذا ألمّ بها الإنسان و لم يعد فهو اللّمم «2» و الأوّلان بعيدان لاستلزامهما كون الاستثناء منقطعاً و الثالث محتمل و هناك احتمال رابع و هو المعصية حيناً بعد حين من غير عادة أي المعصية على سبيل الاتّفاق فيكون أعمّ من الكبيرة و الصغيرة و ينطبق مضمون الآية على معنى قوله تعالى في وصف المتقين: (وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّٰهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 135) و قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ الشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الاعراف/ 201).

ثمّ إنّ

العلماء اختلفوا في تفسير الكبائر إلى أقوال ذكرها الغزالي في الإحياء «3»

______________________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 33، الطباطبائي، الميزان: 18/ 64.

(2) الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 317، الطباطبائي، الميزان: 19/ 45.

(3) الغزالي، إحياء العلوم: 40، كتاب التوبة: 17.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 232

و الطبرسي في المجمع «1» و الرازي في مفاتيح الغيب «2» و إليك الإشارة إلى قسم من الأقوال:

آراء العلماء في تفسير الكبيرة و الصغيرة

اختلفت آراءهم في تفسير الكبيرة، كالتالي:

1- كلّ ما أوعد اللّه عليه في الآخرة عقاباً و أوجب عليه في الدنيا حدّاً فهو كبيرة و هو المروي عن سعيد بن جبير، و مجاهد.

يلاحظ عليه: أنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة بالاتّفاق لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار رواه الفريقان «3» مع أنّه سبحانه لم يوعد عليه عقاباً و لا أوجب عليه حدّاً في الدنيا.

2- إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد اللّه عليه بالنار في الكتاب و السنّة.

يلاحظ عليه: بمثل ما لو لوحظ على الأوّل فإنّ الإصرار على الصغيرة معصية كبيرة و لم يوعد عليه بالنار فيهما.

3- إنّ الكبيرة كلّ ما يُشْعِرُ بالاستهانة بالدين و عدم الاكتراث به. و يقرب منه ما يقال: إنّ الكبر و الصغر اعتباران يعرضان لكلّ معصية، فالمعصية التي يقترفها الإنسان استهانة بأمر الربوبية أو استهزاءً، أو لعدم المبالاة كبيرة و هي بعينها لو افترضت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في

الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 232

يلاحظ عليه: أنّ هناك معاصي كبيرة و إن لم يقترفها الإنسان بأحد هذه العناوين كأكل مال اليتيم و الزنا مع الإحصان و قتل النفس المحترمة.

______________________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 2/ 38.

(2) الرازي، مفاتيح الغيب: 10/ 7874.

(3) الوسائل: الجزء 11، الباب 45 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 233

4 كلّ ما نهى اللّه عنه فهو كبيرة نسبه الطبرسي إلى ابن عباس و قال: و إلى هذا ذهب أصحابنا فانّهم قالوا: المعاصي كلّها كبيرة من حيث كانت قبائح لكن بعضها أكبر من بعض و ليس في الذنوب صغير و إنّما يكون صغيراً بالإضافة إلى ما هو أكبر منه و يستحق العقاب عليه أكثر و هذا كالزنا بلا إحصان، فإنّه أصغر بالنسبة إلى الزنا معه.

يلاحظ عليه: بأنّه على خلاف ظاهر الآية الأُولى لأنّ ظاهرها أنّ السيئات بالذات على قسمين، قسم يُكفِّر اجتنابها، و قسم يُكفَّر لو أتى بها، فلو كان الجميع كبائر، لم يكن وجه لتكفير بعض، البعضَ الآخر و إن شئت قلت: إنّ ظاهر الآية أنّ التقسيم وصف للمعاصي بحسب ذاتها، لا بحسب قياسها إلى معاص أُخر.

5- إنّ الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أوّل السورة إلى تمام ثلاثين آية و معنى الآية إن تجتنبوا كبائر ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح و أكل الأموال و قطيعة الرحم بالباطل و غيره من المحرّمات من أوّل السورة إلى هذا الموضع.

يلاحظ عليه: أنّه مناف لإطلاق الآية.

6- إنّ الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه فلو غلب ثوابه على العقاب الناشي من اقتراف المعصية، تكون صغيرة و إلّا فهي كبيرة.

يلاحظ عليه: أنّ

المتبادر من ظاهر الآية أنّ انقسام المعاصي إلى القسمين، تقسيم ذاتي لها لا تقسيم قياسيّ، و على ضوء ذلك تبطل تلك النظرية و ما تقدم برقم 3 و 4، فإنّ وصف المعاصي بالكبر و الصغر باعتبار القصد، أو بنسبة بعضها إلى البعض الآخر، ينافي كون القسيم ذاتياً لا قياسياً و على ضوء هذا لا محيص عن تفسير الكبيرة و الصغيرة على وجه يتحفظ معه ظاهرها.

و يمكن أن يقال: إنّ الطريق إلى معرفة الكبيرة و الصغيرة، متعددة فكما

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 234

يعرف من إيعاد النار عليه في الكتاب و السنّة يعرف من تشديد النهي، أو ورود النهي بعد النهي عليه عن وجه يعرب عن عناية الشارع بتركها و إن كانت العناية بوجه متعلقة بترك الجميع.

و لا ينافي ما ذكرنا ما جاء في غير واحد عنهم عليهم السَّلام من أنّ الكبائر عبارة عمّا أوجب اللّه عليها النار «1» أو ما أوعد اللّه عليه النار 2 إذ لا يظهر من الروايات أنّها بصدد الحصر.

و قد عقد الحرّ العاملي باباً أسماه باب تعيين الكبائر، جاء فيه بيان الكبائر من المعاصي 3 فعليك بالمراجعة إليه للتعرف عليها و قد اختلفت الروايات في تعيينها، و يحصل رفع الاختلاف بالقول باشتراك الجميع في كونها كبيرة و لكن لها درجات متفاوتة.

الثاني: ما هو المراد من الإصرار؟

اتّفقت كلمتهم على أنّ الإصرار على الصغائر يزيل العدالة و إنّما الاختلاف في مفهوم الإصرار فقيل فيه وجوه:

1- الإكثار منها بلا توبة.

2- الإكثار منها بلا توبة أو بالعزم على فعلها بعد الفراغ منها.

3- أو فعل الصغائر في الأغلب و إن أظهر الاستغفار عنها كلّما فعلها، فإنّه بحكم الإصرار المستمر لأنّ التوالي و إن كان

بعد كلّ فعل استغفار يدل على قلّة المبالاة و عدم الإخلاص في التوبة.

و الأخير هو ما ذكره المحقّق و إليك ما يمكن الاستدلال عليه:

قد وصف سبحانه المتقين بعدم الإصرار على المعاصي و قال:

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 11، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1، 2، 4، 15.

(2) 3 الوسائل: الجزء 11، الباب 48 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 235

(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّٰاءِ وَ الضَّرّٰاءِ وَ الْكٰاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعٰافِينَ عَنِ النّٰاسِ وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّٰهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 135133) و الموصول في قوله: (مٰا فَعَلُوا) يعمّ الصغيرة و الكبيرة، و الصغيرة و إن لم تكن من أفراد الفاحشة لكنّها من أفراد الظلم على النفس الوارد في نفس الآية، فتدلّ على أنّ الإصرار يخالف التقوى و بالتالي يخالف العدالة.

1- روى الصدوق بسند صحيح عن ابن أبي عمير قال سمعت موسى بن جعفر عليهما السَّلام أنّ النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «لا كبير مع الاستغفار، و لا صغير مع الإصرار». «1»

2- روى الصدوق باسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد في حديث شرائع الدين: «و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه ... و الإصرار على صغائر الذنوب». «2»

3- روى الكليني بسند صحيح عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «لا و اللّه لا يقبل اللّه شيئاً من طاعته على الإصرار على شي ء من معاصيه». «3»

4- في موثقة

السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «من علامات الشقاء جمود العين ... و الإصرار على الذنب». 4

و إطلاق الروايتين، شامل للإصرار على الصغيرة، و وجه التقييد واضح لأنّه يورث في النفس هيئة لا ينفع معها ذكر مقام الربّ تعالى. و هي الاستهانة بأمر اللّه و عدم المبالاة، بهتك حرماته و الاستكبار عليه و لا تبقى معه عبودية و لا ينفع معه ذكر. 5

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 11، الباب 47 من أبواب جهاد النفس، الحديث 11.

(2) الوسائل: الجزء 11، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 36.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 11، الباب 48 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1، 2 و لاحظ الحديث 3.

(4) 5 العلّامة الطباطبائي الميزان: 4/ 19، ط طهران.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 236

و أمّا الإصرار فقد فسّره الجزري في النهاية بقوله:

«أصرّ على الشي ء إصراراً: إذا لزمه، و داومه و ثبت عليه. و أكثر ما يستعمل في الشرّ و الذنوب». «1»

و هناك صور لارتكاب الصغيرة بعضها داخل في الإصرار قطعاً، و البعض الآخر مشكوك الدخول و إليك بيانها:

1- إذا ثبت على المعصية الصغيرة بالتكرار و الدوام مع عدم تخلل التوبة بينها.

2- إذا ثبت عليها بالتكرار و الدوام مع تخلل التوبة بينها.

3- إذا ارتكبها مرّة واحدة و كان عازماً على فعلها في المستقبل.

4- إذا ارتكبها مرّة واحدة و لم يُحدِّث نفسُه بالتوبة.

5- إذا ارتكبها مرّة واحدة مع العزم على التوبة و إن لم يَتب.

لا شكّ في كون الأُولى من مصاديق الإصرار موضوعاً، كما أنّ الثانية و الثالثة ملحقتان بها حكماً لا موضوعاً لدلالتهما على قلّة

المبالاة و عدم الإخلاص في التوبة.

و أمّا الرابعة، فالظاهر خروجه عن الإصرار موضوعاً و حكماً، لكونه مكفَّراً باجتناب الكبائر. و يظهر من رواية جابر دخوله في الإصرار حيث روى عن أبي جعفر: «أنّ الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه تعالى و لا تحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار». «2»

يلاحظ عليه: أنّ الرواية مع ضعفها سنداً لوقوع عمرو بن شمر في سندها، أنّه لا يصدق على المفروض فيه، الإصرار لغة أوّلًا، و هو مكفَّر بالاجتناب عن

______________________________

(1) النهاية: 3، مادة «صرر».

(2) الوسائل: الجزء 11، الباب 48 من أبواب جهاد النفس، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 237

الكبائر، ثانياً، و أولى من هذه الصورة، الصورة الخامسة.

بقي هنا أُمور:

1- يظهر من المحقّق، أنّ مواقعة الصغائر في الأغلب ليس إصراراً و لكنّه ملحق به حكماً قال: «و كذا بمواقعة الصغائر مع الإصرار أو في الأغلب».

2- نقل المحقّق في صورة الندرة قولين و قال: قيل لا يقدح لعدم الانفكاك منها إلّا فيما يقل فاشتراطه التزام للأشقّ، و قيل يقدح لإمكان التدارك بالاستغفار و الأوّل أشبه.

و القول الأوّل لابن إدريس و ردّ تارة بأنّه لا يمكن التوبة في أغلب الأحوال لأنّ من شرائط التوبة العزم على ترك المعاودة، و لا شكّ أنّ الصغائر لا ينفك منها الإنسان فلا يصحّ منه العزم غالباً، و أُخرى بأن العلم بتوبة المرتكب يحتاج إلى زمان طويل.

و الأوّل كما ترى، إذ كيف لا يمكن التوبة في أغلب الأحوال، ثمّ إنّه لا حاجة إلى التعرّف من المرتكب على العزم على الترك أبداً لأنّه مكفَّر بالاجتناب كما لا يخفى.

3- هل يقدح ترك المندوبات على نحو الإعراض عن الجميع، في العدالة أو لا؟

ذهب لفيف من الفقهاء كالمحقّق و العلّامة إلى أنّه غير مضرّ ما لم يبلغ حداً يؤذن بالتهاون بالسنن و أضاف في المسالك: و لو اعتاد ترك صنف منها كالجماعة و النوافل و نحو ذلك فكترك الجميع لاشتراكهما في العلّة المقتضية لذلك نعم لو تركها أحياناً لم يضرّ. «1»

أقول: لا بدّ من تفسير التهاون فإن أُريد منه التثاقل و التكاسل، فليس بحرام و إن أُريد منه الاستخفاف بالدين و الاعتراض عليه، فهو موجب للخروج

______________________________

(1) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 447.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 238

عن الدين.

4- يظهر من غير واحد من الأصحاب أنّ ترك المروءة قادح في العدالة قال الشيخ: العدالة في اللغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال، متساوياً و أمّا في الشريعة فهو من كان عدلًا في دينه عدلًا في مروءته، و عدلًا في أحكامه، أمّا العدل في الدين أن يكون مسلماً لا يُعرف منه شي ء من أسباب الفسق، و في المروءة أن يكون مجتنباً للأُمور التي تسقط المروءة مثل الأكل في الطرقات و مدّ الرجل بين الناس و لبس الثياب المصبغة و ثياب النساء، و العدل في الأحكام أن يكون بالغاً عاقلًا عندنا، و عندهم أن يكون حرّاً فأمّا الصبي فأحكامهم ناقصة فليسوا بعدول». «1»

و علّله في المسالك بأنّ عدم رعايتها إمّا يكون لخبل و نقصان في العقل أو قلّة مبالاة و حياء، و على التقديرين يبطل الثقة و الاعتماد على قوله أمّا الأوّل فظاهر، و أمّا قليل الحياء، فمن لا حياء له يصنع ما شاء كما ورد في الخبر ثمّ إنّه قدس سره طرح للمروءة أمثلة كثيرة فراجعها. «2»

لا يهمّنا تفسير المروءة لغة و أنّه هل

هي بمعنى الإنسانية أو الرجولية، أو الكمال فيهما؟ بل المهم بيان ما أُريد منها في المقام، فالظاهر من كلامهم هو رعاية العادات الرائجة بين الناس و هي تختلف حسب اختلاف الأزمان و الأجيال إذ ربّ عمل كان يعاب به في زمان، و لا يعاب به الآن كالمشي في الأسواق و المجامع مكشوف الرأس، و قد صار اليوم أمراً عادياً جميلًا.

و على كلّ تقدير فلو كانت مخالفة العادات حاكية عن خبل و نقص في العقل أو قلّة مبالاة بالسنن و القوانين، و إلّا فلا تكون قادحة.

5- إنّ العادات العرفية، التي يعبّر عنها بالحسن و القبح العرفيين، تتغير

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 217.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 448.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 239

بتغير الأجيال و الأزمان، فكم من قبيح عرفي صار اليوم جميلًا؟ و كم من جميل صار اليوم قبيحاً؟ فالأولى التركيز على أنّ ترك العادات بما هي هي قادح للعدالة أو لا، لا على الأمثلة.

6- إنّ العدالة على القول بأنّها ملكة، ليست ملكة بسيطة غير قابلة للتقسيم و التجزئة بل هنا ملكات فربّ إنسان ذو ملكة راسخة بالنسبة إلى معصية كالقتل و السرقة و ليس كذلك بالنسبة إلى الكذب و الغيبة نعم العدالة المعتبرة في الشاهد، تجب أن تكون معتمدة على الملكة التامة الرادعة من عامّة المعاصي.

مسائل
المسألة الأُولى: في شهادة المخالف في الأُصول و الفروع

هل الفسق من حيث العقيدة يوجب ردَّ الشهادة و عدم قبولها، أو يختصّ الردُّ بالفسق من حيث العمل، كالسرقة و شرب الخمر؟ فيه خلاف بين الفقهاء.

قال الشيخ: كلّ من خالف الحقّ قد بيّنا أنّه لا تقبل شهادته سواء كان ممن يُكفَّر أو يفسَّق. «1»

ثمّ إنّه قد بيّن آراء الفقهاء في كتاب الخلاف

و إليك نصّه:

لا يجوز قبول شهادة من لا يعتقد إمامة الأئمّة الاثني عشر و لا منهم إلّا من كان عدلًا يعتقد العدلَ و التوحيد و نفي القبيح عن اللّه تعالى و نفي التشبيه، و من خالف في شي ء من ذلك كان فاسقاً لا تقبل شهادته.

و قال الشافعي: أهل الآراء على ثلاثة أضرب: منهم من نخطِّئه و لا نفسِّقه كالمخالف في الفروع فلا تردّ شهادته إذا كان عدلًا، و منهم من نفسِّقه و لا نكفِّره كالخوارج و الروافض، نفسِّقهم و لا نكفِّرهم، و منهم من نكفِّره و هم القدرية

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 220 و تبعه ابن إدريس في السرائر، لاحظ: 2/ 119.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 240

الذين قالوا بخلق القرآن و نفي الرؤية و إضافة المشيئة إلى نفسه، و قالوا: إنّا نفعل الخير و الشرّ معاً، فهؤلاء كفّار، و لا تقبل شهادتهم، و حكمهم حكم الكفّار، و به قال مالك و شريك و أحمد بن حنبل.

و قال ابن أبي ليلى و أبو حنيفة: لا أردّ شهادة أحد من هؤلاء، و الفسق الذي تردّ به الشهادة ما لم يكن على وجه التديّن كالفسق بالزنا و السرقة: و شرب الخمر، فأمّا من تديّن به و اعتقده مذهباً، و ديناً يدين اللّه به، لم أردَّ شهادته، كأهل الذمّة عنده، فسقوا على سبيل التديّن، و كذلك أهل البغي فسقوا عنده فوجب أن لا ترد شهادتهم.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم و لأنّه قد دلّت الأدلّة القاطعة على صحّة هذه الأُصول التي أشرنا إليها و ليس هاهنا موضع ذكرها، و المخالف فيها كافر و الكافر لا تقبل شهادته. «1»

قال المحقّق: كلّ مخالف في شي ء من

أُصول العقائد تردّ شهادته سواء استند في ذلك إلى التقليد أو إلى الاجتهاد، و لا تردّ شهادة المخالف في الفروع من معتقدي الحقّ إذا لم يخالف الإجماع و لا يُفسَّق و إن كان مخطئاً في اجتهاده.

و لعلّ ما ذكره المحقّق هو الرأي السائد بين الإماميّة.

أقول: إنّ المخالفة في الأُصول تارة تستلزم الكفر، كما إذا أنكر ضرورياً من ضروريات الدين خصوصاً إذا كان ملتفتاً إلى أنّه ضروريّ من ضرورياته، و مثله الغلاة و الخوارج و النواصب، فلا شكّ في عدم قبول شهادتهم لفقد الإسلام الذي تعرفت على شرطيته و فهمت شرطيته في كلمات الأصحاب من شرطية الإيمان بالمعنى الأخصّ، و أُخرى لا يكون كذلك كالمجسِّمة و المجبّرة و القائلين بوحدة الوجود بالمعنى الفاسد فوجه عدم القبول لأجل تقصيرهم في طلب الحقّ مع

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 50.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 241

انفتاح باب العلم فيه. إنّما الكلام في سائر الأُصول الكلامية التي ابتكرها الشيخ المفيد و تلاميذه و صار مذهباً للشيعة الإمامية عبر القرون و تعد اليوم من الضروريات، كعصمة الأنبياء من الصغائر و الكبائر قبل البعثة و بعدها و عدم سهو النبيّ و ما أشبههما فالظاهر أنّ المخالفة فيها إذا كان عن اجتهاد و تقليد غير قادحة لأنّ أصل العصمة على وجه الإجمال و إن كان من ضروريات الدين، لكن سعتها لما قبل البعثة من الصغائر ليست كذلك فالقائل بعدمها مخطئ، لكن ليس بفاسق حتّى لا تقبل شهادته.

و بالجملة القادح في قبول الشهادة في مورد الأُصول، هو المخالفة مع ضروريات الدين أو المذهب الإمامي، بحيث تعدّ المخالفة تقاعساً في طلب الحقّ، و تقصيراً في الاجتهاد، و

أمّا غيرهما، فالمخالف مخطئ لا فاسق.

و أمّا الفروع فقد استثنى المحقّق مخالف الإجماع و كان عليه أن يقسم الفروع إلى أقسام أربعة:

1- ما هو من ضروريات الدين، كوجوب الصلاة و الزكاة و الحجّ. 2 ما هو من ضروريات المذهب كحلّية المتعة، و بطلان العول و التعصيب، و جواز الوصية للوارث، و مسح الرجلين و غيرهما. 3 ما هو من ضروريات الفقه، كحرمة وطء الحائض. 4 مسائل فقهية اضطربت الآراء فيها، و ربّما يكون أحد الآراء مشهوراً.

و الذي لا يقدح في العدالة هو القسم الأخير، فمن أفتى بشي ء يخالف الحكم المشهور مخطئ و ليس بفاسق، و الإجماع الذي ذكره المحقّق يرجع إلى أحد الأُمور الثلاثة.

المسألة الثانية: في شهادة القاذف

لا شكّ في انّه لا تقبل شهادة القاذف إذا لم يلاعن، أو لم يُقم البيّنة أو لم يقرّ

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 242

المقذوف، و يدل عليه نصّ الكتاب و السنّة المستفيضة قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 54) و المراد من المحصنات: العفائف من النساء.

فقد حكم سبحانه في الآية على القاذف بأحكام ثلاثة: 1- (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً)، 2- (لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً)، 3- (وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ).

ثمّ إنّه سبحانه استثنى في الآية الثانية التائبين منهم. فوقع الخلاف في أنّ الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة (أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ) أو إلى الجميع، و عليه فلو تاب فلا يُجلد، و تقبل شهادته أيضاً و بالنظر إلى مفاد الآية و الروايات الواردة، وقع النزاع في مواضع

أربعة:

الأوّل: هل الموضوع لعدم قبول الشهادة هو مجرّد الرمي أو هو مع إجراء الحدّ؟

الثاني: إذا تاب، هل تقبل شهادته أولا، و إن صار عادلًا؟

الثالث: ما هي كيفية توبته فهل يكفي الاستغفار من الذنب أو يجب عليه إكذاب نفسه عند الإمام أو عند المسلمين؟

الرابع: ما هو المراد من قوله سبحانه: (وَ أَصْلَحُوا) بعد قوله (إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ) فهل الإصلاح نفس التوبة أو شي ء آخر؟ فلنأخذ كلّ واحد بالبحث:

أمّا الأوّل: فقال أبو حنيفة: لا تردّ بمجرّد القذف حتّى يُجْلَد فإذا جُلِدَ ردّت شهادته بالجلد لا بالقذف و قال الشافعي: تردّ شهادته بمجرّد القذف. «1» أقول: الظاهر من الآية هو انّ الرمي تمام الموضوع لردّ الشهادة، و لا يتوقف على إجراء

______________________________

(1) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 11.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 243

الحدّ حتّى يكون الموضوع هو المحدود بشهادة عطف الجملة الثانية على الأولى بالواو و قال: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً) فلو كان الجلد، شرطاً لعدم القبول كان اللازم أن يقول: فلو جُلدوا، لا تقبلوا لهم شهادة أبداً.

و الذي يعرب عن ذلك أنّ قوله: (أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ) بمنزلة التعليل لعدم قبول شهادتهم، و من المعلوم أنّ الحكم بالفسق غير معلّق على إجراء الحدّ فعدم قبول الشهادة مثله حكم، غير معلّق بشي ء.

و أمّا الثاني: أي قبول شهادتهم بعد التوبة فقد عرفت أنّه مبنيّ على رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل الثلاث. و لعلّه الظاهر و إن كانت الأخيرة هي المتيقنة و ذهب أكثر فقهاء أهل السنة إلى عدم القبول. قال الشيخ: القاذف إذا تاب و صلح، قبلت توبته و زال فسقه بلا خلاف و تقبل

عندنا شهادته فيما بعدُ، و به قال عمر بن الخطاب، و روي عنه أنّه جَلَد أبا بكر حين شهد على المغيرة بالزنا ثمّ قال له: تب تُقْبَل شهادتك. و عن ابن عباس أنّه قال: إذا تاب القاذف قبلت شهادته و به قال في التابعين عطاء و طاوس. «1»

و أمّا غيرهما فقد صرّح الشيخ بأنّ شريحاً و الحسن البصري و النخعي و الثوري و أبا حنيفة و أصحابه قالوا بأنّه لا تقبل شهادته. 2 و نقل الطبرسي في تفسير الآية: أنّ الزهري و مسروق و عطاء و طاووس و سعيد بن جبير و الشعبي و الشافعي و أصحابه قالوا بقبول شهادته 3 و على أيّ حال النصوص من أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام مستفيضة على القبول و يظهر من رواية القاسم بن الحسن، أنّ المشهور لدى السنّة هو عدم القبول 4 و سيوافيك بعض النصوص في البحث الثاني.

______________________________

(1) 1 و 2 و الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 11.

(2) 3 الطبرسي، مجمع البيان: 4/ 126، ط صيدا.

(3) 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 36 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 244

و أمّا الثالث: أي كيفية التوبة فقد تضافرت السنّة على إكذاب نفسه لكنّهم اختلفوا في أمرين:

الأوّل: هل التوبة نفس إكذاب نفسه، أو هي شي ء وراء الإكذاب؟

الثاني: كيف يكذب نفسه، فهل يلزم أن يقول: كذبت فيما قلت أو يكفي أن يقول: القذف باطل و لا أعود إلى ما قلت؟

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ الإكذاب غير التوبة، فالأوّل أشبه بحقوق الناس لصيانة عرض الناس، و الثاني من حقوق اللّه حيث اقترف الحرام و في بعض الروايات إشارة إلى التغاير كخبر «1»

«أبي الصباح الكناني» عن القاذف إذا أكذب نفسه و تاب أتقبل شهادته؟ قال: نعم. «2» و في متن آخر: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن القاذف بعد ما يُقام عليه الحدّ ما توبته؟ قال: «يكذب نفسه». قلت: أ رأيت إن أكذب نفسه و تاب أتقبل شهادته؟ قال: «نعم». 3 فانّ عطف التوبة على الإكذاب، دليل التغاير، و أمّا اكتفاء الإمام في تفسير التوبة بالإكذاب، لأجل معلومية الجزء الآخر أعني: الندامة المبرَزة بالاستغفار. و لأجل ذلك روي عن أحدهما عليهما السَّلام: «يجي ء فيكذب نفسه عند الإمام و يقول: قد افتريت على فلانة و يتوب ممّا قال». 4

و أمّا الثاني: فالوارد في الروايات هو إكذاب نفسه، غاية الأمر أنّه لو كان صادقاً، يورّي كما عليه المحقّق في الشرائع.

و يظهر من غير واحد تعيّن غيره قال ابن إدريس: و كيفية توبته في القذف أن يقول: القذف باطل و حرام و لا أعود إلى ما قلت. 5 و ذلك لأنّه إذا قال:

______________________________

(1) لضعف الراوي عنه، أعني: محمّد بن الفضيل، و هو غير محمّد بن الفضيل الأزدي، و غير محمّد بن الفضيل بن غزوان.

(2) 2- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 36 من أبواب الشهادات، الحديث 6 و 1 و 4.

(3) 5 ابن إدريس، السرائر: 2/ 116.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 245

كذبتُ فيما قلت ربّما كان كاذباً في هذا، لجواز أن يكون صادقاً في الباطن، و قد تعذّر عليه تحقيقه.

و تبعه ابن سعيد حيث قال: و إن شهدوا دون الأربعة بالزنا فحُدُّوا، توبتهم أن يقولوا: ندمنا على ما كان و لا نعود إلى ما يتهم فيه فتقبل شهادتهم. «1»

أضف إليه ما في المسالك من

أنّه تعريض بقذف جديد غير الأوّل. «2» و نقله الشيخ في الخلاف عن أبي إسحاق المروزي و اختاره أيضاً و قال: و الّذي قاله المروزي قويّ لأنّه إذا أكذب نفسه بما كان صادقاً في الأوّل فيما بينه و بين اللّه فيكون هذا الإكذاب كذباً و ذلك قبيح «3». و على كلّ تقدير فيجب أن يصل الإكذاب إلى من وصل إليه الرمي، و لعل الإكذاب عند الإمام أو عند المسلمين في بعض الروايات «4» كناية عنه.

يلاحظ عليه بأنّ غاية ما يلزم هو لزوم التعريض و التورية إذا كان كاذباً.

و أمّا الرابع، أعني: كون الإصلاح وراء التوبة و الإكذاب أو لا، فظاهر الآية، انّه غيرهما. قال الشيخ: إذا أكذب نفسه و تاب لا تقبل شهادته حتّى يظهر منه العمل الصالح و هو أحد قولي الشافعي إلّا أنّه اعتبر ذلك سنة و نحن لم نعتبره لأنّه لا دليل عليه و القول الآخر أنّه يكفي مجرّد الإكذاب. «5» و هو خيرة ابن سعيد قال: و لا يحتاج إلى إصلاح عمل. «6» و لا يصحّ إلّا بجعل الجملة تفسيراً للتوبة، و يمكن أن تكون كناية عن الإكذاب، و بما أنّ النصّ ذو وجوه، فمقتضى الأصل العملي استصحاب الحكم السابق حتّى يعلم المزيل.

______________________________

(1) ابن سعيد، الجامع للشرائع: 541.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 449.

(3) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 12.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 37 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(5) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 13.

(6) ابن سعيد، الجامع للشرائع: 541.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 246

المسألة الثالثة: في اللعب بآلات القمار

اللعب بآلات القمار على أقسام ثلاثة:

1- أن يلعب بها لغاية القمار و الرهان.

2- أن يقصد به اللهو

و التنزّه.

3- أن تكون الغاية الحذق و التفتح.

لا إشكال في حرمة اللعب على الوجه الأوّل و أنّه من الكبائر و قد عرفت أنّ من طرق التعرّف على كون الفعل من الكبائر، لحن الدليل و تشديد النهي، و يكفي في ذلك قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة/ 9190) و قد فسّر الميسر في غير واحد من الروايات بالقمار «1» و الآية الأُولى و إن كان تؤكد على نفس الآلة لا على اللعب بها، لكن الآية الثانية تركز على إعمالها حيث إنّ المراد من قوله: (فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ) هو شرب الخمر و استعمال الميسر بقرينة قوله: (وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ) و من المعلوم أنّ الصادّ عن ذكر اللّه هو الممارسة بهذه الآلات لا نفسها.

أضف إلى ذلك ما ورد من الروايات من عدّ اللعب بها من أقسام الباطل «2» و أنّ صاحب الآلات لا يغفر في شهر رمضان. 3 كلّ ذلك لا يدع شكاً في أنّه من المعاصي الكبيرة و بما ذكرناه، ظهر ضعف ما اختاره الشهيد الثاني في المسالك في

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12 و الباب 100، الحديث 15.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5 و 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 247

كونه من صغائر المعاصي: و ظاهر النهي أنّها من الصغائر

فلا يقدح في العدالة إلّا مع الإصرار عليها. «1»

إنّما الكلام في القسمين: الثاني و الثالث أي اللعب بها لغاية التنزه أو الحذق من دون رهان و لا قمار، فهل هناك إطلاق يعمّ تلك الصورتين أو لا؟ و لنذكر بعض كلمات الفقهاء:

1- قال الشيخ في الخلاف: و اللعب بالشطرنج حرام على أيّ وجه كان و يُفسّق فاعله به و لا تقبل شهادته، و قال مالك و أبو حنيفة مكروه، إلّا أنّ أبا حنيفة قال: هو يلحق بالحرام، و قالا جميعاً تردّ شهادته، و قال الشافعي: هو مكروه و ليس بمحظور. «2»

2- و قال في النهاية: و تردّ شهادة اللاعب بالنرد و الشطرنج و غيرهما من أنواع القمار و الأربعة عشر و الشاهَين. «3»

3- و قال في المبسوط: اللاعب بالشطرنج عندنا تقبل شهادته بحال و كذلك النرد و الأربعة عشر و غير ذلك من أنواع سواء كان على وجه المقامرة أو لم يكن. «4»

4- و قال ابن البراج: و لا يجوز شهادة الفسّاق و مرتكبي القبائح من شرب الخمر، و الزنا و اللواط و اللعب بالشطرنج أو النرد أو ما يجري مجرى ذلك من آلات القمار. «5»

______________________________

(1) زين الدين، المسالك: 2/ 449.

(2) الطوسي، الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 51.

(3) الطوسي، النهاية: 325.

(4) الطوسي، المبسوط: 8/ 221، و الظاهر سقوط حرف النفي عند الطبع من قوله: تقبل بقرينتين و ذلك: 1 قوله: «بحال» 2 التسوية في ذيل كلامه، فإنّ حرمة المقامرة لا شبهة فيها فكيف يقبل قول المقامر؟! اللّهمّ إلّا أن تكون من صغائر المعاصي كما عرفت عن المسالك و هو بعيد جدّاً.

(5) ابن البراج، المهذّب: 2/ 557.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 248

5 و قال ابن إدريس: و لا تقبل شهادة فحاش و تردّ شهادة اللاعب بالنرد و الشطرنج و غيرهما من أنواع القمار و الأربعة عشر و الشاهين بفتح الهاء لأنّ ذلك تثنية «شاه» لأنّه كذاب بقوله: شاهك مات، يعني به أحد أقطاع الشطرنج و لغته بالفارسية الملك. «1»

6- و قال المحقق: اللعب بآلات القمار كلّها حرام كالشطرنج و النرد و الأربعة عشر و غير ذلك سواء قصد الحذق أو اللهو، أو القمار.

إلى غير ذلك من الكلمات المتماثلة «2»، إذا علمت ذلك فاعلم أنّ اللعب بآلات القمار بلا رهان له صورتان:

الأُولى: إذا كان اللعب بلا رهان بالآلة المعدّة للمقامرة بين الناس على وجه يقامرون بها، فالحقّ حرمته و إن لم يكن هناك رهان لانصراف بعض الأسئلة إلى خصوص هذه الصورة مضافاً إلى الإطلاقات.

أمّا الأوّل كموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام انّه سئل عن الشطرنج، فقال: «دعوا المجوسية لأهلها لعنها اللّه». «3» إذ لا يحتمل أن يسأل مسعدة عن القمار بالشطرنج، بعد معلومية حكمه بين المسلمين، و إنّما يصحّ السؤال عن اللعب به لبعض الغايات.

و مثلها موثقة زرارة «4» عن أبي عبد اللّه انّه سئل عن الشطرنج، و عن لعبة شبيب التي يقال لها لعبة الأمير، و عن لعبة الثلث فقال: «أ رأيتك إذا ميّز اللّه الحقّ و الباطل، مع أيّهما تكون؟» قال: مع الباطل، قال: «فلا خير فيه». «5» و قوله: «لا خير فيه» و أنّه كان يشعر بالكراهة، لكن بما أنّه ليس بعد الحقّ إلّا الضلال كما

______________________________

(1) ابن إدريس، السرائر: 2/ 121.

(2) لاحظ مفتاح الكرامة: 4/ 56.

(3) الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب، الحديث 7.

(4) لوقوع ابن

فضال في سند الحديث.

(5) الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 249

في قوله سبحانه: (فَمٰا ذٰا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلٰالُ) (يونس/ 32)، يحمل على الحرمة. إذ من المحتمل قويّاً أنّ الباطل بمعنى الضلال، نعم الباطل بمعنى غير المفيد لا يلازم الحرمة كما هو الحال في اللغو فإنّه من أقسام الباطل و ليس بحرام.

روى أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سئل عن الشطرنج و النرد. فقال: «لا تقربوهما». «1»

إنّ إرجاع هذه الأسئلة، إلى السؤال عن القمار بالآلات، بعيد جدّاً، فإنّ معناها أنّ مسعدة و زرارة و غيرهما، صاروا يسألونهم عليهم السَّلام عن الأُمور الواضحة.

و أمّا الإطلاقات فحدّث عنها و لا حرج و يكفيك ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «نهى رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن اللعب بالشطرنج و النرد». «2» و ما رواه البزنطي في جامعه عن أبي بصير عن أبي عبدا للّه عليه السَّلام قال: «بيع الشطرنج حرام، و أكل ثمنه سحت، و اتخاذها كفر، و اللعب بها شرك، و السّلام على اللاهي بها معصية و كبيرة موبقة إلى أن قال: و الناظر إليها كالناظر في فرج أُمّه، و اللاهي بها، و الناظر إليها في حال ما يلهى بها، و السّلام على اللاهي بها في حالته تلك، في الإثم سواء». 3 و الموضوع في الحديثين هو اللعب و اللهو بالشطرنج و النرد، على وجه الإطلاق. سواء كان معه رهان أم لا و لاحظ سائر الروايات الواردة في البابين 4 من أبواب ما يكتسب به.

و يمكن الاستدلال أيضاً

على الحرمة برواية تحف العقول حيث قال: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها التي يجي ء منها الفساد محضاً نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهو به إلى أن قال: و ما يكون منه و فيه الفساد محضاً، و لا يكون منه و لا فيه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به، و أخذ الأُجرة عليه و جميع التقلّب فيه في جميع وجوه الحركات كلّها» 5 و من المعلوم أنّ

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

(2) 2- 5 الوسائل: الجزء 12، الباب 102، الحديث 9 و الباب 103، الحديث 4. و سائر الروايات.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 250

اللعب بها بلا رهان نوع تقلّب فيها.

و ما أفاده السيّد الخونساري من الإشكال في شمول الإطلاق لهذه الصورة من أنّ اللعب بلا رهان يعد لغواً «1» غير تام لأنّ المحرك إلى اللعب لا ينحصر في الرهان بل هنا غايات أُخر تبعث إليه، كإظهار التفوق، أو التهيؤ للمقامرة في المستقبل القريب، و لو كان لغواً لما شاع بين الناس، و هم عقلاء.

الثانية: اللعب بلا رهان بالآلة الخارجة عن كونها آلة المقامرة و أصبح آلة، يلعب بها لأحد الأمرين: التنزه أو الحذق فيكون أشبه، بانقلاب الخمر خلًا، فهل الإطلاقات منصرفة عن هذه الصورة أو هي قاصرة عن الشمول، و القصور بعيد، لما عرفت من أنّ الموضوع في لفيف من الروايات، هو اللعب و اللهو. فتعمّ هذه الصورة أيضاً و لو قلنا بصحّة الانصراف لكن إحراز الصغرى و كون الآلة خارجة بين العقلاء عن كونها آلة للقمار، مع كونها مخترعة لهذه

الغاية، أشكل من القول بالانصراف من غير فرق بين الشطرنج و غيره. و مع الشكّ في الصغرى و الكبرى فاستصحاب الحرمة محكّم كما لا يخفى.

المسألة الرابعة: في شهادة شارب الخمر

اتّفقت كلّمتهم على عدم قبول شهادة شارب الخمر، لكون شربه من المعاصي الكبيرة، و قد عدّه الإمام الرضا عليه السَّلام في رسالته إلى المأمون من المعاصي الكبيرة و قال: «و اجتناب الكبائر و هي قتل النفس الّتي حرّم اللّه تعالى، و الزنا، و السرقة و شرب الخمر» «2» مضافاً إلى ما ورد من أنّ شربه يخرج الإنسان عن الإيمان، و يفارقه روحُ الإيمان و قد قورن بالزنا في النهي عنه 3 ورود الحدّ فيه و في شرب كلّ

______________________________

(1) الخونساري، الجامع للمدارك: 3/ 27.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 11، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 33.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 251

مسكر. «1»

إنّ الكتاب و إن حرّم الخمر، و لكن رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حرّم كلّ مسكر. روى الكليني إنّ اللّه حرّم الخمر بعينها و حرّم رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كل مسكر من كلّ شراب. «2» روى علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه السَّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته، عاقبةَ الخمر، فهو خمر». «3» و في رواية أُخرى عنه عليه السَّلام: «فما فعل فعل الخمر»، فهو خمر. 4 و في رواية ثالثة: «حرّمها لفعلها و فسادها». 5

و من استعارة الخمر، لسائر المسكرات، و وجود الحدّ فيها كما مرّ يشرف الفقيه على كون الكلّ من المعاصي الكبيرة، من غير فرق

بين الفقاع و المتّخذ من الشعير و النبيذ المتخذ من التمر، فإنّ الجميع مسكر، غاية الأمر للإسكار درجات و مراتب حسب كثرة المادة الكحولية و قلّتها، فقد ذكر بعض الكيميائيين أنّ المادة الكحولية في الصناعي 55% و في غيره يتراوح بين 3% إلى نهاية درجتها 25%.

هذا كلّه حول الخمر و سائر المسكرات.

و أمّا العصير العنبي، سواء غلى بنفسه أو بالنار، فيحرم شربه ما لم يذهب ثلثاه إنّما الكلام في كونه من الكبائر و يمكن استظهاره مضافاً إلى ما قيل من أنّها الأصل في المحرّمات، ممّا ورد من أنّ الثلثين نصيب الشيطان. 6

نعم لا بأس باتّخاذ الخمر للتخليل. روى عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلًا؟ قال: «لا بأس». 7

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 7 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1 و 2.

(2) الكافي، باب التفويض إلى الرسول و الأئمّة: 1/ 209.

(3) 3- 5 الوسائل: الجزء 17، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 1، 2، 3.

(4) 6 الوسائل: الجزء 17، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4 و غيره.

(5) 7 الوسائل: الجزء 17، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 3 و غيره.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 252

المسألة الخامسة: الغناء من الكبائر فعلًا و سماعاً

لسنا في المقام بصدد تبيين مفهوم الغناء لغةً و سنّةً، بل بصدد بيان أنّه من الكبائر، سواء أ كان وصفاً لهيئة الكلام على ما يظهر من المحقّق حيث فسّره بالصوت المشتمل على الترجيع المطرب، أو كان وصفاً للمضمون و المعنى على وجه ضعيف. و أنّه هل يتحقق بنفس الصوت، فقط أو به و بالملاهي أيضاً؟

و يمكن الاستدلال على كونه من الكبائر

بالوجه التالي:

قد فسّر لهو الحديث الذي أوعد بالعذاب، بالغناء «1» قال سبحانه: (وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ). (لقمان/ 6) كما فسّر الزور في غير واحد من الروايات المقترن بالأوثان به أيضاً. «2» قال سبحانه: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج/ 30) مضافاً إلى تضافر النهي في الروايات.

و هل هو كذلك في السامع أيضاً، أو يختص بالفاعل، الظاهر هو الأوّل و يكفي فيه ما ورد من تفسير قوله سبحانه: (الَّذِينَ لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (الفرقان/ 72) بالغناء 3 و المراد من شهوده هو الحضور في مجلسه، مضافاً إلى ما ورد من أنّ الغناء مجلس لا ينظر اللّه إلى أهله 4 على أنّ تضافر النهي لغاية إبعاد الناس عن سماعه من غير فرق بين الفاعل و السامع و قد مرّ أنّه من علائم كون الفعل من الكبائر.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 99 من أبواب يكتسب به، الحديث 6، 7.

(2) 2- 4 المصدر نفسه، الحديث 2، 8، 16.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 253

المسألة السادسة: في استعمال الملاهي

إنّ استعمال الملاهي حرام و المقصود إثبات كونه من الكبائر و لنذكر كلمات الفقهاء:

1- قال الشيخ في الخلاف: الغناء حرام سواء كان صوتَ المغني أو بالقضيب أو بالأوتار مثل العيدان و الطنابير و النايات و المعازف و غير ذلك و أمّا الضرب بالدّف في الأعراس و الختان فإنّه مكروه و قال الشافعي: صوت المغنّي و القضيب مكروه و ليس بمحظور، و ضرب الأوتار محرّم، و ضرب الدف في الختان و الأعراس مباح. «1»

2- و قال في المبسوط: و جملته عندهم (العامة) أنّ

الأصوات على ثلاثة أضرب: مكروه و

محرم و مباح فالمكروه صوت المغني و القضيب معاً لأنّه و إن كان بآلة فهو تابع للصوت و الغناء فلهذا كان مكروهاً، و هو عندنا حرام من الفاعل و المستمع تردّ به شهادتهما.

و أمّا المحرّم و هو صوت الأوتار و النايات و المزامير كلّها، فالأوتار: العود و الطنابير و المعزفة، و الرباب و نحوها و النايات و المزامير معروفة و عندنا كذلك محرّم تردّ شهادة الفاعل و المستمع.

روي أنّ النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: إنّ اللّه حرّم على أُمّتي الخمر و الميسر و المرز و الكوبة و القنين، فالمرز شراب الذرة، و الكوبة الطبل، و القنين البربط، و التفسير في الخبر.

و روى محمّد بن علي المعروف بابن الحنفية عن علي عليه السَّلام، أنّ النبيّ عليه و آله السّلام قال: «إذا كان في أُمّتي خمسَ عشر خصلة حلّ بهم البلاء: إذا اتّخذوا

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 55.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 254

الغنيمة دولة، و الأمانة مغنماً، و الزكاة مغرماً، و أطاع الرجل زوجته، و جفا أباه، و عقّ أُمّه، و لبسوا الحرير، و شربوا الخمر، و اشتروا المغنيات و المعازف، و كان زعيم القوم أرذَلهم، و أُكْرِمَ الرجلُ السوء خوفاً منه، و ارتفعت الأصوات في المساجد، و سبّ آخر هذه الأُمّة أوّلها، و في بعضها و لعن آخرُ هذه الأُمّة أوّلها، فعند ذلك يرقبون ثلاثاً: ريحاً حمراء، و خسفاً و مسخاً».

فإذا ثبت أنّ استماعه محرّم إجماعاً فمن استمع إلى ذلك فقد ارتكب معصية مجمعاً على تحريمها، فمن فعل ذلك أو استمع إليه عمداً رُدّت شهادته.

و أمّا

المباح فالدف عند النكاح و الختان، لما روى ابن مسعود أنّ النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: اعلنوا النكاح، و اضربوا عليها بالغربال يعني الدفّ و روى أنّه عليه السَّلام قال: فصِّل ما بين الحلال و الحرام، بالضرب بالدف عند النكاح، و عندنا أنّ ذلك مكروه غير أنّه لا تردّ به شهادته فأمّا في غير الختان و العرس فمحرّم. «1»

3- قال ابن إدريس في عداد الكسب المحظور من السرائر: فهو كلّ محرّم إلى أن قال: و آلات جميع الملاهي على اختلاف ضروبها من الطبول و الدفوف، و الزمر، و ما يجري مجراه و القضيب، و السير، و الرقص و جميع ما يطرب به من الأصوات و الأغاني. «2»

4- قال المحقّق: الزمر و العود، و الصنج و غير ذلك من آلات اللهو حرام يفسق فاعله و مستمعه و يكره الدف في الإملاك و الختان خاصة. «3»

5- و قال في النافع: و العمل بآلات اللهو سماعها، و الدف إلّا في الإملاك و الختان. «4»

6- و قال العلّامة: و تردّ شهادة اللاعب بآلات القمار إلى أن قال: و

______________________________

(1) الطوسي، المبسوط: 8/ 224223.

(2) الحلي، السرائر: 2/ 215.

(3) المحقق، الشرائع: 4/ 128.

(4) ابن فهد الحلّي، المهذّب: 4، قسم المتن 55.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 255

مستمع الزمر و العود و الصنج و الدف إلّا في الإملاك و الختان خاصّة و جميع آلات اللهو. «1»

7- و قال في التذكرة: يحرم اتّخاذ الملاهي من الدفّ و شبهه و قد روى جواز ذلك في العرس و الغناء فيه و منع ابن إدريس و هو المعتمد لأنّ اللّه ذمّ اللهو و اللعب بما يقتضي تحريمهما.

«2»

8- و قال المحقّق الأردبيلي: و كذا تردّ شهادة فاعل الزمر بأنواعه، و مستمعه كذلك و كذا العود و هو نوع خاص من آلات اللهو معروف و كذا الصنج و كذا الدفّ الذي معه الجلاجل و أضاف لعلّ تحريم كلّ ذلك و غيره من جميع آلات اللهو مثل الطنبور و غيره بالإجماع عندنا و الأخبار من طرق العامة في الجملة و الخاصة إلّا الدفّ الخالي عن الجلاجل و الصنج في الإملاك بالكسر أي التزويج و في الختان للصبيان خاصّة. «3»

هذا بعض ما وقفنا عليه من كلمات علمائنا تتّفق على تحريم استعمال الملاهي، إنّما الكلام في كونه من المعاصي الكبيرة فالذي يمكن أن يكون سنداً لها، هو تضافر النهي عليه في غير واحد من الروايات التي ربّما تتجاوز الأربعين و قد جاء كثير منها في كتاب جامع الأحاديث «4» فإنّ العناية الهائلة في الروايات بالنهي عنه و بيان آثاره السيّئة دليل على كونها كبيرة.

و قد نقل قسماً منها الحرّ العاملي في الوسائل و الأكثر و إن كان غير نقية السند لكن بعضها يشدّ بعضاً، و يورث القطع بصدور بعضها و هو كاف في الحكم و إليك بعض الروايات المعتبرة:

______________________________

(1) العلّامة الحلّي، إرشاد الأذهان: 2/ 157.

(2) العلّامة الحلّي: التذكرة 2/ 582، كتاب النكاح في أحكام الوليمة.

(3) الأردبيلي، مجمع الفائدة: 12/ 340.

(4) جامع الأحاديث: 17، الباب 21 من أبواب ما يكتسب به.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 256

1- معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: أنهاكم عن الزفن، و المزمار، و الكوبات، و الكبرات». «1»

و الزفن هو الرقص، و المزمار قصبة

يزمر بها، يقال زمر الرجل، يزمر إذا ضرب المزمار، و الكوبات جمع الكوبة و هي الطبل، و الكبرات جمع الكبر على وزن الفرس، و فسّره في المنجد بالطبل أيضاً و قال: إنّه دخيل. هذا ما رواه الكليني، و نقله الحميري في الجعفريات، و صاحب الدعائم في دعائم الإسلام. «2»

2- معتبر إسحاق بن جرير و قال سمعت أبا عبد اللّه يقول: «إنّ شيطاناً يقال له: القفندر إذا ضرب في منزل الرجل أربعين صباحاً بالبربط و دخل الرجال وضع ذلك الشيطان كلّ عضو منه على مثله من صاحب البيت نفخَ فيه نفخة فلا يغار بعدها حتى تؤتى نساؤه فلا يغار». «3» و البربط هو العود و هو آلة من المعازف يضرب بها.

3- روى الصدوق بأسانيده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السَّلام في كتابه إلى المأمون بأنّ الإيمان هو أداء الأمانة و اجتناب الكبائر و عدّ منها الاشتغال بالملاهي و الإصرار على الذنوب. «4»

4- روى الصدوق باسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السَّلام في حديث شرائع الدين قال: و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه و قتل النفس إلى أن قال: و الملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّه عزّ و جلّ مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار و الإصرار على صغائر الذنوب. 5 و المراد من المكروه هو الحرام بقرينة عدّها من الكبائر و لعلّ اقحام كلمة «مكروه» في الأثناء للتقية و قد عرفت على فتوى العامة على الكراهة عن الخلاف.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 12، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) لاحظ جامع أحاديث الشيعة: الجزء 17، الباب 21 من أبواب ما يكتسب، الحديث 2 و 3.

(3) الوسائل: الجزء 12، الباب 100 من

أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 11، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 33 و 36.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 257

و موجز الكلام في استعمال الملاهي أنّه لا شكّ في حرمته و كونه من الكبائر و أنّ هنا عنوانين متغايرين محرّمين:

1- الغناء.

2- استعمال الملاهي.

و اجتماعهما في مورد كما في كلام الشيخ في الخلاف ليس دليلًا على وحدة الموضوع المحرّم و أمّا الموسيقي فليس موضوعاً للحكم في الأدلّة حتى نبحث عن مفهومه و الناظر في الروايات الواردة ترى أنّ النهي تارة تعلّق بأسماء الآلات، و أُخرى بعنوان الملاهي الذي هو جمع الملهاة، بمعنى آلة اللهو فلو كان الموضوع هو استعمال هذه الآلات بما هي هي فيحرم مطلقاً و إن ترتبت عليه فائدة عقلائية غير منهية عنها، كما في الحروب، و مواقع الإنذار، و أمّا لو قلنا إنّ الموضوع استعمالها بما هي ملهاة و أنّ العمل عمل لهوي، فيخرج الموارد التي تترتب عليها، منافع محلّلة جماعية و ما أقلّ تلك المنافع، و ما أكثر المنافع المحرّمة، فلاحظ.

ثمّ لو قلنا بأنّ الموضوع هو الانتفاع اللهوي، فالفرد المشكوك بين كونه لهوياً و غيره محكوم بالحلّية فعلًا و سماعاً. لكن بما أنّ هذه الآلات مصائد للشيطان، مثيرة للشهوات فاللازم هو الاجتناب إلّا في مورد نقطع بأنّه ليس الاستعمال بلهوي كالانتفاع بها في الحروب و التدريب.

هذا كلّه حكم المستعمل و أمّا حرمة الاستماع فتكفي فيها معتبرة مسعدة بن زياد، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السَّلام فقال له رجل: بأبي أنت و أُمّي أدخل كنيفاً ولي جيران و عندهم جوار يتغنين و يضربن بالعود فربّما أطلتُ الجلوس استماعاً

منّي لهنّ فقال عليه السَّلام: «لا تفعل» فقال الرجل: و اللّه ما أتيتهن، إنّما هو سماع أسمعه بأُذني، فقال عليه السَّلام: «باللّه أنت، أما سمعتَ اللّه يقول: (إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) «1»؟! «فقال: بلى! و اللّه كأنّي لم أسمع بهذه

______________________________

(1) الإسراء: 36.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 258

الآية من كتاب اللّه من عربيّ و لا عجميّ، لا جرم انّي لا أعود إن شاء اللّه، و إنّي أستغفر اللّه، فقال له: «قم فاغتسل و صلّ ما بدا لك، فإنّك كنت مقيماً على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك، احمِد اللّهَ و سله التوبةَ من كلّ ما يكره، فإنّه لا يكره إلّا كلّ قبيح، و القبيح دعه لأهله فانّ لكلّ أهلًا. «1»

نعم استثنى المحقّق صورتين و قال: يكره الدف في الإملاك و الختان، استناداً إلى ما رواه البيهقي. قال النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: اعلنوا النكاح و اضربوا عليه بالغربال يعني الدفّ، و روى أيضاً: فصل ما بين الحرام و الحلال، بالضرب بالدف في النكاح، و قد عرفت أنّ بعضهم قيد الدف بكونه خالياً عن الصنج، و عبّر عنه الأردبيلي، بالجلاجل. و الرواية مع أنّها خاصّة بالنكاح دون الختان، ضعيف و منع ابن إدريس و أخذ بعموم النهي. و لعلّ عمومات النهي عن استعمال الملاهي إذا عدّ العمل لهويّاً غير قابل للتخصيص كما هو واضح لمن لاحظها فاللازم عند التحليل وجود فائدة عقلائية فالتخصص بالرواية العامية غير تام.

المسألة السابعة: في الحسد

الحسد معصية كبيرة بلا إشكال، كيف لا و قد ورد في الصحيح أنّه يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

«2» و انّه آفة الدين 3 إلى غير ذلك من التعبيرات الدالّة على أنّه من عظائم المحرّمات، و لا ينفك عن البغضة التي هي أيضاً من إحدى المحرّمات الكبيرة و في صحيح مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قال رسول للّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في حديث: إلّا انّ التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشعر و لكن حالقة الدين. 4 و هل الحسد الكامن في النفس بنفسه معصية أو استعماله و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 2، الباب 18 من أبواب الأغسال المسنونة، الحديث 1 و رواه الصدوق و الشيخ. لاحظ جامع أحاديث الشيعة: ج 17، الباب 22 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 11، الباب 55 من أبواب جهاد النفس.

(3) 4 الوسائل: الجزء 8، الباب 136 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 259

إظهاره؟ الظاهر هو الثاني لما في خبر حمزة بن حمران عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه التفكر في الوسوسة في الخلق، و الطيرة، و الحسد، إلّا أنّ المؤمن لا يستعمل حسده». «1»

المسألة الثامنة: في لُبس الحرير

لبس الحرير للرجال في غير الحرب اختياراً محرّم كما بيّن في محلّه، و في النافع في باب ما يحرم به التكسّب: تزيين الرجل بما يحرم عليه، و الأوّل هو المتعيّن، لأنّ لبسه محرّم مطلقاً سواء كان للتزيين أم لا و مثله التختم بالذهب على النحو المذكور في كتاب الصلاة، باب لباس المصلّي.

المسألة التاسعة: في اتخاذ الحمام

اتّخاذ الحمام للانس و إنفاذ الكتب إلى غير ذلك من الدواعي المحلَّلة، جائز للأصل إنّما الكلام في اتّخاذها للّعب ففي خبر العلاء بن سيابة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن شهادة من يلعب بالحمام؟ فقال: «لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق. «2» إلّا إذا كان اللعب به منافياً للمروّة على القول باشتراط عدمه، أو موجباً لإيذاء الجيران إلى غير ذلك من اللوازم غير المحمودة التي يترتّب عليه أحياناً.

المسألة العاشرة: في شهادة أرباب الصنائع المكروهة

لا تردّ شهادة أحد من أرباب الصنائع المكروهة كالصياغة و بيع الأكفان و لا من أرباب الصنائع الدنية كالحجامة و الحياكة، بعد عدم كون عملهم محرّماً و كونها خلاف المروّة أوّل الكلام لأنّها تختلف حسب تشخّص الأفراد على أنّك عرفت أنّه لا دليل على اعتبار عدم ارتكاب خلافها بما هو هو إلّا إذا كان كاشفاً عن الخبل في العقل أو عدم الاستقامة في رعاية القوانين و السنن.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 11، الباب 55 من أبواب جهاد النفس، الحديث 8.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 54 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 260

الشرط السادس: ارتفاع التهمة
اشارة

تقدم أنّه يشترط في الشهود صفات سبع، و قد استوفينا الكلام في خمسة منها أي البلوغ و كمال العقل، و الإسلام و الإيمان، و العدالة فبقى اثنان منها و هما: 1 ارتفاع التهمة، 2 طهارة المولد. و إليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر.

أمّا الأوّل فقد اتّفق الأصحاب على شرطيته على وجه الإجمال و دلّت عليه الرّوايات، و لنذكر شيئاً من كلمات الفقهاء:

قال المفيد: «و لا تقبل شهادة الفاسق و لا ذي الضغن و الحسد، و العدوّ في الدّنيا و الخصم فيها و لا تُقْبَلُ شهادة المتهم و لا الظنين». «1»

و قال الشيخ في النهاية: «و لا يجوز قبول شهادة الظنين و المتهم و الخصم و الخائن و الأجير». «2»

و قال في الخلاف: «إذا كان بين رجلين عداوة ظاهرة مثل أن يقذف أحدهما صاحبَه أو قذف الرجلُ امرأته فانّه لا تُقبل شهادة أحدهما على الآخر، و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة: تُقبل و لا تأثير للعداوة في ردّ الشهادة بحال. دليلنا ما روى طلحة بن

عبيد اللّه قال: أمر رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم منادياً فنادى لا تُقْبل شهادة خصم و لا ظنين و العدوّ منهم. (و في بعض النسخ متهم) و قال: لا تقبل شهادة الخائن و الخائنة و لا الزاني و لا الزانية و لا ذي غمز على أخيه، و ذو الغمز من كان في قلبه حقد أو بغض». «3»

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 726.

(2) الطوسي: النهاية: 325.

(3) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 43.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 261

و قال ابن البرّاج: فالعدالة معتبرة في صحة الشهادة على المسلم و تثبت في الإنسان بشروط: و هي البلوغ، و كمال العقل، و الحصول على ظاهر الإيمان، و الستر و العفاف و اجتناب القبائح و نفي الظِّنَّة و الحسد، و التهمة و العداوة. «1»

و قال ابن سعيد: «و لا تقبل شهادة المتّهم على من يتّهم عليه». «2»

إلى غير ذلك من الكلمات و أمّا الرّوايات فقد عبّرت عن التهمة بالظنين و المتهم، فتارة جمعت بينهما «3» و أُخرى فرّقت بينهما فاستخدمت المتهم دون الظنين «4» و ثالثة عكست. «5»

قال الفيّومي: الظِّنَّة بالكسر التهمة، و هي اسم من ظننته إذا اتهمته فهو ظنين «فعيل» بمعنى مفعول و في السبعة (وَ مٰا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (التكوير/ 24): بمتهم، و أظننتُ به الناس: عرّضته للتهمة. «6»

أقول: إنّ في قوله سبحانه: (وَ مٰا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) قراءتين فمن قرأه بالظاء أُخت الطاء فقد فسره ب «متّهم». و هو يتعدى إلى مفعول واحد يقال ظننتُه: اتهمته أي ليس فيما يخبر عن اللّه بكاذب فإنّ أحواله ناطقة بالصدق و من قرأ بالضاد أُخت الصاد، فقد فُسِّر

ب «بخيل» أي ليس: ببخيل فيما يؤدِّي عن اللّه أن يعلِّمه كما علّمه اللّه. «7» و لعل قوله سبحانه (وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ) (التكوير/ 25) يؤيّد المعنى الأوّل و من ذلك يعلم صحّة ما عن الصحاح من أنّ المراد من الظنين: المتهم. و عندئذ يكون اللفظان مترادفين.

______________________________

(1) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 556.

(2) ابن سعيد الحلّي، الجامع للشرائع: 539.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 3،، 5، 6.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(6) القيومي: المصباح، مادة ظن.

(7) الطبرسي: مجمع البيان: 5/ 446، ط صيدا.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 262

إجابة عن سؤال

إذا كان اللفظان مترادفين فما وجه الجمع بينهما؟ و قد أجاب عنه صاحب الجواهر، بأنّ المراد من الظنين: هو المتهم في دينه بقرينة إدخال الخائن و الفاسق تحته في بعض الروايات «1» و عندئذ يكون المراد من المتهم هو المتهم في خصوص الواقعة «2» و على ضوء ما ذكره لا تقبل شهادة اثنين:

1- المتهم في دينه الذي ربّما لا يتورّعُ عن الكذب و الزور. 2 المتهم في خصوص الواقعة لعداوة دنيوية بين الشهود و المشهود عليه أو لكونه منتفعاً من الشهادة.

إجابة عن سؤال ثان

إذا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل و هو الفرق بين الظنين و المتهم، يتوجّه هنا سؤال ثان: و هو أنّه بعد اشتراط العدالة التي هي الشرط الخامس، فلا وجه لهذا الشرط السادس و ذلك لأنّه إذا أُريد من الظنين، هو الخائن و الفاسق، كما في بعض الروايات، فقد استغنينا عنه بالشرط الرابع أي كونه عادلًا فلا يجتمع العدل، مع الخيانة و الفسق.

و الجواب أنّ مراد الأصحاب من المتهم في المقام بعد اشتراط العدالة ليس المتهم في دينه بأن يكون إنساناً غير ملتزم بالأحكام الشرعيّة بل المراد، هو المتهم في نفس الواقعة اتهاماً، لا يناقض عدالته و هذا شرط تعبدي وراء العدالة، و الشارع الحكيم يريد أن يكون نظام القضاء في الإسلام، منزّهاً عن توهم أيّ انحياز في الشاهد و القاضي و عن أي وصمة ريب و شكّ و إيهام، فإذا كان الشاهد يجرّ

______________________________

(1) لاحظ الوسائل: الجزء 18، الحديث 1، 2، 3 من الباب 30 من أبواب الشهادات.

(2) النجفي: الجواهر: 41/ 61.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 263

بشهادته نفعاً و ربّما يكون صادقاً لا يقبل منه لكن لا لأجل

كونه مناقضاً للعدالة بل لأنّ الشارع أراد تنزيه نظام القضاء عن وصمة التحيّز حتى يطمئنّ المترافعان في مجلس القضاء.

و لكن لمّا كان مطلق الاتهام غير قادح في الشاهد لضرورة صحّة شهادة الزوج في حقّ الزوجة و بالعكس و الصديق في صديقه و الوالد في حقّ الولد، لم يُتخذ الاتهام ضابطة كلية للردّ بل اقتصروا بالموارد التي ورد فيها النصّ و إلّا فالشاهد المتهم داخل تحت حجيّة البيّنة العادلة.

يقول المحقّق الأردبيلي حول قول العلّامة: «السادس: ارتفاع التهمة و لها أسباب»: العدالة مانعة عن ردّ الشهادة و هي سبب لقبولها، و مجرّد التهمة و أيّة تهمة كانت ليست سبباً للرد فإنّ العدالة تمنع الخيانة و إن كان له فيها نفع. نعم التهمة في الجملة مانعة بالنص و الإجماع و ليس لها ضابطة و أشار إلى تحقيق ذلك بقوله: «و لها أسباب». «1»

و بالجملة لمّا كان مطلق التهمة غير قادح من جانب، و من جانب آخر، تضافرت النصوص و الإجماع على قادحيتها، حاول المحقّق و العلّامة و غيرهما إطراح كلّ مورد بخصوصه لعدم كون مطلق التهمة ضابطة كلية و ذلك في ضمن مسائل.

و إليك البحث في ضوء كلام المحقّق.
المسألة الأُولى: لا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً أو يستدفع ضرراً
اشارة

لا تقبل شهادة من يجرّ بها إلى نفسه نفعاً، أو يستدفع ضرراً و قد مثلوا لذلك بالأمثال التالية:

1- الشريك فيما هو شريك فيه.

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 383.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 264

2- صاحب الدين إذا شهد للمحجور عليه.

3- السيّد لعبده المأذون.

4- الوصي فيما هو وصيّ فيه.

و أضاف العلّامة مثالًا خامساً.

5- الوارث إذا شهد على جرح مورّثه قبل الاندمال.

6- العاقلة إذا جرح شهود جناية الصبيّ.

و لنأخذ بالبحث عنها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: منع شهادة الشريك في حقّ الشريك فيما هو شريك فيه

فقد استدلوا على عدم القبول بوجهين:

1- إنّ الشاهد عندئذ يكون مدّعياً، و لا يقبل قول المدّعي بلا بيّنة.

2- تضافر الروايات على عدم قبول شهادته و إليك ما ورد في المقام.

روى الصدوق بإسناده عن فضالة عن أبان بن عثمان قال: سُئل أبو عبد اللّه عليه السَّلام عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه قال: «تجوز شهادته إلّا في شي ء له فيه نصيب» و على هذا المتن فقد سمعه أبان عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام و إن كان السائل غيره لكن الظاهر من نقل الشيخ أنّه مرسل حيث روى عن أبان عمن أخبره عن أبي عبد اللّه مثله «1» و لا تعارض و لعلّ الصدوق ظفر بالسند و لم يعثر عليه الشيخ.

ثمّ إنّ الكليني روى عن أبان عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه (البصري) قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام، عن ثلاثة شركاء شهد اثنان عن واحد قال: «لا تجوز شهادتهما» 2 و ظاهر الحديث انّ واحداً من الشركاء ادّعى على شخص، و شهد

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 265

اثنان من الشركاء له، و الحديث ظاهر أو محمول على ما إذا كان مورد الادعاء و الشهادة، المالَ المشترك. و على ذلك فلا تعارض بينه و بين ما رواه الشيخ بنفس السند قال سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن ثلاثة شركاء ادّعى واحد و شهد اثنان، قال: «يجوز». «1» فإنّه محمول على ما إذا شهدا على شي ء ليس لهما فيه شركة، أو محمول على سقط لفظة «لا» من التهذيب و كم فيه من التصحيف.

و ربّما يستدل على عدم الجواز بخبر محمّد بن الصلت قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السَّلام عن رفقة كانوا في طريق فقطع عليهم الطريق و أخذوا اللصوص فشهد بعضهم لبعض، قال: «لا تقبل شهادتهم إلّا بإقرار اللصوص أو شهادة من غيرهم عليهم». 2

و الحديث غير قابل للاحتجاج من وجوه:

1- إنّ محمّد بن الصلت من أصحاب الصادق عليه السَّلام على ما في رجال الشيخ و كنيته: «أبو العديس» و هو مجهول أو مهمل في كتب الرجال. لم يوصف بشي ء من الوثاقة و الضعف فكيف يحتج به؟!

2- إنّه من المحتمل أن يكون متعلّق الشهادة كونهم قطاع الطريق حتى يجري عليهم حكم اللّه الوارد في قوله سبحانه: (إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) (المائدة/ 33).

3- إنّ الرواية على فرض الاحتجاج مطلقة، تدل على عدم حجّية شهادة بعض أهل القافلة لبعض، سواء كان المشهود به المال المشترك أو لا. و الالتزام بالإطلاق أمر مشكل، لعدم الموجب لمنع الشهادة في غير المشترك، كما

إذا شهد

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب الشهادات، الحديث 4، 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 266

أحد الغرماء، على عين أنّها لبعضهم، فإنّه عندئذ يكون بماله أولى من سائر الغرماء فلا يضربون معه فيها و المورد فيما إذا كان المشهود به غير مشترك، نظير هذا.

اللّهمّ إلّا أن يمنع الإطلاق، و تحمل الرواية على قافلة تجارية أغار عليها قطاع الطريق، و كان الرسم الدارج، مشاركة القافلة فيما يحملون من مال التجارة من نقطة كالحجاز إلى الشام أو بالعكس.

4- و يحتمل أن يكون المنع، لا لأجل الشركة بل لأجل العداوة، حيث إنّ قطاع أخافوهم و قطعوا الطريق عليهم، فأورث عملهم عداوةً عليهم في قلوب أهل القافلة فيخرج الحديث عن موضع البحث أي عدم قبول شهادة الشريك في حقّ الشريك الآخر.

ثمّ إنّ الأصحاب علّلوا عدم القبول في المقام بأنّ الشاهد لأجل جرّ النفع ينقلب مدّعياً مكان كونه شاهداً. و هو متين لكن ينبغي بيان أحكام صور:

أ: لو شهد بأنّ له نصفه، و بما أنّه شهد على سهم الشريك دون سهمه قال في الجواهر: «قُبل»، و لكن لو علم القاضي بأنّ المشهود به، مشاع بين الشاهد و المشهود له، لزمه الردّ، لأنّه يجرّ بها النفع لنفسه لأنّ النصف الثابت بالشهادة لأحد الشريكين، لا يختصّ به بل يبقى على مشاعه، كما ذكرناه في كتاب القضاء.

ب: و لو شهد أحد الشريكين للآخر، ليس له فيه نصيب بالفعل و لكنّه يرث المشهود له، إذا مات، كالولد للوالد، فظاهر مسند أو مرسل أبان هو الجواز لتخصيصه المنع «بماله فيه نصيب». «1»

ج: لو قال أنّ زيداً أتلف من عمرو أو استقرض منه أو

غصب منه كذا و كان المال مشتركاً بين الشاهد و المشهود له فلا يقبل في حصّته، و أمّا في حصة الشريك فظاهر الجواهر عدم القبول و لكن الظاهر القبول، للفرق بين العين و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 267

الدين فإنّ الشهادة على الأولى، في حصّة الشريك تجرّ النفع إلى الشاهد لأنّ النصف الثابت باسم سهم الشريك يكون مشاعاً أيضاً بخلاف الدين، فإذا تملّكه المشهود له، بفضل شهادة الشريك يختصّ له إذا دفعه المشهود عليه، بنيّة أنّه سهم المشهود له لما مرّ من سهم كلّ من الدُّيّان، يتعيّن بنيّة الدائن، نعم لو دفعه بما أنّه مال للشركة لكان لما ذكره وجه.

الثاني: صاحب الدين إذا شهد للمحجور عليه

إذا شهد صاحب الدين للمعسر المحجور عليه لفلس بعد الحجر له بأنّ له على زيد كذا و أنّ المال الفلاني له بحيث لو ثبت أنّه له يأخذ عوض دينه منه، إمّا الكلّ إن لم يكن له شريك و إلّا فبعضه من غير فرق بين كون المشهود به ديناً أو عيناً و ذلك لأنّ حجر الحاكم على المفلس يُسقط ذمّته عن الاعتبار و يكون متعلّق الديون، هو ما بقي من ماله بعد إخراج المستثنيات من الديون فلو ثبت بشهادته، أنّ تلك العين ماله أو أنّ له ديناً على ذمّة شخص، يتعلّق طلب الغرماء بالعين و الدين بالمباشرة لخروج ذمّته عن الاعتبار لدى العقلاء فلو قلنا بالثبوت يلزم انقلاب الشاهد مدّعياً.

و من هنا تبيّن الفرق بين المحجور عليه، و المديون المُعْسِر الذي لم يحكم عليه بالحجر، فبما أنّ لذمّة المعسر اعتباراً يتعلّق طلب الغرماء بذمّته غير أنّه ينظر إلى ميسرة، فإذا

شهد أحد الغرماء بأنّ له تلك العين أو أنّ له ديناً على آخر، لا يتعلّق بالمشهود به دين الغرماء فإنّ المسئول أمامهم، ذمّته، لا العين الخارجية و لا الدين الذي له على ذمّة آخر.

الثالث: السيّد لعبده المأذون

وجهه أنّ ما في يده لمولاه فينقلب الشاهد مدّعياً، و ينطبق عليه قوله: «في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 268

شي ء له فيه نصيب». «1» بخلاف العكس، فيجوز شهادة العبد لمولاه قال المفيد: «و تقبل شهادة العبيد لسادتهم إذا كانوا عدولًا». «2» و ليس مطلق التهمة مانعاً إلّا أن ينطبق عليه عنوان وحدة المدّعي و الشاهد، أو يرد فيه نصّ.

الرابع: الوصي في ما هو وصيّ فيه

إذا شهد الوصي بشي ء للميت، يدخل المشهود به تحت ولايته و إن لم يدخل تحت ملكه و قد اختلفت في المقام كلمة الأصحاب قال الشيخ: «و لا بأس بشهادة الوصي على من هو وصي له، و له، غير أنّ ما يشهد به عليه، يحتاج أن يكون معه غيره من أهل العدالة». «3»

و قال ابن البرّاج: «و شهادة الوصي لمن هو وصى له، و شهادته عليه إذا كان معه غيره من أهل العدالة» «4» و مع ذلك نرى أنّ المحقق منع جواز شهادته، مخصِّصاً المنع «فيما هو وصي فيه» «5» ليدخل في ولايته، و من الممكن حمل كلامهما على ما إذا كان المشهود به خارجاً عن ولايته، كما إذا عيّن للصرف في الوصايا عيناً أو نقداً و لم يكن المشهود به منهما فيرتفع الخلاف بين الكلمات. و تبعه الشهيد في الدروس فقال: «و الوصي في متعلّق وصيته، و غرماء المفلس و الميت و السيّد لعبده». «6»

أقول: وجه المنع فيما إذا كان للوصيّ الأُجرة على التصرف في المشهود به واضح، إنّما الكلام فيما إذا يشهد من دون أن يكون له فيه ولاية التصرف، أو معها و لكن بدون الأُجرة، ففيه التفصيل، فلو كان مدّعياً، فلا يكون شاهداً لبطلان وحدة المدّعي و الشاهد

و أمّا لو كان المدّعي غيره من سائر الورثة فالمنع عن نفوذ

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 27 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(2) المفيد: المقنعة: 726، أي يشهد على ضرره و صالحه.

(3) الطوسي: النهاية: 326.

(4) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 556.

(5) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 129.

(6) محمّد المكي: الدروس: 2/ 128، الدرس 146.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 269

شهادته غير ظاهر مضافاً إلى مكاتبة الصفار إلى أبي محمّد عليه السَّلام: هل تقبل شهادة الوصي للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقع: «إذا شهد معه آخر عدل، فعلى المدّعي يمين» «1» فإنّ المراد من الميت هو الموصي، و قوله: «فعلى المدّعي اليمين» دليل على أنّ المدّعي غير الوصي فينتج المنع إذا صار الوصي مدّعياً و شاهداً، و الجواز في غيره. و مثلها المكاتبة الثانية 2 حيث تشهد فيها «لوارث الميت»، فلا وجه لعدم القبول و إنّما أوجب اليمين على المدّعي، مع أنّ عليه البيّنة، ففيه وجوه محتملة:

1- إنّها للاستظهار لوجود التهمة، كما ورد في وصايا الإمام لشريح. 3

2- احتمال أن يكون المدّعى عليه أيضاً ميتاً، فيكون أيضاً للاستظهار لاحتمال أدائه الدين و تؤيده المكاتبة الثالثة: «أو تقبل شهادة الوصي على الميت مع شاهد آخر عدل فوقع: نعم من بعد يمين» فإنّ المراد من الميت المشهود عليه. 4

3- احتمال سقوط «و إلّا» بين قوله: «معه آخر عدل» و قوله: «فعلى المدّعي اليمين».

و الحاصل أنّ الأصل في البيّنة العادلة هو نفوذ شهادتها و منها الوصي، و لا يترك الأصل إلّا إذا انطبق عليه قوله: «إلّا في شي ء له فيه نصيب» أو عنوان المدّعي و في غير هذين الموردين تقبل و

منه تظهر حال الوكيل.

الخامس: إذا شهد الوارث بجرح مورّثه

إذا شهد أنّ زيداً جرح من يرثه، فلا يخلو إمّا أن يموت بهذا الجرح أو لا، فعلى الأوّل لا تقبل الشهادة لأنّه بمنزلة شهادة وارث الدم على القتل فإنّها شهادة

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 28 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 28 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 28 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 270

لنفسه.

نعم يمكن القبول في صورة خاصة و هو لو كان الميت، المجروح مديوناً يصرف دينه في دينه، فإنّ النفع يرجع إلى الديّان لا إلى الوارث.

و أمّا إذا لم يمت فلا وجه لعدم القبول لأنّ شهادته للمورِّث المجروح لا لنفسه.

السادس: العاقلة تجرح شهود جناية الصبي

من أسباب التهمة من ترد بشهادته ضرراً على نفسه و من هذا القبيل:

ما إذا اتُهِمَ الصبي بالجناية على رجل و شهدا اثنان على جنايته فالدية تتوجّه على العاقلة، فلو جرح شهود الجناية، لا يقبل منه لأنّه يستدفع بشهادته الضرر (الدية) عن نفسه.

إلى هنا تمّت الفروع الواردة في المسألة الأُولى لبيان موارد التهمة، و إليك الكلام في المسألة الثانية في هذا الصدد أيضاً.

المسألة الثانية: في العداوة المانعة عن قبول الشهادة

العداوة الدينيّة لا تمنع القبول، و إلّا يلزم منع شهادةِ المسلم على الكافر، و المؤمن على المخالف، لأنّ هذه العداوة لو لم تؤكد العدالة لا تخالفها إنّما الكلام في العداوة الدنيوية فقالَ المحقّق: إنّها تمنع سواء تضمّنت فسقاً أو لم تتضمن. فيقع الكلام في الموارد التالية:

1- إذا تضمّنت العداوة الفسق كما إذا قذف المشهودَ عليه أو ضربه أو اغتابه بلا سبب مبيح، فلا إشكال في المنع، لكنّه يرجع إلى فقدان الشرط الرابع أعني العدالة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 271

2 إذا لم تتضمّن الفسق، مثل ما إذا كانت العداوة بعد حصول ضرر أو أذى منه له، كما إذا ضربه أو شتمه، أو قتل من أرحامه، فإنّ القول بالمنع مع كونها نابعة عن سبب صالح، يحتاج إلى الدليل.

و قد استدل للمنع بما يلي:

أ: روى الصدوق عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السَّلام قال: «لا تقبل شهادة ذي شحناء أو ذي مخزية في الدين» «1»، و إسماعيل بن مسلم هو السكوني الذي كنيته «أبو زياد»، نعم روى الكليني بسنده عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السَّلام كان لا يقبل شهادة فحّاش و لا ذي مخزية في الدين. 2

و لو

قلنا بوحدة الروايتين، لأشكل الاستدلالُ به لتردّد الصادر بين قوله: «شهادة ذي شحناء» أو «فحّاش» و الاستدلال يتمُّ على الأوّل دون الثاني و يمكن القول بتعددها لأنّ الأُولى تروي قول الإمام عليه السَّلام و الثانية تروى فعله، و يمكن أن يكون محل الابتلاء هو الفحّاش دون ذي شحناء و على فرض صحة الاستدلال فهي منصرفة إلى القسم الأوّل الموجب للفسق لا ما إذا كان لها وجه صالح.

ب: روى الصدوق مرسلًا في معانيه: «و لا ذي غمز على أخيه» و قد فسره الصدوق بالشحناء و العداوة. 3

ج: و روى في حديث آخر، قال: لا تجوز شهادة المريب و الخصم. 4 و يحتمل أن يراد به العدو، كما يحتمل ضعيفاً أن يراد أحد المتخاصمين في المرافعة.

و على كلّ تقدير فبما أنّ حجّية البيّنة، لا تخصّص إلّا بالحجّة فالقدر المتيقن هو العداوة المورثة للفسق، لا ما إذا كانت نابعة عن أصل صالح طبيعي، على نحو

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 32، من أبواب الشهادات، الحديث 5، 1.

(2) 3 و 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 32، من أبواب الشهادات، الحديث 8، 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 272

لا يختصّ بفرد دون فرد.

3- ثمّ إنّ المحقّق فسّر العداوة بأن يعلم من حال أحدهما السرور بمساءة الآخر و المساءة بسروره، لكنّه لو كان للتمني مبدأ صالح فطريّ كظلمه و شتمه، و ضربه، فلا وجه للمنع. نعم لو لم يكن له مبدأ صالح و إنّما كان نابعاً عن الحسد و نظيره، فهو داخل في المنع.

4- إذا كانت العداوة من جانب المشهود عليه، لا الشاهد، فلا وجه للمنع و القدر المتيقن، هو عداوة الشاهد، و

إلّا ليقع ذريعة لرد الشهادة الحقّة حيث تظهر العداوةَ لإسقاط نفوذ شهادة الآخر.

5- إذا شهد العدوّ، لعدوه قبلت أخذاً بإطلاق حجّية البيّنة و لأنّها في هذا المورد تؤكد صدقها.

6- لو شهد بعض الرفقاء لبعض، على القاطع عليهم الطريق قال المحقّق: تمنع لتحقّق التهمة. و الأصل في ذلك رواية محمّد بن الصلت: سألت أبا لحسن الرضا عليه السَّلام عن رفقة كانوا في طريق فقطع عليهم الطريق و أخذوا اللصوص فشهد بعضهم لبعض، قال: «لا تقبل شهادتهم إلّا بإقرار من اللصوص أو شهادة من غيرهم عليهم». «1»

و قد مضى تحقيق الكلام في الحديث عند البحث عن شهادة الشريك و قلنا إنّ إطلاق حجّية البيّنة محكَّمة ما لم يدلّ دليل على خلافه، فلو قلنا بأنّ الحديث راجع إلى الشهادة بكونهم قطاع الطريق لأجل اجراء الحدّ،، فلا يصلح للاستدلال بها للمنع في باب الأموال و الحقوق، و إن قلنا برجوعه إليهما. فلو قلنا بأنّ سبب المنع هو الشركة فالقدر المتيقن ما إذا جرّ نفعاً، و إن قلنا بأنّ المانع هو العداوة، فالقدر المتيقن ما إذا أوجب فسقاً لا ما إذا كان له مبدأ صالح

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 27، من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 273

عقلائي. و بذلك يعلم أنّ رمي صاحب الجواهر بعض هذه الاحتمالات بانّها اجتهاد في مقابلة النص غير ظاهر.

المسألة الثالثة: في أنّ النسب غير مانع عن قبول الشهادة
اشارة

قال المحقّق: «النسب و إن قرب لا يمنع قبول الشهادة، كالأب لولده و عليه، و الولد لوالده، و الأخ لأخيه و عليه، و في قبول شهادة الولد على والده خلاف و المنع أظهر. سواء شهد بمال، أو بحقّ متعلّق ببدنه كالقصاص، و الحدّ» كما لو شهد

الولد على سرقة الوالد أو قتله نفساً.

أقول: تضافرت الروايات و النصوص على عدم مانعية الرابطة النسبية عن نفوذ الشهادة كما تضافرت الفتاوى عليه، و لأجل عدم خلاف بين الأصحاب نقتصر بذكر الكلمات عن نقل الروايات التي نقلها الحرّ العاملي في وسائله.

اتّفق «1» الأصحاب على عدم كون النسب مانعاً إلّا أنّهم اختلفوا في مقامين:

المقام الأوّل: في جواز شهادة الولد على والده

1- قال المفيد: «تُقبل شهادة الوالد لولده و عليه، و تقبل شهادة الولد لوالده و لا تقبل شهادته عليه». «2»

2- و قال السيّد المرتضى: «و ممّا انفردت به الإمامية في هذه الأعصار و إن روى لهما وفاق قديم، القول: بجواز شهادات ذوي الأرحام و القرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولًا من غير استثناء لأحد إلّا ما يذهب إليه بعض أصحابنا معتمداً على خبر يرويه من أنّه لا يجوز شهادة الولد على الوالد و إن جازت شهادته له و يجوز شهادة الوالد لولده و عليه». «3»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 26 من أبواب الشهادات.

(2) المفيد: المقنعة: 726.

(3) السيّد المرتضى: الانتصار: 244.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 274

و يظهر ممّا ذكره الشيخ و الشريف المرتضى أنّ الرأي السائد لأهل السنّة، هو مانعية النسب على وجه الإطلاق إلّا لفيف منهم قال بالجواز.

3- قال الشيخ: تُقبل شهادة الوالد لولده و الولد لوالده، و تقبل شهادة الوالد على ولده، و لا تقبل شهادة الولد على والده، و به «1» قال عمر، و عمر بن عبد العزيز و المزني، و أبو ثور و إحدى الروايتين عن شريح و اختاره المُزني، و قال باقي الفقهاء أنّها لا تقبل ثمّ استدل على الجواز بعموم الآية (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) «2» و (أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ

مِنْكُمْ) «3».

ثمّ قال شهادة الولد على والده لا تقبل بحال. و قال الشافعي: إن تعلّق بالمال أو بما يجري مجرى المال كالدين و النكاح و الطلاق قبلتْ، و إن شهد عليه بما يتعلّق بالبدن كالقصاص و حدّ الفرية، فيه وجهان: أحدهما «تُقْبل» و الثاني و هو الأصحّ أنّها لا تقبل. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم فإنّهم لا يختلفون فيه. «4»

4- و قال الشيخ في النهاية: لا بأس بشهادة الوالدة لولده و عليه مع غيره من أهل الشهادة و لا بأس بشهادة الولد لوالده و لا يجوز شهادته عليه. و لا بأس بشهادة الأخ لأخيه و عليه. «5»

5- و قال الحلبي: و لا تقبل شهادة العبد على سيّده و لا الولد على والده بما ينكرانه و تقبل شهادتهما عليهما بعد الوفاة. «6»

6- و قال سلّار: و إن شهد والد لولده، و عليه قبل، و الولد تقبل شهادته لوالده و لا تقبل عليه. «7»

______________________________

(1) مرجع الضمير، قبول الشهادة في غير الأخير و أمّا الأخير أي شهادة الولد على الوالد فقد تعرض بها في المسألة الثانية.

(2) البقرة: 282.

(3) الطلاق: 2.

(4) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادة، المسألة: 4544.

(5) الطوسي: النهاية: 330.

(6) الحلبي: الكافي: 435.

(7) المراسم العلوية: 233.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 275

7- قال ابن البرّاج: و لا شهادة الولد على الوالد و لا العبد على سيّد. «1»

8- و قال ابن حمزة: الولد تقبل شهادته لأبيه و لا تقبل عليه. «2»

9- و قال ابن إدريس: لا بأس بشهادة الوالد لولده و عليه، مع غيره من أهل الشهادة و لا بأس بشهادة الولد لوالده و لا يجوز شهادته عليه و قال السيّد المرتضى: تجوز أيضاً

شهادته عليه و الأوّل هو المذهب و عليه العمل و الإجماع منعقد و لا اعتبار بخلاف من يعرف باسمه و نسبه. «3»

10 و قال العلّامة في الإرشاد: و كذا تقبل شهادة النسيب على نسيبة إلّا الولد على والده خاصة. «4»

1- 1 و قال ابن سعيد: «و تقبل شهادة ذوي النسب بعضهم لبعض، و عليهم إلّا شهادة الولد على والده فإنّها لا تقبل حيّاً و تقبل شهادته عليه بعد موته. «5»

2- 1 و ذكر العلّامة في مختلف الشيعة أنّه مختار ابني بابويه.

أقول: لا شكّ في أصل الحكم و عدم مانعية الرابطة النسبية إنّما الكلام في صحّة الاستثناء و هي تعتمد على الأُمور التالية:

أ: الشهرة الفتوائية تكشف عن وجود النصّ و إن لم يصل إلينا بعينه، و قد أشار الصدوق إلى ذلك النصّ بقوله: «و في خبر آخر أنّه لا تقبل شهادة الولد على والده». «6»

ب: قوله سبحانه: (وَ صٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً) (لقمان/ 15) بدعوى أنّ ردّ قول الوالد و تكذيبه يضادّ المصاحبة بالمعروف.

______________________________

(1) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 558.

(2) ابن حمزة: الوسيلة: 231.

(3) ابن إدريس: السرائر: 1/ 134.

(4) مجمع الفائدة، قسم المتن: 12/ 404.

(5) ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 539.

(6) الوسائل: الجزء 18، الباب 26، الحديث 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 276

ج: هو نوع عقوق يمنع عن قبول الشهادة.

أقول: إنّ الشهرة الفتوائية لا تقبل الإنكار و لم يعلم الخلاف من السيّد، على نحو القطع و الجزم، لأنّه بصدد بيان أصل الحكم أي أنّ النسب لا يمنع عن جواز الشهادة إجمالًا و عند ذلك نسب الاستثناء إلى بعض علمائنا من دون تبيين لرأيه فيه. نعم فهم ابن إدريس كما مرّ من

كلامه، خلاف ما استظهرناه و أنّ شهادة الولد على الوالد نافذة عنده. و يظهر من العلّامة في الإرشاد، التردّد، و نقل التردد عن تحريره أيضاً، لكنّه في المختلف أفتى بمذهب المشهور «1» لكن الّذي يصدّنا عن الاعتماد على مثل تلك الشهرة أنّها مستندة إلى ما فهموه من ظاهر الكتاب و أنّ نفوذها على خلاف المصاحبة بالمعروف أو أنّه عقوق و من المعلوم عدم دلالته على ما راموه، فإنّ الآية بصدد بيان حكم المعاشرة بما هي هي، مع قطع النظر عن سائر الطوارئ كما إذا كانت في السكوت، إماتة للحقّ، و إحياء للباطل فهي غير ناظرة إلى هذه الصور.

و منه يظهر حال العقوق، فإنّ حرمتها سواء أ فسرت بالعصيان و ترك الشفقة و الإحسان و الاستخفاف أم بغيرها ناظر إلى الحياة العاديّة و لا حكومة لها على سائر الواجبات و المحرّمات، فلو كانت إطاعته سبحانه موجبة للعقوق، فلا عبرة بمثل ذلك العقوق قال سبحانه: (وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلٰا تُطِعْهُمٰا) (لقمان/ 15).

و إن شئت قلت: إنّ ما دلّ على لزوم المصاحبة بالمعروف أو الاجتناب عن العقوق كدليل النذر و اليمين ناظر إلى ما هو مباح و حلال بالذات و أمّا المحرّم و الواجب، فلا يقلّبهما عما هو عليه، فلا يكون الحرام جائزاً إذا كان تركه على خلاف المصاحبة بالمعروف أو موجباً للعقوق كما لا يكون حلالًا بالنذر و اليمين، و مثل الحرام، الواجب فلا ينقلب عمّا هو عليه بهذه الطوارئ و العوارض.

______________________________

(1) العلّامة الحلّي: مختلف الشيعة، الفصل السابع في الشهادات: 168.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 277

هذا و أنّ دليل القول بجواز الشهادة

قويّ جدّاً، فانّه يعتمد:

على قوله سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ) (النساء/ 135). فإنّه صريح في جواز الشهادة على الوالدين و التحريض على الشهادة دليل على قبولها و إلّا يكون لغواً.

و قد اتّفقت كلمة الأصحاب على قبول شهادة الولد على الوالدة و إنّما الخلاف في شهادته على الوالد.

و تؤيّد الجواز رواية علي بن سويد السائيّ عن أبي الحسن عليه السَّلام في حديث قال: كتب في رسالته إليّ: «سألتَ عن الشهادات لهم فأقم الشهادة للّه و لو على نفسك أو الوالدين و الأقربين فيما بينك و بينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً فلا» «1»، و الضيم هو الظلم.

المقام الثاني: في شهادة الزوج و الزوجة
اشارة

هذا هو المقام الثاني الذي أشرنا إليه فيما سبق، و قد تبيّن أنّ العلقة النسبيّة غير مانعة عن قبول الشّهادة إلّا في مورد واحد على رأي بعض الأصحاب و أمّا الرابطة السببية، فغير مانعة بالاتّفاق منّا و أمّا أهل السنّة فهم على طوائف ثلاثة بين قائلة بالجواز مطلقاً كالشافعي أو نافية مطلقاً، كأهل العراق، و مفصّلة بين شهادة الزوج لزوجته فتُقبل دون العكس. «2» إنّما الكلام بين أصحابنا في لزوم ضمّ عدل آخر، بحيث لولاه لما ترتّب الأثر على الشهادة مطلقاً و إن ضمّ إليها يمين، و عدم لزومه.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب الشهادات، الحديث 1 و رواه في الباب 19 عن داود بن الحصين برقم 3.

(2) ستوافيك نصوصهم عن كتاب الخلاف للشيخ الطوسي.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 278

توضيحه: انّه قد تبيّن فيما سبق و ستوافيك، حجّيةُ شهادة العدل الواحد مع اليمين، في مورد المال و الحق.

كما أنّ من المحقّق في محلّه حجّية شهادة المرأة الواحدة في رُبع ميراث المُستهل، و في ربع الوصية. فعندئذ، لو قلنا بعدم لزوم ضمّ العدل الآخر في كلا المقامين، تكون شهادة الزوج و الزوجة كشهادة غيرهما، فيجري فيهما ما يجري في غيرهما فتكفي مع شهادة الزوج يمين المرأة، لكفاية العدل الواحد مع يمين المدّعي في غير مورد الزوجيّة أيضاً أو تكفي شهادة الزوجة وحدها لإثبات ربع الوصية لزوجها و لا عبرة بيمين الرجل المدّعي إذا كان الشاهد امرأة. و أمّا لو قلنا بلزوم الانضمام، تخرج شهادة الزوج و الزوجة عن الضابطين فلا تكفي في مورد شهادة الزوج، يمين زوجته، و لا تكفي شهادة الزوجة لإثبات رُبْع الوصيّة، لزوجها.

و أمّا كلمات الأصحاب فهي على ثلاثة أوجه:

أ: فمنهم من لم يشترط الانضمام و جعل شهادة أحد الزوجين كشهادة غيرهما من باب واحد، كالمفيد في المقنعة و الشيخ في الخلاف، و ابن إدريس في السرائر، و ابن سعيد في الجامع و هم بين من لم يذكر من الضميمة شيئاً كالشيخ في الخلاف، أو ذكره و لكن صرّح بكفاية يمين الزوجة كالمفيد في المقنعة و ابن إدريس في السرائر.

قال المفيد: تقبل شهادة الرجل لامرأته إذا كان عدلًا أو شهد معه آخر من العدول أو حلفت المرأة مع الشهادة لها في الديون و الأموال. «1»

و قال الشيخ في الخلاف: تُقبل شهادة أحد الزوجين للآخر، و به قال الشافعي، و قال أهل العراق: لا تقبل، و قال النخعي و ابن أبي ليلى: تقبل شهادة الزوج لزوجته، و لا تقبل شهادة الزوجة لزوجها. «2»

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 726.

(2) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 49.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2،

ص: 279

3 و قال ابن إدريس بعد التصريح بجواز شهادة كلّ للآخر مع عدل آخر: و قولنا في جميع ذلك إذا كان معه غيره من أهل العدالة على ما أورده بعض أصحابنا و إلّا إذا لم يكن معه غيره تجوز أيضاً شهادته له، مع يمين المدّعي فيما يجوز قبول شهادة الشاهد الواحد مع اليمين. «1»

4- و قال ابن سعيد: و تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر و عليه. «2»

فترى أنّ الشيخ في الخلاف و ابن سعيد في الجامع لم يحدِّثا عن ضمّ العدل بشي ء، و لكن الشيخ المفيد و ابن إدريس و إن ذكرا ضمّ عدل آخر و لكن استدركوا بأنّه لا لخصوصية له، و إنّما هو لأجل إكمال البيّنة و إلّا فحيث تكفي شهادة الزوج وحدها يثبت المدّعى بيمين المدّعي (الزوجة).

ب: منهم من يشترط وجود عدل آخر في كلا الطرفين، في نفوذ الشهادة لا لإكمال البيّنة.

5- قال الشيخ في النهاية: و لا بأس بشهادة الرجل لامرأته و عليها إذا كان معه غيره من أهل العدالة، و لا بأس بشهادتها له، و عليه فيما يجوز قبول شهادة النساء إذا كان معها غيرها من أهل الشهادة. «3»

6- و قال ابن البرّاج: شهادة الزوج لزوجته و عليها، مع غيره من أهل العدالة. «4»

ترى أنّ العلمين يذكران العدل الآخر بعنوان القيدية لا لأجل إكمال البيّنة نعم اقتصر ابن البرّاج بذكر شهادة الزوج و لم يذكر الزوجة، و يعلم حكمها من اشتراط العدل في شهادة الزوج، بوجه أولى لأنّه إذا لم تكن شهادة الزوج نافذة

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 134 و حاصله أنّه إذا لم يكن معهما عدل آخر تقبل شهادة الزوج مع يمين المدّعي، دون الزوجة.

(2) ابن

سعيد: الجامع للشرائع: 539.

(3) الطوسي: النهاية: 330.

(4) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 557.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 280

وحدها بل مشروطة بضمّ العدل، فشهادة الزوجة له تكون مشروطة بطريق أولى

ج: و منهم من فصَّل بين شهادة الزوج فلم يعتبر و شهادة الزوجة فاعتبره.

7- قال المحقّق: «و كذا تقبل شهادة الزوج لزوجته، و الزوجة لزوجها، مع غيرها من أهل العدالة» «1».

ثمّ إنّ المحقّق علّل وجه التفصيل بقوله: «و لعلّ الفرق إنّما هو لاختصاص الزوج بمزيد القوة في المزاج من أن تجذبه دواعي الرغبة». قال: و تظهر الفائدة في الزوجة لو شهدت لزوجها في الوصية.

هذه كلمات الأصحاب و إليك النصوص:

1- صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قال: «تجوز شهادة الرجل لامرأته. و المرأة لزوجها إذا كان معها غيرها». «2»

و في السند علي بن الحكم و أبو المعزاء و الأوّل مشترك بين الثقة و غيرها و تُميّز الثقة، برواية أحمد بن محمّد بن عيسى عنه كما في المقام. و الثاني هو حميد ابن المثنى الصيرفي الذي قال النجاشي في حقّه: «ثقة ثقة».

و أمّا الدلالة، فلو قلنا بأنّ الضمير في «معها» يرجع إلى الزوجة، يكون دليلًا على قول المحقّق المفصِّل بين الزوج و الزوجة، و لو قلنا برجوعه إلى الشهادة، المعلومة من القرينة، فيكون دليلًا على القول الثاني كما قيل و فيه تأمّل. و لكن الظاهر هو الأوّل بشهادة الموثقة الآتية.

2- موثقة سماعة قال: سألته عن شهادة الرجل لامرأته قال: «نعم» و المرأة لزوجها؟ قال: «لا إلّا أن يكون معها غيرها». «3»

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 130.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 25 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18،

الباب 25 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 281

3 صحيح عمار بن مروان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام، أو قال: سأله بعض أصحابنا عن الرجل يشهد لامرأته قال: «إذا كان آخر جازت شهادته معه لامرأته». «1» و في بعض النسخ مكان «آخر»، «خيراً» و لكنّه لا يلائم مع قوله: «معه» و الرواية صحيحة و عمّار بن مروان هو اليشكري الذي وثّقه النجاشي مع أخيه عمرو و قال: «هو و أخوه عمرو ثقتان» و إذا كان نفوذ شهادة الزوج مشروطاً بعدل آخر لكان نفوذ شهادة الزوجة أيضاً مشروطاً به لعدم القول بالتفصيل بهذا المعنى فيكون الصحيح دليلًا على الاشتراط مطلقاً.

فتلخّص أنّ الأوّلين دالان على التفصيل الوارد في كلام المحقّق، و الثالث دالّ على القول الثاني أي الاشتراط مطلقاً و لم نجد دليلًا على القول الأوّل أي عدم الاشتراط مطلقاً، سوى إطلاق حجّية قول الشاهد مع يمينه، و إن كان الشاهد زوجاً أو إطلاق حجّية قول المرأة في إثبات ربع الوصية و إن كانت المرأة، زوجة المشهود له.

و يمكن أن يقال: إنّ الزوج و الزوجة في المقام سيّان لا فرق بينهما، و أنّ اشتراط ضمّ آخر إليها في صحيح الحلبي و موثقة سماعة، لأجل أنّه لو لا الانضمام، إلى شهادة الزوجة، لا يثبت بشهادتها شي ء، إلّا مورد نادر و هو إثبات ربع الوصية و لأجل ذلك اشترط ضم آخر إليها، و هذا بخلاف الزوج فإنّه تثبت بشهادته بلا ضمّ آخر، الأموال و الحقوق، إذا حلفت الزوجة، و هو في نفسه كثير، فلم يذكر في شهادة الزوج انضمام عدل آخر و على ذلك فالخبران ناظران إلى غير

باب الوصيّة، فحينئذ، صيانة شهادة الزوجة عن اللغوية (في غير الوصية) يتوقف على الانضمام، دون الرجل، فإنّه لو لم ينضمّ إليه عدل آخر، لما لزمت اللغويّة لكفاية شهادة الرجل في الحقوق و الأموال مع يمين المدّعي (الزوجة).

و لعل من شرط الانضمام في شهادتها كالطائفة الثانية و الثالثة يريدون ذلك

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 25 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 282

لا أنّه لا يثبت شي ء بشهادتها بلا ضم، حتّى ربع الوصية.

بقي الكلام في صحيح عمار بن مروان حيث يشترط الانضمام مطلقاً، و لعلّه ناظر إلى مجال أوسع من باب الحقوق و الأموال، و من المعلوم أنّه لا يثبت بشهادة الزوج و لو انضم إليها يمين المدّعي، كثير من الأُمور، إلّا أن يضم إليها عدل آخر أو امرأتان.

ثمّ إنّ المراد من قوله: «إذا كان معها غيرها» في صحيح الحلبي و الموثقة، ما يكفي في إثبات المطلوب، و عليه لا يكفي ضم امرأة عادلة أو رجل عادل، بل لا بدّ من ضمّ امرأة و رجل حتى تكتمل البيّنة، و هذا بخلاف المراد من الانضمام في ناحية الزوج فيكفي الرجل الواحد، أو الامرأتان.

ثمّ إنّ مورد الروايات كمورد شهادة الوالد أو الولد هو جواز شهادة أحد الزوجين لآخر، و يمكن إلحاق صورة الشهادة على أحدهما به و ادعاء الأولوية، لابتعادها عن التهمة و يمكن أن يتمسك في إثبات الجواز بإطلاق أدلّة حجّية شهادة العدل إذا تمّت شرائطها، كما لا يخفى.

شهادة الصديق لصديقه

و تقبل شهادة الصديق لصديقه و إن تأكدت بينهما الصحبة و الملاطفة، لأنّ المفروض عدالته و ليس مطلق التهمة مانعة، و منه يُعلم جواز شهادته عليه بالأولوية. و لشمول

أدلّة حجّية شهادة العدل لكلتا الصورتين.

المسألة الرابعة: في عدم نفوذ شهادة السائل

اتّفقت كلمة الأصحاب على عدم جواز شهادة السائل في الجملة، و إن اختلفوا في بعض مصاديقه:

و قبل أن نذكر كلمات الأصحاب، نذكر صوره المختلفة حتى نكون في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 283

دراسة الروايات على بصيرة.

إنّ الاستجداء و سؤال الناس له صور مختلفة:

أ: السائل بكفّه مع اتّخاذه حرفة و ربّما يملك معاش شهر أو سنة، و مع ذلك يستجدي كلّ يوم بكفه لأنّه اتّخذه حرفة.

ب: المستجدي بالدوران على الأبواب و الأسواق و الناس و ربّما يقنع بقليل من النقد و المتاع و شي ء من الخبز و يتخذه مهنة.

ج: من تدفعه الضرورة في الحياة إلى الاستجداء على وجه مؤقت، و ربّما يكون الداعي إليه، هو تأخير راتبه التي يصل إليه من بلده، أو طروء حادث قاصم، لا يقيم ظهره إلّا السؤال بالكف أو بالدوران.

د: من يسأل الناس و يطلب الإعانة بالمباشرة و بنفسه مع الوقار، و المذاكرة على نحو يحفظ شرفه و كرامته، و لا يريق ماء وجهه.

ه: من يسأل الناس لا بالمباشرة و بنفسه، بل يتوسط بعض الناس في جلب الأموال إليه سواء كان الإرسال بواسطة، أو بلا واسطة و إن كان لها دور في توجيه الناس إليه.

و: الطفيلي و هو من يحضر طعام الغير بلا دعوة.

هذه هي صور المسألة، و إليك نصوصَ الأصحاب، لدراسة تبيين سعتها لجميع الصور أو بعضها:

1- قال الشيخ: لا تجوز شهادة السائلين على أبواب الدور و في الأسواق، و تجوز شهادة ذوي الفقر و المسكنة المتجملين، الساترين لأحوالهم إذا حصل لهم شرائط العدالة. «1»

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 326.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 284

2

و قال ابن البرّاج: و لا شهادة السائلين في الأسواق و لا على أبواب الدور. «1»

3- و قال ابن إدريس: قد روي أنّه لا تجوز شهادة السائلين على أبواب الدور و في الأسواق و إن كانت شرائط العدالة فيهم حاصلة، إلّا أنّ ذلك يختص بمن يكون ذلك عادتَه و صناعتَه، و يتخذ ذلك حرفة و صناعة و بضاعة فأمّا من أخرجته ضرورة مُجحفة في بعض الأحوال، فلا تردّ شهادتُه بحال لأنّه لا دليل على ذلك و قد أعطينا الرواية الواردة بذلك حقّها. «2»

و وافقه المحقّق و قال: و لو كان ذلك مع الضرورة نادراً لم يقدح في شهادته. «3»

5- و قال العلّامة بعد نقل كلام ابن إدريس: الوجه المنع. «4»

6- و استحسن الشهيد تفصيل المحقّق في المسالك. «5»

و أمّا الروايات فهي كما تلي:

1- صحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى عليه السَّلام قال: سألته عن السائل الذي يسأل بكفّه هل تقبل شهادته؟ فقال: «كان أبي لا يقبل شهادته إذا سأل في كفّه» «6» و في سند الحديث «العمركي» و هو ابن علي البوفكي و «بوفك» قرية بنيسابور، وثّقه النجاشي.

2- موثق محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «ردّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم شهادة السائل الذي يسأل في كفّه» قال أبو جعفر عليه السَّلام: «لأنّه لا يُؤمن على الشهادة و

______________________________

(1) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 558.

(2) ابن إدريس: السرائر: 2/ 122.

(3) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 130.

(4) العلامة الحلي: مختلف الشيعة، كتاب القضاء: 166.

(5) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 452.

(6) الوسائل: الجزء 18، الباب 35 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء،

ج 2، ص: 285

ذلك لأنّه إن أُعطي رضي و إن مُنع سخط». «1»

و في السند ابن فضال و الظاهر أنّ المقصود هو والد الحسن بنعلي بن فضال بشهادة رواية ابن خالد عنه و في رواية الشيخ جاء التعليل جزء من كلام الرسول.

3- معتبر الحميري في قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السَّلام قال: سألته عن السائل بكفّه أ تجوز شهادته؟ فقال: «كان أبي يقول: لا تقبل شهادة السائل بكفه». 2

لا شكّ في شمول الروايات، لمن يتخذ الاستجداء مهنة و حرفة سواء أ كان السؤال بالكف، أو بالدور على الأبواب و الناس، و الذوق الفقهي يساعد إلغاء خصوصية السؤال بالكف، كما لا شكّ في عدم شموله، لمن دفعته الضرورة إلى الاستجداء بكلا الطريقين على وجه لم يتخذه مهنة و إنّما اتخذه طريقاً لسدّ الجوع و صيانة الحياة.

إنّما الكلام في مَن يسأل الناس مباشرة و بنفسه، لكن مع حفظ الوقار و الكرامة و اختار الشهيد الثاني دخوله فيها، قائلًا بأنّ المراد بالسائل بكفّه، من يباشر السؤالَ و الأخذَ بنفسه و السؤال في الكفّ كناية عنه. 3

و لكن الظاهر عدم دخوله فيها للفرق الواضح بين الأوّلين و هذا القسم، ففيهما يصدق قوله عليه السَّلام: «إنّه لا يؤمَنُ على الشهادة و ذلك لأنّه إن أعطي رضي و إن منع سخط» و التعليل و إن لم يكن من قبيل ملاكات الأحكام و مناطاته بل من قبيل الحِكَم و النكات، لكنّه يصلح لأن يكون سبباً لانصراف الروايات عن القسم الرابع لعدم وجوده فيه. و إنّما يوجد بوجه غالبي في القسمين الأوّلين.

و منه يظهر حال القسم الخامس و عدم دخوله تحت الروايات، و أمّا الطفيلي

______________________________

(1)

1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 35 من أبواب الشهادة، الحديث 2، 3.

(2) 3 زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 452.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 286

فهو خارج عن موردها و إلحاقه بها، أشبه بالقياس إلّا إذا اتخذه حرفة و مهنة و يرصد كلّ يوم و ليلة، الضيافات، حتى يدخل في زمرة المدعوين و هذا أيضاً لو سُمِحَ له بالدخول يرضى و إن مُنِعَ سخط.

ثمّ إنّ السؤال و الاستجداء إذا تضمّن كذباً أو تدليساً، فهو حرام موجب للفسق، و إلّا فلا دليل على حرمته سوى كونه موجباً لإراقة ماء الوجه و هدم الكرامة الإنسانية و لعلّه كاف في حرمته و إيجاد الفسق، و قد ورد في الحديث أنّ اللّه تبارك و تعالى فوّض إلى المؤمن كلّ شي ء إلّا إذلال نفسه ... «1» قال سبحانه (لِلْفُقَرٰاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ لٰا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ لٰا يَسْئَلُونَ النّٰاسَ إِلْحٰافاً وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة/ 273).

فلو قلنا بأنّ القيد احترازي و أنّ معنى الآية: هؤلاء الّذي أُحصروا في سبيل الحقّ، لا يسألون الناس إلحافاً و إنّما يسألونهم بلا إلحاف و إصرار، فيكون دليلًا على عدم كون السؤال مذموماً للفقير الواقعي إذا كان مجرداً عن الإصرار و أمّا لو قلنا بأنّ القيد ناظر إلى بيان حال نوع الفقراء حيث يسألون الناس إلحافاً و إصراراً، و معنى الآية أنّ هؤلاء المحصورين ليسوا من هذه الطبقة، فيكون معنى الآية أنّهم لا يسألون أبداً و إن كان النبيّ يعرفهم بسيماهم و بعلامة موجودة في وجوههم، فتكون الآية دليلًا على ذمّ السؤال مطلقاً و

إن كان مع الإصرار أشدّ. إلّا إذا وجب لحفظ الحياة فيرتفع الذمّ.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 286

المسألة الخامسة: في شهادة الضيف و الأجير
اشارة

اتّفقت كلمة الأصحاب على أنّه تجوز شهادة الضيف للمضيِّف و عليه،

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 11، الباب 12 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 287

مثل اتّفاقهم على جواز شهادة الأجير على الموجر، و إنّما اختلفت في جواز شهادته للموجر على قولين فالمشهور من عصر والد الصدوق الّذي توفي عام 329 و ولده المتوفى عام 381 إلى عصر ابن حمزة صاحب الوسيلة الذي توفي حوالي عام 550 هو عدم الجواز تمسكاً بنصوص ستة دالّة على المنع و أوّل من خالفهم و أفتى بجوازها هو ابن إدريس (598543) و تبعه المحقّق (676602) و العلّامة في كتابيه: الإرشاد و المختلف، و الشهيد الثاني و المحقّق الأردبيلي، فأصبحت المسألة ذات قولين أحدهما للقدماء و الآخر للمتأخرين إلّا ابن سعيد فإنّه وافق القدماء كما سيوافيك و الكلّ يستمدّ من الدليل النقلي و مورد الخلاف فيما إذا تحمّل الشهادة و أدّاها و هو بعدُ لم يفارقه و أمّا إذا أدّى بعد مفارقته الموجرَ، فلا خلاف فيه. ثمّ إنّ الخلاف في الأجير و الموجر، لا في الموجر و المستأجر و إليك نقل كلماتهم:

1- قال الشيخ: و من أشهد أجيراً له على شهادة ثمّ فارقه، جازت شهادته له، و تجوز شهادته عليه و إن لم يفارقه، و لا بأس بشهادة الضيف إذا كان من أهلها. «1»

2- و قال

أبو الصلاح الحلبي: و لا تقبل شهادة الشريك فيه و لا الأجير لمستأجره. «2»

3- و قال ابن البرّاج: شهادة الأجير على مستأجره سواء كان مقيماً معه أو كان قد فارقه، و شهادته له بعد مفارقته. «3»

4- و قال ابن حمزة: لا تقبل شهادة خمسة نفر ... و الأجير إذا شهد لمستأجره ما دام معه. «4»

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 327.

(2) الحلبي: الكافي: 436 و المراد من المستأجر، هو الموجر فلا تغفل.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 556.

(4) ابن حمزة: الوسيلة: 230.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 288

5 و أوّل من خالف الرأي العام، هو ابن إدريس فقال:

و لا شهادة الخصم و الخائن و قال شيخنا «و الأجير» و هذا خبر واحد لا يُلْتفت إليه و لا يُعرّج عليه بل شهادة الأجير مقبولة سواء كانت على من استأجره أو له، و سواء فارقه أم لم يفارقه لأنّ أُصول المذهب تقتضي قبول هذه الشهادة و هو قوله تعالى: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) (البقرة/ 282) و (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و لا مانع يمنع من قبول شهادته و هذا عدل فينبغي أن تُقْبَلَ شهادتُه فلأنّه لا يَجرُّ بشهادته إليه نفعاً و لا يدفع عنه ضرراً و لا يعرف بشي ء من أسباب الفسق، و لا دليل على ردّ شهادته من كتاب و لا سنة مقطوع بها و لا إجماع إلى أن قال: و لا بأس بشهادة الضيف إذا كان من أهلها. «1»

6- و قال المحقّق: تقبل شهادة الأجير و الضيف و إن كان له ميل إلى المشهود له لكن يرفع التهمة تمسكهما بالأمانة. «2»

7- و قال ابن سعيد: و تقبل شهادة أحد الزوجين

للآخر ... و الأجير على مستأجره و له بعد مفارقته. «3» و مفهومه عدم الجواز إذا لم يفارق و هو موافق لفتوى القدماء كما عرفت.

8- و قال العلّامة: و تقبل شهادة الأجير و الضيف. «4»

9- و قال في المختلف: و الوجه عندي أنّ شهادته إن تضمنت تهمة أو جرّ نفع لم تقبل و عليه تحمل الروايات المانعة. 5

10 و قال الشهيد الثاني: إنّ القول بالقبول أجود. 6

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 123121.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 130.

(3) ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 539.

(4) 4 و 5 ابن المطهر الحلي: إرشاد الأذهان: 2/ 158 و مختلف الشيعة، كتاب القضاء: 166.

(5) 6 زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 452.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 289

11- و قال المحقّق الأردبيلي بعد المناقشة في سند الروايات المانعة و دلالتها: و لكن عموم أدلة القبول و الجواز كثيرة و ليس في المنع شي ء عن صحيح صريح، فالمصير إليه و تخصيص الأدلّة مشكل. «1»

أقول: إنّ مقتضى القواعد العامة هو القبول، و الردّ يحتاج إلى الدليل، إذ يكفي في الجواز الآيتان المباركتان و عموم أدلّة حجّية البيّنة و ما جاء في رواية مسعدة بن صدقة، «و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» «2» إنّما المهم دراسة أدلة القائلين بالمنع، و إليك سردها:

1- موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً» قال: «و يكره شهادة الأجير لصاحبه، و لا بأس بشهادته لغيره و لا بأس به له بعد مفارقته». «3»

يلاحظ عليه: أنّ الحديث كسيف ذي حدَّين، صالح للاستدلال لكلا القولين، أمّا

الجواز، فلظهور لفظ الكراهة فيه و أنّها ليست ممنوعة منعاً باتّاً، مضافاً إلى أنّ مفهوم قوله: «و لا بأس به له بعد مفارقته» وجود البأس قبل مفارقته و هو يعادل الكراهة لا الحرمة، و أمّا المنع، فلما ذكره الأردبيلي من أنّ الكراهة المصطلحة هنا بعيدة إذ لو كانت الشهادة مقبولة، ينبغي وجوبها عيناً مع الغير و إلّا كفاية «4» و بعبارة أُخرى أنّ مورد الشهادة هو الحقوق و الأموال، فلو كانت الشهادة جامعة الشرائط، يجب القبول، و إلّا فيحرم، و لا تتوسط الكراهة بينهما في مورد الشهادة، من غير فرق بين الأداء و القبول.

2- صحيح صفوان عن أبي الحسن عليه السَّلام قال: سألته عن رجل أشهد أجيره

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 409.

(2) الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(4) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 408.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 290

على شهادة ثمّ فارقه أ تجوز شهادته له بعد أن يفارقه؟ قال: «نعم و كذلك العبد إذا أعتق جازت شهادته». «1»

أقول: إنّ القيد جاء في كلام الراوي و ثبوت الحكم للموضوع المقيّد في لسانه لا يكون دليلًا على عدمه عند انتفاء القيد. اللّهمّ إلّا أن تستظهر مدخليته في الحكم من تكراره في لسان الإمام في العبد الذي عطفه الإمام عليه مع هذا القيد و إن لم يسأله الراوي عنه.

3- موثق سماعة قال: سألته عمّا يرد من الشهود، قال:: المريب، و الخصم، و الشريك و دافع مغرم، و الأجير و العبد و التابع و المتهم، كلّ هؤلاء تردّ شهادتهم». «2» و في السند «الحسن» و هو

الحسن بن علي بن زياد الوشاء، و هو من الطبقة السادسة الذي يروي عنه الحسين بن سعيد الأهوازي و هو من الطبقة السابعة و الحديث موثق. و قد جاء الأجير مقابل التابع، و لعلّ المراد من الثاني خادم البيت و هذه الروايات الثلاث صالحة للاحتجاج سنداً و مضموناً، و أمّا الثلاث الآتية فلا تصلح إلّا للتأييد.

4- خبر العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السَّلام لا يجيز شهادة الأجير». «3» و هو ضعيف السند، و المحكيّ عمل الإمام لا قوله فلا يؤخذ بإطلاقه، إلّا يستظهر أنّ ملاك المنع هو كونه أجيراً فقط، لا كونه جارّاً لنفسه النفع أو دافعاً عن نفسه الضرر.

5- روى الصدوق مرسلًا في الفقيه: و قال في حديث آخر قال: لا تجوز شهادة المريب و الخصم و دافع مغرم أو أجير أو شريك أو متهم أو تابع. «4»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 291

6 و روى أيضاً مرسلًا في معاني الأخبار قال: «قال النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لا تجوز شهادة خائن ... و لا التابع من أهل البيت» «1» و فسره الصدوق بالخادم و التابع و الأجير.

و الحديثان الأخيران ضعيفان للإرسال و الأحاديث التي يمكن الاحتجاج بها هي الثلاثة الأُوَل و لعلّها كافية، فما ذهب إليه القدماء أقوى و لكن المتأخرين القائلين بالجواز أوّلوا الروايات المانعة

بالنحو التالي:

1- الممنوع هو الإشهاد و أمّا إذا تحمّل مع المنع تجوز شهادته و يؤيده أنّ الوارد في صحيح صفوان، هو الإشهاد قال: سألته عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثمّ فارقه أ تجوز شهادته له بعد أن يفارقه. «2»

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّ القيد في لسان الراوي، لا الإمام، و قد أتى به مقدمة للسؤال عن حكم نفس الشهادة على أنّه لا يساعده لسان سائر الروايات، فانّ المطلوب فيها هو بيان حكم الشهادة، و أدائها لا الإشهاد و التحمّل.

2- حمل المنع على الكراهة، و لكنّه لا تساعده موثقة سماعة لأنّه ورد الأجير فيها في عداد الشريك و دافع مغرم، و لا يمكن حمل النهي فيهما على الكراهة و المرجوحية على أنّك عرفت أنّه لا معنى للمرجوحية.

3- حمل المنع على ما إذا كانت هناك تهمة كجلب نفع أو دفع ضرر كما لو شهد بدفع الثوب لمن استأجره على قصارته أو خياطته.

يلاحظ عليه: أنّ الردّ يكون عندئذ أمراً استثنائياً و عندئذ يطرح السؤال التالي و هو إذا كان الأصل هو القبول، فلما ذا ذكر عدمه بصورة الضابطة؟

4- المراد هو الخادم الذي يوجر جميع منافعه، كما فسر به الصدوق، بقرينة

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 32 من أبواب الشهادات، الحديث 8 و لاحظ الفقيه: 3/ 25 ط النجف و معاني الأخبار، باب التابع و المعترّ: 208 ط الغفاري.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 29 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 292

قوله: «فارقه» فيكون الدليل أخصّ من المدّعى، و لا يدلّ على ردّ شهادة كلّ أجير و إن كان أجيراً يوماً أو يومين و شهد.

و الذي تسكن إليه النفس هو

الأخذ بالمنع، غير أنّه إذا أعاد الشهادة بعد المفارقة، تقبل قطعاً، كما سيوافيك في مبحث اللواحق.

بحث في اللواحق
الأولى: هل يشترط كون الشاهد جامعاً لشرائط القبول حين تحمل الشهادة،

أو يكفي كونه كذلك حين التأدية فتظهر الثمرة في الصغير و الكافر، و الفاسق المعلن إذا عَرفوا شيئاً و تحمّلوه و هم في تلك الحال المانعة من القبول ثمّ زال المانع عنهم فأقاموا ما تحملوه. التحقيق هو الثاني و ذلك بوجهين:

1- عموم الأدلة، فإنّهم عند التأدية من مصاديق البيّنة العادلة.

2- الروايات الخاصّة المتضافرة الدالّة على قبول شهادة الذمي و اليهودي و النصراني بعد ما أسلموا و إن تحمّلوا في حال كفرهم «1» و لا يعادله ما في صحيح جميل قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن نصراني أُشهد على شهادة ثمّ أسلم بعدُ أ تجوز شهادته؟ قال: «لا، و يحمل على الإسلام المجرّد من الاقتران بالعدالة».

و ما ورد في قبول شهادة الصبيان إذا تحملوا قبل البلوغ و أدّوا بعده. «2»

و لو شهد العبد على مولاه فرُدَّت ثمّ أعادها بعد زوال المانع أو شهد الولد على الوالد و رُدّت ثمّ مات الأب و أعادها، فمقتضى الضابطة، الأخذ بمقتضى الإطلاقات و قد أشار إليه الشيخ في خلافه و نقل الأقوال و قال: إذا شهد صبي أو عبد أو كافر عند الحاكم فردّ شهادتهم ثمّ بلغ الصبي و أعتق العبد و أسلم الكافر

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 39 من أبواب الشهادات، الحديث 71.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 21 من أبواب الشهادات، الحديث 41.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 293

فأعادوها قُبِلتْ، و كذلك إن شهد بالغ مسلم حرّ بشهادة فبحث عن حاله فبان فاسقاً ثمّ عُدِّل فأقامها بعينها قُبِلَتْ منه و حكم بها و به قال

داود، و أبو ثور، و المزني و قال مالك: أردّ الكل، و قال أهل العراق و الشافعي: أقبل الكلّ إلّا الفاسق الحرّ البالغ فإنّه إذا ردّت شهادته لفسقه ثمّ أعادها و هو عدل لا تقبل شهادته، دليلنا: كلّ ظاهر ورد بقبول شهادة العدل فإنّها محمولة على عمومها. «1»

نعم ورد في رواية السكوني، تقييد جواز شهادة العبد، بعدم سبق الردِّ روى عن علي عليه السَّلام: «و العبد إذا شهد بشهادة ثمّ أعتق جازت شهادته إذا لم يردها الحاكم قبل أن يعتق»، و قال علي عليه السَّلام: «و إن أعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته». «2»

و لعلّ عدم القبول لأجل أنّ ردّ الحاكم كان لفسقه لا لكونه عبداً، فلو عُتق مع بقاء الحال لا يُقبل.

و أمّا ما روي عن عليّ عليه السَّلام، فظاهر فيما إذا كان العتق لأجل الشهادة، فيكون الردّ لأجل التهمة.

و أمّا الفاسق، فهو على قسمين: معلن و مستتر، فلا شكّ في قبول شهادة الأوّل بعد التوبة و الصلاح، و إن رُدّتْ في حال الفسق إنّما الكلام في المستتر إذا قام فردّت بجرحه ممّن له خبرة بباطن أمره ثمّ تاب، فإن شهد بأمر جديد فتُقبل و أمّا لو أعاد ما رُدَّت فربّما يستشكل قبول شهادته لأجل تهمة الحرص على رفع الشبهة عنه لاهتمامه بإصلاح الظاهر و دفع العار عنه بخلاف المتجاهر بالفسق و الكفر، و لكنّه شبهة في مقابل الإطلاقات و العمومات، فلا يعتد بها كما ذكره المحقّق.

الثانية: المعتبر في قبول شهادة الشاهد مع استجماعه للصفات المعتبرة فيه علمه بما يشهد به،
اشارة

سواء كان سببُ العلم استدعاءَ المشهود له و عليه للإشهاد، أم اتّفاق علمه بالواقعة لاشتراك الجميع في المقتضي و هو العلم و تترتب عليه

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 60.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 23

من أبواب الشهادات، الحديث 13.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 294

صحّة الشهادة في المواضع التالية:

1- إذا سمع الإقرار من المقرِّ بلا استدعاء من الطرفين أو الطرف الواحد، و ما هذا إلّا لأنّ الأمر بالإشهاد في الآية، أمر إرشادي، و أمّا أنّه هل تجب عليه الإجابة إذا دعي أو لا؟ فسيجي ء تحقيقه.

2- لو سمع اثنان يوقعان عقداً كالبيع و الإجارة و النكاح.

3- إذا شاهد الغصب أو الجناية.

4- إذا سمع منهما ما يوجب حكماً و إن قال الغريمان أو أحدهما لا تشهد عليهما.

إنّما الكلام في الصورة الخامسة أي إذا استتر فنطق المشهود عليه مسترسلًا فالمشهور عند علمائنا هو قبولها و خالف ابن الجنيد و سيوافيك نقل كلامه عن غاية المراد.

قال الشيخ في الخلاف: شهادة المختبي مقبولة و هو إذا كان على رجل دين يعترف به سرّاً و يجحده جهراً، فخبأ له صاحب الدين شاهدين يريانه و لا يراهما ثمّ حاوره الحديث فاعترف به فسمعاه و شاهداه، صحّت الشهادة و به قال ابن أبي ليلى، و أبو حنيفة، و عمرو بن حريث القاضي و الشافعي، و ذهب شريح إلى أنّها غير مقبولة، و به قال النخعي و الشعبي. و قال مالك: إن كان المشهود عليه جلَداً قبلت و إن كان مغفَّلًا يُخْدَع مثله لم أقبلها عليه. دليلنا ما قلناه في المسألة الأُولى «1» و أيضاً قوله تعالى: (إِلّٰا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) «2» و هذا شهد بالحق لأنّه علمه. «3»

______________________________

(1) قال في المسألة المتقدمة: إذا شهد صبي ... ثمّ بلغ و شهد يقبل لأنّ كلّ ظاهر ورد بقبول شهادة العدل فإنّها محمولة على عمومها.

(2) الزخرف: 86.

(3) الخلاف، ج 3، كتاب الشهادات،

المسألة 61.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 295

قال ابن إدريس: إذا سمع الشاهد رجلًا يقرّ بدين، فيقول: لفلان عليّ ألف درهم، صار السامع به شاهداً بالدين، قال المقرّ اشهدوا عليّ بذلك أو لم يقل، و كذلك إذا شاهد رجلين تعاقدا عقداً، كالبيع، و الصلح و الإجارة و النكاح، و غير ذلك، و سمع كلام العقد، صار شاهداً بذلك، و كذلك الأفعال، كالغصب، و القتل، و الإتلاف، يصير به شاهداً، و كذلك إذا كان بين رجلين خلف في حساب، فحضرا بين يدي شاهدين و قالا لهما قد حضرنا لنتصادق، فلا تحفظا علينا ما يقرّ به كلّ واحد منّا لصاحبه، ثمّ حصل من كلّ واحد منهما إقرار لصاحبه بالدين، صارا شاهدين، و لا يلتفت إلى تلك المواعدة، لأنّ الشاهد بالحقّ، من علم به، فمتى علم له صار شاهداً.

فأمّا شهادة المختبي فمقبولة عندنا، و هو إذا كان على رجل دين، يعترف به سرّاً و يجحده جهراً، فاحتالَ صاحبُ الدين، فخبأ له شاهدين، يسمعانه، و لا يراهما، ثمّ جاراه، فاعترف به، و سمعاه، و شهدا به، صحّت الشهادة عندنا، و خالف في ذلك شريح فقط. «1»

و عن غاية المراد عن ابن الجنيد المنع حيث قال: «أو كان من خدع فسُتِر عنه لم يكن له أن يشهد عليه» ثمّ ردّ عليه أنّه سبقه الإجماع أو تأخر عنه.

و قال في الجواهر بعد نقل كلام غاية المراد: و هذا هو العمدة. «2»

و أورد عليه بأنّ هذه الشهادة في إيثار التهمة ليس بأقل من التبرع بالشهادة في حقوق الآدميين قبل السؤال في الحاكم في مجلس الحكومة، فإذا كانت الثانية مردودة فلتكن الأُولى كذلك.

يلاحظ عليه: ما ذكرنا من أنّ

مطلق التهمة ليس بمانع و إلّا يلزم ردّ غالب الشهادات و إنّما المانع ما ورد فيه النص بالخصوص أو قام على ردّه الإجماع كما هو

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 121120.

(2) النجفي: الجواهر: 41/ 100.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 296

المدّعي في باب التبرّع، و ليس المقام من أحدهما، على أنّ الداعي لتحمّل الشهادة بهذا النحو ربّما يكون باستدعاء من صاحب الحقّ على وجه يشقّ عليه ردّه، و ليس مثل هذا دليلًا على الحرص للشهادة.

حكم إقامة الشهادة بلا إشهاد
اشارة

إذا تحمّل الشهادة بلا استدعاء من المشهود له و عليه، فهل تجب عليه الإقامة إذا دُعي إليها أو لا بعد الاتفاق على وجوبه إذا شهد بالاستدعاء، قال سبحانه: (وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة/ 283).

و لنذكر كلمات الأصحاب:

1- قال ابن الجنيد (ت 381): و إذا حضر الإنسان حساب اثنين فأقرّ أحدهما لآخر سبباً ثمّ جحده إيّاه فاحتيج إلى شهادة الحاضر كان ذلك إلى الشاهد إن شاء حكى ما حضر من غير أن يُثبتَ الشهادة و إن شاء تأخّر لأنّ صاحب الحقّ لم «يستر» عنه الشهادة. «1»

2- قال الشيخ: و من علم شيئاً من الأشياء و لم يكن قد أُشهد عليه ثمّ دُعي إلى أن يشهد كان بالخيار في إقامتها و في الامتناع منها اللّهمّ إلّا أن يعلم أنّه إن لم يُقمها بطلَ حقُّ مؤمن فحينئذ تجب عليه إقامة الشهادة. «2»

3- قال أبو الصلاح: هو مخيّر فيما يسمعه و يشاهده بين تحمّله و إقامته و تركهما. «3»

______________________________

(1) ابن الجنيد: مختلف الشيعة، كتاب الشهادات،، 173، و لعلّ الصحيح «لم يطلب منه».

(2) الطوسي: النهاية، كتاب الشهادات، 330.

(3) الحلبي:

الكافي: 436.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 297

4- و قال ابن البرّاج: إذا علم شيئاً و لم يكن قد أُشهد عليه ثمّ دُعي إلى الشهادة بذلك، كان مخيّراً بين أن يقيمها و بين أن لا يقيمها، فإن علم أنّه متى لم يُقِمْها بطل حقُّ مؤمن وجب عليه إقامتها. «1»

5- و قال ابن حمزة: فإذا شاهد شيئاً من ذلك و علم حقيقته فقد تحمل شهادته و جاز له إقامة الشهادة على حسب ما شاهد و قد تجب إقامتها إذا أدّى الامتناع منها إلى ضياع حقّ من حقوق المسلمين. «2»

6- و قال ابن إدريس: و متى علم شيئاً من الأشياء و لم يكن قد أُشهد عليه ثمّ دُعي إلى أن يشهد فالواجب عليه الأداء لقوله تعالى: (وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة/ 283) و لا يكون بالخيار في إقامتها. «3»

و لمّا كان ظاهر عبارة ابن إدريس موهماً للخلاف و الردّ على الشيخ، حاول العلّامة في المختلف أن يزيل الوهم و أنّه ليس اختلاف بين ابن إدريس و الآخرين قال: و التحقيق أنّه لا نزاع في المعنى هنا لأنّ الشيخ قصدَ بالجواز و الخيار من حيث إنّه فرض كفايةً يجوز تركه، إذا قام غيره مقامه، و لهذا إذا لم يُقم غيره مقامه، و خاف لحوقَ ضرر بإبطال الحقّ وجب عليه إقامة الشهادة فإن قصد ابن إدريس الوجوب هنا عيناً فهو ممنوع. نعم في الحقيقة لا يبقى فرق بين أن يشهد من غير استدعاء و بين أن يشهد معه. «4»

و أمّا المنصوص فهي على أقسام ثلاثة:
أ: ما يدلّ على أنّ الشاهد بالخيار و إن دُعي

و هو ما يلي:

1- صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «إذا سمع الرجل

______________________________

(1) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 561.

(2)

ابن حمزة: الوسيلة: 232.

(3) ابن إدريس: السرائر: 2/ 132.

(4) ابن المطهّر الحلي: مختلف الشيعة، كتاب الشهادات، 173 و الظاهر أنّ المقصود من «هنا» هو الصورة الأُولى أي إذا قام مقامه شخص آخر، و إلا فالوجوب في غير هذه الصورة ليس ممنوعاً.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 298

الشهادة و لم يُشهَد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد و إن شاء سكت».

و الظاهر أنّ لمحمّد بن مسلم رواية واحدة رواها الكليني تارة عن ابن محبوب عن العلاء بن رزين عن ابن مسلم عن أبي جعفر، و أُخرى عن صفوان بن يحيى عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام و ثالثة عن ابن فضال عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السَّلام، و على ذلك فتتحد الروايات الثلاث. «1» غير أنّ الأخيرة تشمل على قيد، سقط من الأوّلين و هو قوله: «إلّا إذا علم من الظالم و لا يحلّ له إلّا أن يشهد».

2- خبر محمّد بن مسلم «2» قال: سألت أبا جعفر عليه السَّلام عن الرجل يحضر حساب الرجلين فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما قال: «ذلك إليه إن شاء شهد و إن شاء لم يشهد، و إن شهد، شهد بحقّ قد سمعه، و إن لم يشهد فلا شي ء، لأنّهما لم يُشهداه».

و الظاهر أنّ لمحمّد بن مسلم رواية ثانية رواها الكليني عن طريق محمّد بن هلال، عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر، و رواها الصدوق باسناده المذكور في المشيخة عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام فتتحد الروايتان «3» الواردتان

في الوسائل برقم 5 و 6.

3- صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يُشهَد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد و إن شاء سكت» و قال: «إذا أُشهدَ لم يكن له إلّا أن يُشهد». «4»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 3، 4.

(2) وصفناه بالخبر، لوقوع محمّد بن عبد اللّه بن هلال في السند و لم يوثق.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 5، 6.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 299

ب: ما يدل على لزوم الشهادة إذا دُعي

4- خبر محمّد بن مسلم «1» عن أبي جعفر الباقر عليمها السَّلام في الرجل يشهد حساب الرجلين ثمّ يدعى إلى الشهادة قال: «يشهد». «2» و لا يخفى وجود التعارض بينه و بين الرواية الثانية لابن مسلم، حيث إنّه عليه السَّلام حكم فيها بالخيار مع الدعوة، و حكم هنا بالشهادة و لو لا الاختلاف في المضمون، لحكمنا بوحدته، مع الرواية الثانية و قال في الجواهر: و يؤيّده خبر ابن أشيم «3» و لكنّه لا صلة له، بالمقام و إنّما يدل على أنّ سماع الطلاق كاف في صحّته، و لا يتوقف على الإشهاد و هو غير ما نحن فيه.

ج: ما يدل على لزوم الإجابة إذا توقف دفع الظلم عليه

5- مرسلة يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد، و إن شاء سكت إلّا إذا علم مَن الظالم فيشهد و لا يحل له أن لا يشهد». «4»

و تدل عليه رواية ابن مسلم «5» المشتملة على هذا القيد أيضاً كما مرّ و ليستا رواية واحدة لاختلاف الراوي و المروي عنه. فابن مسلم يروي عن أبي جعفر عليه السَّلام، و مرسلة يونس مروية عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام.

و يؤيده ما رواه الصدوق مرسلًا قال: قال الصادق عليه السَّلام: «العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً» «6» و لعلّه نفس ما جاء في الروايتين و قد نقل بالمعنى.

______________________________

(1) وصفناه بالخبر، لوقوع أحمد بن يزيد في سنده و هو لم يوثق.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 7.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 8.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 10.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب

5 من أبواب الشهادات، الحديث 4.

(6) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 300

و بذلك ظهر عدم الخلاف في المسألة فتوى و نصّاً، قال المحقّق الأردبيلي: «و لا شكّ أنّ ظاهر هذه الأخبار عدم وجوب الإقامة مع عدم الاستشهاد أوّلًا، و لكن العقل يأبى عن ذلك في الجملة و يستبعد تجويز الشارع تضييع حقّ امرئ مظلوم مع علم الشاهد بذلك و بأنّه قد يجي ء بشهادته و تجويز السكوت؛ لأجل أنّه ما استشهد و إن كان هو قصّر في الأوّل. و تدلّ على الوجوب، الآيات و الأخبار كما تقدّم.

فيمكن التصرّف و التأويل فيها (الأخبار الدالّة على عدم الوجوب)، فإنّه ليس فيها صحيح صريح في جواز السكوت و عدم الشهادة مع العلم بتضييع حقّ الناس و حصر الشاهد فيه مع استدعاء صاحبه الشهادة منه مع عدم الضرر عليه و لا على أحد من إخوانه المؤمنين.

فيمكن الحمل على عدم وجوبه العيني، و لا على عدم طلب صاحبها، و لا على عدم العلم اليقيني، و لا على عدم الاستدعاء إلى التحمّل، لا الأداء.

قال في الفقيه بعد نقل رواية محمّد بن مسلم و غيرها: قال مصنف هذا الكتاب: معنى هذا الخبر الذي جُعل الخيار فيه إلى الشاهد بحساب الرجلين، هو إذا كان على ذلك الحقّ غيره من الشهود، فمتى علم أنّ صاحب الحقّ مظلوم و لا يحيى حقّه إلّا بشهادته، وجب عليه إقامتها و لم يحلّ له كتمانها فقد قال الصادق عليه السَّلام: «العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً».

كأنّه إشارة إلى رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السَّلام، قال: إذا سمع الرجل الشهادة و لم

يُشهَد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد و إن شاء سكت إلّا إذا علم مَن الظالم فيشهد فلا يحلّ له إلّا أن يشهد، فتأمّل». «1»

و قد علمت أنّ التفصيل لو لا حكم العقل أيضاً هو مقتضى النصوص.

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 521520، و لا يخفى أنّ في العبارة ضعفاً و أظنّ أنّ لفظة «و لا» في الموارد الثلاثة مصحف «أو» العاطفة فلاحظ.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 301

الثالثة: التبرع بالشهادة قبل سؤال القاضي
اشارة

لا عبرة بشهادة من شهد قبلَ سؤال القاضي، بلا خلاف، و لكن يقع الكلام في مقامات:

الأوّل: ما هو الدليل على المنع؟

الثاني: بعد ثبوت الدليل و النهي، فهل النهي تكليفي يورث عصيانُه الفسق بلا إصرار أو معه، أو وضعيّ بمعنى عدم ترتب الأثر كيمين المنكر قبلَ طلب المدّعي أو القاضي؟

الثالث: إذا رُدَّت شهادته، فهل تقبل في موضعها في نفس المجلس أو في مجلس آخر أو لا؟

الرابع: هل الدليل يعمّ الجاهل أو يختص بالعالم؟

الخامس: هل الحكم مختص بحقوق الناس أو يعمّ حقوق اللّه تبارك و تعالى؟

و قبل الورود في صلب الموضوع نذكر كلمات الأصحاب:

1- قال المفيد: لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يُسأل. «1»

2- قال الشيخ: و لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة. «2»

و قال الحلبي: و لا يجوز أن يشهد إلّا أن يُستشهد. «3» و المقصود: قبل أن يُسأل، و ليس المراد قبل أن يُشْهَد لتعرّضه له بعد هذا الكلام.

4- و قال ابن البرّاج: و لا يجوز لإنسان أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة. «4»

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 5728.

(2) الطوسي: النهاية: 330.

(3) الحلبي: الكافي: 436.

(4) ابن البرّاج: المهذب: 2/ 561.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 302

5 و قال ابن إدريس: و لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة. «1»

6- و قال المحقّق: التبرّع بالشهادة قبل السؤال يطرق التهمة فيمنع القبول. «2»

7- قال العلّامة: و تردّ شهادة المتبرّع قبل السؤال للتهمة إلّا في حقوقه تعالى و المصالح العامة على إشكال. «3»

8- و قال الشهيد الثاني: من أسباب التهمة: الحرص على الشهادة بالمبادرة إليها قبل استنطاق الحاكم سواء كان بعد دعوى المدّعي أم قبله. «4»

ترى أنّ كلام القُدامى من العلماء خال عن

التعليل بالتهمة و إنّما جاء التعليل بهذا في كلام المحقّق و مَن بعده.

هذا نصوص علمائنا و كأنّ عدم الجواز عندهم أمر مسلّم إلّا أنّ المهم دراسة الأمر الأوّل و هو تبيين الدليل مع العلم بأنّ مقتضى الكتاب و السنّة هو حجّية قول العادل فما لم يَقُم دليل قاطع على الخروج عن إطلاقهما، فهو محكَّم.

و يحتمل أن يكون الدليل المخرج أحد الوجوه التالية:
أ: وجود دليل صالح واصل إليهم

إن إطباق القدماء خصوصاً مثل المفيد و الشيخ على عدم الجواز، كاشف عن وجود دليل صالح على الحكم وصل إليهم و لم يصل إلينا، و من البعيد أن يكون الدليل ما سيوافيك عن طريق غيرنا من الروايات التي لا يُحتج بها إلّا بعد التأكد من صحة مضمونها و قد تقرر في محلّه أنّ الرسم الدارج بين القدماء من عصر والد الصدوق (ت 329) إلى عصر الشيخ (ت 460) هو الإفتاء بنفس

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 133.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 131.

(3) ابن المطهّر: إرشاد الأذهان: 2/ 158.

(4) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 454.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 303

عبارة الرواية أو مضمونها كما هو الغالب بتجريد المتون عن الأسانيد و على هذا الغرار، أُلِّفَ فقه الرضا لوالد الصدوق، و المقنعة للمفيد و النهاية للشيخ و قد كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي يعتمد على ما ورد في الأخيرين بعض الاعتماد إن لم يجد نصّاً في الكتب الحديثية، و قد مضى اتّفاقهم على لفظة «لا يجوز».

ب: المبادرة مظنّة التهمة

إنّ التعليل بالتهمة، جاء في كلام المحقّق فهو أوّل من علّل عدم القبول بأنّه يطرق التهمة إلى الشاهد و أنّه شهد للمدّعي زوراً بسبب حرصه على ذلك، من غير فرق بين كونه قبل دعوى المدّعي أو بعدها متمسّكاً بإطلاق ما ورد من عدم قبول شهادة المتهم. «1» و ممّن ركن إلى هذا الوجه، صاحب الرياض و أفتى بأنّه لو انتفت التهمة تُقْبَل، و إن رُدّت، كما إذا كان المشهود له عدوَّه، و المشهود عليه خصمَه أو كانت المبادرة لأجل الجهل بالحكم الشرعي.

يلاحظ عليه: بما ذكرنا سابقاً من أنّ مطلق التهمة ليس مانعاً و إلّا

يلزم ردّ كثير من الشهادات و إنّما يُردُّ بالتهمة إذا كان هناك نص، أو إجماع فإن تمّ استكشاف النص عن اتفاق القدماء أو أكثرهم أو أحرزنا عدم الخلاف كما عليه صاحب الجواهر. «2» فهو و إلّا فالتمسك بإطلاق ما دلّ على عدم قبول شهادة المتهم، غير تام إذ فيه مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لو أخذنا بإطلاقه لزم ردّ أكثر الشهادات أنّ المتهم مجمل من حيث المفهوم، إذ من المحتمل أن يكون المراد، المتهم في عقله و دركه، أو بصره و سمعه و بتعبير آخر من عرف بكثرة الغلط و الغفلة، كما عبر به أيضاً الخرقي في متن المغني و قال: و لا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط و الغفلة. «3»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 3 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 3، 5، 6.

(2) الجواهر: 41/ 104.

(3) ابن قدامة: المغني: 10/ 255، قسم المتن.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 304

قال المحقّق الأردبيلي بعد ذكر هذا الوجه: و أنت تعلم أنّ التهمة غير ظاهرة خصوصاً إذا كان جاهلًا فإنّما نجد كثيراً مَن يشهد قبل الاستشهاد من غير ميل إلى إثبات المشهود، بل قد يكون إلى عدمه أميل لغرض مثل فقر المشهود عليه أو مصاحبته أو عداوة المشهود له، اعتقاداً لوجوب الشهادة و تحريم كتمانها كيف و العدالة تمنع من الشهادة على الكذب مع العلم بقبحه، و الوعيد في الكتاب و السنّة و تحريمه بإجماع المسلمين إلى أن قال: و بالجملة ردّ شهادة العدل بمجرّد ذلك مع وجوب قبول العدل و عدم ردّه بالكتاب و السنّة و الإجماع مشكل إلّا أن يكون إجماعياً. «1»

ج: التجاوز إلى حريم صاحب الحقّ

إنّ الشهادة قبل سؤال الحاكم، تجاوز

على حريم حقّ القاضي لأنّه يعتبر فيها سؤاله عن الشهود فحينئذ تكون الشهادة قبل السؤال نحو يمين المنكر قبل إذن صاحب الحقّ، و يشهد على هذا الوجه أنّهم قالوا بقبول شهادة المتبرع في المجلس الآخر، بل في نفس المجلس إذا كان بعد سؤال الحاكم فلو كان المانع هو التهمة يجب أن تردّ مطلقاً لبقائها في كلا المجلسين. قال الشهيد في المسالك: «و لو أعاد تلك الشهادة في مجلس آخر على وجهها ففي قبولها وجهان من بقاء التهمة في الواقعة، و اجتماع شرائط الشهادة الثابتة و هذا أجود». «2»

د: وجود نصوص عن غير طرقنا

جاء في مسانيد القوم و سننهم ما يدلّ على منع تلك الشهادة نظير:

أ: «ثمّ يجي ء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها». «3»

ب: «ثمّ يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد». «4»

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 400399.

(2) المسالك: 2/ 454.

(3) مسند أحمد: 4/ 426.

(4) سنن ابن ماجة: 2/ 791 برقم 2363.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 305

ج: «تقوم الساعة على قوم يشهدون من غير أن يُستشهدوا». «1»

إلى غير ذلك من نبويّات، لا يحتج بها لعدم ثبوت وثاقة رواتها.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمر الأوّل و تبين أنّ الصالح للاستدلال هو الوجه الأوّل و الثالث و يقرب من الأوّل ادعاء الإجماع على المنع. و إن كان الأوّل أظهر.

و أمّا الأمر الثاني أي كون النهي تكليفياً أو وضعياً، فلو قلنا بالوجه الأوّل أي استكشاف النص من كلمات الأصحاب أو كونها معقد الإجماع فالظاهر أنّ النهي وضعي لا تكليفي، إرشادي لا مولوي، فيكون النهي لتعليم الشاهد، حتّى لا يشهد لعدم ترتب الأثر عليها، كالنهي عن بيع مال الغير، إذا لم يتصرف فيه، أو عن بيع

ما ليس عنده و مثله القول بأنّ دليل النهي، هو التهمة أو التجاوز إلى حريم القاضي فالظاهر أنّ النهي، إرشادي لبيان عدم ترتّب الأثر نعم لو كان المستند الروايات النبوية، فالظاهر أنّ النهي تكليفي، يورث الفسق، و أمّا على المختار، فلا يورث الفسق و لا يحتاج إلى توبة.

و منه يظهر حال الأمر الثالث من قبولها في نفس المجلس أو بعده، لأنّ النهي كان تعليمياً إرشادياً، فإذا وقعت الشهادة في موضعها، لا تردّ.

و أمّا الأمر الرابع فالظاهر عمومه للعالم و الجاهل أي لا يعتدّ بمثل هذه الشهادة و إن شهد عن جهل بآداب القضاء الإسلامي.

و أمّا الأمر الخامس من اختصاصه بحقوق الناس أو شموله لحقوق اللّه أيضاً فالأصحاب فيه على طائفتين: بين متردد في الشمول و جازم بعدم الشمول.

قال المحقق: أمّا في حقوق اللّه أو الشهادة للمصالح العامة (كالوقف على المساجد و القناطيرة) فلا يمنع إذ لا مدّعي لها و فيه تردّد. «2»

و قال العلّامة: و تردّ شهادة المتبرع قبل السؤال للتهمة إلّا في حقوقه تعالى

______________________________

(1) دعائم الإسلام: 2/ 506.

(2) نجم الدين الحلّي الشرائع: 4/ 917.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 306

و المصالح العامة على إشكال. «1»

و أمّا الجازم فمنهم الشهيد الثاني، و المحقّق الأردبيلي، و صاحب الجواهر. قال الشهيد: وجه التردّد من عموم الأدلة الدالة على الردّ، و تطرّق التهمة، و من ثبوت الفرق الموجب لاختصاص الحكم بالأوّل لأنّ هذه الحقوق لا مدّعى لها، فلو لم يشرع فيها التبرع لتعطّلت و هو غير جائز و لانّه نوع من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هو واجب و أداء الواجب لا يعدّ تبرعاً و هذا هو الأقوى. «2»

و الظاهر

عدم تصوّر التبرع في الشهادة في الحدود، لما علمت سابقاً من خروجها عن مجال القضاء و أنّ دوره فيها هو العمل بالبيّنة بعد إحراز الشهود، فليس فيها تخاصم و ترافع، و على ذلك فطبيعة الموضوع تقتضي المبادرة و إعلام الحاكم و لو أغمضنا عن ذلك فالأظهر عدم الفرق بين الحقوقين، لإطلاق الدليل المستكشف عندنا، و وجود التهمة في كلا الموردين عند غيرنا كما لا يخفى.

الرابعة: في الفاسق إذا تاب لقبول شهادته

إذا كان الشاهد فاسقاً فلا يخلو إمّا أن يكون عادلًا و ذا ملكة راسخة رادعة، ثمّ صار فاسقاً فتاب فلا شكّ أنّه تقبل شهادته لأنّ ملكة العدالة لا تزول بعصيان واحد، غير أنّ الفسق مانع عن قبول قوله فإذا تاب صار كمن لم يذنب فتُقبل شهادتُه.

إنّما الكلام في المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل شهادتُه فقد نقل عن الشيخ في المبسوط أنّه قال: «إنّه إذا قال له الحاكم تب و تاب قبلت شهادته» و علّله الشهيد الثاني بصدق التوبة المقتضي لعود العدالة و انتفاء المانع فيدخل تحت

______________________________

(1) ابن المطهر الحلّي: إرشاد الأذهان: 2/ 158.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 454، لاحظ مجمع الفائدة: 12/ 400، و الجواهر: 41/ 108.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 307

عموم قبول شهادة العدل. «1» و قد نقل عن ابن سعيد أيضاً في جامعه و سيوافيك نصّه بعد الفراغ من تحليل كلام الشيخ.

أقول: ذكره الشيخ في المبسوط في فصل «شهادة القاذف»، و نحن نذكر موجز كلامه ليتبين أنّ محور كلامه خصوص القاذف فقط إذا أمره الإمام بالتوبة.

قال: المعصية لا تخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون فعلًا أو قولًا فإن كانت فعلًا كالزنا و السرقة و اللواط و الغصب و شرب

الخمر فالتوبة هاهنا أن يأتي بالضد ممّا كان عليه و هو صلاح عمله لقوله تعالى: (إِلّٰا مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صٰالِحاً فَأُوْلٰئِكَ يُبَدِّلُ اللّٰهُ سَيِّئٰاتِهِمْ حَسَنٰاتٍ) (الفرقان/ 70) فإذا ثبت أنّها صلاح عمله «2» فمدّته التي يقبل بها شهادته سنة و من الناس من قال يُصلِحُ عملَه ستة أشهر.

و أمّا إن كانت المعصية قولًا لم يخل من أحد أمرين إمّا أن يكون ردّة أو قذفاً فإن كان ردّة فالتوبة، الإسلام و هو أن يأتي بالشهادتين و أنّه بري ء من كلّ دين خالف الإسلام فإذا فعل هذا فقد صحّت توبته، و ثبتت عدالته، و قبلت شهادته، و لا يعتبر بعد التوبة مدّة يصلح فيها عمله.

و أمّا إن كانت المعصية قذفاً لم يخل من أحد أمرين إمّا أن يكون قذف سبّ أو قذف شهادة فإن كان الأوّل فالتوبة إكذابه نفسه إلى أن قال: فإذا ثبت صفة التوبة فهل تفتقر عدالته التي يقبل بها شهادته إلى صلاح العمل أو لا؟ قال قوم: مجرد التوبة يجزيه و قال قوم: لا بدّ من صلاح العمل و هو الأقوى لقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا) (النور/ 5).

و إن كان الثاني أي قذف الشهادة فهو أن يشهد بالزنا دون الأربعة فإنّهم

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 455، و سيوافيك أنّ تعليل المسالك يتمشى فيمن كان عادلًا و صار فاسقاً، لا في المشهور الفاسق الذي لم يزل فاسقاً الذي هو مورد كلام المحقق.

(2) كذا في النسخة المطبوعة و لعلّ الصحيح «انّه أصلح عمله».

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 308

فسقة فالتوبة هاهنا أن يقول قد ندمت على ما كان منّي و

لا أعود إلى ما أُتّهم فيه فإذا قال هذا زال فسقه و ثبتت عدالته و قبلت شهادته و لا يراعى صلاح العمل. و الفرق بين هذا و قذف السب هو أنّ قذف السبّ ثبت فسقه بالنص و هذا بالاجتهاد عندهم.

و يجوز للإمام عندنا أن يقول تب أقبل شهادتك و إنّما قلنا ذلك لأنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أمر بالتوبة. «1»

أقول: إنّ الإمعان في كلامه يعطي أنّه يقبل توبة الفاسق لغاية قبول الشهادة في مورد واحد و هو قذف الشهادة لا قذف السبّ فلا يصحّ أن يقال إنّ الشيخ يقول بأنّه يجوز للإمام أن يقول للعاصي تب أقبل شهادتك و إن كان عصيانه بالفعل دون القول و في القول، بقذف السب و غيره.

نعم ليس كلام الشيخ نقياً عن الإشكال خصوصاً أنّه فسر الآية الواردة في قذف الشهادة، بقذف السب، فإنّ الظاهر أنّ الآية ناظرة إلى قضية الإفك التي قذفت فيها زوجة النبي أو غيرها بعمل منكر و هي من مقولة قذف الشهادة لا قذف السبّ هذا كلّه راجع إلى تفسير كلام الشيخ.

و أمّا ابن سعيد فقال في جامعه: و لو قال القاضي لشخص تب أقبل شهادتك، فظهرت منه التوبة قبلها. «2» فالمتبادر من كلامه، من علم منه أنّه تاب واقعاً و ندم على ما مضى مع العزم على الترك فيما يأتي، لا مجرّد التوبة غير المعلوم كونه للّه أو لقبول شهادته.

و أمّا تحقيق المطلب في المسألة فنقول قد عرفت أنّ الكلام في المشهور بالفسق و من المعلوم أنّه بالتوبة لا يصير عادلًا لأنّ العدالة ملكة راسخة في النفس تحصل بالمراقبة التامة للوظائف بالإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات فكيف يكون مجرّد التوبة سبباً

لرجوع العدالة و ما نقلناه عن المسالك إنّما يناسب

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 179178.

(2) ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 541.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 309

العادل الذي صدرت منه المعصية نادراً فإذا تاب يزول المانع و تؤثر العدالة المخزونة في النفس لا في المشهور بالفسق.

نعم لو دلّ الدليل في مورد على أنّ مجرّد التوبة كاف في قبول شهادة الشاهد نأخذ به و لكن ليس هناك دليل عليه إلّا ما ورد في مورد القذف من الروايات التي جمعها الشيخ الحر في الباب 36 من أبواب الشهادات فإن تمّت دلالتها نأخذ بها و إلّا فالكتاب هو المحكّم فإنّ الظاهر منه عدم كفاية التوبة و لزوم مشاهدة الصلاح في أفعاله بعد التوبة قال سبحانه: (إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 5).

و يمكن الجمع بين مفاد الآية و الروايات الدالة على قبول توبته، بأنّها وردت لردّ الفكرة الخاطئة في عصر صدور الروايات حيث كان الناس يقولون: «توبة القاذف فيما بينه و بين اللّه و لا تقبل شهادته أبداً» «1» فلما سُئلوا عليهم السَّلام عن قبول توبته قالوا بقبول توبته ناويين ردّ هذه الفكرة و أمّا أنّه هل تكفي التوبة أو يشترط الصلاح في العمل حتى يتّصف بالعدالة فليست الروايات بصدد بيان أحد الأمرين.

هذا ما يرجع إلى نفس المسألة و أمّا ما هو حقيقة التوبة و ما شرائطها فإنّما يطلب لنفسه مجالًا خاصاً حتى نذكر فيه آراء الفقهاء و المتكلفين و علماء الأخلاق فلنقتصر بما أفاده شيخنا الشهيد في المسالك «2» قال: أمّا التوبة الواقعية (التوبة المنقذة من النار) فهي عبارة عن الندم على ما مضى و يترك

مثله في الحال و يعزم على أن لا يعود عليه، ثمّ إذا كانت المعصية لا يتعلّق بها حقّ اللّه تعالى و لا العباد فتكفي التوبة و لا شي ء عليه سوى ذلك، و إن تعلّق بها حقّ مالي كمنع الزكاة و الغصب و الجنايات في أموال الناس فتجب مع ذلك تبرئة الذمة منه، و هل إبراء

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 36 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

(2) زين الدين العاملي، المسالك: 2/ 455.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 310

الذمة محقّق للتوبة أو هو واجب آخر؟ فيه وجهان.

و إن تعلّق العصيان بما ليس أمراً مالياً كشرب الخمر فله أن لا يُظهره و يتوب، كما له أن يظهر، ليقام عليه الحدّ.

و إن كان حقاً للعباد كالقصاص فعليه أن يأتي المستحق و يمكّنه من الاستيفاء و أمّا القذف و الغيبة فإن بلغه الأمر فكذلك و إن لم يبلغه ففيه وجهان: من أنّه حقّ آدمي فلا يزول إلّا من جهته و من استلزامه زيادة الأذى، فعلى الأوّل يجب عليه الاستحلال و على الثاني يكفيه الاستغفار في حقّه.

و أمّا التوبة الظاهرة التي يترتّب عليها قبول الولايات و نفوذ الشهادات فإن كان العصيان قوليّاً كالقذف فقد وقفت على كيفية التوبة و أنّ الأثر لا يترتب إلّا بعد الإصلاح و ما دلّ من الروايات على قبول توبته ليست ناظرة إلى نفي ما ذكرنا و أمّا الفعلية فلا يكفي إظهار التوبة لأنّه لا يؤمن أن يكون له في الإظهار غرض فاسد، على أنّه لا ينسلك بمجرّد التوبة في عداد العدول.

فقد تلخص من هذا البحث الضافي أُمور:

1- إنّ العادل إذا فسق بالعصيان الواحد تكفي فيه التوبة و لا يتوقف على

مشاهدة العمل الصالح في حياته.

2- إذا كان الشاهد مشهوراً بالفسق فالشيخ الطوسي يقول في مورد واحد بكفاية التوبة و هو في قذف الشهادة.

3- الحقّ أنّ التوبة لا تكفي في القذف لتصريح الآية بلزوم الإصلاح بعد التوبة و الروايات الدالة على قبول توبته ليست بصدد نفي العمل الصالح بل بصدد نفي الفكر الخاطئ من أنّه لا تقبل توبته.

4- إنّ التوبة الواقعية المؤثرة في نجاح الإنسان في الآخرة يتوقف على الندم على ما مضى و العزم على الترك في ما يأتي و الخلوص من توابع الذنب على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 311

التفصيل السابق.

5- التوبة الظاهرية التي يراد منها عود الولايات و قبول الشهادات تتوقف على انسلاك العاصي في زمرة العدول و لا يكفي صرف التوبة ما لم تتحقق فيه ملكة العدالة.

المسألة السادسة: إذا تبيّن في الشهود ما يمنع القبول

إذا تبيّن للحاكم في الشهود ما يمنع القبول فله صور:

1- إذا تبيّن للقاضي في مورد الشاهد أنّه صار فاسقاً بعد صدور الحكم.

2- إذا تبيّن أنّه صار فاسقاً بعد إقامة الشهادة و قبل صدور الحكم.

3- إذا تبيّن انّه كان فاسقاً قبل إقامة الشهادة و استمرّت حاله إلى زمان الإقامة.

4- إذا عثر القاضي بعد صدور الحكم بالجارح أو أقام المنكر البيّنةَ على فسق الشاهد حين إقامة الشهادة.

5- إذا تبيّن للقاضي أنّ الشاهد شهد زوراً و ظلماً.

هذه هي الصور المتصوّرة و الفرق بين الأربعة الأُوَل و الصورة الخامسة هو تبيّن كذب الشاهد في الأخيرة دون الصور الأُولى، لأنّ تبيّن الفسق في زمن الإقامة لا يلازم كونه كاذباً إذ ليس كلّ فاسق كاذباً في قوله، و إن كان كل كاذب فاسقاً و عليك بيان أحكام الصور واحدة تلو الأُخرى:

أمّا الصورتان الأُوليتان فلا موجب

للنقض لأنّ الشهادة كانت جامعة للشرائط حين الإقامة و إن فقد الشاهدُ الشرطَ إمّا بعد الإقامة كما في الصورة الثانية أو بعد القضاء كما في الصورة الأُولى و الملاك في جواز الشهادة و نفوذها كونها جامعة للشرائط حين الأداء و لأجل ذلك لو ماتَ الشاهدُ بعد الإقامة أو

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 312

جُنَّ فلا يوجب بطلانها و لأجل ذلك اتّفقت كلمتهم على صحّة القضاء فيهما.

و أمّا الصورة الثالثة فالحقّ فيه نقض الحكم لأنّه تبيّن أنّ القضاء لم يكن واجداً للشرط الشرعي و إن شئت قلتَ: انّه قد تبيّن للقاضي أنّ الحكم كان فاقداً لشرطه و معه كيف يمكن أن يكون نافذاً غير قابل للنقض؟!

فإن قلت: ما الفرق بين باب الشهادة و صلاة الجماعة، فلو تبيّن فسق الإمام بعد إقامة الصلاة لا تجب الإعادة مع أنّه كان فاقداً للشرط حينَ الإقامة فلو كانت العدالة شرطاً واقعياً لزمت الإعادة و النقض فيهما و لو كان شرطاً علمياً يلزم عدمهما أيضاً كذلك؟

قلت: إنّ لسان الدليل في باب الجماعة يعرب عن كون الشرط علمياً لا واقعياً حيث قال: «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه» «1» الظاهر في أنّ الموضوع هو الوثوق سواء أوافق الواقع أم لا بخلاف باب الشهادة فإنّ المتبادر من قوله سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) هو كونه عادلًا في الواقع و بذلك يتبين أنّ العلم في صلاة الجماعة أُخِذَ موضوعياً بخلاف باب الشهادة فقد أُخذ فيه طريقياً محضاً.

و أمّا الصورة الرابعة: أعني إذا قامت البيّنة على فسق الشاهد حين الشهادة فهل ينقض الحكم أو لا؟ الظاهر لا لأنّ البيّنة المزبورة لا تقتضي العلم بفساد ميزان

الحكم خصوصاً مع معارضتها ببيّنة أُخرى حال القضاء دالّة على عدالة الشاهد.

فإن قلت: إذا تعارض الجارح مع المعدِّل، يقدم الجارح.

قلت: الضابطة مختصّة بما تعارضا قبل صدور الحكم لا بعد صدوره على وجه صحيح فلا ينقض إلّا بالعلم بفقدان الشرط و ذلك لأنّ القضاء مبني على

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 5، الباب 10 من أبواب الجماعة، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 313

الدوام و التأبيد فلا يُنقض إلّا بعد العلم بالفساد و فقد القضاء الشرط اللازم لا ما إذا قامت البيّنة على فقدان الشرط فأدلّة حرمة نقض الحكم محكَّمة ما لم يعلم الفساد خصوصاً إذا قامت البيّنة الجارحة لدى القاضي الآخر، مع إمكان حمل القضاء الأوّل على الصحّة.

و أمّا الصورة الخامسة: فحكمها واضح لا يحتاج إلى البيان و إنّما ذكرت لأجل إيضاح الفرق بينها و بين الصور المتقدّمة.

تمّ الكلام في الشرط السادس من شروط الشهادة العامة، بقي الكلام في الشرط الأخير و هو ما يلي:

الشرط السابع: طهارة المولد
اشارة

يشترط في الشاهد طيب المولِد و طهارته فلا تقبل شهادة ولد الزنا و لننقل كلمات الفقهاء:

1- قال السيّد المرتضى في الانتصار: و ممّا انفردت به الإمامية القول بأنّ شهادة ولد الزنا لا تقبل و إن كان على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 314

ظاهر العدالة. ثمّ احتجّ بإجماع الطائفة عليه. «1»

2- و قال الشيخ في النهاية: و لا تجوز شهادة ولد الزنا فإن عرفت منه عدالة قُبِلتْ شهادتُه في الشي ء الدون. «2»

3- و قال الشيخ في الخلاف: شهادة ولد الزنا لا تقبل و إن كان عدلًا. «3»

4- و قال ابن البرّاج: و لا يجوز قبول شهادة مبطل على محق و إن

كان على ظاهر الإسلام و كذلك شهادة ولد الزنا. «4»

5- قال ابن حمزة: و لا تقدح في قبول الشهادة، الولادةُ من الزنا إذا كان المشهود به شيئاً قليلًا حقيراً. «5»

6- و قال ابن زهرة: و لا تقبل شهادة ولد الزنا بدليل هذا الإجماع. «6»

7- و قال ابن إدريس: و لا تجوز شهادة ولد الزنا لأنّه عند أصحابنا كافر بإجماعهم عليه قال شيخنا أبو جعفر في نهايته: فإن عرفت منه عدالة قبلت شهادتُه في الشي ء الدون. و هذا غير مستقيم لأنّه إن كان عدلًا فتقبل شهادته في الدون و غير الدون و إن كان عنده كافراً فلا تقبل شهادته في الدون و لا غير الدون، و إنّما هذا خبر واحد، أورده إيراداً، لا اعتقاداً. «7»

8- و قال المحقّق: لا تقبل شهادة ولد الزنا أصلًا و قيل تقبل في اليسير مع تمسّكه بالصلاح و به رواية نادرة و لو جُهلت حاله، قبلت شهادته و إن نالته بعض الألسن. «8»

9- و قال يحيى بن سعيد: و لا شهادة ولد الزنا و روي ان عرفت منه عدالة قُبلت في الشي ء الدون. «9»

10- و قال العلامة: الخامس طهارة المولد فتردّ شهادة ولد الزنا و إن قَلَّتْ. «10»

11- قال الخرقي في المختصر: و شهادة ولد الزنا جائزة في الزنا و غيره.

12- و قال ابن قدامة في شرحه: «هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و

______________________________

(1) المرتضى، الانتصار: 247.

(2) الطوسي: النهاية: 326.

(3) الطوسي: الخلاف: ج 3، كتاب الشهادات، المسألة 57، تركنا نقل الباقي من كلام الشيخ لأنّ النسخ لعامتها سقيمة و اكتفينا في نقل آراء أهل السنة بما سيوافيك من المغني لابن قدامة.

(4) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 557.

(5) ابن حمزة: الوسيلة:

230.

(6) ابن زهرة: الغنية: 440.

(7) ابن إدريس: السرائر: 2/ 122.

(8) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 132.

(9) ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 539.

(10) ابن المطهر: إرشاد الأذهان: 2/ 157.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 315

الحسن و الشعبي و الزهري و الشافعي و أبو عبيد، و أبو حنيفة، و أصحابه و قال مالك و الليث: لا تجوز شهادته في الزنا وحده لأنّه منهم، فإنّ العادة فيمن فعل قبيحاً أنّه يُحِبُّ أن يكون له نظراء، و حُكي عن عثمان انّه قال: ودّت الزانية أنّ النساء كلّهن زنين.

ثمّ احتج على القبول بإطلاق دليل قبول العادل و أضاف:

أوّلًا: أنّ ولد الزنا لم يفعل قبيحاً.

ثانياً: أنّ الزاني لو تاب لقبلتْ شهادته و هو الذي فعل القبيح فإذا قبلت شهادته فغيره أولى. «1»

و قال سبحانه: (وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ)* (الأنعام/ 164).

و لنذكر قبل سرد الروايات أمرين:

الأوّل: إنّ مقتضى الكتاب و السنّة هو قبول شهادته، لانسلاكه في عداد المسلم المؤمن العادل، و لا يعدل عنهما إلّا بدليل قاطع كما هو سيرتنا في تخصيص الكتاب و السنة القطعية.

الثاني: إنّ الحكم بعدم القبول لا يُنشأ من الحكم عليه بالكفر كما عليه ابن إدريس في سرائره، إذ لا دليل على كفره و إطلاق ما وصف الإسلام و الإيمان و العدالة يعمّ طيب المولد و خلافه، و عدم قبول إسلامه يباين قوله سبحانه: (وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ)* بل المنشأ هو الروايات المتضافرة و إن كانت بعضها قاصرة السند لكن فيها صحيحة و موثقة، و يشدّ بعضها بعضاً، على أنّ اتّفاق العامة على الجواز إلّا مالك في مورد يؤيد صدور هذه الروايات و أنّها ناظرة إلى ردّهم و إليك

ما ورد عنهم عليهم السَّلام:

______________________________

(1) ابن قدامة: المغني: 10/ 263.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 316

1 صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: سألته عن شهادة ولد الزنا فقال: لا و لا عبد «1» و فيه دلالة على عدم قبول شهادة العبد أيضاً و إن كان المعروف عندنا قبول شهادته، فالرواية صحيحة سنداً و لو لا هذا الذيل، كانت نقية مضموناً.

2- صحيح محمّد بن مسلم قال: قال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «لا تجوز شهادة ولد الزنا». 2 و وصفه صاحب الجواهر بالخبر، مع أنّه صحيح و لعلّه لأجل وجود محمّد ابن عيسى بن عبيد اليقطيني في السند و هو عندنا ثقة صرح به النجاشي و إن استثناه ابن الوليد عن رجال نوادر الحكمة.

3- معتبر أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عن ولد الزنا أ تجوز شهادته؟ فقال: «لا»، فقلت: إنّ الحكم بن عُتَيْبَة يزعم أنّها تجوز؟ فقال: اللّهمّ لا تغفر ذنبه ما قال اللّه للحكم (وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ) 3. 4 و وصفه في الجواهر بالخبر، و الأردبيلي بالرواية، و ما هو إلّا لورود سهل بن زياد في سنده، و الأمر في سهل، سهل و أمّا أبان فهو أبان بن عثمان الذي يعدّ من أصحاب الإجماع و قد أوضحنا معنى الكلمة المعروفة في حقّه أنّه «ناووسي» في كتابنا: كليات في علم الرجال.

4- موثقة عبيد بن زرارة عن أبيه قال: سمعت أبا جعفر عليه السَّلام يقول: «لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل و فيهم ولد زنا لحددتهم جميعاً لأنّه لا تجوز شهادته و لا يؤمّ الناس». 5 و في السند إبراهيم بن محمّد بن

الأشعري القمي الذي وثقه النجاشي و ابن فضال الفطحي الثقة، و عبيد بن زرارة الذي وصفه النجاشي بأنّه ثقة ثقة.

5- و مرسلة العياشي عن عبيد اللّه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز له شهادته و لا يؤم الناس». 6 و هي مشعرة بالكراهة.

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 31، أبواب الشهادات، الحديث 6 و 3.

(2) 3 الزخرف: 44

(3) 4- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 31 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 4، 9، 8.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 317

6 خبر علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال: سألته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال: «لا يجوز شهادته و لا يؤم». «1»

و لعلّ هذا المقدار من الروايات التي فيها الصحيح و الموثق كاف في تخصيص الكتاب و السنة.

بقي الكلام في ما استثناه الشيخ و ابن حمزة من قبول شهادته في الشي ء الدون و قد وردت به رواية. و هي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه سئل عن شهادة ولد الزنا فقال: «لا تجوز إلّا في الشي ء اليسير إذا رأيت منه صلاحاً». «2» رواه عيسى بن عبد اللّه ابن سعد بن مالك القمي الذي روى الكشي في حقّه أنّ الصادق عليه السَّلام قال: «هو منّا أهل البيت عليهم السَّلام». «3»

و قد أفتى بمضمونه الشيخ في النهاية و ابن حمزة في الوسيلة كما عرفت و وصفه المحقّق بالندرة و المراد كونه متروكاً غير معمول به و إلّا فالسند صحيح و الرواية مروية عن الحسين بن سعيد الأهوازي الثقة عن فضالة بن أيوب الأزدي الثقة، عن أبان بن عثمان و هو

من أصحاب الإجماع عن عيسى بن عبد اللّه القمي. و حمله في الوسائل على التقية.

و قال الأردبيلي: في الطريق ضعف «4» و أجاب العلامة في المختلف عن الاستدلال بالرواية بأنّ قبول شهادته في اليسير يعطي المنع من قبول الكثير من حيث المفهوم و لا يسير إلّا و هو كثير بالنسبة إلى ما دونه فإذن لا تقبل شهادته إلّا في أقلّ الأشياء الذي ليس بكثير بالنسبة إلى ما دونه إذ لا دون له، و مثله

______________________________

(1) قرب الاسناد/ 122، و ما في الوسائل «تجوز شهادته» محمول على سقط حرف النفي من نسخته و قد صرّح بأنّ المثبت فمن مسائل علي بن جعفر هو لا تجوز.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 31 من أبواب الشهادات، الحديث 5.

(3) الكشي: معرفة الرجال: 281.

(4) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 381 و لم يعلم وجه الضعف و لعلّه خفي عليه المراد من عيسى بن عبد اللّه و لكنّك عرفته شخصه بقرينة نقل أبان عنه.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 318

لا يتملك. «1»

يلاحظ على الأخير بأنّ المراد هو الشي ء اليسير العرفي و من المعلوم أنّه في العرف مضبوط و إن كان يختلف حسب الأجواء و البيئات.

و هل الممنوع هو الشهادة و الإمامة أو يعم المنعُ غيرهما كاستماع الطلاق و النكاح و لعلّ الثاني هو الأجود لأنّ الغاية من الاستماع هو الشهادة فلو كانت شهادته غير جائزة تكون قرينة على انصراف الدليل عن مثله فلا يكفي حضور ولد الزنا في مجلس العقد و الطلاق و إن لم يشهد بعدُ.

حكم من نالته بعض الألسن بكونه ولد زنا

قال المحقق: و لو جُهِلت حاله قُبلت شهادته و إن نالته بعض الألسن.

و قد علل القبول بإطلاق الأدلة و عمومها و

المراد إطلاق أدلة حجّية قول العادل و عمومها.

يلاحظ عليه: بأنّه من قبيل التمسك بالإطلاق و العام في الشبهة المصداقية لأنّ الفرد المبهم دائر بين كونه داخلًا تحت العام أعني قوله سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) أو خارجاً عن تحته و واقعاً تحت المقيّد و المخصص و في مثله لا يُتمَسّك بواحد منهما بل يكون المرجع هو الأصل العملي.

نعم يمكن التمسك بقاعدة الفراش إذا ولد مِنْ أُمّ لها فراش و إن اشتهر في الألسن أنّه وليد غير زوجها فما لم يثبت الثاني فهو محكوم بكونه وليد الفراش.

و يظهر من صاحب الجواهر قبول شهادته و إن لم تكن هناك قاعدة الفراش قال: بل و لو لم يكن فراش على الأصح في نحوه مما جاء النهي فيه على طريق

______________________________

(1) ابن المطهر: المختلف الشيعة، كتاب الشهادات: 166.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 319

المانعية الظاهرة في اختصاص المعلوم دون المشكوك فيه الداخل في العمومات. «1»

يلاحظ عليه: أنّ ظاهر كلامه هو اختصاص المخصص بالمعلوم دون المشكوك و الحقّ انّ الخارج هو ولد الزنا بوجوده الواقعي سواء كان معلوماً أو مجهولًا أو مشكوكاً، فلا يصحّ التمسك بالعمومات لكونه شبهة مصداقية للعام حسب الإرادة الجدّية.

ثمّ إنّه يظهر منه تصحيح شهادته عن طريق آخر و هو تنقيح موضوع العام المخصص بأصل شرعي و إحرازه به فيحكم بطهارة مولد كلّ من لم يعلم أنّه ابن زنا.

و لعلّ مراده هو التمسك باستصحاب العدم الأزلي في مورد الفرد المبهم حيث لم يكن ولد زنا قبل الولادة فنشك في انقلابه إلى خلافه بعد الولادة فيستصحب فيحكم عليه بكونه باقياً على العنوان العدمي إلى حين الولادة فيبقى تحت العام.

يلاحظ عليه:

بتغاير القضيتين فإنّ المتيقن عدم كونه ولد زنا في حال عدم الموضوع و المشكوك كونه كذلك بعد الولادة و إن شئت قلت المتيقن هو السالبة بانتفاء الموضوع و المشكوك هو السالبة بانتفاء المحمول و إسراء حكم أحدهما إلى الآخر أشبه بالقياس و أنسب بالأصل المثبت.

تمّ الكلام في شرائط الشاهد و لندخل في بيان مستند الشهادة.

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 121 و في العبارة حزارة و الأولى أن يقول: الظاهرة في اختصاصها بالمعلوم دون المشكوك فيه فيدخل المشكوك في العمومات.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 320

المقصد الثاني في مستند الشهادة

اشارة

و قد عبّرنا عنه في صدر الكتاب بقولنا: «بما ذا يصير الشاهد شاهداً».

اتّفقت كلّمتهم على أنّه يشترط في الشهادة أن تكون مستندة إلى العلم إلّا ما خرج ممّا تكفي فيه الاستفاضة و الشياع و إن لم تكن مفيدة للعلم كما سيوافيك الكلام في الاستثناء و إليك كلمات الأصحاب:

1- قال المفيد: و إذا نسي الشاهدُ الشهادةَ، أو شكّ فيها لم يجُز

له إقامتها، و إن أُحضِرَ كتاب فيه خطّ يعتَقد أنّه خطّه، و لم يَذكر الشهادة، لم يشهد بذلك، إلّا أن يكون معه رجل عدل يُقيم الشهادة فلا بأس أن يشهد معه. «1»

2- و قال الشيخ: لا يجوز للشاهد أن يشهد حتى يكون عالماً بما يشهد به حين التحمل و حين الأداء لقوله تعالى: (وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الاسراء/ 36) و قال تعالى: (إِلّٰا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف/ 86).

و روى ابن عباس قال: سُئل رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن الشهادة فقال: هل ترى الشمس؟ قال: نعم قال: على مثلها فاشهد أودع. «2»

3- و قال أيضاً:

و إذا أراد إقامة شهادة، لم يجز له أن يقيم، إلّا على ما يعلم، و لا يعوِّل على ما يجد خطّه، به مكتوباً. فإن وُجد مكتوباً و لم يذكر الشهادة لم يَجز

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 728.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 180 و لاحظ ص 330.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 321

له إقامتها فإن لم يذكر، شهد معه آخر ثقة، جاز له حينئذ إقامة الشهادة. «1»

4- و قال أبو الصلاح الحلبي: و لا يحلّ أن يتحمّل شهادة لا يعلم مقتضاها من أحد طُرقِ العلم و إن رأى خطّه. «2»

5- و قال ابن البرّاج: إذا أراد إقامة شهادة لم يجز له إقامتها إلّا على ما يعلم و لا يعتمد على خطّه إن لم يكن ذاكراً للشهادة فإن لم يذكره و شهد معه آخر، جاز أن يقيمها و الأحوط الأوّل. «3»

6- و قال ابن حمزة: لا تجوز إقامة الشهادة لأحد إلّا أن يتحمّلها و هو عالم بها و العلم يحصل في ذلك بأحد ثلاثة أشياء: بالشهادة وحدها، و بالسماع و المشاهدة معاً، و بالسماع و الاستفاضة. «4»

7- و قال ابن إدريس: و إذا أراد إقامة شهادة لم يجز له أن يُقيم إلّا على ما يعلمه و يُتقنه و يقطع عليه و لا يعوِّل على ما يجد خطّه به مكتوباً، أو خاتمه به مختوماً لما قدّمناه من قوله تعالى: (وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء/ 36) و قول الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لما سئل عن الشهادة فقال للسائل: فهل ترى الشمس، على مثلها فاشهد أو دع. «5» و ما روي عن الأئمّة الأطهار عليهم السَّلام في مثل هذا

المعنى أكثر من أن تحصى قد أورد بعضه شيخنا أبو جعفر في استبصاره ثمّ نقل عن الشيخ الاعتمادَ على خطّ الشاهد و الخاتم إذا شهد معه ثقة، ثمّ ردّ عليه بأنّه خبر واحد و قد عدل عنه الشيخ في استبصاره. «6»

8- و قال المحقّق: و الضابط العلم ثمّ استدل بآية سورة الإسراء و حديث الرسول. «7»

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 330.

(2) الحلبي: الكافي: 136.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 561.

(4) ابن حمزة: الوسيلة: 232.

(5) الوسائل: الباب 20 من أبواب الشهادات، الحديث 3، مرسلة المحقق.

(6) ابن إدريس: السرائر: 2/ 131.

(7) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 132.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 322

9- و قال العلّامة: مستند الشهادة هو العلم إلّا ما استثنى. «1»

10 قال الشهيد الثاني: الأصل في الشهادة البناء على العلم و اليقين ثمّ استدل بالآية و الحديث النبوي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. «2»

11- و قال المحقّق الأردبيلي: مستند الشهادة و ما يصير به الشاهد شاهداً هو العلم اليقيني إلّا ما استثنى من الشهادة و الاستفاضة في الأُمور الخاصة. «3»

إلى غير ذلك من الكلمات و يدل عليه مضافاً إلى ما عرفت في كلماتهم من الآية و الرواية النبوية صلَّى الله عليه و آله و سلَّم روايات:

1- موثقة السكوني قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «لا تشهد بشهادة لا تذكرها فإنّه من شاء كتب كتاباً و نقش خاتماً». «4»

2- خبر عليّ بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «لا تشهدنّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك». 5

3- صحيح الحسين بن سعيد قال: كتب إليه جعفر بن عيسى: جعلت فداك جاءني جيران لنا بكتاب زعموا أنّهم

أشهدوني على ما فيه، و في الكتاب اسمي بخطي قد عرفته، و لست أذكر الشهادة و قد دعوني إليها، فأشهد لهم على معرفتي أنّ اسمي في الكتاب و لست أذكر الشهادة؟ أو لا تجب الشهادة عليّ حتى أذكرها، كان اسمي في الكتاب أو لم يكن؟ فكتب: «لا تشهد». 6

4- مرسلة الصدوق: قال: قال الصادق عليه السَّلام: «العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً». 7

______________________________

(1) ابن المطهر: إرشاد الأذهان: 2/ 161.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 456.

(3) المحقّق الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 451.

(4) 4- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب الشهادات، الحديث 4، 3، 2، و جعفر بن عيسى في السند ممدوح.

(5) 7 الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب الشهادات، الحديث 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 323

نعم يُعارض ما ذكر صحيح عمر بن يزيد الثقة المعروف ببيّاع السابري قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: الرجل يُشْهِدني على شهادة فاعرف خطي و خاتمي و لا أذكر من الباقي قليلًا و لا كثيراً قال: فقال لي: «إذا كان صاحبك ثقة و معه رجل ثقة فاشهد له». «1» و في سند الحديث الحسن بن علي بن النعمان و قد وثقه النجاشي فلا غبار على السند و قد أفتى بمضمونه المفيد في المقنعة، و الشيخ في النهاية، و جعل ابن البرّاج الأحوط في خلافه و ردّه ابن إدريس بحماس و ربّما حُمل على حصول العلم من رؤية خطّه و شهادة أخيه و ردّ عليه ابن إدريس بقوله: «و أيّ علم يحصل له إذا شهد معه آخر ثقة و لم يذكر هو الشهادة فهذا يكون شاهداً على شهادة و هو حاضر و

لا تجوز الشهادة على الشهادة إلّا إذا تعذّر على شاهد الأصل، الحضورُ و هاهنا شاهد الأصل حاضر و أيضاً فلا بدّ أن يكون اثنين حتى يقوما مقامه و هاهنا شاهد الفرع واحد». «2»

و على كلّ تقدير فالرواية مخالفة لمقتضى القواعد و لا يمكن رفع اليد عنها بهذا الخبر.

1 الشهادة استناداً إلى الاستصحاب

قد عرفت اتّفاقهم على اشتراط العلم في الشهادة فهل المراد من العلم في المقام، هو العلم المنطقي أي الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، أو العلم العرفي و هو الاطمئنان الذي بمنزلة العلم عندهم أو المراد هو الحجّة الأعم من العقلية و الشرعية و يعمّ الأُصول العملية وجوه، و الكلام مركّز فعلًا على الاعتماد على الأدلّة الشرعية كالبيّنة و الاستصحاب و اليد و أصل البراءة أمّا البيّنة فسيأتي الكلام فيها و أنّها تكون من قبيل الشهادة على الشهادة، إنّما الكلام في الشهادة اعتماداً و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) ابن إدريس: السرائر: 2/ 132.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 324

استناداً إلى الاستصحاب فربّما يقال بجواز الشهادة به و ذلك بوجهين:

1- الدليل العام الدال على حجّية الاستصحاب بناءً على إطلاقه الشامل لحال الشهادة.

يلاحظ عليه: أنّه ناظر لبيان تكليف نفس الإنسان المتيقّن سابقاً، حيث يجوز له الاعتماد عليه في طهارته و صلاته و صومه و أمّا جواز الاستناد إليه في مقام الشهادة على الغير فلا إطلاق فيه.

2- ما روي صحيحاً عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السَّلام: الرجل يكون في داره، ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدَع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدثَ في داره و لا ندري ما أحدث

له من الولد إلّا أنّا لا نعلم انّه أحدث في داره شيئاً و لا حدَث له ولد، و لا تُقسَّم هذه الدار على ورثته الذين تَرك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات و تركها ميراثاً بين فلان و فلان، أ وَ نشهدُ على هذا؟ قال: نعم.

قلت: الرجل يكون له العبد و الأمة فيقول: أبَقَ غلامي أو أَبَقَتْ أمتي، فيُؤخذ بالبلد فيكلفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه و لم يهبه أ فنشهد على هذا إذا كَلفناه و نحن لم نعلم انّه أحدث شيئاً؟ فقال: «كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته، أو غاب عنك لم تشهد به». «1»

و يمكن الإجابة عنه مضافاً إلى التعارض الصريح بين الصدر و الذيل حيث إنّه جوّز الشهادة في مسألة الدار و حصر الوارث في الموجود فيها و لكنّه لم يجوّز في مورد العبد و الأمة إذا ادعيا الحرّية حيث قال: «لم تشهد به» أنّ المقصود هي الشهادة على حدّ علمه و هو أنّه كان مالكاً للدار قبل ثلاثين سنة و له من الأولاد ما علم حين ذاك و ليس له الشهادة زائداً على ما علم و هو أنّ الرجل كان

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 17 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 325

مالكاً إلى موته و ليس له من الأولاد إلّا هذا.

و يشهد لهذا الحمل روايته الأُخرى قال: قلت له: إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان و تركها ميراثاً و انّه ليس وارث غير الذي شهدنا له، فقال: «اشهد بما هو علمك» قلت:

إنّ ابن أبي ليلى يُحلفنا الغموس، فقال: «احلف إنّما هو على علمك». «1»

و على ضوء ما ذكرنا يمكن دفع التعارض بين الصدر و الذيل بحمل النهي في الشق الثاني، على الشهادة ببقاء المشهود به على ما كان، و من المعلوم عدم العلم ببقاء الوضع السابق إلى الآن و حمل الشق الأوّل على مقدار علمه و ما ذكرنا من التفريق و إن كان تصرفاً في الرواية لكنّه بالنظر إلى روايته الأُخرى قريب.

و أمّا أثر هذه الشهادة، فيظهر فيما إذا لم تكن الدار، بيد الأولاد، فالشهادة على كون الأب مالكاً سابقاً، و هؤلاء أولاده في ذلك الظرف يجعلهم صاحب اليد، فمن ادعى خلافه، يكون مدّعياً تجب عليه إقامة البيّنة، نعم لا يجوز للشاهد أن يستصحب فيشهد، لأنّه شهادة على غير علم، نعم له العمل به في حياته الشخصية في مورد المشهود به، كما أنّه ليس للقاضي الاستصحاب لأنّ أدلّة القضاء منحصرة في البيّنة و اليمين و الإقرار، نعم له أن يتخذه حجّة حتى يثبت خلافه، لا أن يقضى على وفقه لأنّ من بيده الدار، له حجّة شرعية على مالكيته، و لا يحتاج إلى الحكم بأنّه له و إنّما يكون أثر العلم السابق أنّ للقاضي أن يطلب من مدّعي الخلاف البيّنة فإذا لم يأت به انتهى النزاع بعدم إثباته.

2- الشهادة استناداً إلى اليد
اشارة

مقتضى القواعد، عدم جواز الشهادة استناداً إلى اليد و إن كان يجوز

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 17، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 326

العمل بها فيما يرجع إلى الحياة الشخصية، كما يجوز له الإخبار بذلك عند السؤال، إذا لم يكن هناك ترافع و نزاع إنّما الكلام في الشهادة في المحكمة عند الترافع

و التنازع اعتماداً على اليد، فالظاهر عدم الجواز لعدم العلم المعتبر في موضوع الشهادة، لكن المتبادر من معتبرة حفص بن غياث، جوازها اعتماداً عليها. ففيها عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال قال له رجل: إذا رأيتُ شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: «نعم» قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «أ فيحلّ الشراء منه؟» قال: نعم، فقال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك هو لي و تحلف عليه و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه مِنْ قِبَلِه إليك» ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السَّلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». «1»

أقول: إنّ هنا أُموراً ثلاثة:

1- جواز العمل بمقتضى اليد في الحياة الشخصية.

2- جواز الإخبار بأنّه له.

3- جواز الشهادة عند النزاع و الترافع استناداً إلى اليد.

و الظاهر أنّ المراد من «الشهادة بأنّه له»؟ هو الإخبار بأنّه له، لا الاستناد إليه في مقام الشهادة و الدليل عليه أمران:

أ: لو كان التسلط مسوِّغاً للشهادة يلزم عدم انفكاك ذي اليد عن البيّنة في مورد من الموارد لأنّ الاستيلاء يسمح لكل عادل أن يشهد أنّه له، مع أنّهم يقسمون ذا اليد إلى ذي بيّنة و عدمها.

ب: إنّ قوله: «و إلّا لما قامَ للمسلمين سوق» دليل على جواز الاستناد إلى

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 327

اليد في الحياة الشخصية، و مقام الإخبار لا غير.

و الحاصل أنّ

الأدلة الدالة على عدم جواز الشهادة إلّا بالعلم قويّ لا يمكن تخصيصه بهذه الأُمور.

بقي الكلام في مورد واحد ربّما يعدّ نقضاً للقاعدة و هو جواز الشهادة على إقرار المرأة إذا حضر من يعرفها و إن لم يعرفها الشاهد، ففي خبر علي بن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه السَّلام قال: لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة و ليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها. (و لا يجوز عندهم أن يشهد الشهود على إقرارها دون أن تسفر فينظر إليها)، فأمّا إذا كانت لا تعرف بعينها و لا يحضر من يعرفها، فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها و على إقرارها دون أن تسفر و ينظرون إليها. و ما بين القوسين رواه الصدوق في الفقيه، كما أنّ ما بعدهما رواه الكليني في الكافي. «1»

و ربّما يستظهر من مكاتبة الصفار إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليهما السَّلام التعارض و هي: في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من وراء الستر و يسمع كلامها إذا شهد عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها، أو لا تجوز الشهادة حتى تبرزنَّ و تثبتها بعينها؟ فوقع عليه السَّلام: «تتنقب و تظهر للشهود إن شاء اللّه» و قال الصدوق: و هذا التوقيع عندي بخطه عليه السَّلام «2».

و في الجواهر أنّ قوله: «تتنقب و تظهر للشهود» محمول على التقيّة لما ورد في

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 40، الكافي: 7/ 400، و العجب أنّ صاحب الوسائل، صرح في فهرس الوسائل: ج 18، الباب 43 من أبواب الشهادات بأنّ في هذا الباب ثلاثة أحاديث مع أنّه في المطبوع الذي بأيدينا ليس فيه إلّا

حديث واحد و هذا دليل على أنّ النسخة غير صحيحة، و قد رأيت فيما بعد الحديث في نسخة الوسائل تحقيق مؤسسة آل البيت، ج 27، ص 401، الباب 43 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(2) الفقيه: 3/ 40، برقم 132. و قد سقط من الوسائل المطبوعة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 328

الرواية الأُولى: «من أنّه لا يجوز عندهم أن يشهد الشهود على إقرارها دون أن تسفر إليها».

و لا وجه للحمل على التقية، إذ من الجائز أن يكون لتحمّل الشهادة طرق ثلاثة:

1- أن يعرفها الشاهد. 2 أن يحضر في مجلس الشهادة من يعرفها. 3 أن تبرز بالنقاب الذي يستر شيئاً من الوجه، و يبدي شيئاً و ليست المكاتبة صريحة في ردّ الأوليين. و على كلّ تقدير، فالرواية الأُولى محمولة على ما إذا حصل العلم و أمّا تخصيص الأدلة فهو بعيد لإباء لسان عمومات اشتراط العلم.

مستند الشهادة إمّا مشاهدة أو سماع أو كلاهما

إذا كانت صحّة الشهادة مشروطة بعلم الشاهد، فإنّ أدوات العلم إمّا الشهود بالعين، أو السماع أو بهما.

فلا يشهد على الأفعال إلّا بالمشاهدة، و لأنّ آلة السمع لا تدركها كالغصب و السرقة و القتل و الرضاع و الولادة و الزنا و اللواط فلا يصير شاهداً بشي ء إلّا مع المشاهدة من غير فرق بين كونه سامعاً أو أصم، لأنّ السمع ليس دخيلًا فيها و يكفي في حقّه الإطلاق.

و ما يخالفه أعني ما رواه إسماعيل بن مهران الثقة، عن درست، عن جميل قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن شهادة الأصم في القتل؟ فقال: «يؤخذ بأوّل قوله و لا يؤخذ بالثاني» «1»، فهو مخدوش من جهات:

1- عدم صحّة السند، فانّ درست بن منصور لم يوثق.

2- احتمال كون الأصم مصحف

«الصبي» حيث ورد فيه هذا المضمون

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 43 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 329

فيه.

قال في الوافي: و العلّة فيه غير ظاهرة و يحتمل أن يكون قد بُدِّل الصبي بالأصم فإنّ الصبي هو الذي يختلف في قوله و لا دخل للسمع في شهود القتل و صدوره من المشهود عليه و إنّما المدار على البصر. «1»

3- على أنّ الثاني لو كان منافياً للأوّل كان رجوعاً عن الشهادة فلا يقبل و إن لم يكن منافياً، لا يكون ثانياً. «2»

و الظاهر قبول شهادته فيما يعتبر فيه المشاهدة فقط. و قال سيّدنا الأُستاذ: يجوز للأعمى و الأصم تحمّل الشهادة و أداؤها إذا عرفا الواقعة و تقبل منهما فلو شاهد الأصمّ الأفعال جازت شهادته فيها و لو سمع الأعمى و عرف صاحب الصوت علماً جازت. و كذا يصحّ للأخرس تحمل الشهادة و أداؤها فإن عرف الحاكم إشارته يحكم و إن جهلها اعتمد فيها على مترجمين عدلين و تكون شهادته أصلًا. و يحكم بشهادته «3».

و سوف نرجع إلى البحث عن الأعمى و الأخرس حسب ترتيب الشرائع و إن كان الأولى البحث عن الجميع في المقام و لكن المحقّق أخّر البحث عنهما.

كفاية العلم المستند إلى الحس

قد عرفت لزوم استناد الشهادة إلى العلم و أنّه لا تكفي فيها الظنون و لا الحجج الشرعية و مع ذلك يقع الكلام في موضعين:

1- هل يكفي مطلق العلم و إن كان مستنداً إلى غير الحس كالأسباب غير

______________________________

(1) الفيض: الوافي: أبواب قضاء الشهادات/ 146، الطبعة الحجرية.

(2) النجفي، الجواهر: 41/ 128.

(3) الإمام الخميني: التحرير، كتاب الشهادات، المسألة 4، ص 446.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2،

ص: 330

العادية من الجفر و الرمل و غيرهما أو يشترط أن يكون مستنداً إلى الأسباب العادية كالحواس الظاهرية. لا شكّ في اعتبار الثاني و انصراف الأدلّة عن الأوّل و إن كان القطع الحاصل منهما حجّة للقاطع في حياته الشخصية و هذا كاشتراط كون الفتوى مستنبطة من الكتاب و السنّة و العقل و لا اعتبار بالمستنبطة من غيرها.

2- هل يكفي مطلق العلم الحاصل من الأُمور العادية و الحواس الظاهرية من دون التزام أن يكون العلم المتعلِّق بالمبصرات، حاصلًا من الإبصار و المشاهدة، بل يكفي و إن حصله من السماع، و بالعكس أولا، مثلًا لو حصل العلم بالقتل الذي هو من المبصرات من الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة فهل للشاهد أن يشهد بالمسبب مضافاً إلى السبب بحجّة أنّ الملاك هو العلم الحاصل من الحس و المفروض أنّه حاصل من سماع الخبر المتواتر أو لا يكفي بحجّة أنّ المتيقن من الأدلة هو استناد الشهادة إلى العلم الحاصل من الحس المختص بنوع الواقعة و هو المشاهدة في المبصرات و السماع في المسموعات قولان.

ذهب صاحب الرياض إلى المنع، خلافاً لصاحب الجواهر حيث اختار الجواز و استدل القائل بالمنع بوجوه و هي:

1- إنّ الشهادة مأخوذة من الشهود و هو لغة الحضور، و المعتمد على السماع في المبصرات لم يحضر الواقعة فلا يقال له إنّه شهد و حضر بل يوصف الشاهد بأنّه لم يكن شاهداً و حاضراً للمشهود به.

2- إنّ في قول النبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و قد سئل عن الشهادة و قال: «هل ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع» «1» إشعاراً باعتبار الرؤية في الشهادة في خصوص المبصرات و مثله قول الإمام الصادق عليه

السَّلام: «لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك». «2»

3- إنّ القطع المستند إلى الحس الباطني ربّما يختلف شدّة و ضعفاً فكيف يطمئن بشهادته و هذا.

4- و هذه الوجوه و إن اقتضى عدم الاكتفاء بالعلم المستند إلى التسامع و الاستفاضة في ما سيأتي من الموارد السبعة إلّا أنّ الإجماع كاف في الاكتفاء به فيها مضافاً إلى قضاء الضرورة و مسيس الحاجة إليه اللّذين استدلوا بهما للاكتفاء به.

______________________________

(1) النوري: المستدرك، الجزء 17، الباب 15 من كتاب الشهادات، الحديث 2.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 331

5 و لو شككنا في كفاية السماع في مورد المبصرات فمقتضى الأصل هو عدم القبول. «1»

هذا خلاصة ما أفاده القائل بالمنع و أجاب صاحب الجواهر عن هذه الوجوه بما يلي بتلخيص منّا:

1- لو كان الحضور شرطاً في صحّة الشهادة فليس لنا أن نشهد بتنصيب النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عليّاً عليه السَّلام للإمامة و لا على ما صدر من الخلفاء بالنسبة إلى بنته و حبيبته إذ لم نكن نحن حاضرين في الواقع مشاهدين إيّاه بل وصل إلينا من طريق السماع.

2- لو كان الإبصار بالعين شرطاً في الشهادة في مورد المبصرات لزم عدم صحّة شهادة الأعمى فيها مع ما ورد من صحّة شهادته إذا أثبت. «2»

3- إنّ الموارد السبعة مستثناة من اعتبار العلم في الشهادة حيث إنّه يشترط فيها العلم إلّا هذه الموارد بل يكفي فيها الظن المتاخم للعلم الذي يعبر عنه بالاطمئنان و قد غفل المستدل و زعم أنّها مستثناة من شرطية المشاهدة في المبصرات إلّا فيها. نعم عبارة المحقق كما يأتي في البحث

التالي يوهم ذلك.

4- إنّ الشهادة هو الإخبار الجازم من غير مدخلية الحضور فعندئذ يكون

______________________________

(1) السيّد علي: رياض المسائل: 2/ 381.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 42 من كتاب الشهادات، الحديث 1، 2، 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 332

العلم الضروري الحاصل من المتواتر كالعلم الحاصل من المشاهدة.

5- و الذي يدل على عدم اعتبارها أنّ الشهادة لا تتوقف على المشاهدة و السماع بل يكفي الذوق في المذوقات و الشم في المشمومات، و الحس في الملموسات. «1»

و يؤيد ما ذكره من أنّ استثناء السبعة يرجع إلى الاستثناء من لزوم تحصيل العلم هو أنّ العلامة ذكر في موردها العبارة التالية و قال: الشرط الرابع العلم و هو شرط في جميع ما يشهد به إلّا النسب، و الملك المطلق، و الموت، و النكاح، و الوقف، و العتق و الولاء فقد اكتفى في ذلك بالاستفاضة بأن تتوالى الأخبار عن جماعة من غير مواعدة أو تشتهر حتى يقارب العلم. «2»

و نقول إكمالًا لدليل المجوّز: إنّ الشهادة و إن كان يستعمل في معنى الحضور كما في قوله: (وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2) أي فليحضر عذابهما طائفة منهم، لكنّه استعمل في الذكر الحكيم في مطلق العلم الجازم قال سبحانه حاكياً عن لسان اخوة يوسف: (فَقُولُوا يٰا أَبٰانٰا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ مٰا شَهِدْنٰا إِلّٰا بِمٰا عَلِمْنٰا) (يوسف/ 81) مع أنّهم لم يحضروا وقت السرقة و إنّما علموا بها من إخراج صواع الملك من رحله، و مع ذلك قالوا «و ما شهدنا» و منه قوله سبحانه: (شَهِدَ اللّٰهُ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ وَ الْمَلٰائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ) (آل عمران/ 18) إلى غير ذلك

من الآيات الكثيرة التي استعملت فيها تلك المادة في مطلق العلم و التفريق بين هذه الآيات و الروايات الواردة في باب ثبوت الدعوى بشهادة العدلين بتخصص الثانية للمشاهدة و الرؤية، تفكيك بلا وجه بعد كون المادة موضوعة للمعنى الواحد و مستعملة في جميعها بملاك فارد.

و أمّا الروايتان فهما ناظرتان إلى لزوم تحصيل العلم القطعي و عدم كفاية الظن لا إلى أنّه تشترط المشاهدة في المبصرات.

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 130.

(2) ابن المطهر: إرشاد الأذهان: 2/ 16.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 333

و الحقّ أنّ العمومات الواردة في باب الشهادات تعمّ العلم بكل خبر يكون العلم مستنداً إلى الحس سواء كان مدركاً بالمشاهدة أو بغيرها و لأجل ذلك نكتفي في غير المبصرات و المسموعات بالحواس الثلاثة الأُخر.

نعم يجب أن لا يتسرّع الشاهد فيتخيل الظنّ الغالب علماً كما أنّه ربّما يقطع بما لا يفيد القطع خصوصاً إذا انضم إليه بعض الأغراض النفسانية بخلاف العلم الحاصل بالأُمور المفيدة له. عرفاً عند المستقيمين الخالين عن الأغراض الذين لهم قابلية النقد و التميز بين المراتب فانّه لا يتخلّف غالباً. «1»

ما يكفي فيه التسامع و الشياع

و اعلم أنّ المحقّق ذكر أنّ مستند الشهادة إمّا المشاهدة أو السماع أو هما فقال، فما يفتقر إلى المشاهدة، الأفعال، إلى أن قال: «و ما يكفي فيه السماع فالنسب و الموت و الملك المطلق، لتعذّر الوقوف عليه مشاهدة في الأغلب. «2»

و الظاهر أنّ قوله: «فما يكفي فيه السماع» تبيين للشق الثاني من مصادر الشهادة حيث جعل مصدر الشهادة المشاهدة تارة و السماع أُخرى، و يؤيد ذلك أنّه لا يذكر ما يكفي فيه السماع بعد ذلك شيئاً و إنّما ينتقل بعد ذكر أُمور ترتبط بالاستفاضة، إلى الثالث

أعني ما يشترط فيه المشاهدة و السماع.

و هناك احتمال آخر و هو أنّه ليس راجعاً لبيان حكم الشق الثاني بل العبارة ناظرة إلى الاستثناء من شرطية العلم و أنّه ليس بشرط في الموارد الثلاثة التي ذكرها و على ذلك فالسماع في عبارته بمعنى التسامع المرادف بالشياع و الاستفاضة. و تشهد بذلك عبارة العلّامة في الإرشاد حيث قال: الرابع من الشرائط العامة: العلم و هو شرط في جميع ما يشهد به إلّا النسب إلى آخر ما ذكره.

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 131.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 132.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 334

و اعلم أنّ في الاستفاضة مسألتين:

الأُولى: ما ذا يثبت بالاستفاضة؟ و قد مرّ البحث عنهما في كتاب القضاء حيث قال المحقق: تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة و كذا يثبت بها النسب و الملك المطلق و الموت و النكاح و الوقف و العتق، فللقاضي أن يقضى بهذه الأُمور لو ثبت عنده بالاستفاضة. «1»

الثانية: هل يجوز للشاهد أن يشهد بما ثبت عنده بالاستفاضة لا بالمشاهدة و الرؤية و هذه هي المبحوث عنها في المقام.

نعم إنّ المحقّق أيضاً ينتقل إلى البحث عن المسألة الأُولى أيضاً في المستقبل فانتظر.

و على كلّ تقدير فقد اختلفت كلمتهم فيما يصحّ الشهادة عليه بالاستفاضة فقد استثنى ابن الجنيد النسب فقط قال:

1- لا تصح الشهادة بالشائع من الأُمور إلّا أن تتصل الشهادة بالشهادة إلى إقرار، أو رؤية إلّا في النسب وحده. «2»

2- قال الشيخ: فأمّا ما يقع العلم به سماعاً فثلاثة أشياء: النسب و الموتِ و الملكِ المطلق.

و مراده من العلم هو الاطمئنان أو الظن القوي المتاخم للعلم بشهادة ذيل كلامه حيث قال:

أمّا النسب فإذا استفاض في الناس أنّ

هذا فلان بن فلان صار متحملًا للشهادة له بالنسب إلى أن قال: و لأنّه لا يمكنه التوصل إلى معرفته قطعاً فصار عالماً متحمّلًا للشهادة بالاستفاضة.

ثمّ إنّه قدس سره أفاض الكلام في الموت و الملك المطلق و قال ما هذا حاصله:

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 70.

(2) ابن المطهر: المختلف، كتاب الشهادات 177.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 335

و أمّا الموت فكذلك يتحملها بالاستفاضة لأنّ أسباب الموت كثيرة مختلفة فإذا سمع الناس يقولون قد مات فلان صار شاهداً بموته.

و أمّا الملك المطلق فكذلك إذا استفاض في الناس أنّ هذا ملك فلان من دار أو دابة أو عبد أو ثوب صار شاهداً بذلك لأنّ أسباب الملك كثيرة مختلفة، يُملك بالشراء، و الهبة، و الغنيمة، و الإحياء، و الإرث، فلهذا صار به شاهداً بالاستفاضة كالموت و النسب سواء. فإذا ثبت هذا فإنّما يشهد بالملك المطلق بالاستفاضة دون سببه فلا يقول ملكه بالشراء أو بالهبة أو بالإحياء أو غنيمة لأنّ هذه الأسباب لا يشهد بها بالاستفاضة. «1»

3- و قال في الخلاف: تجوز الشهادة على الوقف و الولاء و العتق و النكاح بالاستفاضة كالملك المطلق و النسب و للشافعي فيه وجهان فقال الاصطخري مثل ما قلناه و قال غيره لا يثبت شي ء من ذلك بالاستفاضة و لا يُشهد عليها بذلك دليلنا أنّه لا خلاف أنّه يجوز لنا الشهادة على أزواج النبي و لم يثبت ذلك إلّا بالاستفاضة لأنّا ما شهدناهم و أمّا الوقف فهو مبنيّ على التأبيد فإن لم تجز الشهادة بالاستفاضة أدّى إلى بطلان الوقوف لأنّ شهود الوقف لا يبقون أبداً فإن قيل يجوز تجديد شهادة على شهادة أبداً قلنا: الشهادة على الشهادة لا

تجوز عندنا إلّا دفعة واحدة و أمّا البطن الثالث فلا يجوز على حال. و على هذا يؤدي إلى ما قلناه. «2»

فلو ذكر الشيخ في المبسوط موارد ثلاثة، فقد أضاف في الخلاف إليها موارد أربعة فصارت الموارد سبعة.

4- و قال قطب الدين الكيدري: و لا يحصل العلم بالمشهود عليه إلّا بمشاهدة أو سماع أو بهما معاً إلى أن قال و الثاني (السماع): النسب و الموت و الملك المطلق يعلم ذلك بالاستفاضة. «3»

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 181180.

(2) الطوسي: الخلاف، كتاب الشهادات، المسألة 15.

(3) قطب الدين الكيدري: اصباح الشيعة: 531.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 336

5 و قال المحقّق في المختصر النافع: أمّا السماع فيثبت به النسب و الملك و الوقف و الزوجية. «1» فقد ذكر منها أربعة مع أنّه اكتفى في الشرائع على الثلاثة حيث قال:

6- و ما يكفي فيه السماع فالنسب و الموت و الملك المطلق لتعذّر الوقوف عليه. «2»

7- و قال العلّامة: و يثبت بالسماع: النسب و الملك المطلق و الوقف و الزوجية. «3»

و قد اقتصر على موارد أربعة: مع أنّه وسَّع الأمر في الإرشاد حيث قال: و العلم شرط في جميع ما يُشهد به إلّا النسب و الملك المطلق و الموت و النكاح و الوقف و العتق و الولاية فقد اكتفى في ذلك بالاستفاضة. «4»

إنّ المستثنى منه في كلام الكيدري و المحقّق، هو الرؤية و المشاهدة و أنّه لا يعتبر فيها المشاهدة، لا أنّه لا يعتبر فيها العلم، نعم صريح كلام الشيخ و العلّامة، انّ المستثنى منه هو اعتبار العلم إلّا في هذه الموارد، و قد استثنى في بعض الكلمات أربعة، و في بعضها سبعة، إلى سبعة عشر.

و الدليل

على الاستثناء أمران:

1- مرسل يونس: «خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم: الولايات، و التناكح و الأنساب و الذبائح و الشهادات» «5» إذا فسر الحكم بحكم الناس، و قد مرّ تفسيره في محلّه. «6»

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: المختصر النافع: 289، ط مصر.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 133.

(3) ابن المطهر: تبصرة المتعلّمين.

(4) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 160.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب 22 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(6) لاحظ ج 1 من هذا الكتاب.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 337

2 ما ورد عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في قضية إسماعيل عند ما دفع بضاعته لشارب الخمر ليتّجر به و لامه الإمام و اعتذر اسماعيل بأنّه لم يره يشرب الخمر إنّما سمع الناس يقولون: «يا بنيّ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: (يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول: يصدِّق اللّه و يصدّق للمؤمنين». «1»

أقول: الحديث الأوّل مرسل يشمل على غير ما ذكره الأصحاب، و لا صلة للثاني بالمقام إذ ليس المراد من التصديق ترتيب الآثار الشرعية، بل التحذر و العمل بالاحتياط و هو غير المطلوب.

و التحقيق أن يقال: لو كان الاستثناء راجعاً إلى اعتبار المشاهدة في المبصرات إلّا في هذه الموارد لتعذّر الوقوف عليها عن طريق الرؤية غالباً به كما هو صريح المحقق. مع افتراض حصول العلم من الشياع الموجود في مواردها، فإنّ الاستثناء إنّما يصحّ على القول بشرطية المشاهدة في المبصرات و أمّا لو قلنا بكفاية كون العلم مستنداً إلى الحس فلا موضوع للاستثناء، و على فرض صحّة الاستثناء فالظاهر أنّه يعمّ كلّ مورد يتعذّر الوقوف عليه عن طريق المشاهدة من غير فرق بين

السبعة و ما فوقها.

و إن قلنا: إنّ الاستثناء راجع إلى شرطية العلم في الشهود، إلّا في هذه الموارد كما هو صريح الشيخ في المبسوط و العلّامة في الإرشاد فيقع الكلام تارة في عمل الشاهد بالاستفاضة أو لا، و جواز إخباره عنه أُخرى، و الشهادة بها ثالثاً.

أمّا الأوّل فلا شكّ في حجّية الاطمئنان الحاصل من الاستفاضة للشاهد كما يجوز الإخبار عن هذه الأُمور، سبباً (الاستفاضة) و مسبباً أي النسب و الموت و غيرهما.

إنّما الكلام في الشهادة على هذه الأُمور، فلا يحكم بالجواز إلّا بعد الدليل

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 13، الباب 6 من أبواب الوديعة، الحديث 1. و الآية 61 من سورة التوبة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 338

المعتبر على جوازها في هذه الموارد كالسيرة لأنّ اعتبار العلم في الشهادة أمر قطعي لا يمكن العدول عنه إلّا بمثله و لعلّ السيرة موجودة في النسب و النكاح، الوقف دون سائرها خلافاً للشيخ حيث قال: و أقلّ ما يتحمّل به الشهادة أن يسمع عدلين فصاعداً يقولون ذلك فإذا شهد بذلك فهو شهادة ابتداء و لا يشهد به من حيث الشهادة على الشهادة. «1» و أورد عليه المحقّق بأنّ الملاك لو كان الظن فإنّه يحصل بخبر الواحد، مع أنّه لا يجوز الشهادة معه على المسبب. «2»

نعم و أمّا الشهادة على نفس الاستفاضة فهو جائز مطلقاً لكونه أمراً سماعياً و المفروض وجود شرطها لكنّها لا تنفع في القضاء.

فرعان:
الأوّل: إذا شهد بالملك و سببه

قد تعرفت إنّ الثابت بالاستفاضة أُمور خاصة، و مما يثبت بها هو الملك المطلق أي ما لا يعيّن سببه.

ثمّ إنّ سبب الملك على قسمين: قسم يثبت مثل مسبّبه بالاستفاضة كالموت فانّه سبب للميراث الذي هو عبارة أُخرى عن

ملك الوارث بموت المورّث، فالسبب، و مسبّبه هنا سيّان في الثبوت بالاستفاضة. و قسم لا يثبت بها و إن كان مسبّبه يثبت بها، كالبيع و الهبة و الاستغنام.

فإذا استفاض أنّ هذا ملك زيد و ورثه عن أبيه، فللشاهد أن يشهد بالمسبب و سببه لأنّ كليهما يثبتان و أمّا إذا استفاض أنّ هذا ملك لزيد اشتراه من عمرو فليس له إلّا أن يشهد بالمسبّب دون السبب لأنّه لا يثبت بها فلو شهد بالأمرين هل تقبل الشهادة بالنسبة إلى المسبّب الذي كانت شهادته مقبولة فيها

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 18.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 338

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 133.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 339

لو كانت مجردة عن الشهادة على السبب؟ فيه وجهان:

1- لا تقبل الشهادة، لأنّها لا تبعّض.

2- تقبل و تلغى الضميمة و هي الشهادة على السبب الذي لا يثبت بالاستفاضة، لوجود المقتضي للقبول في أحدهما دون الآخر و الأخير مختار المحقق و هو الحقّ، إذ لا تبطل الشهادة بضم الشهادة على أمر لا تقبل فيه الشهادة.

و أمّا الثمرة فهي مبنيّة على قاعدة مسلّمة لدى العامة و كثير من الأصحاب و قد مرّ بيانها عند البحث عن تعارض البيّنتين و هي أنّ البيّنة المتضمّنة لبيان السبب، متقدّمة على البيّنة المجرّدة عنه، المقتصرة بالمسبب.

و على ضوء هذا فنذكر فروعاً ترجع إلى القسمين:

1- فلو شهد البيّنة بالاستفاضة على السبب و المسبب و قال: استفاض قول الناس بأنّ الدار ملك لزيد، ورثه

عن أبيه الميّت و شهدت بيّنة أُخرى عن غير طريق الاستفاضة على خلافها، و أنّه ملك لبكر اشتراه من خالد، تكون البيّنتان متعارضتين لتساويهما في الشهادة على الأمرين و ثبوتهما حسب الفرض بكلتا البيّنتين.

2- و لو شهدت البيّنة الثانية على المسبّب فقط دون السبب رُجّحت البيّنة الأُولى عليها، لاشتمالها على الشهادة بالمسبّب و السبب، المقبولة فيه الشهادة دون البيّنة الأُخرى.

هذا كلّه حول القسم الأوّل و أمّا القسم الثاني أي ما يثبت المسبّب بالاستفاضة دون السبب فنقول:

3- لو قال الشاهد استفاض قول الناس بأنّ الدار لزيد اشتراها من عمرو، فعلى القول بحجّيته في خصوص المسبب و أنّ الضميمة غير قادحة لو تعارضت مع بيّنة أُخرى غير مستندة إلى الاستفاضة و شهدت على المسبّب و سببه، رجّحت الثانية على الأُولى، لاشتمالها على ذكر السبب و عدم قبول شهادة البيّنة الأُولى في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 340

جانب السبب.

4- تلك الصورة و لكن كانت البيّنة مجرّدة عن الشهادة بالسبب، لتكافأت الشهادتان. كلّ ذلك على القول بالتبعيض في مفاد الشهادة و إلا ففي الثالث و الرابع، تُقَدَّم البيّنة الأُخرى على البيّنة المستندة على الاستفاضة.

و لا يخفى وجود التعقيد في عبارة المحقّق في المقام. ثمّ إنّه يريد من قوله «و الفرق تكلف»: أنّ التفريق في القسم الثاني (أي ما لا يثبت فيه السبب بالاستفاضة) بالقبول فيما إذا شهدا بالملك المطلق مجرداً عن ذكر السبب و عدم قبوله فيما إذا اشتمل على ذكره كالبيع تكلف و ذلك لأنّ ضميمة ما لا يثبت بالاستفاضة لا تقدح في ثبوت ما يثبت بها أي الملك المطلق.

الثاني: إذا تعارض السماع المستفيض مع اليد

لا يشترط في الشهادة بالاستفاضة على الملك المطلق، انضمام يد المشهود له

أو تصرفه، لما مرّ من أنّ الملك المطلق يثبت بها لتعدد أسبابه و خفاء بعضها فلا يفتقر إلى انضمام أمر آخر، و لو اشترط لزم ردّ الشهادات الكثيرة إلّا أنّ الكلام فيما إذا كان لواحد من المدّعيين يد و لآخر سماع مستفيض ففي ترجيح أحدهما وجهان:

1- ترجيح السماع لأنّه يفيد الملك الحال، بخلاف اليد لأنّها تحتمل غير الملك من العارية و الإجارة و الغصب بخلاف الملك الصريح.

2- الثاني ما اختاره المحقّق من تقديم اليد على السماع المستفيض و علّله بوجه عليل و قال لأنّ السماع قد يحتمل إضافة الاختصاص المطلق المحتمل للملك و غيره، و لا تزال اليد بالمحتمل. «1»

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 134.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 341

و حاصله: أنّ السماع مشترك بين الملك و الاختصاص كما هو مفاد قولهم هو لزيد: فيحتمل أنّه ملك زيد أو مختص به.

يلاحظ عليه: أنّه خلف الفرض لأنّ المفروض أنّ الاستفاضة دلّت على أنّه ملكه لا أنّه من مختصاته.

مسائل ثلاث
المسألة الأُولى: فيما إذا كان هناك يد و تصرف دون الاستفاضة

كان المذكور في الفرع السابق أمرين:

1- تجوز الشهادة بالاستفاضة و إن كانت مجردة عن اليد و التصرف.

2- إذا كان في جانب يد و في جانب آخر سماع مستفيض فالمحقّق على تقديم قول ذي اليد، و قد عرفت أنّ الحقّ خلافه.

و المذكور في هذه المسألة أمران:

أ: عكس الأمر الأوّل، أي إذا كانت هناك يد و تصرّف هل تجوز الشهادة بالملك المطلق أو لا؟

ب: إذا كانت يد، بلا تصرف فهل تجوز الشهادة بالملك المطلق له أو لا؟ و كان على المحقّق ذكر الجميع في مقام و هو أحكام الأُمور الثلاثة: اليد و التصرّف و الاستفاضة من حيث الاجتماع و الافتراق.

أمّا الصورة الأُولى: فقال

الشيخ في الخلاف: من كان في يده شي ء يتصرف فيه بلا دافع و لا منازع بسائر أنواع التصرف جاز أن يُشهَدَ له بالملك طالت المدة أم قصرتْ و به قال أبو حنيفة، و قال الشافعي: جاز أن يُشْهَد له باليد قولًا واحداً فأمّا الملك فينظر فيه فإن طالت المدّة فعلى وجهين، قال الاصطخري: جاز أن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 342

يُشهد له بالملك و قال غيره: لا يجوز. و إن قصرت المدّة مثل الشهر و الشهرين فلا يجوز قولًا واحداً. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم و أيضاً لا خلاف أنّه يجوز أن يشتري منه فإذا حصل في يده يدعي أنّه ملك فلولا أنّ ظاهر تصرّفه يدل على ملكه لم يجز له إذا انتقل إليه بالبيع، أن يدعي أنّه ملكه. «1»

و قد عنونه في المبسوط و ذكر قولين و لم يرجح أحدهما على الآخر قال: فأمّا إن كان في يده دار يتصرف فيها مطلقاً من غير منازع بالهدم و البناء و الإجارة و الإعارة و غير ذلك فيسوغ للشاهد أن يشهد له باليد بلا إشكال و أمّا بالملك المطلق فلا تخلو المدة من أحد أمرين إمّا أن يكون طويلة أو قصيرة، فإن كانت طويلة مرّت عليه السنون على صورة واحدة، من غير منازعة، قال بعضهم يُشهد له بذلك لأنّ عرف العادة قد تقرّر أنّ من تصرف مطلقاً من منازع «2» كان متصرفاً في ملكه.

و قال غيره: إنّ البيّنة تشهد له باليد و التصرف و أمّا بالملك مطلقاً فلا لأنّ اليد يختلف فتكون مستعيراً أو مستأجراً أو مالكاً أو أميناً أو وصياً و التصرف واحد، فإذا اختلفت الأيدي و أحكامها، لم

يجز أن يُشهد بالملك المطلق.

و أمّا إن كانت المدّة قصيرة كالشهر و الشهرين و نحو ذلك فإنّه لا يُشهَد له بالملك لأنّ الزمان قصير على هذه الصورة يتفق كثيراً فلا يدل على ملك و يفارق هذا، الزمانَ الطويل لأنّه في العرف أنّه في ملك. «3»

أقول: قد تقدم اعتبار العلم بالمشهود له علماً قطعياً لا يقبل احتمال الخلاف كما هو المتبادر من التمثيل بالشمس و الكف، فلو كانت اليد و التصرف في مدّة خاصة من غير منازع مفيداً للعلم بأنّ صاحب اليد المتصرف مالك جاز أن

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 14 و قد أشار في ذيل كلامه إلى مفاد حديث حفص بن غياث. لاحظ ص 326 من هذا الجزء.

(2) كذا في النسخة و الصحيح من غير منازع.

(3) الطوسي: المبسوط: 8/ 182181.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 343

يُشهد له بالملك، دون ما إذا لم يكن كذلك، خصوصاً إذا وجد منازع و أقام بيّنة.

إلّا إذا قلنا: «بأنّه يكفي قيام الأمارة المفيدة للظن الغالب في الشهادة، بحجّة جوازها عند الاستفاضة». و هو كما ترى أشبه بالاستدلال بالقياس و أمّا ادعاء الإجماع كما في الخلاف ففي غير محلّه و لعلّه أراد به وجود الرواية و سيوافيك الكلام فيها.

و أمّا الصورة الثانية: أي تجرّدت اليد عن التصرف فقال المحقّق بأنّه تجوز الشهادة باليد، و أمّا الشهادة بالملك المطلق فقال: قيل نعم و هو المروي و فيه إشكال. «1»

القول بالجواز الذي حكاه المحقّق هو الذي نقله في المسالك عن العلّامة و أكثر المتأخرين مستدلًا برواية حفص بن غياث الّتي مرّت غير مرّة. «2» و قد عرفت سابقاً، من أنّ الرواية أجنبية عن الشهادة في

مقام القضاء، و المراد من الشهادة الواردة فيها هو الإخبار بأنّ العين له و يؤيده ذيلها: «و لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».

ثمّ إنّ المحقّق استشكل على جواز الشهادة باليد المجرّدة على الملك بأنّ اليدَ لو أوجبت الملكَ له، لم تُسمع دعوى من يقول: الدار التي في يدِ هذا لي، لأنّه بمنزلة أن يقال هذا ملك لي.

أقول: هذا الإشكال ذكره الشيخ في المبسوط في الصورة الأُولى و لم يذكره في الصورة الثانية، و المحقّق عكس (و الحقّ جريانه في كلتا الصورتين) قال: و لأنّ اليد لو كانت ملكاً لوجب إذا حضرا عند الحاكم فقال المدّعي أدعي داراً في يد هذا، أن لا يسمع دعواه لأنّه قد اعترف بالملك له فلمّا سمعت دعواه ثبت أنّ اليد

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 134.

(2) الوسائل: 18، الباب 25، من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 344

لا تدل على ملك و لا يكون ملكاً. «1»

و العجب أنّ الشيخ مع ذكر هذا الإشكال في الصورة الأُولى عنون الثانية: أي اليد المجرّدة عن التصرف و ذكر فيه وجهين: الشهادة باليد، و أمّا الملك فقال بعضهم: يشهد له بالملك و روى أصحابنا أنّه يجوز له أن يشهد بالملك كما يجوز له أن يشتريه ثمّ يدّعيه ملكاً له. «2»

و الحقّ أن يقال إنّه لو قلنا بصحّة التنزيل في العبارة لما كان هناك فرق بين الصورتين إلّا أنّ المهم هو عدم صحّة التنزيل، فإنّ القول «بأنّ هذا ملك لزيد و أنا أدعيه» إقرار قاطع بالملكية له، و لا يقبل الإنكار بعد الإقرار، و لا يعبأ بمثل هذا الكلام الذي يناقض صدره ذيله

و هذا بخلاف القول بأنّ العين التي في يد زيد، ملك لي فإنّه إقرار بوجود أمارة الملكية في جانبه، و في الوقت نفسه يدعي كونها خاطئة.

و إن شئت قلت: الاعتراف بوجود الأمارة ليست اعترافاً بصحّتها، لأنّها تنقسم إلى صحيحة و خاطئة، بخلاف الإقرار، فلا يسمع ادعاء الخطاء فيه.

المسألة الثانية: في أنّ الوقف و النكاح يثبت بالاستفاضة

قد تعرفت فيما سبق أنّه يبحث في الاستفاضة تارة عمّا يثبت بها، و أُخرى عن جواز الاعتماد عليها في مقام الشهادة، و قد مرّ البحث عن الأوّل في صدر كتاب القضاء، كما أوعزنا إليه سابقاً، و أمّا الثانية فكان البحث فيه آنفاً، لكن المحقّق عاد إلى المسألة الأُولى ثانياً في هذا المقام و قال: الوقف و النكاح يثبت بالاستفاضة أمّا على القول بإفادتها العلم فلا غبار في ثبوتهما بها و أمّا على القول بإفادتها الظن فقد علّله بما تقدّم نقله عن الشيخ فيما سبق و إليك حاصل كلامه

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 182.

(2) يشير إلى مضمون رواية حفص.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 345

في ثبوتهما:

أمّا الوقف فلو لم تسمع فيه الاستفاضة لبطلت الوقوف مع امتداد الأوقات و فناء الشهود. و أمّا النكاح فلأنّا نقضي بأنّ خديجة عليها السَّلام زوجة النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كما نقضي بأنّها أُمّ فاطمة عليها السَّلام.

فإن قلت: لا حاجة لنا في الثاني بالاستفاضة، لقيام التواتر على زوجيتها للنبي و أُمومتها لبنته.

قلت: إنّ التواتر فاقدة للشرط لأنّ الطبقة الأُولى لم يخبروا عن مشاهدة العقد.

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ تخصيص الأمرين بالثبوت بالاستفاضة و إخراج غيرهما عنه، ينافي ما ذكره في كتاب القضاء من أنّه يثبت بها أُمور سبعة «1» كما مرّت.

و ثانياً: أنّ بقاء الوقوف لا

يتوقف على سماع الاستفاضة، بل يكفي قبول الشهادة على الشهادة في الثالثة و ما فوقها، و ما دلّ على اختصاص حجّية الشهادة عليها بالثانية، يخصص بمورد الوقوف و ذلك لأنّه لو لا السماع لبطلت الوقوف.

و إن شئت قلت: ليس تخصيص ما دلّ على شرطية العلم، في الشهادة أولى من تخصيص دليل اختصاص حجّية الشهادة على الشهادة، بالثانية منها و يمكن أن يقال: بما أنّ لسان دليل شرطية العلم آب عن التخصيص فيخصص دليل الشهادة على الشهادة لأجل الضرورة المدعاة في المقام.

و أمّا النكاح فيمنع، افتقاد الطبقة الأُولى شرط التواتر، و ذلك لأنّ أبا طالب كان هو المتصدي لتزويج ابن أخيه فخطب خطبة بليغة، و كان في المجلس وجوه بني هاشم و شخصيات من قريش، فخرجوا عن المجلس، فأخبروا بما رأوه و

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 67.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 346

شاهدوه. «1»

و الحقّ أن يقال: لو أفادت الاستفاضة و اليقين سادت في حقول العمل به، و الإفتاء على وفقها، و الشهادة بها من غير فرق بين موضوع دون موضوع و إن لم تفد إلّا الظن المتاخم للعلم الذي نعبر عنه بالاطمئنان فهو حجّة في حقول العمل و الإفتاء، دون الشهادة، إلّا إذا قامت السيرة عليه و لعلّها موجودة في النسب و الوقف و النكاح.

المسألة الثالثة: في شهادة الأخرس

الأخرس يصحّ منه تحمّل الشهادة و أداؤها، لإطلاق الأدلّة. قال الشيخ: يصحّ من الأخرس تحمل الشهادة بلا خلاف و عندنا يصحّ منه الأداء و به قال مالك و أبو العباس بن سريج و قال أبو حنيفة و باقي أصحاب الشافعي: لا يصحّ منه الأداء دليلنا ما قلناه في المسألة الأُولى (شهادة الأعمى) سواء.

«2»

و لو حقّق الحاكم شيئاً من إشاراته القائمة مقام اللفظ من غيره من إقرار و عقد و غيرهما، بنى عليه، و إلّا يرجع إلى مترجم، يترجم معنى إشاراته و هو مفسر و مبيّن لما شهد به لا شاهد به و لأجل ذلك ليست الترجمة من مقولة الشهادة، فيكفي مترجم واحد لما قلناه من كفاية خبر الواحد في الموضوعات في غير باب الشهادة و لأجل ذلك قال المحقّق: و لا يكون المترجمان شاهدين على شهادته بل يثبت الحكم بشهادته أصلًا لا بشهادة المترجمين فرعاً.

***

3- من مستند علم الشاهد

هذا هو القسم الثالث من مستند علم الشاهد الذي أشار إلى أقسامه

______________________________

(1) بحار الأنوار: 16/ 16؛ مناقب آل أبي طالب: 1/ 30.

(2) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 18.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 347

الثلاثة فيما سبق و قال و مستندها:

1- إمّا المشاهدة. 2 أو السماع. 3 أو كلاهما.

و قد مضى البحث عن الأوّلين فقال حول الأوّل: فما إلى المشاهدة، الأفعال، لأنّ آلة السمع لا تدركها. و قال حول الثاني: و ما يكفي فيه السماع فالنسب و الموت و الملك المطلق. فابتدأ في المقام بالثالث و قال: ما يفتقر إلى السماع و المشاهدة، كالنكاح و البيع و الشراء و الصلح و الإجارة فإنّ حاسّة السمع لا يكفي في فهم اللفظ و يحتاج إلى البصر لمعرفة اللافظ فلا بأس بشهادة من اجتمع له الحاستان.

أقول: إذا كان مستند الشهادة في الأفعال هو الرؤية و المشاهدة، و مستندها فيما يتعذر الوقوف عليه عن طريقها في الأغلب، هو السماع كالنسب و غيره، فمستندها في العقود و الإيقاعات و ما أشبههما ممّا يترتب الأثر على لفظ اللافظ كالنذر و اليمين،

و القذف و السب، هو المشاهدة و السماع معاً لأنّ الشهادة به يتوقف على وجود حاستين و إعمالهما حتى تعرف بالبصر اللافظ، و يفهم بالسماع اللفظَ فمن اجتمعت فيه حاسّتان، فله أن يشهد بالعقد و الإيقاع.

إنّما الكلام في الأعمى فبما أنّه واجد لإحدى الحاستين دون الأُخرى فلا تقبل إلّا فيما كان السماع كافياً أو كان عروض العمى غير ضارّ أو غير ذلك فتقبل شهادته في الموارد التالية:

1- إذا شهد، بنفس سماع العقد و الإيقاع من غير نظر إلى اللافظ.

2- إذا شهد بما يكفي فيه السماع و الاستفاضة كالموت و النسب.

3- إذا تحمّل و شهد و هو بصير، ثمّ عرضه العمى.

4- إذا تحمّل و هو بصير و كان أعمى عند الأداء.

نعم فرّط أبو حنيفة في ردّ شهادة الأعمى فقال هو و تلميذه محمّد بن

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 348

الحسن الشيباني: لا يصحّ منه التحمّل و لا الأداء فيما لا يحتاج إلى المشاهدة فجعلوا العمى كالجنون و قالا أشدّ من هذا: قالا لو شهد بصيران عند الحاكم فسمع شهادتهما ثمّ عميا أو خرسا قبل الحكم بها، لم يحكم كما فسقا قبل الحكم بشهادتهما. «1»

أقول: إنّ مدرسة الرأي لا تنتج إلّا أمثال هذه الفتاوى الشاذة عن الكتاب و السنة، فكيف تردّ شهادته إذا شهد و هو جامع للشرائط، و إن افتقد بعضها بعد إقامتها فليس العمى إلّا كموت الشاهد قبل الحكم. و كيف يقيسه بالفاسق، مع الفرق الواضح بينهما فالمقتضى في الثاني غير موجود، بخلاف الأعمى؟! و ما تصوره مانعاً ليس بمانع.

5- إذا تحمل الشهادة و هو أعمى محرزاً القائل و عارفاً بصوته، بحيث حصل له العلم بغير المشاهدة كما ربّما

يتفق فيما إذا كان بينه و بين المشهود عليه صلة فيعرفه بصوته و كلامه فلو تحمل و الحال هذه و أدّاها كانت حجّة و إلى هذه الصورة يشير المحقّق و يقول: لو عرف صوت العاقد معرفة يزول معها الاشتباه، قيل لا يقبل لانّ الأصوات تتماثل و الوجه أنّها تقبل لأنّ الاحتمال يُدفع باليقين لأنّا نتكلم على تقديره. «2» و لشمول الإطلاقات للمقام مضافاً إلى صحيح محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: سألته عن شهادته الأعمى، فقال: «نعم إذا أثبت». «3»

6- أن يشهد على اللفظ، و العاقد مستنداً إلى تعريف العدلين على أنّ العاقد أو الموقع هو فلان فيجوز كما يشهد البصير على تعريف غيره، و في الجواهر: يكون الأعمى شاهد أصل لا فرع بلا خلاف أجده كما اعترف به في الرياض بل

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 17.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 135.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 42 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 349

عن ظاهر السرائر الإجماع عليه. و يؤيّده دخول المورد في قوله «إذا أثبت» بناء على أنّ المراد الإثبات الأعم و لو بالبيّنة، كما هو المتبادر ممّا ورد في الشهادة على المرأة إذا حضر من يعرفها «1» و قد سبق الكلام فيه.

7- إذا قبض على رجل لا يعرفه، و تحمل شهادته و أدّى عليه و الحال هذه فتمضى شهادته بلا كلام و قال الشهيد الثاني: و هذا ممّا استثناه القائلون بالمنع من قبول شهادته و سمّوها الضبطة و هي أن يضع رجل فمَه على أُذُن الأعمى و يدُ الأعمى على رأسه بحيث يتيقن أنّه يسمع منه فيقرّ

بطلاق زوجته المشخصة و لا يزال يضبطه حتى يشهد بها، سمع منه عند الحاكم، نعم فيه عسر و لكن العسر لا يمنع من القول. «2»

و بذلك بان أنّ ردّ شهادة الأعمى على إطلاقه ليس بصحيح.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 43، من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 458.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 350

المقصد الثالث في المواضع التي تقبل فيها الشهادة من أقسام الحقوق

اشارة

و قد قسّمها المحقّق إلى حقّ للّه تعالى، و حقّ للآدمي فيكون التقسيم ثنائياً، مع أنّ مقتضى صيغة الجمع أن يكون ثلاثيّاً أو أزيد، لكن بما أنّ كلًا من القسمين ينقسم إلى أقسام، صحّ الإتيان بصيغته، و الإتيان بهما في صدر البحث لأجل الإشارة إلى أنّ جميع الأقسام يرجع إلى هذين القسمين.

و الغرض من عقد هذا البحث، بيان العدد المعتبر في الشهادات في كلّ مورد، و اعتبار الذكورة في موارد خاصة.

و بما أنّ المعتبر في الشهادة، التعدّد، فالاكتفاء بالشاهد الواحد في مورد الهلال على رأي أو بالشاهد و اليمين في الأموال و الحقوق، كأنّه استثناء من الدليل.

فلنذكر أحكام حقّ اللّه و هو على أقسام:
الأوّل: ما لا يثبت إلّا بأربعة رجال و هو ثلاثة: الزنا و اللواط و السَّحق و يدل على اعتبارها في الزنا آيات ثلاث:

1- (وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ الْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّٰى يَتَوَفّٰاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) (النساء/ 15).

كان في صدر الإسلام إذا فجرت المرأة حُبِستْ في البيت أبداً حتى تموت ثمّ نسخ ذلك بالرجم في المحصنين و الجلد في غيرهم. «1»

______________________________

(1) الطبرسي: مجمع البيان: 2/ 20.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 351

2 (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً) (النور/ 4).

3- (لَوْ لٰا جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدٰاءِ فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اللّٰهِ هُمُ الْكٰاذِبُونَ) (النور/ 13).

ترى اتّفاقها في طريق ثبوت الزنا و أنّها الأربعة من الرجال. و إن اختلفت في جزاء الزانية ففي الأولى منها، أنّ جزاءها الإمساك في البيوت حتى يتوفّاهن الموت، و في الثانية و الثالثة، هو الجلد، و قد نسخت الآية الأُولى حكماً و جزاء، لا طريقاً، فالطرق إلى إثباته أربعة، ما مسها النسخ، و إن مسّ جزاء الزنا بفضل الآيتين، و بذلك يعلم أنّ

الاستدلال بالآية الأُولى لا غبار عليه إذ النسخ شمل الحكم، لا الطريق.

أضف إلى ذلك تضافر النصوص من أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام على ثبوته بالأربعة فلاحظ. «1»

أمّا الثاني: أي اللواط

فقد اتّفقت كلمتهم على أنّه مثل الزنا و لم يرد فيه نص صريح لكن يمكن استظهار الاعتبار مضافاً إلى كونه أغلظ من الزنا، فيعتبر فيه ما هو المعتبر في الزنا بوجه أولى من بعض النصوص، حيث ورد النص على أنّ اللواط يثبت بالإقرار أربعاً، مثل الزنا، كما في صحيح مالك بن عطية الثقة، و فيه فلمّا كان في الرابعة قال (أمير المؤمنين) له: «يا هذا إنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيهنّ شئت إلى آخره». «2»

و إذا أُضيف إلى ذلك ما ورد في الزنا من أنّ كلّ إقرار شهادة «3» حيث قال

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب حدّ الزنا.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب حدّ اللواط.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 16 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 352

الإمام: اللّهمّ انّه قد ثبت عليه أربع شهادات (و المتبادر من الحديث أنّه بمنزلة الشهادة، مطلقاً، لا في خصوص مورد الزنا) يتمّ المطلوب مضافاً إلى ما عرفت من الأولوية. نعم المخالف أبو حنيفة حيث اكتفى برجلين، و الباقون من الفريقين على الأربعة و قال الشيخ: لا تثبت الشهادة باللواط إلّا بأربعة رجال إلى أن قال: و قال الشافعي: إن قلنا إنّه (اللواط) كالزنا لم يثبت إلّا بشهادة أربعة ذكور عدول و كذلك إن قلنا إنّه أغلظ إلى أن قال: و قال أبو حنيفة: يثبت جميع ذلك

بشهادة شاهدين دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. «1»

و أمّا الثالث: أي السحق

فلو قلنا بكونه من مصاديق الفاحشة فتشمله الآية الأُولى المنسوخة حكماً لا طريقاً و إن قلنا باختصاصها بالزنا، فيمكن استظهار اعتبارها من تشبيهه بالزنا تارة و اللواط أُخرى ففي صحيح ابن أبي عمير حدّها حدّ الزاني. «2» و في مرسلة رواية مكارم الأخلاق عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إنّ السحق في النساء بمنزلة اللواط في الرجال. 3

يلاحظ على الاستدلال بأنّ الثاني مرسل، و أمّا الأوّل فالظاهر أنّ وجه التشبيه هو الاشتراك في الحدّ، دون طريق الإثبات و لأجل ذلك تصبح المسألة بلا دليل إلّا أن يتمسّك بالانفاق، أو كونه موافقاً للاحتياط إذ ما دون الأربعة على خلافه و الحدود تدرأ بالشبهات.

ثبوت إتيان البهائم

لم يرد في إتيان البهائم نصّ في طريق ثبوته، قال الشيخ في الخلاف: فثبوته بشهادة شاهدين و قال الشافعي إن قلنا إنّه كاللواط أو كالزنا لا يثبت إلّا بأربعة

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الحدود، المسألة 8.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب حدّ السحق و القيادة، الحديث 1 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 353

ذكور و الباقون على ثبوته بشهادة شاهدين «1» و الحقّ ثبوته بشاهدين لإطلاق دليل حجّية البيّنة و لا مخصص بالنسبة إليه و إن ورد في الزنا و اللواط. و قياسه على اللواط حجّة على أصحابه فقط على أنّه فيما إذا لم يكن إطلاق، نعم ذهب الشيخ في النهاية إلى اعتبار الأربعة قال: و يثبت الحكم بذلك بقيام البيّنة، و هي شهادة أربعة نفر عدول أو إقرار المرأة على نفسها أربع مرّات. «2» و بما أنّ النهاية من قبيل الإفتاء بالنصوص أو بمضمونها بتجريده عن الأسانيد

فلعل الشيخ عثر على دليل فتأمل و هو أيضاً خيرته في المبسوط قال: و أمّا الشهادة عليه فلا يقبل إلّا بأربعة رجال «3»، لكن الحقّ هو الاكتفاء بالبيّنة العادلة.

شهادة النساء في الفقه الإسلامي
اشارة

لا شكّ أنّ في الفقه الإسلامي فوارق بين أحكام الرجل و المرأة، نابعة عن اختلاف خلقتهما و الخصوصيات الموجودة في فطرتهما و من الفوارق، هو افتراقهما في باب الشهادة فهناك موارد، تقبل شهادة كليهما، و موارد تقبل شهادة الرجل دون المرأة، و هناك مورد أو موارد، الأمر على العكس فإليك تبيين تلك الموارد، على ضوء كلام المحقّق.

فهنا مقامان:
اشارة

المقام الأوّل: شهادتهنّ في حقوق اللّه.

المقام الثاني: شهادتهنّ في حقوق الآدمي.

[المقام الأوّل: شهادتهنّ في حقوق اللّه.]
اشارة

و إليك الكلام في الأوّل:

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الحدود، المسألة 8.

(2) الطوسي: النهاية: 706.

(3) الطوسي: المبسوط: 8/ 7.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 354

شهادة النساء في الزنا
اشارة

هل تجوز شهادة النساء في الزنا و لو في بعض الصور فيه، أقوال:

1- ما ذهب إليه الشيخ، و ابن البرّاج، و ابن حمزة، و ابن إدريس و المحقّق و ابن سعيد و غيرهم إلى جواز شهادة امرأتين مع ثلاثة رجال في الرجم، و أربع نساء مع رجلين في الجلد.

2- ما اختاره الصدوق و والده و أبو الصلاح الحلبي من ثبوت الحدّ، الأعم من الرجم و الجلد، بثلاثة رجال و امرأتين، و عدم ثبوت شي ء منهما في غير هذه الصورة، كرجلين و أربع نسوة. و يمكن استظهاره من عبارة ابن الجنيد، على ما نقله العلّامة في المختلف و سيوافيك نصّه.

3- ما ذهب إليه المفيد و سلّار من عدم جواز شهادتهنّ في الزنا مطلقاً في تمام الصور.

4- ما اختاره الشيخ في كتاب الشهادات من كتاب الخلاف من ثبوت الرجم في كلتا الصورتين، و الجلد بشهادة رجل و ست نسوة و هو قول شاذّ.

إذا عرفت الأقوال، فإليك دراستها، مع نقل كلمات القائلين.

القول الأوّل [جواز شهادة امرأتين مع ثلاثة رجال في الرجم، و أربع نساء مع رجلين في الجلد.]

حاصله: إذا شهد ثلاثة رجال و امرأتان يثبت الأمران الرجم و الجلد، و إذا شهد رجلان و أربع نساء يثبت خصوص الجلد:

1- قال الشيخ: و أمّا ما يراعى فيه مع شهادة النساء، شهادةُ الرجال. فكالرجم فإنّه إذا شهد ثلاثة رجال و امرأتان على رجل بالزنا قُبلتْ شهادتُهم، و وجب على الرجل الرجم إن كان محصناً، و إن شهد رجلان و أربع نسوة بذلك، قُبلتْ شهادتهنّ و لا يُرجم المشهود عليه بل يحدّ حدّ الزاني. و إن شهد رجل و ست

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 355

نساء أو أكثر من ذلك لم يجز قبول شهادتهم و جُلِدوا كلّهم حدّ الفرية. «1»

2-

قال ابن البرّاج: فإن شهد أربعة نفر ثلاثة رجال و امرأتان قُبلَتْ شهادتُهم في ذلك و وجب بشهادتهم الرجم، فإن شهد رجلان و أربع نساء لم يجب الرجم بهذه الشهادة، و يجب بها الحدّ الذي هو الجلد، فإن شهد رجل، و ستّ نساء أو أقلّ أو أكثر لم تقبل هذه الشهادة في الزنا و وجب على كلّ واحد منهم حدّ الفرية. «2»

3- و قال ابن حمزة: و الآخر في الزنا و السحق، فإن شهد ثلاثة رجال و امرأتان لزم بها الرجم على المحصن و إن شهد رجلان و أربع نسوة على المحصن لزم الجلد دون الرجم و مع اختيار هذا القول في فصل إعداد البيّنات «3» نسبه إلى القيل في كتاب الجنايات. 4 و قال: و إنّما يثبت بأحد شيئين بالبيّنة و بإقرار الفاعل على نفسه و البيّنة أربعة رجال من العدول و قيل: بثلاثة رجال و امرأتان، أو رجلان و أربع نسوة، و يلزم بشهادة رجلين و أربع نسوة، الجلد دون الرجم.

4- و هو خيرة ابن إدريس في السرائر 5 و المحقّق في الشرائع 6 و ابن سعيد في الجامع 7 إلى غيرهم. و يمكن استظهاره من عبارة ابن الجنيد حيث خصّ الرجم بثلاثة رجال و امرأتين 8 و من المعلوم أنّ ثبوت الرجم فيه يلازم ثبوت الجلد بوجه أولى، و لعلّ الاكتفاء به وحده، لأجل الإشارة إلى عدم الرجم في الصورة الثانية، و ثبوت الجلد فيها و قال سيّدنا الأُستاذ: يثبت الزنا بالبيّنة، و يعتبر أن لا تكون أقلّ من أربعة رجال أو ثلاثة رجال و امرأتين، و لا تقبل شهادات

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 332، باب شهادة النساء، و سيوافيك أنّه أفتى في

الخلاف على خلاف النهاية.

(2) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 4526.

(3) 3 و 4 ابن حمزة: الوسيلة، فصل إعداد البيّنات: 222، و كتاب الجنايات: 409. و لا يفوتنك أنّه عطف السحق على الزنا، و هو قول شاذّ.

(4) 5 ابن إدريس: السرائر: 2/ 137.

(5) 6 نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 136.

(6) 7 ابن سعيد الحلي: الجامع للشرائع: 542.

(7) 8 المختلف: كتاب الشهادات، 163.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 356

النساء متفردات و لا شهادة رجل و ست نساء فيه، و لا شهادة رجلين و أربع نساء في الرجم و يثبت بها الحدّ دون الرجم على الأقوى و لو شهد ما دون الأربعة و ما في حكمها لم يثبت الحدّ رجماً و لا جلداً بل حدّوا للفرية». «1»

ثمّ إنّ الروايات التي استدل بها على هذا القول على قسمين:

أ: ما يدور كلامها حول الرجم فتثبته في شهادة ثلاثة رجال مع امرأتين، لا في شهادة رجلين و أربع نساء من دون إشارة إلى الجلد في الصورتين.

ب: ما يثبت الرجم في شهادة ثلاثة رجال و امرأتين، و الجلد في شهادة رجلين و أربع نساء مع نفي الرجم فيه.

فمن القسم الأوّل:

1- صحيح عبد اللّه بن سنان قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «و لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال، و لا تجوز في الرجم شهادة رجلين و أربع نسوة و تجوز في ذلك ثلاثة رجال و امرأتان». «2»

2- صحيح الحلبي قال سألته عن شهادة النساء في الرجم فقال: «إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان، و إذا كان رجلان و أربع نسوة لم تجز في الرجم». 3

3- صحيح أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام

قال: «إذا شهد ثلاثة رجال و امرأتان جاز في الرجم و إذا كان رجلان و أربع نسوة لم تجز». 4

4- صحيح زيد الشحام: «لا تجوز شهادة النساء في الرجم إلّا مع ثلاثة رجال و امرأتين فإن كان رجلان و أربع نسوة فلا تجوز في الرجم». 5

5- خبر زرارة عن أبي جعفر عن علي عليه السَّلام: «تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان و إذا كان أربع نسوة و رجلان فلا يجوز الرجم». 6

______________________________

(1) الإمام الخميني، التحرير: 2/ 461، كتاب الحدود، المسألة 6.

(2) 2- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 10، 3، 25، 32، 11.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 357

و من القسم الثاني صحيح الحلبي و لعلّه الوحيد في هذا المورد.

عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه سئل عن رجل محصن فجرَ بامرأة فشهد عليه ثلاثة رجال و امرأتان وجب عليه الرجم، و إن شهد عليه رجلان و أربع نسوة فلا تجوزُ شهادتهم، و لا يُرجَم و لكن يضرب حدّ الزاني. «1»

و أمّا خبر عبد الرحمن عن الصادق عليه السَّلام: تجوز شهادة النساء في الحدود، مع الرجال، فيحمل على هاتين الصورتين، و أمّا في غيرهما فلا، لدلالة ما سبق على الحصر.

فتلخّص ثبوت الحدّ بكلا شقيه في الصورة الأُولى و خصوص الجلد في الصورة الثانية.

و لا يخفى أنّ هذا القول ينافيه في هذه النظر أُمور:

1- الآيات الثلاث الدالة على أنّ طريق الثبوت، أربعة رجال.

2- ما دلّ على عدم ثبوت الرجم بثلاث رجال و امرأتين.

3- ما دلّ على عدم ثبوت الجلد برجلين و أربع نسوة.

4- ما دلّ على عدم ثبوت الحدّ بالمرأة مطلقاً.

و إليك

دراستها.

أمّا الأوّل: فهو مبني على وجود المفهوم للآيات و القول بالمفهوم فيها أشبه بالقول به في اللقب نعم لو لم يدلّ شي ء على التوسعة يقتصر على ما في الآية لأجل عدم الدليل على التوسعة و إلّا فما دلّ على التوسعة حاكم على دلالتها.

أمّا الثاني: فتدل عليه صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: إذا

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 358

شهد ثلاثة رجال و امرأتان لم يجز الرجم و لا تجوز شهادة النساء في القتل. «1»

يلاحظ عليه: أنّ الرواية في مقابل ما تضافر من ثبوت الرجم في هذه الصورة شاذ لا تؤخذ بها، مضافاً إلى أنّ الظاهر من الخلاف أنّه موافق لفتوى العامة. قال في الخلاف: حقوق اللّه تعالى كلّها لا تثبت بشهادة النساء إلّا الشهادة بالزنا فإنّه روى أصحابنا أنّه يجب الرجم بشهادة رجلين و أربع نسوة، و ثلاث رجال و امرأتين و يجب الحد دون الرجم بشهادة رجل واحد و ست نسوة و خالفت جميع الفقهاء في ذلك و قالوا لا يثبت شي ء منها بشهادة النساء لا على الانفراد و لا على الجمع. «2» و معه يمكن حملها على التقية.

نعم في صدر كلام الشيخ قدس سره و ذيله ما لا يخلو من الشذوذ.

و أمّا المنافي الثالث، فهو القول الثاني الذي ندرسه بتفصيل كما ندرس المنافي الرابع بعده كذلك.

القول الثاني: عدم ثبوت شي ء برجلين و أربع نسوة

و هذا القول يخص الحدّ الأعم من الرجم و الجلد بصورة واحدة و هي شهادة ثلاثة رجال و امرأتين فقط و لا يُثبت في شهادة رجلين و أربع نساء شيئاً ذهب إليه الصدوقان.

قال علي بن

بابويه في رسالته: و تقبل في الحدود إذا شهد امرأتان و ثلاثة رجال. «3»

و قال الصدوق في المقنع: و لا بأس بشهادة النساء في الحدود إذا شهد

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 28.

(2) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 2.

(3) علي بن بابويه: المختلف: 163، و فقه الرضا: 262.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 359

امرأتان و ثلاثة رجال و لا تقبل شهادتهن إذا كنّ أربعَ نسوة و رجلان «1» و قال أبو الصلاح: و لا تقبل شهادة النساء فيما يوجب الحدّ إلّا شهادة امرأتين مع ثلاثة رجال في الزنا خاصة. «2» و نسبه الشهيد في المسالك إلى العلّامة في المختلف، و لكن صريح كلامه موافقته مع الشيخ في النهاية «3» استدل له بوجهين:

1- الأصل عدم الثبوت.

2- لو ثبت الزنا بشهادتهم (لأجل الحكم بالجلد) لثبت الرجم، و التالي باطل للأخبار الكثيرة الدالّة على عدم سماع شهادة رجلين و أربع نسوة في الرجم.

يلاحظ على الأوّل بأنّه مقطوع بالدليل الاجتهادي.

و يلاحظ على الثاني بأنّ الأثرين: الرجم و الجلد ليسا من الآثار التكوينيّة، لثبوت الزنا حتى لا يصح التفكيك بينهما إثباتاً بل للشارع التفكيك بين بعض الآثار، فالشديد (الرجم)، لا يثبت إلّا بطريق أكثر اطمئناناً و الضعيف يثبت بأقلّ منه طمأنينة.

و مع ذلك كلّه يمكن أن يحتج لهذا القول بروايات:

1- معتبر أبي بصير: «... تجوز شهادتها في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان و لا تجوز شهادة رجلين و أربع نسوة». «4» و الشاهد في قوله الأخير، حيث إنّ المنفي جواز شهادتها «في حدّ الزنا» بقرينة الفقرة الأُولى، فيعم الجلد و الرجم.

2- خبر إبراهيم الحارثي: «و

تجوز في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان

______________________________

(1) الصدوق، المقنع: 402.

(2) أبو الصلاح: الكافي: 436 و الاستدلال مبنيّ على اقتصاره بصورة واحدة، و مراده من الحدّ هو الأعم من الرجم و الجلد.

(3) المختلف، كتاب الشهادات: 163.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 360

و لا تجوز إذا كان رجلان و أربع نسوة، و لا تجوز شهادتهن في الرجم». «1» و كيفية الاستدلال واحدة و هي أنّ المنفي في الجملة الثانية، حدّ الزنا، الأعمّ من الرجم و الجلد.

3- صحيح محمّد بن الفضيل الأزدي عن أبي الحسن الرضا عليه السَّلام: «و تجوز شهادتهنّ في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان، و لا تجوز شهادة رجلين و أربع نسوة في الزنا». 2

فلو كان جواز الشهادة في الزنا و عدم جوازه كناية عن ثبوت الرجم و الجلد يكون مفاده هو ثبوتهما في الصورة الأُولى و عدمه في الثانية.

أقول: إنّ هذه الروايات، لا تخالف القول الأوّل في ثبوت الرجم و الجلد في الصورة الأُولى و إنّما تخالف ثبوت الجلد في الصورة الثانية و عدمه، و قد عرفت أنّ الدليل الوحيد لإثبات الجلد في الصورة الثانية هو صحيح الحلبي و 3 هو صريح في مضمونه، و أمّا هذه الروايات فليست صريحة في نفي الجلد فيها.

و ذلك لاحتمال أن يقال: إنّ محور البحث في الأُوليين هو ثبوت الرجم بشهادة المرأة و عدمه فالمثبت فيهما هو الرجم، و المنفي فيهما هو الرجم، و أمّا الجلد فخارج عن مدلولهما، فيكون المتبع في أمر الجلد هو صحيح الحلبي، و الذي يؤيد كون الرجم هو محور البحث هو

قوله في رواية الحارثي: «و لا تجوز شهادتهن في الرجم» الدال على أنّ محور البحث هو الرجم و على كلّ تقدير فهو ناظر إلى الصورة الثانية بالاتفاق، لثبوت الرجم في الأُولى عندنا و عند المستدل.

و احتمال أنّ المراد هو إثبات الجلد في الأولى، و نفيه في الثانية، ثمّ نفي الرجم في كليهما بشهادة هذا الذيل، لم يقل به أحد.

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 5 و 7.

(2) 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 30 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 361

و مثلها الرواية الثالثة و الحاصل أنّ هذه الروايات ليست صريحة في نفي الجلد في الصورة الثانية، بخلاف صحيح الحلبي فإنّه صريح في ثبوت الجلد فيؤخذ به.

القول الثالث: عدم جواز شهادتهنّ مطلقاً

و هذا هو المنافي الرابع لقول الشيخ، ذهب إليه المفيد في مقنعته، و سلّار الديلمي في مراسمه و إليك نصهما.

قال المفيد: و لا تقبل في الزنا و اللواط و السحق شهادة أقلّ من أربعة رجال مسلمين. «1»

و قال سلّار: فأمّا أعداد غير القسامة فعلى ضربين: عدد، و هو أربعة لا يجوزها و لا يقصر عنها و هو شهادة الزنا و اللواط و السحق. «2»

و تشهد له إطلاقات قابلة للتقييد.

منها: صحيح جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قلنا أ تجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: «في القتل وحده». «3»

منها: صحيح غياث بن إبراهيم «4» عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن علي عليه السَّلام: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، و لا في القود». «5»

منها: خبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السَّلام أنّه كان يقول: «شهادة

النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود». 6

______________________________

(1) المفيد، المقنعة: 727.

(2) سلّار الديلمي: المراسم العلوية: 233.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(4) غياث بن إبراهيم الأسيدي (لا الأسدي) وثّقه النجاشي و يحتمل أن يكون زيدياً، و هو غير حفص ابن غياث العامي، و غير غياث بن كلوب فلاحظ.

(5) 5- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 29، 42.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 362

و الكلّ قابل للحمل على غير الزنا، مع ما في الأخير من عدم قبول شهادتهن في النكاح عن الإشكال و سيوافيك الكلام فيه.

ثمّ إنّ هنا قولًا رابعاً ذكره الشيخ في الخلاف و لم يقل به أحد و هو جواز شهادتهن في الرجم في كلتا الصورتين،

و خصوص الجلد في صورة واحدة و هي رجل و ست نساء. «1»

حكم اللواط و السحق

بقي الكلام في ثبوتهما بالنساء على النحو الماضي في الزنا و يمكن استظهار جواز شهادتهنّ من عبارة ابن بابويه الماضية فعبَّر بالحدود و قال: تقبل في الحدود إذا شهد امرأتان و ثلاثة رجال، مكان التعبير بالزنا بخلاف الصدوق فقد عبر بالزنا، و مرّ أنّ ابن حمزة عطف السحق على الزنا «2» كما أنّ ابن زهرة سوّى بينهما و بين الزنا و قال: لا تقبل في الزنا إلّا شهادة أربعة رجال أو ثلاثة و امرأتين و كذا حكم اللواط و السحق. «3» و يؤيده إطلاق خبر عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال، و ما مرّ من أنّ اللواط كالزنا «4» و أنّ السحق في النساء كاللواط في الرجال و أنّ حدّها حدّ الزاني. «5»

و مع ذلك كلّه فالاعتماد على هذه الأُمور مع تضافر الإطلاقات على عدم قبول شهادتهن في الحدود مشكل، و قد خرجنا عنها، في الشهادة على الزنا لأجل تضافر الروايات على الجواز في الصورتين و بما أنّ الحدود تدرأ بالشبهات

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 2.

(2) ابن حمزة، الوسيلة، فصل اعداد البيّنات: 222.

(3) ابن زهرة: الغنية: 436، ط مؤسسة الإمام الصادق عليه السَّلام.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 5 من أبواب حدّ اللواط من ثبوته بالإقرار أربعاً كالزنا.

(5) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب حدّ السحق، الحديث 1 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 363

فالاقتصار على الزنا، و عدم ثبوتهما بشهادة النساء هو الأقوى، و لذلك قال العلامة في المختلف: و المعتمد ما

اختاره الشيخ في النهاية من الاقتصار في ذلك على الزنا خاصة. «1»

حكم سائر الحدود
اشارة

قد عرفت حكم الزنا و اللواط و السّحق من حيث الكمية و اعتبار الذكورة إنّما الكلام في سائر الحدود، كحدّ السرقة و شرب الخمر و الردّة فيقع الكلام في مقامين:

1- كفاية الاثنين من الرجال العدول و عدم اعتبار الزيادة.

2- عدم اعتبار شهادة النساء فيها.

أمّا المقام الأوّل [كفاية الاثنين من الرجال العدول و عدم اعتبار الزيادة.]

فيدلّ عليه إطلاق الكتاب مثل قوله: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و قوله: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) (البقرة/ 282) و ليس المورد مخصِّصاً.

فإن قلت: إذا كان الموردُ غيرَ مخصص، فلما ذا لم نقل به فيما دلّ على اعتبار الأربعة من الآيات الثلاث فإنّ وزان هذه الآيات، وزان الطلاق و الدين، فلو صحّ إلغاء الخصوصية فليكن كذلك في ما ورد من الآيات في طريق ثبوت الزنا.

قلت: إنّ الزنا من أكبر المعاصي و أفحشها و مثله اللواط و السحق، فاعتبار الأربع في الثلاثة، لا يكون دليلًا على ثبوتها في غيرها لأنّ إلغاء الخصوصية إنّما يُمكن إذ لم يكن غير المذكور أضعف من حيث الملاك من المذكور في الآية و لأجل ذلك يصحّ إلغاء الخصوصية في ما دلّ على اعتبار الاثنين دون ما دلّ على اعتبار الأربع.

______________________________

(1) ابن المطهر: المختلف، كتاب الشهادات: 163.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 364

و يدل عليه من السنّة إطلاق ما دلّ على حجّية قول العدلين في الروايات. أضف إلى ذلك ورود الدليل على الثبوت بعدلين في مورد السرقة. «1»

أمّا المقام الثاني: أعني عدم جواز شهادة النساء فيها

فيمكن الاستدلال عليه بوجهين:

الأوّل: ما يُحصِر حجّية قول المرأة بموارد خاصة، كالديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه كمعتبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السَّلام كان يقول: «شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا حدود، إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه» فهي تدل بقرينة الاستثناء على عدم قبول شهادتهنّ في غير الموردين. «2»

الثاني: ما يدل على عدم جواز شهادتها في الحدود مطلقاً، خرج مورد الزنا على ما عرفت و بقي الباقي تحته:

منها: معتبر غياث

بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السَّلام قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود و لا في القود». «3»

منها: خبر لا تجوز شهادة النساء في الحدود و القود. 4

منها: معتبر السكوني الماضية حيث جاء فيها: «و لا نكاح و لا حدود» نعم يعارضه ما ورد عنهم عليهم السَّلام من جواز شهادتهنّ في النكاح، و لكنّه لا يصدّنا عن العمل بغير المعارض ممّا ورد في الحديث.

بقي الكلام في جواز شهادتهنّ في القتل، فقد تعارضت الأخبار، ففي صحيح جميل: «أ تجوز شهادة النساء في الحدود، فقال: في القتل وحده» و لكن في

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب الشهادات 1، 2.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 42.

(3) 3- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 29، 30.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 365

صحيح ربعي تارة عن أبي عبد اللّه «1» و أُخرى عن محمّد بن مسلم 2 عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «لا تجوز شهادة النساء في القتل». و الظاهر كونهما رواية واحدة، سقطت الواسطة (محمّد بن مسلم) في الأوّل منهما. و يمكن رفع التعارض من حمل صحيح جميل على الدية، و الآخرين على القصاص بشهادة رواية معتبر غياث الماضية. 3 و خبر موسى بن إسماعيل. 4

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي 5 استدل على عدم جواز شهادتهنّ في الحدود بصحيح علاء عن أحدهما عليهما السَّلام قال: «لا تجوز شهادة النساء في الهلال» و سألته هل تجوز شهادتهنّ وحدهنّ؟ قال: «نعم في العذرة و النفساء». 6 و مثلها صحيح حريز عن محمّد بن مسلم قال: سألته تجوز شهادة النساء وحدهنّ؟ قال:

نعم في العذرة و النفساء 7 نفساء. و الروايتان، رواية واحدة رواها محمّد بن مسلم عن أحدهما، و رواها عنه تارة، العلاء و أُخرى حريز، لأنّ العلاء من أصحاب الإمام الصادق عليه السَّلام لا الإمام الباقر عليه السَّلام فلا يصحّ أن يقول عن أحدهما، و الظاهر سقوط «محمّد بن مسلم» عن الرواية الأُولى، و أمّا مقدار الدلالة، فتدل على أنّ شهادتهنّ منفردات لا تجوز في الموردين، و أمّا عدم حجّية شهادتهنّ منضمات إلى الرجال فلا تدل عليه.

حكم سائر الحقوق للّه

إذا تبيّن عدم حجّية شهادتهنّ في الحدود، يبقى الكلام في جواز شهادتهنّ في غيرها من حقوق اللّه سواء كان أمراً مالياً كالزكاة و الخمس و الكفارة و النذر، أو غير مالي كالإسلام، و البلوغ و الولاية و العدّة و الجرح و التعديل و العفو عن

______________________________

(1) 1- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث، 27، 28، 29، 30.

(2) 5 تكملة المنهاج: 122.

(3) 6 و 7 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 18 و 19.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 366

القصاص. «1»

أمّا قبول شهادة العدلين فيه فهو مقتضى إطلاق أدلّة حجّية البيّنة، مضافاً إلى ما ورد في خبر مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السَّلام كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان ...» و خبر عمرو بن خالد عن زيد عن آبائه سئل رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم عن الساحر فقال: «إذا جاء عدلان فيشهدان عليه فقد حلّ دمه». 2

إنّما الكلام في عدم حجّية شهادتهنّ أمّا منفردات، فلما مرّ من حصر حجّية شهادتهنّ منفردة في العذرة

و النفساء. 3 و إنّما الكلام في عدم جواز شهادتهنّ في هذا القسم من الحقوق فيكفي معتبر السكوني حيث قال: شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا في حدود إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه 4. و المراد من الديون هو حقوق الآدمي، فلا يعمّ الزكاة و الخمس و نحوهما.

قال الشهيد الثاني: و أمّا حقوق اللّه المالية فليس عليها نصّ بخصوصها لكن لمّا كان الأصل في الشهادة شهادة الرجلين و كان مورد الشاهد و اليمين و الشاهد و المرأتين الدّيون و نحوها من حقوق الآدميّين يقتصر على مورده و بقي غيره على الأصل. 5

[المقام الثاني] حقوق الآدمي و شهادة النساء
اشارة

قد قسم المحقق حقوق الآدمي إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما لا يثبت إلّا بشاهدين و عدّ منها موضوعات ستة:

______________________________

(1) 1 2 و الوسائل: الجزء 18، الباب 51 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2.

(2) 3 لاحظ الحديث 18 و 19 و 21 من الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3) 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 42.

(4) 5 زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 459.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 367

1 الطلاق 2 الخلع 3 الوكالة 4 الوصية إليه 5 النسب 6 رؤية الأهلّة.

و أشار المحقّق إلى وجود الاختلاف في النكاح و العتق و القصاص و هي عنده من القسم الثاني.

الثاني: يثبت بشاهدين، و شاهد و امرأتين. و شاهد و يمين و عدّ منها ثلاثة عشر موضوعاً يجمعها عناوين أربعة: 1 الديون 2 الأموال 3 عقود المعاوضات 4 الجناية التي توجب الدية.

الثالث: ما يثبت بالرجال و النساء منفردات و منضمات و هي موضوعات أربعة: 1 الولادة 2 الاستهلال 3 عيوب النساء الباطنة

4 الرضاع.

الرابع: ما يثبت بشهادة المرأة الواحدة: و مورده أمران: 1 ربع ميراث المستهلّ 2 ربعُ ميراث الوصية.

ثمّ ختم كلامه بقوله: و كلّ موضع تقبل فيه شهادة النساء لا تقبل بأقلّ من أربع.

و اعلم أنّ الضابطة في شهادة النساء هو ما جاء في معتبرة السكوني: «إلّا الديون، و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه». «1» و في غير واحد من الروايات: «إلّا العذرة و المنفوس» 2 و على ذلك فالتجاوز عن هذا المقدار يحتاج إلى الدليل. فإليك دراسة الأقسام الأربعة:

***

القسم الأوّل: ما لا يثبت إلّا بشاهدين
اشارة

قد عدّ المحقّق منها، موضوعات ستة:

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 24، الحديث 42 و 19، 19، 21.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 368

1- الطلاق

و المشهور عدم قبول شهادتهنّ فيه و خالفهم اثنان:

1- ابن الجنيد فقال: و لا بأس عندنا بشهادتهن مع الرجال في الحدود و الأنساب و الطلاق. «1»

2- الشيخ في المبسوط و لكنّه لم يخالف في خصوص الطلاق و إنما خالف في الجميع إلّا القصاص. قال في بيان هذا القسم: أحدها لا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين و هو ما لم يكن مالًا و لا المقصود منه المال و يطّلع عليه الرجال، كالنكاح، و الخلع، و الطلاق و الرجعة، و التوكيل، و الوصية إليه، و الوديعة، و الجناية الموجبة للقود و العتق، و النسب و الكتابة و قال بعضهم: يثبت جميع ذلك بشاهد و امرأتين و هو الأقوى إلّا القصاص. «2»

ثمّ إنّ كلام الشيخ في المقام يخالف ما أفاده في كتاب كفارة القتل قال هناك: و أمّا حقوق الآدميّين فإنّها تنقسم أيضاً ثلاثة أقسام: أحدها ما لا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين، و لا يثبت بشاهد و امرأتين و لا بشاهد و يمين، و هو كلّ ما لم يكن مالًا و لا المقصود منه المال و تطلع عليه الرجال كالوكالة و الوصيّة لأنّه إثبات نظر و تصرّف، و كذلك الوديعة و النكاح و الخلع و الطّلاق و الجراح الّذي يوجب القصاص و العتق و النسب و نحو هذا. «3» و ستوافيك كلمات العلماء في عدم قبول شهادتهن في الطلاق في ضمن نقل أقوالهم عند الكلام في جواز شهادتهن على النكاح و القتل.

و الأخذ بقوله يستلزم رفض روايات متضافرة

في مورد الطلاق و قد رواها الشيخ الحرّ في الوسائل في الباب الرابع و العشرين فلاحظ. «4» مضافاً إلى قوله

______________________________

(1) ابن المطهّر: المختلف، كتاب الشهادات: 160.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 172.

(3) الطوسي: المبسوط: 7/ 248.

(4) فلاحظ الحديث: 2، 5، 7، 35، 50 و ....

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 369

سبحانه في مورد الطلاق: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و لو جازت شهادتهن، لنُبّه بها في الآية، و إطلاق الروايات يعمّ عدم قبول شهادتهن في حين الطلاق أو في مقام المخاصمة.

2- الخلع

إذا اختلف الزوجان في البينونة و عدمها و ادعى أحدهما تحقّقها بصورة الطلاق الخلعي فلا تجوز شهادتهنّ نصّ به الشيخ في الخلاف في عبارته الآتية عند البحث عن جواز شهادتهنّ في النكاح و عدمه كما نصّ على الجواز في المبسوط كما عرفت. و أكثر الأصحاب اقتصروا على لفظ الطلاق نعم قال ابن إدريس: و هو ثلاثة أقسام: لا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين كالنكاح و الخلع و الطلاق «1» من غير فرق بين كون المدّعي هو الزوج أو الزوجة لأنّه نزاع في الطلاق و قد عرفت تضافر الروايات على عدم قبول شهادتهنّ فيه حتى و لو كان المدّعي هو الزوج، لأنّ المال الذي يدعيه الزوج أمر تابع، لا يجعل النزاع ماليّاً حتى تقبل شهادتها فيه.

و أمّا إذا اتّفقا على الطلاق و اختلفا في وصفه فقد فصّل كاشف اللثام بين كون المدّعي هو الزوج، لأنّ النزاع يصبح نزاعاً مالياً، بخلاف ما إذا كانت هي المدّعية فلا، لأنّها تدعيه لأجل إبطال جواز الرجوع. «2»

و لكن الظاهر مما ورد في جواز شهادتهن في الديون و الأموال كون مصبِّ الدعوى هو المال و

أمّا المقام فإنّ مصبَّها هو وصف الطلاق من كونه خلعياً أو رجعياً لا الأمر المالي، و إن كان يترتب عليه شي ء مالي.

3 و 4 الوكالة و الوصاية

إنّ ادعاء الوكالة و الوصاية ليس داخلًا في الضابطة التي سمعتها فليست

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 139.

(2) الفاضل الهندي: كشف اللثام: 2/ 189.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 370

الدعوى في دين أو أمر مالي أو فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه، و لا من قبيل العذرة و المنفوس. و المقصود من الوصاية هي الوصيّة العهديّة كأن يدعي أنّ الميّت جعله وصيّاً ليقوم بتجهيزه أو باستئجار شخص يحجّ عنه أو ينوب عنه في الصلاة أو غيرهما أمّا إذا تضمّنت وصيّة تمليكية فتدخل في القسم الثاني كما ستوافيك.

و يدل عليه معتبر عبد الرحمن قال سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن المرأة يحضرها الموت و ليس عندها إلّا امرأة، تجوز شهادتها؟ قال: «تجوز شهادة النساء في العذرة و المنفوس». «1» فإنّ العدول عن الجواب عما سُئل، إلى ما لم يُسأل دليل على عدم جواز شهادتهنّ في الإيصاء.

5 و 6 النسب و رؤية الأهلة

لا تقبل شهادتهنّ في النسب و رؤية الأهلّة لخروجهما عن المستثنى، و إن استلزم دعوى مالية كالإرث في النسب، و حلول آجال الديون في الثاني.

نعم من قال بأنّ الميزان في عدم القبول: «ما يطلع عليه الرجال و ما لا يكون مالًا و لا المقصود منه المال». «2» كان عليه القبول في مثل النسب لغاية ادعاء الإرث، و الهلال لأجل حلول آجال الديون. و لكن لم نعثر على تلك الضابطة و إن اشتهر بين الفقهاء لكونه منقوضاً بالنكاح و غيره و لذلك قال صاحب الجواهر: «لم أقف في النصوص على ما يفيده بل فيها ما ينافيه».

أضف إلى ذلك تضافر النصوص في عدم جواز شهادتهنّ في الهلال «3» و أمّا في خبر داود بن الحصين في

حديث طويل قال: «لا تجوز شهادة النساء في الفطر

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 21.

(2) الفاضل الهندي: كشف اللثام: 2/ 198.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 8، 10، 17، 18.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 371

إلّا شهادة رجلين عدلين و لا بأس في الصوم بشهادة النساء و لو امرأة واحدة». «1» فقد حمله الشيخ على أن يصوم الإنسان بشهادة النساء استظهاراً و احتياطاً دون أن يكون واجباً.

***

القسم الثاني: ما يثبت بأحد الطرق الأربعة
اشارة

ما يثبت بشاهدين، و شاهد و امرأتين، و شاهد و يمين، و امرأتين و يمين. فتكون الطرق أربعاً. نعم اقتصر المحقّق بالثلاثة الأُولى.

ثمّ إنّ الموضوع الذي نحن بصدد إثباته بهذه الطريقة لا يخلو عن ثلاثة: إمّا دين، أو حقّ، أو مال.
اشارة

فتكون الصور اثنتا عشرة و بما أنّ ثبوت الأُمور الثلاثة بشاهدين، موضع وفاق، كتاباً و سنة و فتوى، نركز البحث على حجّية الطرق الثلاثة الأخيرة في إثبات الموضوعات الّتي تعرفت عليها، و تكون الصور عندئذ تسعة و قبل البحث في المواضيع الثلاثة نقدّم، بعض كلمات فقهائنا في التعبير عن موضوع هذا القسم سعة و ضيقاً.

فقد اختلفت كلمات الأصحاب في تحديد موضوع هذا القسم و لعلّ الكلّ متفقون جوهراً و لبّاً و إن كانوا مختلفين تعبيراً و لفظاً و إليك الإشارة إلى تعابيرهم:

1- من عبّر بالدين فقط

1- قال ابن بابويه: و تقبل شهادة النساء في النكاح و الدين و في كلّ ما لا يُتهيّأ للرجال أن ينظروا إليه. «2»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 36.

(2) ابن المطهّر: المختلف، كتاب الشهادات: 160.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 372

2 قال الصدوق: و لا بأس بشهادة النساء في النكاح و الدين و كلّ ما لا يتهيأ للرجال أن ينظروا إليه. «1»

3- و قال ابن الجنيد: شهادة النساء في الدين جائزة بالنصّ، و المرأتان مقام رجل و كلّ أمر لا يحضره الرجال و لا يطَّلِعونَ عليه فشهادة النساء فيه جائزة. «2»

4- و قال الشيخ: و تقبل شهادتهنّ في الديون مع الرجال و على الانفراد. فإن شهد رجل و امرأتان بدين قبلت شهادتهم، فإن شهد امرأتان قبلت شهادتهما و وجب على الذي تشهدان له، اليمين كما يجب عليه اليمين إذا شهد له رجل واحد. «3» فإذاً مراده من الانفراد، هو شهادة المرأتين مع يمين المدّعي و ستعرف وجود النص عليه، و ليس مراده من الانفراد، هو شهادة أربع نساء. و على هذا يحمل كلام السابقين

عليه، أعني: أبناء بابويه و الجنيد حيث لم يقيِّدوا جواز شهادتها برجل أو بيمين و مرجع الجميع واحد و نظيره في كلام ابن البرّاج و ابن إدريس في التالي.

5- قال ابن البرّاج: و تُقبل شهادتهنّ في الديون مع الرجال و على الانفراد بأن يشهد رجل و امرأتان على إنسان بدين لرجل فتقبل شهادتهم و إن شهدت امرأتان قبلت شهادتهما و كانت بشهادة رجل واحد، يجب معهما اليمين على المشهود له. «4»

6- و قال ابن إدريس: و تقبل شهادتهنّ في الديون مع الرجال بغير خلاف على ما نطق به القرآن و على الانفراد عند بعض أصحابنا فإن شهد رجل و امرأتان بدين قبلت شهادتهما، فإن شهد امرأتان قبلت شهادتهما و وجب على الذي تشهدان له، اليمين كما تجب اليمين إذا شهد له رجل واحد عند بعض أصحابنا

______________________________

(1) الصدوق: المقنع: 402.

(2) ابن المطهّر: المختلف: 160.

(3) الطوسي: النهاية: 333.

(4) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 559.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 373

على ما قدّمناه. «1»

2- من عبّر بالديون و الأموال

7- قال المفيد: و تقبل شهادة رجل و امرأتين في الديون و الأموال. «2»

8- و قال سلّار: و ما تقبل فيها شهادة النساء إذا انضممن إلى الرجال، فالديون و الأموال تقبل فيها شهادة رجل و امرأتين. «3»

9- قال العلّامة: و أمّا الديون و الأموال كالقرض و القراض و الغصب و عقود المعاوضات و الوصية له، و الجناية الموجبة للدية و الوقف على إشكال فتثبت بشاهد و امرأتين و بشاهد و يمين. «4»

3- من عبّر بالمال أو المقصود منه المال

10- قال الشيخ: ما يثبت بشاهدين و شاهد و امرأتين و شاهد و يمين هو كلّ ما كان مالًا أو المقصود منه المال، فالمال، القرض و الغصب و المقصود منه المال عقود المعاوضات: البيع و السلم و الصلح و الإجارات و القراض، و المساقاة و الرهن، و الوقف و الوصية له، و الجناية التي يوجب المال عمداً كانت أو خطأ كالجائفة. «5»

4- من عبّر بالمال

11 قال الشيخ: حكم عندنا بالشاهد و اليمين في الأموال، و عند الشافعي و مالك على ما سنبيّنه، و يحكم عندنا بشهادة امرأتين، مع يمين المدّعي و به قال مالك، و قال أبو حنيفة و الشافعي و غيرهما لا يحكم بشهادة المرأتين مع اليمين

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 138.

(2) المفيد: المقنعة: 727.

(3) سلّار: المراسم العلوية: 234.

(4) ابن المطهّر: الإرشاد: 2/ 159.

(5) الطوسي: المبسوط: 8/ 172.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 374

. دليلنا، إجماع الفرقة و أخبارهم، و لأنّ المرأتين كالشاهد الواحد في الأموال، أ لا ترى لو أقام في المال شاهدين حكم له، و لو أقام شاهداً و امرأتين حكم له، ثبت أنّهما كالرجل الواحد ثمّ ثبت أنّه لو أقام شاهداً واحداً حلف معه، فكذلك إذا أقام امرأتين». «1»

حاصل ما أفاد: أنّه يحكم:

1- بالشاهد و اليمين.

2- بالمرأتين و اليمين.

و خالف أكثر الفقهاء في الثاني، فاستدل بأنّ المرأتين إذا كانتا منضمتين إلى الرجل، كانت شهادتهما نافذة، فهما كالرجل الواحد، هذا من جانب.

و من جانب آخر لو أقام شاهداً مع يمينه يحكم له، فكذلك ما هو منزل منزلته أي المرأتان مع اليمين.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره يتوقف على عموم في التنزيل و أنّ الشارع نزّل المرأتين، منزلة الشاهد مطلقاً،

سواء كانتا مع الشاهد أو مع اليمين و أنّى لنا إثبات هذا الأمر، و لعلّهما مثله إذا كانتا معه، لا مثله إذا كانتا مع اليمين فما ذكره أشبه بالقياس.

و على كلّ تقدير، لم يذكر شيئاً من شهادة رجل و امرأتين لأنّه ليس محلًا للخلاف و قد نصّ به الذكر الحكيم، فكيف يُذْكر في الكتاب المؤلّف لبيان الخلافيات، نعم كان عليه تحديد الموضوع سعة و ضيقاً.

2- 1 قال ابن حمزة: و تقبل شهادتهنّ مع الرجال، و مع اليمين إذا لم يكن رجال و هي في موضعين: في المال، و فيما كان وصلة إليه. «2»

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 7.

(2) ابن حمزة: الوسيلة: 222.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 375

هذه اثنتا عشرة كلمة نكتفي بها، و عليك بالتتبع في كلمات الباقين كالفاضل المقداد و ابن فهد، و ...

و لنأخذ كلّ واحد من الدين و الحقّ و المال بالبحث منفرداً فنقول:
[أما مورد الدين]
1- ثبوت الدين برجل و امرأتين

إنّ ثبوته بهما، صريح الكتاب العزيز قال سبحانه: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى أن قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ) (البقرة/ 282).

و أمّا السنّة فنقتصر بنقل رواية واحدة و هي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح فقال: «تجوز إذا كان معهنّ رجل و كان علي عليه السَّلام يقول: لا أجيزها في الطلاق» قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال: «نعم». «1»

2- ثبوت الدين بشاهد و يمين

أمّا ثبوت الدين بشاهد و يمين فهو من ضروريات فقهنا و إن خالفتنا العامة فقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت في صحّة القضاء بشاهد و يمين طالبِ الحق و أنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قضى بهما ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «كان رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يجيز في الدين بشهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين». «2» و قد عقد صاحب الوسائل في كتاب القضاء في أبواب كيفية الحكم، باباً لذلك و جعل العنوانَ حقوق الناس المالية و قد استقصينا البحث فيه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 376

في كتاب القضاء فراجع. «1»

3- ثبوت الدين بامرأتين و يمين المدّعي

تضافرت الروايات، بثبوت الدين بامرأتين و يمين المدّعي و قد عقد الشيخ الحرّ باباً لذلك و جعل العنوان كالباب السابق «الدعوى المالية» و نكتفي في ذلك ما يلي:

1- روى منصور بن حازم عن موسى بن جعفر عليهما السَّلام: «إذا شهد لطالب الحقّ، امرأتان و يمينه فهو جائز». «2»

2- و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام: «أنّ رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين يحلف باللّه أنّ حقّه لحق». 3

3- روى منصور بن حازم قال حدثني الثقة عن أبي الحسن عليه السَّلام قال: «إذا شهد لصاحب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز». 4 و يحتمل اتحادها مع الأُولى و الموضوع في الأُولى و الأخيرة هو الحقّ

و في الثاني هو الدين، لكن الذيل دالّ على انّ الموضوع للثبوت هو الحق و أنّ الدين إنّما يثبت بهما لكونه حقّاً حيث قال: يحلف اللّه أنّ حقّه لحق. و على كلّ تقدير فالدين من مصاديق الحقّ قطعاً مضافاً إلى التصريح بالدين في صحيح الحلبي.

*** إلى هنا تمّ الكلام في الطرق الثلاثة في مورد الدين

و إليك البحث عن الطرق الثلاثة في مورد الحق
اشارة

و نقول:

______________________________

(1) كتاب القضاء: 528.

(2) 2- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، 3، 4. و سيوافيك تصحيح سند الأُولى و الأخيرة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 377

4- ثبوت الحقّ برجل و امرأتين.

5- ثبوت الحقّ، برجل و يمين.

6- ثبوت الحقّ بامرأتين و يمين.

المراد من الحقّ، هو حقّ الناس، كحقّ الشفعة و الخيار، و الرهن و المرور.

و نركِّز على البحث في القسم الأوّل، لكونه محلًا للخلاف دون الأخيرين لورود الروايات فيهما.

و يدل على الإشهاد بالأوّل أُمور:

1- قوله سبحانه: (فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ)

قال سبحانه: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ) (البقرة/ 282) و الآية و إن وردت في مورد الدين، لكن المورد غير مخصِّص و فهم العرف يساعد جواز شهادتهن مع الرجل، في الأُمور المالية، بشهادة أنّه سبحانه يقول في ذيل الآية: (وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ) و يأمر بالإشهاد في البيع و من الواضح أنّ المراد منه هو الإشهاد المتقدم الوارد في نفس الآية أعني: «شهادة رجلين أو رجل و امرأتين» فإذا جاز شهادتهما مع رجل في البيع، جاز في غيره، لأنّه يُستظهر منه أنّ الآية بصدد بيان الضابطة في الأُمور المالية سواء كان ديناً أو غيره أوّلًا، و عدم القول بالفصل ثانياً.

و ربّما يورد على الاستدلال بالآية، بأنّ معتبر «داود بن الحصين»، خصّ جواز شهادتهن مع رجل في الآية بمورد الدين حيث روى عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه قال: «و كان أمير المؤمنين يُجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار و لا يجيز في الطلاق إلّا شاهدين عدلين» فقلت: فأين ذكر اللّه تعالى قوله: (فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ)؟ فقال: «ذلك

في الدين، إذا لم يكن رجلان، فرجل و امرأتان، و رجل

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 378

واحد و يمين المدّعي «1» إذا لم يكن امرأتان قضى بذلك رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم و أمير المؤمنين عليه السَّلام بعده عندكم». «2»

يلاحظ عليه: أنّ المراد من تخصيصه بالدين في مقابل الطلاق الذي استدل الراوي على جواز شهادتهما مع رجل فيه بالآية فأجاب الإمام بأنّه في الدين، أي لا في الطلاق الذي هو محلّ الكلام أي الذي ليس بينه و بين الدين تسانخ و لا تشابه و لا يريد به نفي ثبوت الحقوق و الأموال بهما التي يتلقاهما العرف مع الدين من باب واحد، و الظاهر أنّ دلالة الآية كافية في ثبوت الحقوق مع رجل و امرأتين.

2- أولوية المقام من الإشهاد برجل و يمين

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت ثبوت الدعوى في حقوق الناس المالية بشاهد و يمين و هو من ضروريات الفقه الإمامي، و قد عبّر عنها فيها تارة بيمين صاحب الدين «3» و أُخرى بيمين صاحب الحق 4 و ثالثة بحقوق الناس 5 و رابعة بيمين المدّعي 6 على وجه الإطلاق، و أمّا في بعض الروايات من اختصاص الثبوت بالدين وحده. 7 فلا يراد منه أنّه لا يتجاوز عن الدين إلى الحقّ بل يريد إخراج مثل حقوق اللّه أو الهلال بقرينة رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس و أمّا ما كان من حقوق اللّه عزّ و جلّ أو رؤية الهلال فلا. 8

و أمّا سند الرواية الأخيرة فرواها الشيخ بسند غير نقي عن الحسن

بن محبوب عن العلاء عن محمّد بن مسلم إذ في طريقه «عبيد اللّه بن أحمد» و هو لم يوثق و

______________________________

(1) الحديث صريح في أنّ الإشهاد برجل و يمين المدّعي في طول الإشهاد برجل و امرأتين.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 35.

(3) 3- 8 الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1، 2، 12، 3، 10، 12.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 379

لكن رواها الصدوق بسند صحيح عن الحسن بن محبوب، و هو و من بعده ثقات و الرواية صحيحة.

هذا من جانب، و من جانب آخر دلّت معتبرة داود بن الحصين على أنّ الإشهاد برجل و يمين المدّعي في طول الاحتجاج برجل و امرأتين «1» فإذا صحّ الإشهاد برجل و يمين يصحّ جواز الإشهاد برجل و امرأتين بوجه أولى.

و بهذا البيان تبيّن جواز الاحتجاج برجل و امرأتين، و برجل و يمين، الذي هو الطريق الثاني. أمّا الثاني بالنص و أمّا الأوّل فبالأولويّة.

3- أولوية المقام من الإشهاد بالمرأتين و اليمين

و هناك أولوية أُخرى و هي التي تعدّ دليلًا ثالثاً على جواز الإشهاد برجل و امرأتين و هي أنّه إذا جازت شهادة المرأتين مع يمين صاحب الحق، فشهادة الرجل مع المرأتين أولى بالجواز.

روى الصدوق بسنده عن منصور بن حازم أنّ أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السَّلام قال: «إذا شهد لطالب الحقّ، امرأتان و يمينه فهو جائز». «2»

رواه الكليني عن بعض أصحابنا عن محمّد بن عبد الحميد، عن سيف بن عميرة، عن منصور بن حازم قال: حدثني الثقة عن أبي الحسن عليه السَّلام قال: «إذا شهد لصاحب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز». 3

و طريق الصدوق إلى منصور بن حازم، صحيح

لو لا محمّد بن علي ماجيلويه، فإنّه لم يوثق، و لكن القرائن تشهد على وثاقته و ذلك من جهات:

1- وثقه العلّامة في الخلاصة و لأجل ذلك صحّح طريق الصدوق إلى

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 35.

(2) 2 و 3 الوسائل: الجزء 18، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1 و 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 380

إسماعيل بن رياح و هو فيه و كذلك طريقه إلى الحرث بن المغيرة، و الحسين بن زيد. «1»

2- أكثر الصدوق عنه الرواية بلا واسطة، و ترضّى عنه كلّما ذكره، لكونه من مشايخه.

3- ذكرنا في محلّه أنّ شيوخة الإجازة تغني عن التوثيق غالباً.

4- وثقه الميرزا الاسترآبادي في الوسيلة، و الفاضل الجزائري، حسب ما نقله المامقاني في التنقيح.

5- إنّ الصدوق صرح في ديباجة الفقيه، أنّ الكتب الّتي يروي الحديث عنها كتب مشهورة معتبرة و على هذا يكون ذكر السند إليها في المشيخة. لأجل إخراجها عن الإرسال إلى الإسناد، مع عدم الحاجة إليه.

و لأجل هذه القرائن، لا يصح العدول عنه إلى غيره فالرواية معتبرة تحتجّ بها و الإشكال بأنّ ابن حازم يروي الحديث عن نفس الإمام تارة و عن الثقة أُخرى غير ضائر لإمكان أنّه سمعه أوّلًا، عن الثقة فرواه، ثمّ عن نفس الإمام.

و النتيجة أنّه تجوز شهادتهنّ مع اليمين.

فإذا صحّ الإشهاد بالمرأتين و يمين صاحب الحقّ جاز شهادتهنّ مع الرجل، بوجه أولى، و ذلك لأنّ شهادة المرأتين مع يمين صاحب الحقّ في درجة متأخرة عن سائر الطرق بشهادة أنّ رواية داود بن الحصين، ذكر الطرق الثلاثة على ترتيب خاص و لم يذكرها «2» و مثله مرسلة يونس «3»، فإذا صحّ

الاحتجاج في ثبوت الحقّ، بالمرأتين و اليمين فالاحتجاج برجل و امرأتين أولى بالإثبات.

______________________________

(1) تنقيح المقال: 3/ 159.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 35.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 381

و بهذا البيان الضافي، ثبت جواز الشهادة في الطرق الثلاثة فلاحظ.

7- 9

ثبوت المال بالطرق الثلاثة
اشارة

كان الكلام في السابق مركّزاً على ثبوت الدين و الحقّ الآدمي بالطرق الثلاثة و قد نهض الدليل على ذلك، و الكلام في المقام مركّز على ثبوت المال بها، و الظاهر ثبوته بها بالطريق الأولى، لصحّة الاحتجاج بالرجل و المرأتين في البيع، الذي ظاهره أنّ النزاع في وجود العقد و عدمه، لكن مفاده و لبّه يرجع إلى أنّ المبيع للمشتري، و الثمن للبائع و عدمه. و يفهم منه عرفاً حجّيتهما فيما إذا ادعى كونه مالكاً لما في يد الآخر، و احتجّ بشاهد و امرأتين و معلوم أنّه ليست للبيع خصوصيّة في هذا المقام.

بل يمكن الاحتجاج هنا بصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد، إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس». «1» فإنّ الظاهر من حقوق الناس هو مطلق الدعاوي المربوطة بالآدميّين التي أظهرها الأُمور المالية التي منها الدعوى في العين.

و قد عرفت في ما سبق أنّ صحّة الاحتجاج برجل و يمين، يلازم صحّة الاحتجاج برجل و امرأتين، لكون الثاني أقوى حجّية، فالصحيحة كما أنّها حجّة في موردها فهي تدل على صحّة الاحتجاج بما هو أقوى في موردها أعني الاحتجاج برجل و امرأتين.

و بذلك يعلم صحّة الاحتجاج، بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج

حيث دلّت على حضور علي مع خصمه «عبد اللّه بن قُفَّل» في محكمة شريح و كان النزاع في درع طلحة و كانت بيد الخصم، و كان علي عليه السَّلام يدعي أنّه من بيت المال و ممّا قاله عليّ لشريح، أنّه كان يمكنه أن يقضي في المقام بشهادة واحد و يمين. 2 و

______________________________

(1) 1 و 2 الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 12، 6.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 382

كيفية الاستدلال بالحديثين واحدة.

بقي الكلام في ثبوت المال بالطريق الثالث أي المرأتين و يمين المدّعي فإن قلنا بأنّ الإمعان في مجموع روايات الباب يعطي حجّية شهادة المرأتين في الأُمور المالية مطلقاً، أو قلنا إنّ الحقّ في رواية منصور بن حازم الواردة في شهادة المرأتين مع يمين صاحب الحقّ، كناية عنها، أو قلنا بأنّ العرف، يلغي الخصوصية بين الحقّ و العين فيثبت المال بهما، و إلّا فلا. و الحقّ، أنّ القرائن المتوفّرة تدل، على أنّ الإسلام سلب عن شهادتها الحجّية في حقوق اللّه، إلّا ما خرج و أضفى لها الحجّية فيما يرجع إلى حقوق الناس بالمعنى الأعمّ من الدين، و الحقّ و العين.

ثبوت الوقف بشهادة المرأة

و ممّا ذكرنا تظهر الحال في الوقف، فإنّه حقوق لآدمي تطلب منه المنفعة سواء كان وقفاً عاماً أو خاصاً و إليك بعض الكلمات:

1- قال الشيخ: و قال بعضهم يثبت جميع ذلك (مشيراً إلى الوقف و غيره) بشاهد و امرأتين و هو الأقوى إلّا القصاص. «1»

2- و قال: لا يثبت الوقف بشهادة واحد مع يمين المدّعي، و للشافعي فيه قولان: بناء على أنّ الوقف إلى من ينتقل فإذا قال: ينتقل إلى اللّه تعالى فلا يثبت إلّا

بشاهدين، و إذا قال ينتقل إلى الموقوف عليه فيثبت بشاهد و يمين، و قال أبو العباس: يثبت بشاهد و يمين قولًا واحداً دليلنا أنّ ما اعتبرناه مجمع على ثبوت الوقف به، و ما قالوه ليس عليه دليل و الأخبار التي رويناها في القضاء بالشاهد مع اليمين مختصّة بالأموال و الوقف ليس بمال للموقوف عليه بل له الانتفاع به فقط دون رقبته. «2» فإذا لم يثبت كونه مالًا، فلا يحتج بالمرأتين، مع الشاهد أو مع اليمين كما لا يحتج كما ذكره بالشاهد و اليمين.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 172.

(2) الطوسي: الخلاف، 3، كتاب الشهادة، المسألة 25.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 383

3 قال العلّامة: و أمّا الديون و الأموال كالقرض، و القراض و الوقف على إشكال فتثبت بشاهد و امرأتين و بشاهد و يمين. «1»

4- و قال سيّدنا الأُستاذ: «و في قبول شهادتهن في الوقف وجه لا يخلو عن إشكال و لعلّ وجه الإشكال عدم انتقال الموقوفة إلى الموقوف عليهم، و بقاؤه على ملك الواقف أو انتقاله إلى ملكه سبحانه، كما هو أحد الأقوال في كلام الشيخ في الخلاف».

يلاحظ عليه: أنّ النزاع ليس في الرقبة و إنّما النزاع في منافعها المالية التي تعدّ من حقوق الناس و هذا يكفي في الثبوت، على أنّ الحقّ انّ الوقف يخرج من ملك الواقف و يدخل في ملك الموقوف عليه ملكاً، غير صالح للإخراج.

***

القسم الثالث: ما يثبت بالرجال و النساء منفردات و منضمات

و هذا القسم لا يختص بصنف بل يعمّ كلّ شاهد ذكراً كان أو أُنثى، و الأُنثى منفردة كانت أو منضمّة، و ضابطه كلّ ما يعسر اطلاع الرجال عليه غالباً. قال الشيخ في المبسوط: و الثالث ما يثبت بشاهدين، و شاهد و

امرأتين و أربع نسوة، و هو الولادة، و الرضاع، و الاستهلال، و العيوب تحت الثياب و أصحابنا رووا أنّه لا تُقبل شهادة النساء في الرضاع أصلًا و ليس هاهنا ما يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد إلّا هذه. «2»

و قال أيضاً في الخلاف: تقبل شهادة النساء على الانفراد في الولادة و الاستهلال، و العيوب تحت الثياب، كالرتق، و القرن و البرص، بلا خلاف و تقبل عندنا شهادتهنّ في الاستهلال و لا تقبل في الرضاع أصلًا، و قال الشافعي:

______________________________

(1) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 159.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 172.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 384

تُقبَل شهادتهنّ في الرضاع أيضاً، و الاستهلال و قال أبو حنيفة: لا تقبل شهادتهنّ على الانفراد فيهما بل تقبل شهادة رجل و امرأتين دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضاً ما اعتبرناه مجمع على قبول شهادتهنّ فيه، و ما قال الشافعي ليس عليه دليل و أيضاً الأصل أنّ الإرضاع، و إثبات ذلك يحتاج إلى دليل و ليس في الشرع ما يدلّ على أنّ بشهادتهنّ يثبت ذلك. «1»

و قال ابن البرّاج: أمّا الذي يجوز قبول شهادتهنّ فيه و لا يجوز أن يكون معهنّ أحد من الرجال فهو جميع ما لا يجوز للرجال النظر إليه مثل العُذرة و الأُمور الباطنة في النساء، و شهادة القابلة وحدها في استهلال الصبي في ربع ميراثه، و شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية، و شهادة امرأتين في نصف ميراث المستهل و نصف الوصية، و على هذا الحساب. «2» إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في المقام بين ما ينصّ على الضابطة، و ما يبين حكم موضوع خاص، فمن الأولى:

1- معتبر أبي

بصير: قال سألته عن شهادة النساء فقال: «تجوز شهادة النساء وحدهنّ على ما لا يستطيع الرجال النظر إليه». «3»

2- خبر إبراهيم الحارثي: قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه و يشهدوا عليه». 4

3- و معتبر محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السَّلام، قال: «تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه و ليس معهن رجل». 5

4- موثقة عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «تجوز شهادة النساء في العذرة و كلّ عيب لا يراه الرجل». 6

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 9.

(2) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 559.

(3) 3- 6 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 4، 5، 7، 9.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 385

5 صحيح عبد اللّه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السَّلام يقول: «تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه». «1» إلى غير ذلك من الأحاديث الحاملة للضابطة.

و أمّا الثانية أي التنصيص على الموارد، فقد تضافرت الروايات على جواز شهادتهنّ في المنفوس و العذرة، و بما أنّ المراد من الشهادة على المنفوس هو الشهادة على المولود، و أنّه ولد حيّاً أو ميتاً استهلّ أو لا، كما أنّ من الشهادة على العُذرة كون المرأة بَكراً أو لا، فقد بلغ عدد الروايات فيهما اثنين و عشرين لكن بتعابير مختلفة.

فتارة تنص على شهادة القابلة. «2»

و أُخرى على شهادة النساء في المنفوس و العذرة أو خصوص الأخيرة. «3»

و ثالثة في شهادتها في استهلال المولود، و بالتالي صحّة وراثته. «4»

و

مرجع الجميع إلى شهادة المرأة في أُمور الولادة، التي لا تحضرها إلّا النساء غالباً و تلحق به العذرة التي لا يقف عليها شرعاً إلّا النساء.

و سيوافيك تفصيل الأمر في تنفيذ شهادة القابلة و المرأة الواحدة و المقصود في المقام بيان أصل نفوذ شهادة المرأة.

بقي الكلام في أُمور:
اشارة

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 10، و لاحظ أيضاً الحديث 12، 42، 50.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 2، 6، 10، 23، و غيرها

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 2، 8، 9، 13، 14، 18، 19، 21، 44، 46، 49.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 6، 38، 41، 48.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 386

1- هل تتعين شهادتهن في هذه الموارد؟

مقتضى إطلاق حجّية قول الشاهد، حجّية شهادته حتّى في هاتيك الموارد إذا لم يوجب الحضورُ الخروجَ عن العدالة، كما في حالة الضرورة، أو كان النظر جائزاً كما في الزوج، أو كان سمع الصوت، و لم يكن ملازماً للنظر إلى الأمر المحرّم إلى غير ذلك من الموارد التي يمكن تصوير مشاركة الشاهد العادل مع النساء في هذه الموارد.

و ما في بعض الروايات من التقييد بلفظ وحدهنّ كما في صحيح ابن سنان قال: تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه و تجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس. «1» فلا يعني إلّا إضفاء الحجّية على شهادتهنّ في هذه الحالة أيضاً و إن لم يكن معهن رجال، و لا يعني سلب حجّيتها إذا كنّ منضمات إلى الرجال و لعلّ كلام ابن البرّاج الماضي حيث قال: «و لا يجوز أن يكون معهنّ أحد من الرجال» ناظر إلى بيان الموضوع و أنّ من شأنه أن لا يحضره الرجال لا أنّه إذا حضروا و لم يكن منافياً للعدالة، لا تجوز شهادتهم.

و الحاصل أنّ الروايات ليست بصدد كون شهادتهنّ متعيّنة في هذه الموارد و أنّه ليست لشهادة غيرهنّ قيمة.

و أمّا ردّ الإمام علي عليه السَّلام شهادة الرجال على الزنا، عند التعارض مع شهادة النساء على كون المرمية بالزنا بكراً «2» فلا يرمي إلى نفي كون شهادتهم في المورد في عرض شهادة النساء بل لمّا ادعت المرأة كونها بكراً كما في بعض الروايات، صار الموضوع مقروناً بالشبهة فأمر الإمام بالفحص.

2- شهادتهن في الرضاع

قد تعرفت في نقل الكلمات على اختلافهم في جواز شهادتهنّ في الرضاع

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 10.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 13، 44.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 387

قال الشيخ في المبسوط بعد ما ذكر قبول شهادة أربع نسوة في الولادة و الاستهلال و العيوب تحت الثياب: و أصحابنا رووا أنّه لا تقبل شهادة النساء في الرضاع أصلًا. «1»

2- و قال في كتاب الرضاع من الخلاف: لا تقبل شهادة النساء عندنا في الرضاع بحال و قال أبو حنيفة و ابن أبي ليلى: لا تقبل شهادتهنّ منفردات إلّا في الولادة، و قال الشافعي: شهادتهنّ على الانفراد تقبل في أربعة مواضع: الولادة، الاستهلال، و الرضاع و العيوب. «2»

3- قال المفيد: و تقبل شهادة امرأتين مسلمتين مستورتين فيما لا يراه الرجال كالعذرة ... و الرضاع. «3»

4- و قال سلار: و أمّا ما تؤخذ فيه شهادة النساء فكلّ ما لا يراه الرجال كالعذرة و عيوب النساء ... و الرضاع و تقبل شهادة امرأة واحدة إذا كانت مأمونة. «4» و سيوافيك الكلام في قبول المرأتين أو المرأة الواحدة فانتظر.

5- قال ابن حمزة: شهادة أربع نساء. ذلك في ستّة مواضع: الرضاع و الولادة و العُذرة و الحيض و النفاس و عيوب النساء التي تكون

تحت الثياب مثل البرص و الرتق و القرن. «5»

6- و قال المحقّق: و في قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع خلاف أقربه الجواز. «6»

7- و قال العلّامة: و أمّا الولادة و الاستهلال و عيوب النساء الباطنة و الرضاع على إشكال فتقبل شهادتهنّ و إن انفردن. «7»

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 174.

(2) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الرضاع، المسألة 19.

(3) المفيد: المقنعة: 727.

(4) سلّار، المراسم العلوية: 234.

(5) ابن حمزة: الوسيلة: 222.

(6) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 137.

(7) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 159.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 388

وجه القبول واضح لاندارج الرضاع في الضابطة السابقة لأنّه من الأُمور التي لا يطلع عليه إلّا النساء أو لا يجوز للرجال النظر إليه.

احتج للقول الآخر بأمرين:

1- الأصل، أي أصالة عدم جواز شهادتهنّ لكنّه مقطوع بما دلّ على جواز شهادتهنّ في كلّ مورد يدخل تحت الضابطة.

2- مرسل ابن بكير في امرأة أرضعت غلاماً و جارية قال: «يعلم ذلك غيرها؟» قلت: لا قال: فقال: «لا تصدق إن لم يكن غيرها». «1» و الأولى أن يحتجّ به على جواز شهادتهنّ، لدلالته بالمفهوم على صحّة الاحتجاج بها إذا كانت معها غيرها.

3- شهادة امرأة واحدة في ربع الميراث و الوصية

تقبل شهادة المرأة الواحدة بلا يمين في ربع ميراث المستهل، و في ربع الوصية، و الاثنتين في النصف، و الثلاثة، في ثلاثة أرباع و الأربعة في تمام المال.

قال الشيخ في الخلاف: فإن كانت شهادتهنّ في الاستهلال، أو في الوصيّة لبعض الناس قُبلَت شهادة امرأة في ربع الميراث، و ربع الوصية، و شهادة امرأتين في نصف الوصية و نصف الميراث، و شهادة ثلاث في ثلاثة أرباع الوصية و ثلاثة أرباع الميراث، و شهادة أربع في جميع الوصية و جميع ميراث

المستهل، و قال الشافعي: لا يقبل في جميع ذلك إلّا شهادة أربع منهنّ، و لا يثبت الحكم بالأقل من أربع على كلّ حال.

و به قال عطاء، و قال عثمان البتي: يثبت بثلاث نسوة، و قال مالك و الثوري: تثبت بعدد و هو اثنتان فيهنّ. «2»

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 14، الباب 12 من أبواب ما يحرم بالرضاع، الحديث 3.

(2) الطوسي: الخلاف 3، كتاب الشهادات، المسألة 10.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 389

و قال ابن إدريس: و تقبل شهادة القابلة وحدها إذا كانت بشرائط العدالة في استهلال الصبي في ربع ميراثه بغير يمين، و تقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية، و شهادة امرأتين في نصف ميراث المستهل و نصف الوصية، ثمّ على هذا الحساب، و ذلك لا يجوز إلّا عند عدم الرجال و على المسألتين إجماع أصحابنا فلأجل ذلك قلنا بذلك. «1»

أمّا تنفيذ شهادة المرأة الواحدة في الاستهلال فقد أوعزنا محال رواياتها فيما مضى فلاحظ، و يكفي في المقام صحيح عمر بن يزيد و فيه: «شهدت المرأة التي قبلتها أنّه استهلّ و صاح حين وقع إلى الأرض، ثمّ مات، قال على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام». «2»

نعم لا يختص تنفيذ الربع بالقابلة و لفظ القابلة من قبيل القيود الواردة مورد الغالب، و إلّا فلو لم تشهد القابلة لغفلتها أو لكونها صماء و شهدت مرأة أُخرى عادلة، تنفَّذ شهادتها، و يشهد لذلك نفوذ شهادة الثانية و الثالثة في بقية الأرباع و إن لم يكن قوابل. هذا كله حول الشهادة على الاستهلال، المثبت للميراث. و أمّا الشهادة على الوصية.

ففي صحيح محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «قضى أمير

المؤمنين عليه السَّلام في وصيّة لم يشهدها إلّا امرأة، فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصية». «3» و في صحيح ربعي عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شهادة امرأة حضرت رجلًا يوصي فقال: «يجوز في ربع ما أوصى بحساب شهادتها». «4»

نعم يعارضه خبر أحمد بن هلال العبرتائي (267180) المذموم المطرود 5

______________________________

(1) ابن إدريس: السرائر: 2/ 138.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 6 و لاحظ أيضاً 38، 41، 48.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 389

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 15.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 16، 34.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 390

و صحيح محمّد بن إسماعيل بن ربيع قال: سألت عن امرأة ادّعى بعض أهلها أنّها أوصت عند موتها من ثلثها، بعتق رقيق لها أ يعتق ذلك و ليس على ذلك شاهد إلّا النساء؟ قال: «لا تجوز شهادة النساء». «1» و حملها الشيخ على التقية. و يحتمل عدم كون الشهادة جامعة للشرائط.

مسائل ثلاث
الأُولى: ليست الشهادة شرطاً في العقود

الشهادة ليست شرطاً في صحّة شي ء من العقود و الإيقاعات إلّا الطلاق و الظهار لقوله: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ) (الطلاق/ 2) و أمّا بيان حكم الإشهاد في الرجعة و النكاح و البيع و الدين و دفع أموال اليتامى، فموكول إلى محلّها.

الثانية: حكم القاضي تابع للشهادة

التخطئة و التصويب في الأحكام الشرعيّة مسألة معروفة و القائلون بالتصويب فيها يقولون إنّ حكم اللّه سبحانه فيما لم يرد فيه نصّ في الكتاب و السنّة تابع لرأي المجتهد و تشخيصه ما هو المطابق للمعايير الخاصة و اختاره جماعة من العامة و ذهب أصحابنا إلى التخطئة و على كلّ تقدير فلو كان التصويب قولًا في الأحكام، فليس قولًا في الموضوعات، فهي لا تتغير عمّا هو عليه، بحكم الحاكم أو شهادة الشاهد، فلو كانت العين ملكاً لزيد فلا يكون ملكاً واقعاً لعمرو، و

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 40.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 391

إن شهد شهود و حكم على وفقه القضاة، غاية الأمر يكون الحكم نافذاً ظاهراً.

قال الشيخ: إذا ادُّعي على رجل عند حاكم، و أقام المدّعي بما يدعيه شاهدين فحكم الحاكم له بشهادتهما كان حكمه تبعاً لشهادتهما، فإن كانا صادقين، كان حكمه صحيحاً في الظاهر و الباطن سواء كان في عقد، أو في رفع عقد، أو فسخ عقد، أو كان مالًا عندنا و عند جماعة. و فيه خلاف «1» و لأجل ذلك يقول المحقّق: حكم الحاكم يتبع للشهادة فإن كان محقة نفذ الحكم ظاهراً و باطناً و إلّا نفذ ظاهراً. «2» و على ضوء ذلك، فلو شهد العدلان،

و حكم الحاكم لرجل يعلم هو بعدم استحقاقه، لا يحلّ له التصرّف و إنّما يحلّ التصرف إذا علم بالاستحقاق أو احتمل، كما إذا شهد له شاهدا عدل له بشي ء بأنّه ورثه من أبيه، و هو لا يعلم و لكن يحتمل صدقهما، فيحلّ له الأخذ بشهادتهما و حكم القاضي إذا احتاج إلى الحكم.

و الدليل على ذلك مضافاً إلى كونه من ضروريات الفقه صحيح هشام عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام أنّه قال: «قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان، و بعضكم ألحَن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعتُ له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعتُ له به قطعة من النار». «3»

و قوله: «ألحَن» من لحن بمعنى فطن و فهم، و المراد أعرف و أفهم بحجّته من غيره فلو كان واقفاً على بطلان حجّته، فلا يفيده حكمي على وفقها لأنّي مأمور بالظاهر دون الباطن.

و إنّما يكفي احتمال صدق الشاهد، إذا كانت الشهادة سبباً تامّاً لصدور الحكم، أمّا إذا توقف على يمين المدّعي أيضاً كما إذا كان هناك ادّعاء على الميت أو الملحق به، أو كان الشاهد واحداً فلا تحلّ له اليمين إلّا مع العلم بالواقع، فلا

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 174.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 137.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 392

يفيده حكم الحاكم لو حلف مع عدم علمه، لما عرفت من أنّ حكمه تابع للشهادة و توابعه و منها اليمين و لا يحقّ له اليمين إلّا مع العلم و قد مرّ الكلام في هذا في مبحث القضاء و إنّما أعاد

الكلام هنا لأجل بيان حكم الشاهد.

الثالثة: في حكم تحمّل الشهادة و أدائها
اشارة

المشهور أنّ تحمّل الشهادة فرض في الجملة و إليك نزراً من كلماتهم:

1- قال المفيد: و ليس لأحد أن يُدعى إلى شي ء ليشهد به أو عليه فيمتنع من الإجابة إلى ذلك إلّا أن يكون حضوره يضرّ بالدين أو بأحد المسلمين ضرراً لا يستحقه في الحكم فله الامتناع من الحضور. «1»

2- قال ابن الجنيد: و لا اختار للشاهد أن يمتنع من الشهادة إذا دُعي إليها و لم يحضر بالمكان من يقوم بها سواه فإن حضر، وسعه أن يتجاحد، فإذا شهد، لم يكن له أن يتأخّر إن دُعي إلى إقامتها إلّا أن يعلم بها حدث. «2»

3- قال الشيخ: أمّا التحمّل فإنّه فرض في الجملة فمن دُعي إلى تحمّلها على نكاح أو بيع أو غيرهما من دين أو عقد لزمه التحمّل لقوله تعالى: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) «3»، و لم يُفرّق (بين التحمل و الأداء) و لقوله تعالى: (وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ) 4 إلى أن قال: فإذا ثبت أنّ التحمّل فرض في الجملة فإنّه من فروض الكفايات، إذا قام به قوم سقط عن الباقين كالجهاد و الصلاة على الجنائز و ردّ السّلام و قد يتعيّن التحمّل و هو إذا دُعي لتحمّلها على عقد نكاح أو غيره أو على دين و ليس هناك غيره فحينئذ يتعيّن التحمّل عليه 5.

4- قال في النهاية: لا يجوز أن يمتنع الإنسان من الشهادة إذا دُعي إليها

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 728.

(2) المختلف، كتاب الشهادات: 170.

(3) 3 و 4 البقرة: 282.

(4) 5 الطوسي: المبسوط: 8/ 186.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 393

ليشهد إذا كان من أهلها، إلّا أن يكون

حضوره مضرّاً بشي ء في أمر الدين أو بأحد من المسلمين، و إذا حضر فلا يجوز له أن يشهد إلّا على من يعرفه، فإن أُشهد على من لا يعرفه فليشهد بتعريف من يثق إليه من رجلين مسلمين و إذا أقام الشهادة، أقامها كذلك. «1»

5- قال سلّار: و لا يجوز أن يمتنع من تحمّل الشهادة إلّا أن يضرّ بالدين أو بأحد من المؤمنين. «2»

6- قال ابن البرّاج: لا يجوز لأحد الامتناع من الشهادة، إذا دُعي إليها، إذا كان من أهل الشهادة و العدالة إلّا أن يكون في حضوره لذلك و شهادته ضرر لشي ء يتعلّق بالدين أو فيه مضرّة لأحد المؤمنين. «3»

7- و قال المحقّق: إذا دعي من له أهلية التحمّل، وجب عليه و قيل لا يجب، و الأوّل مروي و الوجوب على الكفاية، و لا يتعيّن إلّا مع عدم غيره ممن يقوم بالتحمّل. «4»

8- قال العلّامة: و الإقامة بالشهادة واجبة على الكفاية، إلّا مع الضرر غير المستحقّ و كذا التحمل. «5»

9- قال الشهيد الثاني: و المروي وجوبه أيضاً على الكفاية كالأداء ثمّ استدل بعموم قوله سبحانه: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) (الشامل بعمومه الأمرين أو المختص بالتحمّل) و الأخبار الكثيرة و قال: لأنّه من الأُمور الضرورية التي لا ينفك الإنسان عنها لوقوع الحاجة في المعاملات و المناكحات فوجب في حكمه ايجابُ ذلك لتحسم مادة النزاع المترتب على تركه غالباً. «6»

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 328.

(2) سلّار: المراسم العلوية: 235.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 560.

(4) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 137.

(5) ابن المطهّر: الإرشاد: 2/ 168.

(6) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 462.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 394

10- قال الأردبيلي: و أمّا التحمّل

فالمشهور وجوبه أيضاً. «1»

إلى غير ذلك من الكلمات المتماثلة.

11- قال ابن قدامة: و تحمّل الشهادة و أداؤها فرض على الكفاية لقوله اللّه تعالى: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) «2» و قال تعالى: (وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) 3 و إنّما خصّ القلب بالإثم لأنّه موضع العلم بها، و لأنّ الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات. 4

12- خالف ابن إدريس الرأيَ العام للفقهاء و قال: و الذي يقوى في نفسي أنّه لا يجب التحمّل، و للإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعى إليها ليتحملها و لا دليل على وجوب ذلك عليه و ما ورد في ذلك فهو أخبار آحاد فأمّا الاستشهاد بالآية (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) و الاستدلال بها على وجوب التحمّل فهو ضعيف جدّاً لأنّه تعالى سمّاهم شهداء و نهاهم عن الإباء إذا دُعوا إليها و إنّما يسمى شاهداً بعد تحمّلها فالآية بالأداء أشبه و تفسير الشهداء بالأوْل و المشارفة، مجاز لا يصار إليه. 5

استدل على الوجوب بوجوه:

1- قوله سبحانه: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) (البقرة/ 282)، إمّا بحملها على خصوص التحمّل لصحيح هشام بن سالم 6 أو بعمومها للتحمّل و الأداء.

و أورد على الاستدلال: بأنّ الآية واردة في آداب المعاملة، و أكثر ما ورد فيها آداب مستحبة نظير: (وَ لٰا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ) و (لٰا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ) و قوله: (وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ)، فإنّ الإشهاد فيه مستحب،

______________________________

(1) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 517.

(2) 2 و 3 البقرة: 282 و 283.

(3) 4 ابن قدامة، المغني، المتن و الشرح: 12/ 3.

(4) 5 ابن إدريس: السرائر: 2/ 126.

(5) 6

الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 395

كأصل الكتابة.

يلاحظ عليه: أنّ بعض ما ورد و إن كان من الأُمور المستحبة لكن البعض الآخر من الأُمور الواجبة أو المحظورة نظير: (وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ) فإنّ أصل الكتابة و إن كان مستحباً، لكن إذا كتب كانت رعاية العدل واجبة و قوله: (وَ لْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَ لٰا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) و قوله: (وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ)، و قوله: (وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) و على هذا لا يكون الاشتمال على الأُمور المستحبة دليلًا على الاستحباب، و على هذا فظاهر النهي، هو الحرمة.

2- الروايات الواردة على قسمين:

أ: ما يفسر الآية بأنّها راجعة إلى التحمّل و هو أكثرها «1» و عندئذ يرجع لبُّها إلى الاستدلال به.

ب: ما يتعلّق بنفس الموضوع، أعني:

1- معتبر داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «لا يأب الشاهد أن يجيب حين يدعى قبل الكتاب». «2» و الرواية معتبرة و وجود سهل بن زياد في السند غير ضائر.

2- خبر داود بن جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: «إذا دُعِيتَ إلى الشهادة فأجب». «3»

و يؤيد ذلك ما مرّ في كلام الشهيد في المسالك، أضف إليه بأنّ إيجاب الإشهاد في الطلاق و الظهار، يناسب إيجاب التحمّل.

استدل من قال باستحبابه بوجهين:

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب الشهادة، الحديث 2، 4، 5، 7، 10.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب الشهادات، الحديث 6.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 396

1 ورود لفظ لا ينبغي، في كثير من الروايات. «1» الظاهر في الاستحباب.

2- مرسل محمّد بن حمزة عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام قال: قلت له أو قلنا له، إنّ شريكاً يردّ شهادتنا قال: فقال: لا تُذِّلوا أنفسكم و قال الصدوق في تفسير الحديث: ليس يريد بذلك النهيَ عن إقامتها لأنّ إقامة الشهادة واجب و إنّما يعنى تحمّلها يقول لا تتحملوا الشهادة فتذلّوا أنفسكم بإقامتها عند من يردّها. «2»

يلاحظ على الأوّل: أنّه لم يثبت، ظهور لفظة «و لا ينبغي» في الكراهة، في عصر صدور الحديث و أصالة عدم النقل، لا يثبت الظهور العرفي الذي هو حجّة إلّا أن يقال بحجّية لوازمها تعبداً، و قال الأردبيلي: فإنّه كثيراً ما يرد بمعنى التحريم. «3»

و أمّا الثاني: فإنّ عدم وجوب تحملها لأجل عدم ترتب فائدة عليها، لانّ القضاء كان بيد حكّام الجور، و كانوا يرفضون شهادة الشيعة بحجّة أنّهم رَفضَة و في مثله، لا يجب التحمّل و أين هو ممّا يعلم أنّه تُقبل به و لا تُردّ؟!

و بالجملة، العدول عن الحكم المشهور بين الفريقين إلى غيره، بهذين الوجهين مشكل جدّاً و أنّي أتعجب، عن جنوح صاحب الجواهر إلى خلاف ما هو المشهور بين الفقهاء مع أنّ مشربه في الفقه، هو اقتفاء أثر المشهور و رأيه، و المحقّق الأردبيلي، مع ماله المسلك المعروف في الفقه لم يخالف الرأي العام في المقام. هذا كلّه حول أصل الوجوب و أمّا كونه كفائياً فلانطباق ملاكه عليه، إذ ليس هنا للمولى أغراض متعددة قائمة بكلّ شخص، بل غرض واحد يحصل بقيام اثنين منهم عليه، و عندئذ يكون وجوب مثله كفائياً فالميزان لكونه عينياً أو كفائياً، تعدد الغرض حسبَ تعدد الموضوع، و

وحدته مع تعدده، و الأوّل ملاك

______________________________

(1) لاحظ الحديث 2، 5، 7، 9، 10 من الباب 1 من أبواب الشهادات.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 53 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 519.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 397

العينية و الثاني ملاك الكفائية، هذا كلّه حول التحمّل.

الكلام حول الأداء

و أمّا الأداء، فلم يختلف في وجوبه اثنان، لقوله سبحانه: (وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة/ 283) و قال سبحانه: (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّٰهِ) (البقرة/ 140) بناء على أنّ المراد من قوله: (مِنَ اللّٰهِ) أي من عباد اللّه، كما هو أحد الوجوه في تفسير الآية و قد عقد الشيخ الحرّ باباً لوجوب أداء الشهادة و روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السَّلام في حديث النصّ على الرضا أنّه قال: «و إن سُئلت عن الشهادة فأدّها فإنّ اللّه يقول: (إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا)». «1»

و أمّا قوله سبحانه: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا) فهو بظاهره راجع إلى الأداء لأنّ الموضوع لتحريم الإباء عن الحضور، هو الشاهد و هو فرع تلبّسه بالشهادة قبل الدعوة فيكون راجعاً بظاهره إلى مقام الأداء لكن الإمعان في مجموع الآية الّتي هي أطول آية في القرآن يعرب عن أنّ المقصود هو التحمل لا الأداء، و ذلك لأنّه سبحانه حينما يأمر بكتابة الدين أوّلًا و الاستشهاد عليه برجلين أو رجل و امرأتين ثانياً، ينهى المؤمنين عن الإباء عند الدعوة، ثمّ يرجع فيأمر بكتابة الجليل و الحقير، و أنّه لا بأس بعدم الكتابة فيما يديرونها بينهم من معاملة حاضرة، أي نقداً يداً

بيد لا نسيئة، فعلى هذا فالنهي عن الإباء، أثناء البحث عن آداب الدين و المعاملة، يعرب عن كونه راجعاً إلى حين المعاملة لا بعدها. و لذلك ورد عنهم في غير واحد من الروايات أنّ قوله: (وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ)، راجع إلى قبل الشهادة، و قوله: (وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) إلى بعد

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب الشهادات، الحديث 5. و الآية 58 من سورة النساء.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 398

الشهادة.

و أمّا وجوبه مطلقاً أو إذا ما تحمّلها باستدعاء من ذي الحقّ، فقد مرّ الكلام في صدر كتاب الشهادة كما علم ممّا سبق كون وجوبه كفائياً لوحدة الغرض، الحاصل بأداء اثنين من الشهداء، و ربّما يتعيّن إذا مات الآخرون أو غابوا و امتنعوا من الأداء شأن كلّ واجب كفائي، نعم وجوب التحمّل و الأداء مقيّد بعدم ترتّب ضرر ديني أو دنيوي غير مستحقّ عليهما، كما إذا كان الشاهد مديناً على المشهود عليه فيسامحه في الطلب، و لو شهد تحمّلًا أو أداء يطالب دينه المعجّل فليس مثل هذا عذراً لأنّه ضرر مستحقّو ليس بمستحقّ.

و لو توقف التحمّل أو الأداء على صرف مال، فلا يجب إلّا إذا بذل المشهود له، و مع ذلك كلّه لم يطلب منه وقتاً كثيراً لا يبذل عادة في هذه الأُمور. و بعبارة أُخرى كان الطلب أمراً متعارفاً عندهم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 399

المقصد الرابع في الشهادة على الشهادة

اشارة

إنّ عنوان البحث غنيّ عن التعريف، و الشهادة الثانية شهادة فرعية كما أنّ الأُولى أصلية و لا دور للفرع إلّا سماعها عن الأصل، و هي جائزة نافذة كتاباً و سنّة و إجماعاً.

أمّا الأوّل

فلقوله سبحانه: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) (البقرة/ 282) و لم يفصل و ظهوره في الشهادة الأُولى بدئي يزول بالتأمل و مثله قوله سبحانه: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق/ 2) و أمّا السنّة فإنّ الأسئلة و الأجوبة، الواردة حول الموضوع تعرب عن كون الحكم (جواز الشهادة على الشهادة) كان أمراً مسلّماً، و كان الكلام في الخصوصيات و سوف يوافيك بعض النصوص، و أمّا الإجماع فهو واضح لمن سبر الكلمات، فنذكر منها النزر اليسير:

1- قال المفيد: و لا يجوز لأحد أن يشهد على شهادة غيره إلّا أن يكون عدلًا مرضياً و إذا شهد فليذكر شهادته على غيره و لا يقول: «اشهد على فلان بكذا» من غير أن يبين كيف شهد، و على أيّ وجه كانت الشهادة. «1»

2- قال الشيخ: الشهادة على الشهادة جائزة لقوله تعالى: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ) و لم يفصل. «2»

3- و قال أبو الصلاح: و لا تجوز الشهادة على شهادة من ليس بعدل في

______________________________

(1) المفيد: المقنعة: 828.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 231.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 400

الحقيقة، و لا حكم لشهادة الواحد على شهادة الواحد، و يحكم بشهادة الاثنين على شهادة الواحد و يقوم شهادتهما مقام شهادته. «1»

إلى غير ذلك من الكلمات المتماثلة حيث إنّ البحث في الجميع مركّز على الخصوصيات دون الأصل و إليك أحكامها و النظر في أُمور أربعة:

1- المحلّ، 2 العدد، 3 في كيفية التحمّل، 4 في شرط الحكم بها.

و إليك الكلام فيها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: المحلّ

يثبت بالشهادة على الشهادة، كلّ شي ء إلّا الحدود، سواء كانت للّه محضاً كحدّ الزنا و اللواط و السحق أو مشتركة كحدّ السرقة و القذف.

قال الشيخ: الحقّ

إمّا أن يكون للّه أو للآدميين، فإن كان لآدمي ثبت بالشهادة على الشهادة سواء كان الحقّ ممّا لا يثبت إلّا بشاهدين كالنكاح و الخلع و الطلاق و الرجعة و القذف و النسب، و القصاص و الكتابة أو مما يثبت بشاهدين، أو شاهد و امرأتين أو شاهد و يمين، و هو ما كان مالًا أو المقصود منه المال أو كان ممّا يثبت بالنساء وحدهنّ، و هو ممّا لا يطّلع عليه الرجال كالولادة و الرضاع عندهم، و العيوب تحت الثياب و الاستهلال. قال بعضهم: لا يثبت بالشهادة على الشهادة.

و إن كان حقّاً للّه و هو حدّ الزنا و اللواط و القطع في السرقة و شرب الخمر، قال قوم: لا يثبت بالشهادة على الشهادة و هو مذهبنا و قال بعضهم يثبت. «2»

لا خلاف بيننا في عدم ثبوت الحدّ المختصّ باللّه، بهذا النوع من الشهادة و إنّما الاختلاف في الحدّ المشترك بينه سبحانه و بين الآدمي كالقذف و السرقة و

______________________________

(1) الحلبي: الكافي: 438.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 231.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 401

لأجل ذلك يقول المحقّق: و في حدّ السرقة و القذف خلاف. «1» و مثله العلّامة في الإرشاد. «2»

و قال الأردبيلي: و في حدّ القذف و السرقة خلاف، كأنّه للشك في كونه من حقوق اللّه المحضة، أم للآدمي فيه مدخل. الظاهر هو الأخير و لهذا يسقط بإسقاطه. «3» و نسب القول بثبوتهما بها إلى الشيخ في المبسوط و ابن حمزة في الوسيلة، و قد عرفت كلام الشيخ حيث صرّح بعدم ثبوت حدّ السرقة بها، و لم أعثر عليه في الوسيلة نعم قال الشهيد الثاني: إنّ الأخذ بالعموم (عموم دليل حجّية الشهادة على

الشهادة) أجود لعدم دليل صالح للتخصيص فيها و هو اختيار الشهيد في الشرح.

و المخصص عبارة عن خبرين معتبرين أحدهما لطلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام عن أبيه عن علي عليه السَّلام أنّه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حدّ. «4» و ثانيهما موثقة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السَّلام قال: «قال علي عليه السَّلام: لا تجوز شهادة على شهادة في حد». 5 و الضعف منجبر بالعمل، و يؤيده درء الحد بالشبهة، لكن الاستثناء دليل على ثبوت كلّ شي ء، حتّى حقوق اللّه من غير الحدّ، كالزكاة و أوقاف المساجد، و الجهات العامة و الأهلة. و قد عبر المحقّق عن المستثنى منه بحقوق الناس، و هو لا يشمل حقوق اللّه غير الحدّ، كما لا يشمل مثل الأهلة و لمّا كان ظاهر كلام المحقّق خروج بعض الحقوق للّه استدركه الشهيد الثاني و قال: قد يتوهم خروج ما كان حقّاً للّه تعالى و ليس حقاً للآدمي و إن لم يكن حدّاً و هذا ليس بمراد بل الضابطة ما ذكرناه.

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 138.

(2) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 164.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 476.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 45 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2 و طلحة بن زيد و إن لم يوثق لكن الشيخ قال في الفهرست كتابه معتمد، و غياث بن إبراهيم التميمي الأسدي وثّقه النجاشي فما في الجواهر في التعبير بالخبرين لا يخلو من مسامحة.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 402

و على ذلك، ربّما يثبت بعض الآثار دون البعض إذا قامت على كراهة المزنيّ بها فيثبت المهر، دون الحدّ، أو

على إيقاب الغلام، فتحرم أم الموطوء و أُخته، و بنته دون الحد و هكذا. و التفكيك بين اللوازم ليس بمشكل، لأنّ التلازم إذا كان تكوينياً، يمتنع التفكيك و أمّا إذا كان بالجعل و الاعتبار فلا مانع منه و لأجل ذلك، لو توضّأ بأحد الإنائين المشتبهين، يحكم بطهارة البدن و بقاء الحدث، مع أنّه لو كان الماء طاهراً يلزم رفع الحدث أيضاً و إلّا تلزم نجاسة الأعضاء. و لكنّه سهل لأنّ الملازمة اعتبارية.

و يلحق بالحدّ، التعزيرُ فلو قامت على أمر لو ثبت لوجب التعزير فلا يثبت إلحاقاً بالحدّ. و فيه تأمّل لأنّ مقتضى العموم ثبوته و الخارج هو الحدّ، و إطلاقه على التعزير مجاز لا يصار إليه إلّا بالدليل و الدرء مختص بالحدّ.

الثاني: العدد

إنّ المشهود به في الشهادة على الشهادة، هو شهادة الأصل، فالمشهور أنّه لا بدّ من إثباته بشاهدين عدلين، و ذلك لأنّ الأصل في الشهادة، هو شهادة عدلين أو ما يقوم مقامه من العدل الواحد و الامرأتين.

نعم تختصّ شهادة النساء على الشهادة فيما تقبل شهادتهن فيه لا مطلقاً و إلّا تلزم زيادة الفرع على الأصل.

قال الشيخ: لا تقبل شهادة النساء على الشهادة إلّا في الديون و الأملاك و العقود فأمّا الحدود فلا يجوز أن تقبل فيها شهادة على شهادة و قال قوم: لا تقبل شهادة النساء على الشهادة بحال في جميع الأشياء و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة: إن كان الحقّ مما يثبت بشهادة النساء أو لهنّ مدخل فيه، قبلت شهادتهنّ على الشهادة و إن كان ممّا لا مدخل لهنّ فيه لم يقبل. دليلنا إجماع الفرقة

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 403

و أخبارهم. «1»

و قال السيّد

الأُستاذ: لا تقبل شهادة النساء على الشهادة فيما لا تقبل فيها شهادتهنّ منفردات أو منضمّات، فهل تقبل شهادتهن كذلك فيه؟ قولان، أشبههما المنع. «2»

و يمكن الاستدلال على المنع بالأُمور التالية:

1- الضابطة: الأصل في الشهادة، شهادة الرجل، دون غيره، يُعلم ذلك من تحديد شهادة المرأة دون غيرها، و كثرة السؤال عن شهادتها في موارد خاصة، كلّ ذلك يعبِّر عن أنّ الضابطة، هو شهادة الرجل.

يلاحظ عليه: أنّه إذا كانت شهادة المرأة حجّة في حقوق الناس فلا مانع من قبولها في الشهادة على الشهادة إذا كانت في طريقها، إلّا أن يقال إنّ حجّيتها مختصّة بما إذا كان الحقّ هو المشهود به بالمباشرة دون الشهادة على الحقّ.

2- معتبر طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام عن أبيه عن علي عليه السَّلام أنّه كان لا يجيز شهادة رجل على رجل إلّا شهادة رجلين على رجل. «3»

3- موثق غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السَّلام أنّ عليّاً عليه السَّلام كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل إلّا شهادة رجلين على شهادة رجل. 4

يلاحظ عليه: أنّ الروايتين بصدد بيان شرطية التعدد، لا شرطية الرجولية.

4- مرسلة الصدوق التي لا تقصر عن مسندها بقوله: (و قال الصادق): «إذا شهد رجل على شهادة رجل فإنّ شهادته تقبل، و هي نصف شهادة، و إن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد». 5

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات: 66.

(2) الإمام الخميني قدس سره: التحرير: 2، كتاب الشهادات: 2/ 406.

(3) 3- 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 44 من أبواب الشهادات، الحديث 2 و 4 و 5.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 404

يلاحظ

عليه: مع أنّه ليس فيها حصر، إنّ الرواية بصدد بيان أنّ شهادة رجل على رجل لا يثبت شهادته إلّا إذا ضمّت إليها شهادة رجل آخر، حتى يثبت شهادة الأصل أي الرجل الواحد، و ليست بصدد شرطية الذكورة فالرواية فاقدة للدلالة.

و على أيّ تقدير، يثبت الأصل بالطرق التالية:

1- أن يشهد فرعان على شهادة أحد الأصلين، و فرعان آخران على شهادة الأصل الآخر فيكون الفرع أربعة.

2- أن يشهد فرعان على شهادة كلّ من الأصلين، فيكون الفرع اثنين.

3- أن يشهد أحد الأصلين مع الفرع، على شهادة أحد الأصلين إذ كونه شاهدَ أصل لا ينافي كونه مع ذلك شاهد فرع.

4- إذا كان المشهود به أربعة كشهود الزنا، أو كان أحد الأصلين رجلًا، و الآخر امرأتين فيما تقبل، أو أربع نسوة فيما تقبل شهادتهنّ، ففي الجميع تجوز شهادة رجلين.

إلى غير ذلك من الصور، و الدليل على جواز شهادتهما، هو إطلاق حجّية شهادة العدلين، أمّا المعتبران فيصحّ الاحتجاج بإطلاقهما في بعض أي فيما إذا كان المشهود شهادة الرجل كما في الصور الثلاث الأُولى، لا فيما إذا كان المشهود، هو شهادة المرأتين كما في بعض أقسام الصورة الرابعة.

نعم حكى الخلاف عن الشافعي. قال الشيخ: إذا شهد شاهدان على شهادة رجل، ثمّ شهدا هما على شهادة الآخر، فإنّه تثبت شهادة الأوّل بلا خلاف، و عندنا تثبت شهادة الثاني أيضاً، و به قال أبو حنيفة و أصحابه و الثوري و مالك، و ربيعة، و أحد قولي الشافعي الصحيح عندهم. و القول الثاني أنّه لا يثبت حتى يشهد آخران على شهادة الآخر، و هو اختيار المزني. دليلنا الأخبار التي وردت بأنّ شهادة الأصل لا تثبت إلّا بشاهدين، و الشاهدان قد ثبتا في كلّ

نظام القضاء

و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 405

واحد من الشاهدين. «1» و مقصوده شمول إطلاق الروايات لهذا المورد.

نعم ربّما يشكل على الصورة الثانية بأنّه يلزم أن يكون الأصل فرعاً و يدفع بأنّ الحيثيتين مختلفتان فهو من جهة أصل، و من جهة أُخرى فرع.

ثمّ إنّ نشر الحرمة و المهر من آثار الزنا فيشترط في الأصل شهادة أربعة رجال و أمّا الفرع ففيه وجهان من أنّه نائب عن الأصل فيشترط فيه الأربعة، و من أنّه لا يثبت به إلّا نفس الشهادة فيكفي فيه اثنان و بعبارة أُخرى يثبت بها شهادة الأربعة على الزنا، لا نفس الزنا حتى يعتبر فيه ما يعتبر فيه.

الثالث: التحمل

المراد كيفية تحمّل الشهادة على الشهادة حتى يصير شاهد الفرع متحمّلًا بشهادة شاهد الأصل و ذكروا لها صوراً أربع: و إليك نصّ الشيخ:

أحدها: الاسترعاء، و هو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم، فاشهد على شهادتي فهذا هو الاسترعاء.

الثاني: أن يَسمع شاهد الفرع شهادة شاهدَ الأصل يشهد بالحقّ عند الحاكم فإذا سمعه يشهد به عند الحاكم، صار متحمّلًا لشهادته.

الثالث: أن يشهد الأصل بالحقّ و يعزّيه إلى سبب وجوبه، فيقول أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم من ثمن ثوب أو عبد أو دار أو ضمان أو دين أو إتلاف و نحو هذا، فإذا عزّاه إلى سبب وجوبه، صار متحمّلًا للشهادة.

الرابع: إذا لم يكن هناك استرعاء و لا سمعه يشهد به عند الحاكم، و لا عزّاه

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 70.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 406

إلى سبب وجوبه مثل أن سمعه

يقول: أشهد أنّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم.

ثمّ إنّ الشيخ يردّ تلك الشهادة في الصورة الرابعة و يقول إنّه لا يصير بهذا متحمّلًا للشهادة على شهادته لأنّ قوله: «اشهد بذلك» ينقسم إلى الشهادة بالحقّ و يحتمل العلم به على وجه لا يشهد به، و هو أن يسمع الناس يقولون لفلان على فلان كذا و كذا و حينئذ يقف التحمل بهذا الاحتمال. نعم إذا استرعاه أو شهد به عند الحاكم أو عزّاه إلى سبب وجوبه زال الإشكال. «1»

و حاصل كلامه وجود الفرق بين الثالثة و الرابعة بأنّه إذا ذكر السبب مثلًا من كونه ثمناً لثوب أو عقار يكون شهادة عرفاً فتندرج في الشهادة على الشهادة و أمّا إذا لم يذكر السبب فلا يقبل لاعتياد التسامح بأمثال ذلك في غير مجلس الحاكم و لعلّه وعده أن يعطيه شيئاً فعدّه ديناً و شهد به.

و قال المحقّق: و في الفرق إشكال لأنّه يحتمل في الصورة الثالثة أن يكون السبب عند الشاهد مما لا يثبت به عند الحاكم.

و الأولى القبول مطلقاً، لأنّ أصالة الصحّة في شهادة الأصل، و عدالته، يصدّنا عن إبداء هذه الاحتمالات و الأولى الحكم بالشهادة على الشهادة إذا تحملها على أحد الوجوه الأربعة ما لم يعلم الخلاف.

و أمّا التعبير عن كيفية التحمل، فيجب أن يكون تعبيره عنها وفق الواقع.

ففي صورة الاسترعاء يقول: أشهدني فلان على شهادته.

و في صورة سماعه عند الحاكم يقول: أشهد أنّ فلاناً شهد عند الحاكم بكذا.

و في صورة سماعه لا عند الحاكم يقول: إنّ فلاناً شهد على فلان لفلان بكذا

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 232231، بتصرف يسير لإيضاح المقصود.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 407

لسبب

كذا.

و في الرابعة يقول نفس ما يقول في الصورة الثالثة بلا ذكر السبب.

الرابع: في شرط الحكم بها
اشارة

ذكر الأصحاب شروطاً في صحّة الحكم بالشهادة على الشهادة نذكر منها ما يلي:

الشرط الأوّل: عدم التمكّن من حضور الأصل
اشارة

ذهب بعض الأصحاب إلى أنّ من شرائط الحكم بالشهادة على الشهادة عدم التمكّن من حضور الأصل.

1- قال الشيخ: الظاهر من المذهب أنّه لا تقبل شهادة الفرع مع تمكّن حضور شاهد الأصل، و إنّما يجوز ذلك مع تعذّره إمّا بالموت أو بالمرض المانع من الحضور أو الغيبة و به قال الفقهاء إلّا أنّهم اختلفوا في حدّ الغيبة فقال أبو حنيفة: ما تُقصّر فيه الصلاة و هو ثلاثة أيّام، و قال أبو يوسف: هو ما لا يمكنه أن يحضر معه و يقيم الشهادة و يعود فيبيت في منزله، و قال الشافعي: الاعتبار بالمشقة، فإن كان عليه مشقّة في الحضور حكم بشهادة الفرع، و إن لم تكن مشقّة لم يحكم، و المشقة قريب ممّا قاله أبو يوسف، و في أصحابنا من قال يجوز أن يحكم بذلك مع الإمكان. «1»

2- و قال في المبسوط: لا يُقضى بشهادة الفرع حتى يتعذّر على الأصل إقامتها، فأمّا إن كان شاهدُ الأصل موجوداً قادراً على أداء شهادة نفسه، فالحاكم لا يقضي بشاهد الفرع إلى أن قال: فأمّا إن تعذّرت شهادة الأصل بأن مات

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 65.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 408

الأصل سُمِع من الفرع و قُضي بشهادته و إن مرض الأصل فكذلك أيضاً لأنّ على الأصل مشقة في الحضور. «1»

3- و قال ابن الجنيد: و لا بأس بإقامتها و إن كان المشهود على شهادته حاضرَ البلد أو غائباً إذا كانت له علّة تمنعه من الحضور للقيام بها. و قال العلّامة بعد نقل كلامه هذا: و هو يشعر باشتراط عذر

الأصل. «2»

4- و قال ابن البرّاج: و تجوز الشهادة على شهادة و إن كان الشاهد الأوّل حاضراً غير غائب إذا منعه مانع من إقامته الشهادة من مرض أو غيره. «3»

5- و قال ابن حمزة: و لا تُسمَع الشهادة من الفرع مع حضور الأصل، فإذا غاب الأصل أو كان في حكم الغائب جاز، و هو إذا كان مريضاً أو ممنوعاً أو تعذر عليه الحضور. «4»

6- و قال ابن إدريس: و لا بأس بالشهادة على الشهادة و إن كان الشاهد الأوّل حاضراً غير غائب إذا منعه من إقامة الشهادة مانع من مرض أو نحوه. «5»

7- و قال المحقّق: و لا تقبل شهادة الفرع إلّا عند تعذّر حضور شاهد الأصل و يتحقق العذر بالمرض و ما ماثله و بالغيبة و لا تقدير لها و ضابطه مراعاة المشقة على شاهد الأصل في حضوره. «6»

8- و قال العلّامة: و لا تُسمع شهادة الفرع إلّا عند تعذر شاهد الأصل إمّا لمرض أو غيبة و الضابطة المشقة. «7»

9- و قال الكيدري: و تثبت شهادة الأصل بشهادة عدلين و تقوم مقامها

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8، كتاب الشهادات: 232.

(2) ابن المطهر: المختلف، كتاب الشهادات: 171.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 561.

(4) ابن حمزة: الوسيلة: 223.

(5) ابن إدريس: السرائر: 2/ 13.

(6) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 124.

(7) ابن المطهر: الإرشاد: 2/ 165.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 409

إذا تعذر حضور الأصل لموت أو مرض أو سفر. «1»

10 و قال السيّد الأُستاذ: الأقوى عدم قبول شهادة الفرع إلّا لعذر يمنع حضور شاهد الأصل لإقامتها لمرض أو مشقة يسقط بهما وجوب حضوره أو لغيبة كان الحضور معها حرجاً و مشقة و من المنع،

الحبس المانع عن الحضور. «2»

ثمّ إنّه يظهر من كتاب الخلاف وجود الخلاف بين الأصحاب حيث قال: و من أصحابنا من يقول يجوز أن يحكم بذلك مع الإمكان، و حاصل ما يمكن أن يستدل للقول بالجواز، أمران مستفادان من كتاب الخلاف.

1- إنّ الأصل قبول الشهادة على الشهادة و تخصيصها بوقت دون وقت أو على وجه دون وجه يحتاج إلى دليل.

2- روى أصحابنا أنّه إذا اجتمع شاهد الأصل و شاهد الفرع و اختلفا فإنّه تقبل شهادة أعدلهما حتى أنّ في أصحابنا من قال: تقبل شهادة الفرع و تسقط شهادة الأصل لأنّه يصير الأصل مدّعى عليه، و الفرع بيّنة المدّعي للشهادة على الأصل.

و لم يذكر الشيخ اسم القائل بالجواز، و نقل في الجواهر عن الدروس أنّه نسبه إلى الإسكافي فإن أُريد منه ابن الجنيد فقد عرفت أنّه موافق للمشهور، و نسبه المحقق الأردبيلي إلى والد الصدوق «3» و ليس فيما نقله العلّامة عنه في المختلف «4» ما يدل على ذلك سوى عنوان المسألة الآتية من إنكار الأصل شهادة الفرع، و قد عنونه غيره أيضاً كما سيوافيك و ممن نفى الاشتراط، الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام حيث قال: الأقوى عدم الاشتراط. «5»

ثمّ إنّه استدل للقول المشهور بما رواه الشيخ بسند صحيح عن ذبيان بن

______________________________

(1) الكيدري: إصباح الشيعة: 531.

(2) الإمام الخميني قدس سره: التحرير: 2/ 406.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 481.

(4) ابن المطهر: المختلف، كتاب الشهادات، 171.

(5) الفاضل الاصبهاني، كشف اللثام: 2/ 205.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 410

حكيم الأزدي المهمل في الرجال و لكن ليس بقليل الرواية عن موسى بن اكيل النميري الثقة، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام في

الشهادة على شهادة الرجل و هو بالحضرة في البلد قال: «نعم و لو كان خُلف سارية «1» يجوز ذلك إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه عن أن يحضره و يُقيمها فلا بأس بإقامة الشهادة على شهادته». «2»

و أورد المحقق الأردبيلي على الاستدلال: بأنّ الرواية غير صحيحة، و الشهرة ليست بحجّة، مع وجود المخالف مثل علي بن بابويه، فإنّه يقبل الفرع مع إمكان الأصل و هو مقتضى عموم أدلّة قبول الشهادة أصلًا و فرعاً و المخصص يحتاج إلى الدليل فتأمل. «3»

أقول: مقتضى القاعدة هو الحجّية سواء كان الأصل حاضراً أو غائباً و ذلك لإطلاق دليل حجّية البيّنة و إطلاق الخبرين المعتبرين أي طلحة بن زيد، و غياث بن إبراهيم و التخصيص يحتاج إلى دليل.

و لكن رواية محمّد بن مسلم صالحة للاحتجاج إذ ليس في سندها من هو محكوم بالضعف، و إنّما الموجود من هو محكوم بالإهمال في الرجال من حيث التوثيق و عدمه و لكن القرائن تدل على الوثوق به أو بروايته و ذلك لرواية المشايخ عنه كمحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب في المقام و في غير واحد من أبواب الفقه كباب الوكالات، و آداب الحكّام، و البيّنات و فضل المساجد، و باب تلقين المحتضر، و رواية أحمد بن الحسن بن فضال عن أبيه عنه، و رواية أحمد ابن الحسين بن عبد الملك الأزدي عنه، إلى غيرهم من المشايخ.

قال المحقّق الخوئي: ذكره النجاشي في ترجمة أحمد بن يحيى بن حكيم و

______________________________

(1) السارية مؤنث الساري: الجماعة من القوم تسري بالليل.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 44 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 481.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء،

ج 2، ص: 411

ظاهر كلامه أنّ ذبيان كان من المعاريف المشهورين. نعم ذكر ابن الغضائري أنّ أمره مختلط و قد وقع بعنوان ذبيان بن حكيم في أسناد الروايات تبلغ ستة عشر مورداً ثمّ ذكر مواضع رواياته. «1»

هذا من جانب و من جانب آخر، أنّ المشهور عمل بهذه الرواية و أفتى على وفقها، و احتمال انّ الافتاء على وفقها لأجل كونها موافقة للاحتياط كما ترى، لانّ الاحتياط ربّما يكون في جانب المخالف كما إذا احتمل انّه إذا لم يقبل الفرع حاليّاً ربّما، لا يتمكن المدّعى في المستقبل لا من الأصل و لا من الفرع، فصيانة الحقوق توجب القبول في بدء الأمر من دون تفحص عن إمكان حضور الأصل و عدمه.

و أمّا الاستدلال على عدم الاشتراط بما ورد في الفتاوى و الروايات من أنّه إذا اختلف الأصل و الفرع، فيؤخذ بقول الأعدل منهما «2» فسيوافيك الكلام فيه في التالي.

لو شهد الفرعُ، فأنكر الأصلُ

لو شهد شاهدُ الفرع على شهادة الأصل، لكن أنكر الأصلُ شهادتَه فمقتضى القاعدة بعد الاعتراف بأنّه لا يحتجُّ بالفرع إلّا مع عدم حضور الأصل هو أنّه لو حضر قبل الحكم و أنكر، لغتِ شهادة الفرع لعدم تحقّق الشرط بحضوره حتى لو قيل إنّ الحضور غير ضائر لكنّه مع الإنكار ضائر قطعاً، و إن حضر بعده لا عبرة بالإنكار، بعد صدور الحكم، لأنّ الحكم لا ينقض إلّا بالعلم بالفساد، و لا علم به، لاحتمال صدق الفرع، أو نسيان الأصل أو غيرهما من الأعذار.

هذا هو مقتضى القاعدة لكن الأصحاب ذهبوا إلى أنّه تقبل شهادة أعدلهما و هم بين مطلق، و مقيّدها بما بعد الحكم و إلّا فلو كان قبله، سمع من الأصل

______________________________

(1) السيّد الخوئي، معجم رجال الحديث: 7/ 149.

(2)

الوسائل: الجزء 18، الباب 46 من أبواب الشهادات، الحديث 31.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 412

لا من الفرع.

و إليك من أطلق:

1- قال الصدوق: و إذا حضرا فشهد أحدهما على شهادة الآخر، و أنكر صاحبُه أن يكونَ أشهده على شهادته فإنّه يقبل قول أعدلهما.

و في رسالة والده نفس النصّ بزيادة قوله: فإن استويا في العدالة بطلت. «1»

2- قال الشيخ في النهاية: و من شهد على شهادة آخر و أنكر ذلك، الشاهدُ الأوّل قبلت شهادة أعدلهما فإن كانت عدالتُهما سواءً طرحت شهادة الشاهد الثاني. «2»

3- و قال القاضي: و إذا شهد إنسان على شهادة آخر و أنكر الشهادة، الشاهدُ الأوّل، قبلت شهادة أعدلهما فإن تساووا في العدالة طرحتْ شهادة الثاني. «3»

و الحجّة لهم صحيحة عبد اللّه بن سنان عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في رجل شهد على شهادة رجل فجاء الرجل فقال: إنّي لم أشهده، قال: «تجوز شهادة أعدلهما، و إن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته». «4» و رواه أبان بن عثمان عن عبد الرحمن المذكور أيضاً لكن بحذف الذيل أعني: «و إن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادة أعدلهما». 5 و على هذا فهما رواية واحدة و إنّما تختلفان في الراوي عن «عبد الرحمن».

و رواه يونس عن عبد اللّه بن سنان عن الإمام الصادق بلا واسطة، و يحتمل

______________________________

(1) الصدوق: المقنع: 399.

(2) الطوسي: النهاية: 329 و المراد من الثاني في عبارته هو الفرع.

(3) ابن البرّاج: المهذّب: 2/ 201.

(4) 4 و 5 الوسائل: الجزء 18، الباب 46 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 413

سقوط الواسطة (عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه)، كما يحتمل سماع ابن سنان عن الإمام مباشرة أيضاً. «1»

غير أنّ الإفتاء بظاهره ينافي ما سبق من شرطية عدم حضور الأصل لجواز شهادة الفرع.

و لهذه الملاحظة نجد من الأصحاب من يُقيّدها بما بعدَ الحكم، و أنّ الحضور قبل الحكم يبطل شهادة الفرع نعم لو شهد و لم يكن الأصل حاضراً و حكم الحاكم ثمّ جاء الأصل و أنكر، فيؤخذ بقول الأعدل، و إلّا فيطرحْ شهادة الفرع و قد حمل الرواية على هذه الصورة لفيف منهم:

ابن حمزة في الوسيلة قال: و إذا شهد الفرع ثمّ حضر الأصل، لم يخل من وجهين إمّا حكم الحاكم بشهادة الفرع أو لم يحكم، فإن حكم و صدّقه الأصل، و كان عدلًا نفذ حكمه، و إن كذبه و تساويا في العدالة نقض الحكم و إن تفاوتا أخذ بقول أعدلهما و إن لم يحكم بقوله، سمع من الأصل و حكم به. «2»

و منهم العلّامة في المختلف قال: تحمل الرواية على ما إذا أنكر بعد الحكم فإنّه لا يقدح في الحكم حينئذ بشهادة أعدلهما اعتباراً بقوة الظن أمّا قبل الحكم فإنّ شهادة الفرع تبطل قطعاً. «3» و بذلك جمع بين القول بشرطية عدم الحضور، في الاحتجاج بالفرع، و القول بالأخذ بأعدلهما من الفرع و الأصل، و ذلك بحمل ما دلّ على الاشتراط على ما قبل الحكم، و حمل ما دلّ على الأخذ بالأعدل كما في صحيحة عبد الرحمن، على صورة صدور الحكم.

يلاحظ عليه مضافاً إلى أنّه جمع بلا شاهد أنّه لو صدر الحكمُ حينما كانت شهادة الفرع جامعة للشرط، فلا ينقض الحكم بتكذيب الأصل لأنّ نقض

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 46 من أبواب الشهادات،

الحديث 3.

(2) ابن حمزة: الوسيلة: 234.

(3) ابن المطهّر: المختلف: 171، كتاب الشهادات.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 414

الحكم منحصر بصورة العلم بالفساد، و لا علم و قد صرح المحقّق أيضاً بأنّه لو حكم بشهادة الفرع ثمّ حضر الأصل لم تقدح مخالفته.

ثمّ إنّ المحقّق حمل الرواية على ما قبل الحكم، لكن فسر الرواية بما إذا قال الأصل «لا أعلم» لا إذا كذّب الفرع.

يلاحظ عليه مضافاً إلى أنّ صريح الصحيحة هو التكذيب لا عدم العلم حيث ورد فيها أنّ الأصل قال: «لما شهده» أنّ الإشكال الذي أشار إليه نفس المحقّق قبل هذا التأويل و قال: «و هو يشكل بما أنّ الشرط في قبول الفرع عدم حضور الأصل» باق بحاله.

و هناك وجه ثالث أشار إليه صاحب الجواهر و هو حمل ما دلّ على عدم التمكّن من الحضور على ما قبل الشهادة، فلو تمكن من الحضور قبل الشهادة، لما صحّت شهادة الفرع و لكن لو شهد جامعاً للشرائط بأن كان الأصل خارجاً عن البلد، ثمّ حضر فلا يضرّ لأنّ القدر المتيقن من رواية محمّد بن مسلم الدالة على عدم التمكن من الأصل، هو عدم حضوره قبل الشهادة، و إلّا فلو تعسّر الحضور و شهد فبما أنّ الشهادة جامعة للشرط فلا يضرّه الحضور بعدها و بهذا فسرت رواية محمّد بن مسلم.

و أمّا صحيحة عبد الرحمن، فتحمل على ما إذا حضر بعد الشهادة التي كانت جامعة للشرط، و أنكر قبل صدور الحكم، ففي هذه الظروف يؤخذ بأعدلهما و إن كانا متساويين لا يؤخذ بقول الفرع.

نعم لو حضر و كذب بعد صدور الحكم، فالحكم لا ينقض و لا تسع قول الأصل.

و إلى ما ذكرنا يشير صاحب الجواهر

و يقول: و أمّا معارضة ما دلّ على اشتراط عدم حضور الأصل فعلى فرض كون الرجحان ينبغي الاقتصار فيه على مقدار المعارضة لا أزيد و هو ما إذا كان قبل إقامة الشهادة و أمّا بعدها فليس في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 415

تلك الأدلة ما يقتضي اشتراطها أيضاً بعدم حضور الأصل بل ظاهر دليل الشرطية القبول حينئذ فيبقى الخبران حينئذ سالمين عن التعارض فيعمل بمضمونهما. «1»

حضور الأصل بعد الحكم بالفرع

لو حضر شاهد الأصل بعد الحكم لم يقدح في الحكم وافقا أو خالفا لأنّه حكم صدر على وفق الموازين فلا ينقض بلا خلاف إنّما الكلام إذا حضر قبل الحكم. و بعد الشهادة قال المحقّق: «سقط اعتبار الفرع و بقي الحكم لشاهد الأصل» و لكن الصحيح على ما ذكرنا أن يقال: إن حضر و خالفا، يؤخذ بأعدلهما حسب ما ورد في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، و إن حضر و لم تظهر منه المخالفة و لا الموافقة، يحكم بشهادة الفرع لأنّها شهدت و كانت جامعة للشرط و هو عدم التمكن من الأصل قبل الشهادة، و حضوره ثانياً لا يخرجها عمّا هي عليها إلّا مع المخالفة و المفروض عدمها.

تغيّر حال الأصل بفسق أو كفر

إذا خرج الأصل عن الصلاحية بفسق أو كفر أو عداوة للمشهود عليه ممّا تعدّ من موانع قبول الشهادة قال المحقق: لم يحكم بالفرع لأنّ الحكم مستند إلى شهادة الأصل.

و في إطلاق كلامه نظر يعلم من بيان صور المسألة:

1- لو طرأ مانع بعد تحمّل الفرع، و أدائه الشهادة عند الحاكم و حكمه على وفقها.

2- لو طرأ بعد تحمّل الفرع و بعد أدائها عند الحاكم، لكن قبل حكمه.

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 204.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 416

3 لو طرأ بعد تحمّل الفرع و قبل أدائها عند الحاكم.

4- لو طرأ قبل تحمّل الفرع بمعنى أنّه أشهده و هو فاسق.

لا شك في أنّه لا يضرّه في الصورة الأُولى، كما لا شكّ أنّه تطرح شهادة الفرع في الصورة الأخيرة لأنّ شهادة الأصل في هذه الحالة مردودة، فكيف شهادة الفرع على شهادته.

إنّما الكلام في الصورتين المتوسطين فالقول بطرح الفرع مستنداً إلى أنّ الحكم مستند إلى شهادة

الأصل الفاسق غير تامّ.

و ذلك لأنّ الموضوع لقبول الشهادة كون الشاهد حين الشهادة جامعاً للشرائط، بأن يكون عاقلًا، بالغاً، عادلًا و المفروض أنّ الأصل كان حين الأداء عادلًا سواءً بقي على العدالة إلى وقت أداء الفرع لدى الحاكم، كما في الصورة الثانية و إن زالت قبل الحكم، أو لم يبق عليها، بل كان عادلًا حين الإشهاد، و تحمّل الفرع، لكن زالت العدالة قبل أدائها لدى الحاكم كما في الصورة الثالثة.

و الذي يؤيد ما ذكرناه أنّهم اقتصروا في عدالة الراوي في باب حجيّة خبر الواحد على كونه كذلك حين الإخبار و إن تغيّر وصفه بعده فلو تحمّل عادل خبر عادل، ثمّ طرأ الفسق على المخبر الأوّل، لم يضر و لأجل ذلك يعمل الأصحاب بروايات علي بن أبي حمزة البطائني و سائر الواقفة إذا حدَّثوا حين الاستقامة.

و الحاصل أنّ طروء الطارئ يفسد شهادته الفعلية، لا شهادته السابقة و بذلك يظهر ضعف دليل المحقّق، و ذلك لأنّ الحكم و إن كان مستنداً إلى شهادة الأصل لكن إلى شهادته حال الاستقامة لا إلى شهادته الفعلية و الشهادة الأولى لم تخرج عن الحجّية فهي بوصف كونها سابقة، حجّة حتى اليوم و الفرع يعتمد على شهادته في تلك الحال لا على حالته اليومية.

و ما ربّما يقال من أنّ شهادة الفرع فرع شهادة الأصل و لا شك أنّها ليست

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 417

بمقبولة في ذلك غير تامّ أيضاً. «1»

و ذلك لأنّ شهادته الفعلية ليست بحجّة و أمّا شهادته السابقة في حال الاستقامة حجّة مرّ الدهور و الأيام.

و منه يظهر ضعف الدليل الآخر و هو أنّ الحكم بشهادة الأصل و الفرع، فيلزم إثبات الحكم بشهادة

الفاسق و الكافر.

يلاحظ عليه: أنّ الحكم مستند إلى شهادة العدول، أمّا الفرع فواضح و أمّا الأصل، فالمفروض كونه عادلًا في ظرف الأداء و نحن نحكم اعتماداً على أدائه و هو عادل.

و الذي يوضح ذلك هو أنّه لو طرأ الجنون و الإغماء بعد الإشهاد، فهو غير ضائر فأيّ فرق بين طروء الفسق و الجنون بعد كون الجميع من الموانع.

الشرط الثاني: تسمية الأصل

إنّ القضاء بالشهادة فرع إحراز عدالة الشاهد أصلًا و فرعاً، و لا يحرز إلّا بالتسمية، و لا يكفي كونهم عدولًا لدى شاهد الفرعِ، لأنّ الحاكم قد يعرفهم بالجرح لو سُمُّوا، و لأنّهم قد يكونون عدولًا عند قوم، و فسّاقاً عند آخرين.

و على ذلك يكفي مجرّد تسميتهم و تعريفهم، سواء قارنت بالتزكية أم لا، و لا يكفي مجرّد التزكية بلا تسميتهم لما عرفت و إلّا انسدَّ باب الجرح على الخصم. و الحاصل أنّ الواجب مجرّد التسمية، حتى يتيسر للحاكم، الفحص عن الجرح و التعديل.

و لكن المحكي عن أبي يوسف و الثوري أنّ مجرّد التسمية بلا تزكية ضائر لإيهامه أنّه ما ترك التزكية إلّا لريبة.

______________________________

(1) حكاه الأردبيلي في مجمع الفائدة: 12/ 488.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 418

يلاحظ عليه: أنّ ترك التزكية أعمّ من الريبة لأنّه يمكن أن يكون لأجل عدم العلم بعدالتهما.

قال الشيخ: إذ سَمّيا شاهدَ الأصل و لم يُعدِّلا، سمعهما الحاكم و بحث عن عدالة الأصل فإن وجده عدلًا حكم به و إلّا توقف فيه و به قال الشافعي.

و قال أبو يوسف و الثوري: لا تُسمع هذه الشهادة، لأنّهما لم يتركا تزكية الأصل إلّا لريبة و ردّ عليهما الشيخ بقوله: إنّهما إنّما يشهدان بما يعلمان، و قد يعلمان شهادة الأصل و إن

لم يعلما كونهما عدلين، فلا يجوز لهما أن يشهدا بذلك و على الحاكم أن يبحث عن عدالة الأصل، و ليس لا يتركان ذلك إلّا لريبة بل لما قلناه. «1»

ثمّ إنّ المحقّق ذكر فرعين أحدهما: حجّية شهادة النساء على النساء فيما تقبل فيه شهادة النساء منفردات كالعيوب الباطنة و الاستهلال و الوصيّة و تردد فيه ثمّ قال: «أشبهه المنع» و قد قدّمنا الكلام في شهادتهنّ، من غير فرق بين ما يقبل منضمات أو منفردات، و قلنا: إنّ الأقرب هو القبول. و ثانيهما: انّه تثبت بالشهادة على الشهادة، اللواط و الزنا، أو وطء البهيمة، و يترتب عليها كلّ الآثار إلّا الحدّ و التعزير و قد تقدّم الكلام فيها أيضاً.

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 68.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 419

المقصد الخامس في اللواحق

ذكر المحقّق أنّ اللواحق على قسمين:
اشارة

الأوّل: في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد.

الثاني: في الطوارئ و المقصود الأُمور التي تعرض على الشهادة بعد أدائها من موت أو فسق أو كفر أو تزكية أو غير ذلك.

فإليك الكلام في القسم الأوّل [أي في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد.]
اشارة

و يترتّب عليه مسائل:

المسألة الأُولى توارد الشاهدين على الشي ء الواحد شرط في القبول

، و ذلك لأنّ المشهود به لا يثبت إلّا بتمام العدد، فلو لم يتواردا على شي ء واحد، بل شهد كلّ على شي ء، غير ما شهد به الآخر، لما قامت البيّنة على شي ء واحد، نعم لا تشترط وحدة التعبير، بل تكفي وحدة المضمون و إن اختلفا في اللفظ مثلًا إذا قال أحدهما: غصبه، و قال الآخر: انتزعه منه قهراً و ظلماً، كفى.

خرج ما لو اختلفا في المعنى، كما إذا قال أحدهما: أشهد أنّ زيداً باع داره من عمرو، و قال الآخر: أشهد أنّه أقرّ ببيع داره من عمرو، فلا يثبت الموضوع بالبيّنة، لعدم تواردهما على موضوع واحد حتى تقوم البيّنة عليه. نعم إذا لم يتواردا على موضوع واحد فهو على قسمين:

1- لا يتواردان على موضوع واحد، و لا يكون بينهما تعارض كما في المثال

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 420

السابق، من الشهادة على بيع الدار، و الشهادة على إقراره بالبيع، فبما أنّهما لا يتواردان على موضوع واحد، لا يثبت الموضوع بالشاهدين و بما أنّهما غير متعارضين، يثبت الموضوع بشاهد و يمين و هذا أثر عدم التعارض.

2- لا يتواردان على موضوع واحد و في الوقت نفسه يتعارضان في المضمون.

و الحاصل أنّه إذا لم يتواردا على موضوع واحد، فلو كانا مع ذلك متعارضين فلا يحتج بهما مطلقاً، لا بعنوان البيّنة و لا بضم اليمين إلى واحد منهما و أمّا إذا لم يتواردا و مع ذلك لم يكونا متعارضين، فلا يحتج بهما بعنوان البيّنة و لكن يحتج بكل واحد بضم اليمين إلى واحد.

فإن قلت: المفروض هو التكاذب بين الشاهدين لبيّنة واحدة لا التكاذب بين البيّنتين فبما أنّ الشاهد الواحد،

ليس بموضوع للأثر، و إنّما يترتّب الأثر عليه إذا ضُمَّ إليه شاهد آخر أو يمين المدّعي، فعندئذ يكون تكاذبُ الشاهدين من قبيل تكاذب اللاحجّة، مع اللاحجة فلا أثر لهذا التكاذب حتى يسقطان نعم إذا تكاذبت البيّنتان، يكون من قبيل تكاذب الحجّة مع الحجّة.

قلت: كفى في ترتب الأثر، أنّه يجب تصديقه إذا ضُمّ إليه الآخر، أو اليمين، و هذا المقدار من الأثر الشأني أو التعليقي يكفي في التعبد، ثبوتاً و سقوطاً.

و بذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره صاحب الجواهر من أنّ التكاذب المقتضي للتعارض الذي يُفزع فيه للترجيح و غيره إنّما يكون بين البيّنتين لا بين الشاهدين. «1»

و ذلك لأنّ الشاهد الواحد و إن لم يكن تمام الحجّة التامة، لكنّها جزء الحجّة و يكفي ذلك في صحّة التعبد ثبوتاً و سقوطاً.

أضف إلى ذلك أنّه لا إطلاق في الأخبار الواردة في الاحتجاج بشاهد و

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 212.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 421

يمين حتّى يعمّ صورة التعارض.

إلى هنا تبين أنّه إذا لم يتوارد الشاهدان على موضوع واحد، فهو على قسمين إمّا غير متعارضين أو متعارضين فالأوّل يحتج بأحدهما بضمّ اليمين دون الثاني.

نعم للشاهدين الاتّفاق على ذكر المسبب عند القاضي في المثال السابق من دون ذكر اسم السبب، فيكون من باب توارد الشهادتين على موضوع واحد.

المسألة الثانية

كان البحث فيما سبق مركزاً على شهادتين لم تتواردا على موضوع واحد و لكن الشهادتين بين متعارضتين و غير متعارضتين و قد عرفت حكمهما.

و أمّا البحث في هذه المسألة فعلى أحد أمرين:

1- إمّا غير متواردتين على موضوع واحد.

2- و إمّا متواردتان على موضوع واحد و لكن بينهما التعارض من جهة أُخرى كالزمان.

و اعلم أنّ

المتعارضتين مطلقاً لا يحتجّ بهما مطلقاً من غير فرق بين المسألتين.

قال المحقّق: لو شهد أحدهما أنّه سرق نصاباً غدوة، و شهد الآخر أنّه سرق عشية.

أقول: ذكر المحقق للمسألة صورتين:

أ: لو كان المشهود عشية، غير المشهود غدوة، بمعنى أنّ زيداً شهد أنّ فلاناً سرق غدوة نصاباً موجباً لقطع اليد (كربع الدينار) و شهد عمرو أنّ ذلك الفلان سرق عشية نصاباً آخر، فيكون المال المسروق شيئين، فهذا من قبيل عدم التوارد على موضوع واحد من غير تعارض.

ب: تلك الصورة و لكن شهد الشاهد الثاني أنّه سرق ذلك النصاب بعينه

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 422

عشية فيكون المال المسروق أمراً واحداً، و هذا من قبيل الشهادة على مورد واحد لكن مع التعارض للاختلاف في الزمان.

أمّا الأوّل: فلا يحكم بهما لأنّ المشهود به فعلان و لم تتوارد الشهادتان على مورد واحد فلم يتم العدد لكن يصحّ القضاء بإحداهما لو انضمت يمين المدّعي إليها إذ لا تعارض بين الشهادتين.

و أمّا الثاني: فلا يحتج بهما لأنّهما أنفسهما و إن تواردتا على أمر واحد، و لكن تعارضتا في الوقت، و لا بضم يمين المدّعي لأنّ الاحتجاج بشاهد و يمين إنّما يصحّ إذا كانت شهادة الشاهد حجّة في نفسها و ليس المقام كذلك، لسقوطها عن الحجّية للتعارض.

و الحاصل أنّ تغاير المشهود به (تغاير الفعلين) يضرّ الاحتجاج بالشاهدين لعدم تمامية العدد في كلّ واحد و لا يضرّ الاحتجاج بكلّ واحد إذا ضُمَّت إليه اليمين و لكن تواردهما على موضوع واحد متعارضين يضرّ بالاحتجاج بهما و بضم يمين إلى واحد منهما لأجل التعارض.

و بذلك تعلم صحّة ما ذكره الشهيد في المسالك من أنّ قول المحقّق لا يستدل لتحقّق التعارض

أو لتغاير الفعلين من قبيل اللف و النشر غير المرتب، فالثاني راجع إلى الصورة الأُولى المذكورة في بند «أ» و الأوّل راجع إلى الصورة الثانية المذكورة في بند «ب» من كلامنا فلاحظ.

المسألة الثالثة قد عرفت أنّه لو كانت نتيجة شهادة الشاهدين تغاير المشهود به فلا يحتج بهما للتغاير
اشارة

، و لكن يحتج بكلّ واحد مع يمين المدّعي، و لو كانت نتيجة شهادتهما، وحدة الفعلين، مع التعارض فيسقطان رأساً، لا يحتج بهما و لا بواحد منهما مع ضمّ اليمين و على ذلك، تقف على ما هو الحقّ فيما ذكره المحقّق في

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 423

المسألة الثالثة و إليك نصّه:

1- لو قال أحدهما: سرق ديناراً، و قال الآخر: درهماً أو قال أحدهما: سرق ثوباً أبيض، و قال الآخر: أسود.

قال المحقّق: ففي كلّ واحد منهما، يجوز أن يحكم مع أحدهما بيمين المدّعي لكن يثبت له الغرم و لا يثبت القطع. «1»

و على ضوء ما ذكرنا يصحّ ما ذكره في صورة تعدد العين (تعدد الفعلين من غير تعارض) بأن يشهد كلّ على غير ما يشهد بها الآخر، كأن يشهد أحدهما بالدينار، و الآخر على سرقة أُخرى غير الدينار كالدرهم، ففي مثل ذلك لا يحتج بهما لعدم اجتماع العدد بالنسبة إلى كلّ فعل، و لكن يحتج بكلّ واحد إذا ضمّت إليه يمين المدّعي، و الثابت هو الغرم لا القطع للشبهة كما ذكره المحقّق لعدم اليمين في الحد، و أمّا إذا كان المشهود به عيناً واحداً (وحدة الفعل) كما إذا اتّفقا على سرقة ثوب معيّن لكن شهد أحدهما بكونه أبيض و الآخر على أنّه أسود فلا يحتج بواحد مطلقاً مع ضمّ الآخر، و لا مع ضمّ اليمين، كما عرفت.

و الحاصل أنّ الشهادة على فعلين، يضرّ بالاحتجاج بهما، و لا

يضرّ بالاحتجاج بواحد مع يمين المدّعي بخلاف الشهادة على فعل واحد و التضاد فيما يتعلّق به كاللون، فهو موجب للسقوط مطلقاً، لا بالشاهدين و لا بضمّ اليمين.

و أمّا تعارض البيّنتين ففيه أقوال:

الأوّل: ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط من القول بالقرعة في تمييز ما يحتج من البيّنتين قال:

إذا كان مكان كلّ شاهد، شاهدان، شهد اثنان أنّه سرق كبشاً غدوة و شهد آخران أنّه سرق ذلك الكبش عشية تعارضت البيّنتان و سقطتا و عندنا تستعمل

______________________________

(1) نجم الدين: الشرائع، كتاب الشهادات: 4/ 141.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 424

القرعة «1» و علّله صاحب الجواهر بأنّه يجب الحكم بواحد منهما و لا يعلم ذلك إلّا بالقرعة. «2»

يلاحظ عليه: أنّ القرعة في البيّنة فيما إذا تعدّد المدّعي و كان لكلّ بيّنة لا ما إذا قامت بيّنتان لصالح إنسان واحد.

و قال المحقّق: و لو تعارض في ذلك بيّنتان على عين واحدة سقط القطع للشبهة و لم يسقطه الغرم. و لو كان تعارض البيّنتين لا على عين واحدة، ثبت الثوبان و الدرهمان.

و حاصله: التفصيل بين ما إذا اختلفا في الزمان مع الاتّفاق على العين المسروقة، و ما إذا اختلفا في العين المسروقة ففي الأوّل كما إذا شهد عدلان على أنّ زيداً سرق الثوب الفلاني صباحاً، و شهد عدلان آخران على أنّه سرق ذلك الثوب عشية، فإذا اتّفق الشهود على وحدة السرقة سقط القطع للشبهة و لم يسقط الغرم، و في الثاني كما إذا شهد عدلان بأنّه سرق الثوب الأسود، و شهد آخران على أنّه شهد الثوب الأبيض، أو شهدت إحدى البيّنتين بأنّه سرق الدرهم و الأُخرى على درهم آخر يثبت كلا الثوبين، أو كلا الدرهمين

إذ لا تعارض بينهما و يثبت القطع أيضاً.

يلاحظ على الصورة الأُولى

أوّلًا: أنّه لا يثبت بالبيّنة المعارضة، القطع، و لا الغرم، لأنّ ترتيب الأثر فرع شمول دليل الحجّية لصورة المعارضة. و دلالتهما على أصل السرقة دلالة التزامية، فلا تكون حجّة بعد سقوط الدلالة المطابقيّة.

و ثانياً: ما الفرق بين هذه الصورة و ما ذكره في المسألة الثانية في تعارض

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 242.

(2) النجفي: الجواهر: 41/ 213 بتصرف في العبارة للتوضيح.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 425

الشاهد مع الشاهد الآخر حيث قال بأنّه لا يحكم لو شهد الآخر أنّه سرق ذلك بعينه عشية و علّله بتحقّق التعارض.

و أمّا الصورة الثانية:

فكما يثبت الغرم أي ضمان الثوبين أو الدرهمين يثبت القطع لعدم التعارض، و عدم نفي واحدة منهما، الأُخرى.

و يلحق بالصورة الأُولى ما إذا طرأ عليه التعارض بالعرض كما إذا اعترف المدّعي بأنّه لم يسرق ماله مرتين بل مرّة واحدة فتدخل البيّنتان تحت البيّنتين المتعارضين، فلا يحتج بهما لا في الغرم و لا في القطع.

المسألة الرابعة و فيها فروع ثمانية:
الفرع الأوّل: لو شهد أحدهما أنّه باعه هذا الثوب غدوة بدينار، و شهد له الآخر، أنّه باعه ذلك الثوب بعينه في ذلك الوقت بدينارين.

قال المحقّق: لم يثبتا لتحقّق التعارض. و كان له المطالبة بأيّهما شاء مع اليمين.

توضيحه: إنّه لا يثبت الديناران لعدم تمامية العدد بالنسبة إليه. و أمّا الدينار فلإثباته طريقان:

1- قيام البيّنة على الجامع فإنّ دلالة إحدى البيّنتين على الدينار الواحد بالمطابقة و دلالة البيّنة الأُخرى عليه بالالتزام لوجود الدينار الواحد في ضمن الدينارين.

يلاحظ عليه: أنّه لم تتوارد الشهادة على الشي ء الواحد، لأنّ الأوّل يشهد على الأقل، و ينفى الأكثر على خلاف الثاني، فكيف يمكن أن يقال إنّهما تواردتا على شي ء واحد، و الأخذ بالدلالة الالتزامية مع رفض المطابقية غير صحيح في عرف

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 426

العقلاء.

2- ضمّ اليمين على الشاهد الواحد، فإن ضُمَّ إلى من شهد بالدينار الواحد، يثبت الدينار، و إن ضمّ إلى من شهد بالدينارين، يثبتان.

يلاحظ عليه: ما سبق و هو أنّ الشاهد الواحد حجّة بنحو جزء العلّة لكنّه سقط عن الحجّية لأجل الابتلاء بالمعارض فلا يفيد ضم اليمين إليه و لأجل ذلك أفتى السيّد الأُستاذ بالسقوط و قال: لو شهد أحدهما أنّه باع هذا الثوب أوّل الزوال بدينار، و شهد آخر أنّه باعه أوّل الزوال بدينارين، لم يثبت و سقطتا و قيل «1» كان له المطالبة بأيّهما شاء مع اليمين، و فيه ضعف. «2»

الفرع الثاني: تلك الصورة و لكن شهد له مع كلّ واحد شاهد آخر.

قال المحقّق: يثبت الديناران إن ادّعاهما و لغت البيّنة الأُخرى.

أقول: لا تخلو الحال إمّا أن يكون لكلّ من الثمنين مدع كما لو ادعى البائع أنّه باع بدينارين و ادعى المشتري أنّه اشتراه بدينار، أو لا يكون ففي الصورة الأُولى تتعارض البيّنتان، و تصل النوبة إلى إعمال القرعة في إخراج ما هو الحق و لعلّ الشيخ يريد تلك الصورة و يقول بالقرعة

حيث قال: و إن كانت بحالها و كان مقابل كلّ شاهد، شاهدان شهد اثنان أنّه باعه بألف، و شهد آخران أنّه باعه بعينه في ذلك الوقت بألفين تعارضتا و سقطتا عندهم و عندنا استعملت القرعة لأنّه لا يصحّ أن يعقد عقدان في زمان واحد. «3»

و أمّا الصورة الثانية: أعني ما إذا أنكر الخصم المدّعي أصل الشراء، فيمكن القول بثبوت الدينارين اللّذين ادعاهما البائع، حيث تلغى البيّنة الأُولى.

______________________________

(1) القائل هو المحقّق في الشرائع كما عرفت.

(2) تحرير الوسيلة: 2، كتاب الشهادات، 407.

(3) الطوسي: المبسوط: 8/ 242.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 427

و بعبارة أُخرى: ليس للقاضي القضاء ببيّنة الدينار الواحد، لأنّ المتخاصمين اتّفقا على بطلانها أمّا البائع فلأنّه يدعي البيع بدينارين و أمّا المشتري، فلأنّه ينكر أصل البيع، و لأجل ذلك تلغى بيّنة الدينار الواحد، فيكون بيّنة الدينارين بلا معارض.

و أمّا عدم الرجوع إلى القرعة فلأجل أنّه إنّما يرجع إليها إذا كان لكلّ من الثمنين مدع، و المفروض خلافه نعم هو المفروض في الصورة الأُولى.

فتبيّن أنّه يجب التفصيل بين ما إذا كان لكلّ من الثمنين مدع، فيرجع إلى القرعة و ما لم يكن كذلك، فالمرجع بيّنة المدّعي و هو الديناران.

و مع ذلك نرى أنّ السيّد الأُستاذ قدس سره لم يفصّل بين الصورتين و قال: و لو شهد له مع كلّ واحد، شاهد آخر، قيل يثبت الديناران و الأشبه سقوطهما. «1»

وجهه: أنّ بيّنة الدينار الواحد، و إن لم يترتّب عليها الأثر فعلًا و لكنّه لا يخرجها عن تحت أدلّة حجّية البيّنة، فيكون المقام من قبيل تعارض الحجّة مع الحجّة فيسقط و لعلّه الأشبه.

و احتمال ثبوت الألف لاتّفاقهما عليه، قد عرفت ضعفه فيما إذا

كان لكلّ شاهد، واحد من الشهود.

الفرع الثالث: لو شهد واحد بالإقرار بألف، و الآخر بألفين في زمان واحد.

قال المحقّق: يثبت الألف بهما، و الآخر بانضمام اليمين.

يريد المحقّق التفريق بين الفرع الأوّل و هذا الفرع الثالث حيث إنّه قال في الفرع الأوّل بأنّه لو شهد أحدهما أنّه باعه هذا الثوب غدوة بدينار و شهد الآخر أنّه باعه ذلك الثوب بعينه في ذلك الوقت بدينارين لم يثبتا لتحقّق التعارض و لكنّه يقول في هذا الفرع بأنّه لو شهد واحد بالإقرار بألف و الآخر بألفين فإنّه يثبت

______________________________

(1) الإمام الخميني: تحرير الوسيلة: 2/ 407.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 428

الألف بهما و الآخر بانضمام اليمين و ذلك لعدم التعارض بين المشهود بهما فإنّ الشاهد بدينار لا ينفي الزائد. و على ذلك فالفرع الأوّل من قبيل الشهادة على المتباينين، و الثاني من قبيل الشهادة على الأقل و الأكثر.

و لعلّ وجه الفرق بين الفرعين، هو وجود القرينة الدالة على أنّ الشاهد على بيع الثوب بألف، ينفي بيعه بألفين لا أنّه ساكت عن الزيادة، و هكذا الشاهد على البيع بألفين، و هذا بخلاف المقام، فيجوز أن لا يكون الشاهد سمع إلّا ديناراً، أو لم يقطع إلّا به و تردد في الزائد، أو رأى أن لا يشهد إلّا به مصلحة يراها.

الفرع الرابع: تلك الصورة و لكن شهد بكلّ واحد، من الإقرارين شاهدان.

قال المحقّق: يثبت الألف بشهادة الجميع، و الألف الآخر بشهادة اثنين. و الوجه هو ما عرفت في الشاهد الواحد و أنّ المورد ليس من قبيل الشهادة على المتباينين بل من باب الأقل و الأكثر فلو كان في كلّ طرف بيّنة، يثبت الأقل بكلتا البيّنتين، و الأكثر ببيّنة ثانية.

الفرع الخامس: لو شهد أنّه سرق ثوباً قيمته درهم، و شهد آخر أنّه سرقه و قيمته درهمان

، قال المحقّق: مثل ما قال في الفرع الثالث، ثبت الدرهم بشهادتهما و الآخر بالشاهد و اليمين.

الفرع السادس: تلك الصورة و لكن شهد بكلّ صورة شاهدان ثبت الدرهم بشهادة الجميع، و الآخر بشهادة الشاهدين بهما.

و على ذلك فالفروع الأربعة الأخيرة كلّها من قبيل الشهادة على الأقل و الأكثر، يثبت المتفق عليه بالشاهدين أو بالبيّنتين، و غير المتفق عليه يثبت في الشاهد بضم اليمين، و في البينة بالثانية منهما.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 429

الفرع السابع: لو شهد أحدهما بالقذف غدوة، و الآخر عشية، أو بالقتل كذلك.

قال المحقّق: لم يحكم بشهادتهما لأنّها شهادة على فعلين.

وجهه واضح، لأنّ كلًا من الشاهدين يشهد على غير ما يشهد عليه الآخر، و بما أنّه لم يتم العدد لا في القذف و لا في القتل، فلا يحكم مع احتمال الكذب في كلّ واحد.

الفرع الثامن: لو شهد أحدهما بإقراره (بمال لزيد) بالعربية، و الآخر بالعجمية.

قال المحقّق: قُبل لأنّه إخبار عن شي ء واحد.

يلاحظ عليه: أنّ المحكي و إن كان واحداً و لكن الإقرار عند شاهد بالعربية، غير إقراره عند آخر بالعجمية و كلّ شاهد يشهد على إقراره بلسان خاص و لا يشهد على المحكي و هو كونه مديوناً لعمرو مثلًا و على هذا يجب أحد أمرين إمّا ضم يمين إلى أحد الشاهدين، أو ضمّ شاهد ثالث إلى أحد الشاهدين فتأمّل.

القسم الثاني: في الطوارئ
اشارة

و هي مسائل

المراد الأُمور التي تعرض على الشهادة بعد أدائها من موت أو فسق أو كفر أو تزكية أو غير ذلك و فيه مسائل:

الأُولى: لو شهدا و لم يَحكم بهما، فماتا

قال المحقّق: حكم بهما و كذا لو شهدا ثمّ زُكِّيا بعد الموت.

و مثله ما إذا شهدا و لم يحكم بهما و مات أحدهما أو جُنّا أو أُغمي عليهما أو أحدهما.

و الدليل إطلاق أدلّة حجّية البيّنة و معه لا حاجة إلى استصحاب الصحّة و

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 430

سيوافيك أنّ الموضوع كون الشهادة جامعة للشرائط حال أداءها و لا يجب بقاؤها عليها إلى حال الحكم.

الثانية: لو شهدا، ثمّ فسقا قبل الحكم

قال المحقّق: حكم بهما لأنّ المعتبر بالعدالة عند الإقامة.

1- قال الشيخ: إذا شهد عدلان عند الحاكم بحقّ ثمّ فسقا قبل أن يحكم بشهادتهما، حَكَمَ بشهادتهما و لم يرده و به قال أبو ثور و المزني، و قال باقي الفقهاء لا يحكم بشهادتهما. دليلنا أنّ الاعتبار بالعدالة حين الشهادة، لا حينَ الحكم، فإذا كانا عدلين حين الشهادة وجب الحكم بشهادتهما، و أيضاً إذا شهدا و هما عدلان وجب الحكم بشهادتهما فمن قال إذا فسقا بطل هذا الوجوب، فعليه الدلالة. «1»

2- قال في المبسوط: إذا شهد شاهدان عند الحاكم بحقّ، و كانا عدلين حين الشهادة ثمّ فسقا لم يخل من أحد أمرين إمّا أن يفسقا قبل الحكم بشهادتهما، أو بعد الحكم بشهادتهما فإن فسقا قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بتلك الشهادة و قال قوم يحكم بشهادتهما و هو الأقوى عندي. «2»

3- و قال العلّامة: و لو فسقا بعد الإقامة قبل الحكم حكم بها إلّا في حقوقه تعالى. «3»

4- و لكنّه في المختلف ذهب إلى عدم جوازه و قال: و الأقرب عندي عدم الحكم. «4»

و المسألة مبنيّة على أنّ الملاك في الجواز هل هو العدالة حين الأداء، أو

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 73.

(2) الطوسي:

المبسوط: 8/ 244.

(3) ابن المطهّر: الإرشاد: 2/ 168.

(4) ابن المطهّر: المختلف، كتاب الشهادات: 176.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 431

العدالة حين الحكم و الظاهر هو الأوّل لأنّ اعتبارها لغاية أنّها تصون الراوي عن التعمد على الكذب، فيكفي كونه كذلك حين الأداء، و لا يؤثّر عدالته حين الحكم في ذلك.

قال المحقّق الأردبيلي: إنّ الغرض من العدالة، ديانة الشاهد وقتَ شهادته، و إذا كانت في ذلك الوقت موجودة لا يضرّ زوالها بعده بالفسق و إن كان قبل الحكم، مثل الموت و الجنون و النوم و الاغماء فيما يشترط فيه البصر و غير ذلك.

ثمّ إنّ المحقّق مع أنّه قال بجواز الحكم هنا معلّلًا بأنّ المعتبر وجود العدالة حين الأداء ذكر في باب الشهادة على الشهادة، انّه إذا طرأ الفسق على الأصل، لم يحكم بالفرع لأنّ الحكم مستند إلى شهادة الأصل «1» مع أنّ مقتضى دليله هنا، عدم مانعية طروء الفسق على الأصل، إذا كان عادلًا حين الأداء و كان الفرع عادلًا أيضاً حينه.

استدل العلّامة في المختلف على مختاره بوجوه ضعيفة جدّاً و نقلها المحقّق الأردبيلي بنقد و تضعيف قال:

1- إنّهما فاسقان حين الحكم فلا يجوز الحكم بشهادتهما.

2- إنّ تطرق الفسق يُضعفُ ظن العدالة.

3- إنّ طروء الفسق عليهما نظير ما إذا رجعا، أو صارا وارثين حين الحكم، لموت المشهود له قبل الحكم. «2»

و الجميع كما ترى فالأوّل منه مصادرة، لأنّ الكلام في إضرار الفسق حين الحكم و عدمه و قد أُخِذ المدّعى دليلًا على المطلوب.

و الظنّ على الخلاف ليس بحجّة بعد شمول الإطلاق نعم لو صار مبدأً للشبهة يُدرأ به الحدّ، دون غيره و الرجوع عن الشهادة إبطال و تكذيب للشهادة و

______________________________

(1) نجم

الدين الحلي: الشرائع: 4/ 140.

(2) ابن المطهّر: المختلف، كتاب الشهادات: 176.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 432

أين هو من الفسق الذي لا يمتُّ إلى الإبطال بصلة و أمّا عدم الحكم بموت المشهود له و صيرورة الشهود وارثين حين الحكم فسيوافيك عدم صحّته.

و العجب من صاحب الجواهر حيث ذهب إلى عدم جواز الحكم في المقام محاوِلًا إبداء الفرق بين موت الشاهد و إغمائه، حيث لا يمنعان عن الحكم، و طروء الفسق حيث يمنع قائلًا بأنّ الأوّلين كالميت ليس له شهادة، بخلاف من طرأ عليه الفسق فيعمّه إطلاق روايات ردّ شهادة الفاسق و إلّا لزم جواز الحكم بها قبل الإقامة لو فرض أنّه حملها لغيره عدلًا ثمّ فسق، ثمّ بعد ذلك أقامها الفرع و هو معلوم الفساد و ليس ذلك إلّا لاعتبار جامعية العدالة و نحوها للشهادة حال الحكم و لا يكفي الحال السابق. «1»

يلاحظ عليه: أنّه إن أراد بقوله: «لا شهادة للمجنون و المغمى عليه» أنّه لا شهادة لهما في حال الحكم، فمن طرأ عليه الفسق أيضاً كذلك فهو صحيح إذ ليس له شهادة أيضاً حينه و إن أراد عدمها في ظرفها الذي أقاموها فيه و هو واضح البطلان لأنّ لكلّ شاهد، شهادةً في ظرفها و الشي ء لا ينقلب عمّا هو عليه و على ضوء ذلك، فإنّ التفريق بين الأصناف المذكورة، غير تام.

و أمّا ادعاء إطلاق المستفيض بردّ شهادة الفاسق فالمراد حسب مناسبة الحكم و الموضوع هو الفاسق حين الأداء، لا الحكم.

و ما أيّد به كلامه أخيراً، ليس إلّا إعادة لكلام المحقّق في الشهادة على الشهادة، حيث منع الحكم بشهادة الفرع إذا طرأ الفسق على الأصل و قد عرفت عدم تماميته.

نعم

لا يحكم به في حقوقه سبحانه بل مطلق الحدود لطروء الشبهة الموجب لدرء الحد، من غير فرق بين المختص للّه و المزيج بحقّ الآدمي كحدّ القذف و

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 219.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 433

القصاص.

قال المحقّق: أمّا لو كان حقّاً محضاً للّه تعالى كحدّ الزنا و اللواط و شرب المسكر لم يحكم لأنّه نوع شبهة و في الحكم بحدّ القذف و القصاص تردّد أشبهه الحكم لتعلّق حقّ الآدمي به. «1» و لكن الظاهر عدم الحكم لدخول الجميع تحت الحدود الذي ورد فيه الدرء لأجل الشبهة روى الصدوق مرسلًا قال، قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «ادرأ الحدود بالشبهات و لا شفاعة و لا كفالة و لا يمين في حدّ». «2»

و الذي يجب أن يركز البحث عليه، هو تفسير الشبهة التي بها يردّ بها الحدّ فإن أُريد مجرّد احتمال الخلاف يلزم درء الحدود غالباً، و لا يبقى إلّا القليل و هو خلاف ما يهدفه الشارع من تشريع الحدود الذي يعبر عنه بقوله: «حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين ليلة و أيّامها». «3»

أضف إلى ذلك أنّه لو كان مجرّد الاحتمال دارئاً للحد، لما أمر الإمام في حقّ من شرب الخمر و ادعى أنّه كان مشركاً و أسلم و نشأ بين قوم يشربون الخمر ببعث من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار (ليسأل عن) من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه. «4»

كلّ ذلك يعرب عن كون المراد من الشبهة، ما يعتمد عليه العقلاء في حياتهم، و على ضوء ذلك فلا يسقط الحد، إلهيّاً كانت أو آدميّاً، إذا كانت الشبهة غير خارجة

عن حدّ الاحتمال إلّا إذا كان قوياً قابلًا للاعتناء.

الثالثة: لو شهدا لمن يرثانه (كالأب) فمات قبل الحكم فانتقل المشهود به إليهما

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 142.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 24 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 4.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 2.

(4) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 434

قال المحقّق: لم يحكم لهما بشهادتهما.

قال الشيخ: فإن كانت بحالهما فلم يحكم بشهادتهما حتى مات المشهود له، فورثاه لم يحكم بشهادتهما لأنّه لو حكم، حكم لهما بالمال بشهادتهما و لا يجوز أن يحكم للشاهد بشهادته. «1»

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّه إذا كان الميزان في صحّة القضاء بالشهادة، كونها جامعة للشرائط حال الأداء فلا وجه لعدم القضاء.

و ثانياً: أنّ الحاكم يحكم بكون المال للمشهود له، لا للشاهد و إذا انتقل إليه، ينتقل منه إلى الشاهد، كما إذا كان الشاهدُ غيرَ الوارث و مات المشهود، قبل الحكم، و الدليل على أنّه يحكم على المال بأنّه للمورِّث لا للوارث أنّه لو كان هناك دين أو وصية مجوّزة يقدّم على الشاهدين و لا شي ء لهما.

و ثالثا: أنّ الإفتاء بعدم الحكم فيما إذا حَكم يُصرف في الدين و الوصية الشرعية، أو فيما إذا كان لهما في الميراث شريك كالأُخت، مشكل جدّاً فحرمانها بحجّة أنّ الشاهد صار من الوارث كما ترى.

نعم القول بالتبعيض بدفع حصّة الشريك دونهما لا يتحمّله دليل حجّية الشهادة، لأنّها شهادة واحدة لا تتبعض، و الصحيح وجوب الحكم، و الاتفاق على امتناع الحكم كما في المسالك غير مُفيد لأنّه إجماع معلوم دليله، الخاضع للمناقشة.

الرابعة: في رجوع الشاهد عن الشهادة
اشارة

لو رجع الشاهد عن الشهادة فله صور:

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 244.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 435

1- أن يرجع عنها

قبل الحكم.

2- أن يرجع عنها بعد الحكم و بعد الاستيفاء بمعنى تنفيذ الحكم و بعد تلف المحكوم به الذي هو المال.

3- لو رجعا بعد الحكم و قبل الاستيفاء و التنفيذ و كان المحكوم به هو الحدّ الّذي يعدُّ حقّاً للّه كحدّ الزاني، أو للآدمي كحدّ القاذف، أو المشترك كحدّ السرقة.

4- لو رجعا بعد الحكم و قبل الاستيفاء و كان المحكوم به هو الحقوق للآدمي.

5- لو رجعا بعد الحكم و الاستيفاء لكن العين قائمة.

أمّا الصورة الأُولى [أي أن يرجع عنها قبل الحكم.]

، فلا يحكم بالاتّفاق قال الشيخ: إذا شهد شاهدان بحقّ، عُرِف عدالتهما ثمّ رجعا عن الشهادة قبل الحكم بهما، لم يُحْكَم و به قال الجماعة إلّا أبا ثور فإنّه قال يُحكم بشهادتهما دليلنا إنّهما إذا رجعا لم يكن لهما شهادة فلا يجوز الحكم كما لو اجتهد الحاكم ثمّ تغير اجتهاده قبل الحكم فإنّه لا يحكم. «1»

و يدل عليه مرسل جميل «2» الذي لا يقصر عن الصحيح و سيوافيك نصّه في الصورة الثانية.

أضف إلى ذلك انّه أشبه بالبيّنة المتعارضة.

و أمّا ما رواه السكوني عن عليّ أنّ النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «من شهد عندنا ثمّ غيّر أخذناه بالأوّل و طرحنا الأخير». «3»

فمن المحتمل أن يكون ناظراً إلى الإقرار. للضمير الموجود في «أخذناه» فيكون المراد أنّه لا إنكار بعد الإقرار و أمّا ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: الجزء 3، كتاب الشهادات، المسألة 74.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 4.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 436

قال: «كان أمير المؤمنين عليه السَّلام لا يأخذ بأوّل الكلام

دون آخره». «1» فهو بصدد بيان أنّ العبرة في الحكم، بمجموع كلام المتكلم حيث يصلح الذيل قرينة على الصدر، نعم رواه في التهذيب المطبوع بأنّه كان يأخذ بأوّل الكلام دون آخره. «2» و الظاهر سقوط «لا» عن المطبوع.

ثمّ إنّ طرح الشهادة فيما إذا ادعيا الخطأ و الاشتباه واضح، عقلًا و نقلًا فإنّه لا يوجب فسقاً فيكون تخطئتهم حجّة على القاضي إنّما الكلام إذا اعترفوا بأنّهم تعمّدوا للكذب فإنّ رفع اليد عن الشهادة عندئذ لأجل أنّهم صاروا محكومين بالفسق بكلامهم الثاني إمّا لكذبهم بالشهادة الأُولى واقعاً، أو بالشهادة الثانية، و ليس هذا النوع من العلم الإجمالي بأقل من سائر الموارد و بذلك يتسرّب الشك إلى العدالة حين الأداء و أنّهم هل كانوا عدولًا أو لا، فيكون المقام من باب الشك الساري.

ثمّ إنّهم لو ادّعوا الخطأ و الغلط، لا يحكم بشهادتهما الثانية في نفس المورد لصحيح محمّد بن قيس عن أبي جعفر قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السَّلام في رجل شهد عليه رجلان بأنّه سرق، فقطع يده حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا: هذا السارق، و ليس الذي قطعتَ يده إنّما شبّهنا ذلك بهذا فقضى عليهما أن غرّمهما نصف الدية و لم يُجز شهادتهما على الآخر». «3» و مقتضى القاعدة و إن كان الأخذ بشهادتهما الثانية لأنّها شهادة عدلين لكن التوقف لأجل حصول الشبهة التي يُدرأ بها الحدّ، لزوال الاعتماد عليهما.

الصورة الثانية: و لو رجعا بعد الحكم و الاستيفاء و تلف المحكوم به.

قال المحقّق: لم يُنقَض الحكم و كان الضمان على الشهود.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2) الطوسي: التهذيب: 6/ 282.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء،

ج 2، ص: 437

قال الشيخ: إذا شهد شاهدان بحقّ و عرف عدالتهما و حكمَ الحاكم فاستوفى الحقّ ثمّ رجعا عن الشهادة لم يُنقَضْ حكمه و به قال جميع الفقهاء و قال سعيد بن المسيب و الأوزاعي ينقضه دليلنا أنّ الذي حكم به، مقطوع به بالشرع و رجوعهم يحتمل الصدق و الكذب فلا يُنقَض به ما قد قطِعَ عليه. «1»

أمّا عدم النقض، فلعدم العلم بالفساد، و قد مرّ أنّ حكم القاضي لا يُردُّ ما لم يعلم بطلانه و أمّا الضمان فلكون السبب أقوى من المباشر، مضافاً إلى مرسل جميل بن دراج الذي أُشير إليه في الصورة الأُولى عمّن أخبره عن أحدهما عليهما السَّلام قال: «الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم و قد قضى على الرجل، ضمنُوا ما شهدوا به، و غُرِّموا، و إن لم يكن قُضي، طرحت شهادتهم و لم يغرَّموا الشهود شيئاً». «2»

و الإمعان فيه يعطى أنّ الميزان في الأخذ و الطرح هو كون الرجوع بعد الحكم أو قبله، و أمّا الاستيفاء و التنفيذ، أو بقاء المال و تلفه التي صارت سبباً لانقسام المسألة إلى الصور المتعددة فليس بملاك في الأخذ و الطرح و لأجل ذلك يكون الصحيح دليلًا في بعض الصور الآتية.

و يدل عليه أيضاً صحيح جميل عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شاهد الزور قال: «إن كان الشي ء قائماً بعينه ردّ على صاحبه، و إن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» «3»، و في صحيح آخر في شاهد الزور إن كان قائماً و إلّا ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل 4 و موردهما و إن كان شاهد الزور الذي تعمّد الكذب، و لكن وجه ضمانه ليس إلّا لأجل

كونه السبب للتلف بشهادة أنّه لو كذب و لكن لم ينجرّ إلى التلف لما كان ضامناً حيث ينقض الحكم لأجل العلم بالفساد و يرد المال إلى صاحبه و هذا يعطي أنّ الملاك هو كون الشهادة سبباً

______________________________

(1) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 75.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 2، 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 438

للتلف سواء تعمّد الكذب أو لا، فتشمل صورة الرجوع، و إن أبيت إلّا عن اختصاصهما بشاهد الزور، ففي مرسل جميل غنى و كفاية.

الصورة الثالثة: و لو رجعوا بعد الحكم و قبل الاستيفاء و كان المحكوم به حدّاً.

قال المحقّق: فإن كان حدّاً للّه نُقض الحكم للشبهة الموجب للسقوط، و كذا لو كان للآدمي كحدّ القذف، أو مشتركا كحدّ السرقة.

قال الشيخ: و إن رجعوا بعد الحكم و قبل القبض، نظرت، فإن كان الحقّ حدّ اللّه كالزنا و السرقة و شربِ الخمر، لم يحكم بها لأنّها حدود تدرأ بالشبهات، و رجوعهم شبهة و إن كان حقّاً لآدمي يسقط بالشبهة كالقصاص و حدّ القذف، لم يستوف لمثل ذلك. «1»

و قال العلّامة: و إن رجع بعد القضاء و قبل الاستيفاء نُقض الحكم سواء كان حدّاً للّه تعالى أو لآدمي. وجه السقوط دخول الجميع تحت الحدّ الذي يُدرأ بالشبهة و أيّ شبهة أقوى من الرجوع و يمكن استظهار السقوط من صحيح محمّد بن قيس حيث ورد فيها أنّ الإمام قضى بقطع يد رجل جاء به رجلان و قالا إنّ هذا سرق درعاً، فجعل المشهود عليه يناشد عليّاً عليه السَّلام فلما رأى الإمام مناشدته دعا الشاهدين و قال: اتقيا و لا تقطعوا يد الرجل ظلماً ... «2»

فإنّ إنذار الإمام لهما، دليل على أنّهما لو رجعا عن الشهادة، لسقط الحدّ، و إلّا لم يكن أيّ فائدة في الإنذار.

و يؤيد ذلك ما مرّ منّا في كتاب القضاء من أنّ صدور الحكم و عدمه في حدود اللّه سواء، فإنّه لا تأثير لحكم القاضي فيها و إنما عليه العمل بالبيّنة فإذا

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 246.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 33 من مقدّمات الحدود، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 439

قامت على ما يوجب الحدّ و كانت جامعة للشرائط يجري الحدّ من دون حاجة إلى الحكم و ذلك لأنّ القضاء أمر راجع إلى فصل الخصومة بين المتحاكمين و هو فرع وجود المدّعي و المنكر، ثمّ الشاهد و القاضي، و الثلاثة الأخيرة و إن كانت موجودة في مورد الحدود و لكن لا مدّعي فيها. حتى و لو رمى رجل أحداً بما يوجب الحدّ ثمّ أتى بالشهداء فليس هو مدّعياً بالحقيقة لأنّه يدعي أمراً لا صلة له به، و إنّما يصحّ الادعاء إذا كان للمدّعى صلة للمدّعى به و على ذلك يلحق هذه الصورة، بالصورة الأُولى التي تقدم فيها، أنّه لا يحكم.

و هل يسقط الحدّ فقط و يبقى التوابع فيحرم أُخت الغلام الموطوء و أُمّه و بنته، و أكل البهيمة الموطوءة المأكولة، و يجب بيعها في بلد آخر و كذا الحكم في المحكوم بالردة إذا رجع الشهود قبل قتله، فهل يسقط قتله للشبهة و تبقى قسمة ماله و اعتداد زوجته أو لا؟

ربّما يقال بالأوّل لأنّ مقتضى صدور الحكم عن ميزان شرعي، هو ثبوت الموضوع أعني: ما يوجب الحدّ (الزنا)، فإذا دل الدليل على سقوط الحدّ يبقى سائر الآثار تحت الدليل.

يلاحظ عليه

أوّلًا: أنّ نفي الحد الذي من أظهر آثار الموضوع كالزنا، يلازم في نظر العرف نفي الموضوع كسلب الشجاعة عن حيوان، المساوق لعدم كونه أسداً و مع ذلك كيف يمكن الحكم ببقاء سائر الآثار مع انتفاء الموضوع في نظر العرف أي الزنا و اللواط و إن شئت قلت إنّ التبعيض في العمل بالآثار و إن كان أمراً ممكناً و لكنّه يتوقف على تعبد صريح.

و ثانياً: إنّك قد عرفت أنّ صدور الحكم في مورد الحدود، من قبيل لزوم ما لا يلزم، فلا أثر له و اللازم على القاضي إجراء الحدود، إذا ثبت الموضوع بالبيّنة أو الإقرار و على ذلك فلا فرق بين هذه الصورة أعني إذا رجع بعد الحكم و قبل الاستيفاء، و الصورة الأُولى أعني إذا رجعا قبل الحكم.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 440

الصورة الرابعة: لو رجعا بعد الحكم و قبل الاستيفاء و لكن كان المشهود به حقوق الناس.

قال المحقّق: و في نقض الحكم في ما عدا ذلك من الحقوق تردد.

المراد كلّ ما كان خارجاً عن الحدود، كالعقوبات كالقتل على قول و الجرح، و العقود و الإيقاعات كالبيع و النكاح و الطلاق و الأعيان الخارجية قبل التسليم كما هو المفروض في هذه الصورة و إلّا فلو كانت العين مسلّمة إلى الطرف فتدخل في الصورة الخامسة الآتية و أمّا تردّد المحقّق فللوجهين التاليين:

1- إنّ القضاء قد نفذ فيه و ليس هو ممّا يسقط بالشبهة حتى يتأثّر بالرجوع.

2- إنّ الحكم لم يستقرّ بعد، و الظن قد اختلّ بالرجوع.

و هناك احتمال ثالث و هو إلحاق العقوبات كالقتل و الجرح بالحدود، و العقود و الإيقاعات بالمال لسهولة خطرها و ترجيحاً لجانب الآدمي، و إلحاق النكاح بالحدود لعظم خطرها و عدم استدراك فائت البضع. «1»

و الأقوى هو الأوّل و

الدليل عليه مضافاً إلى ما عرفت، هو مرسل جميل، حيث جعل الميزان هو الرجوع قبل القضاء و بعده، فتطرح شهادتهم في الأوّل و لم يغرّموا، و يمضي الحكمُ في الثاني مع ضمانهم حيث قال: في الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم و قد قضى على الرجل: ضمنوا ما شهدوا و غُرِّموا. «2» و إطلاقه يعمّ قبل التنفيذ و بعده و ما رواه هو أيضاً عن أبي عبد اللّه في شهادة الزور: إن كان قائماً، و إلّا ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل. «3» فصدره راجع إلى شاهد الزور الذي علم من الخارج كذبُ الشهود، لا الراجع عن شهادته سواء ادعى الخطأ أو

______________________________

(1) زين الدين العاملي: المسالك: 2/ 466.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 2 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 441

ادّعى تعمد الكذب الذي نحتمل كذبه في تكذيبه.

الصورة الخامسة: لو رجعوا بعد الحكم و تسليم المال للمحكوم له و لكن العين قائمة.

و هذه الصورة نفس الصورة الثانية و يختلفان في تلف المال فيها دون المقام.

فقال المحقّق: الأصح أنّه لا يُنقض و لا تستعاد العين. و هو مختار الشيخ في المبسوط حيث قال: و أمّا إن رجعوا بعد الحكم و بعد الاستيفاء أيضاً لم ينقض حكمه بلا خلاف إلّا سعيد بن المسيب و الأوزاعي فإنّهما قالا: ينقض و الأوّل أصحّ. «1» و خالف في النهاية حيث قال: و إن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم غُرّما ما شهدا به، إذا لم يكن الشي ء قائماً بعينه، فإن كان الشي ء قائماً بعينه ردّ على صاحبه و لم يلزما شيئاً. «2»

و قال ابن إدريس: و من شهدا على رجل، ثمّ رجعا قبل

أن يحكم الحاكم طُرحت شهادتُهما و لم يُلزَما شيئاً، بل يتوقف الحاكم عن إنفاذ الحكم، و إن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم، غُرّما ما شهدا به سواء كان الشي ء قائماً بعينه أم لم يكن كذلك، ثمّ نقل فتوى الشيخ عن النهاية و أورد عليه أنّ إجماع أصحابنا منعقد على أنّه إن رجع الشهود بعد حكم الحاكم، لا يلتفت إلى رجوعهما فيما حكم، و لا يُنقض حكمه، لأنّ حكمَه مقطوع من جهة الشرع على صحّته، و رجوعهما يحتمل الصدق و الكذب فلا يُرجَع عن أمر مقطوع على صحّته بأمر مشكوك فيه محتمل. «3»

و لعل الشيخ في النهاية اعتمد على ما رواه جميل في شاهد الزور الذي علم كذبه في شهادته و أين هو من الراجع الذي يصف شهادته بالخطإ و الاشتباه أو

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 246.

(2) الطوسي: النهاية: 336.

(3) ابن إدريس: السرائر: 2/ 148147.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 442

بالتعمد بالكذب الذي يمكن كذبه في هذا التكذيب؟!

و المعتمد مضافاً إلى ما ذكره ابن إدريس هو مرسل جميل الذي يُفرِّق بين كون الرجوع قبل الحكم و بعده، كما مرّ.

فتخلص من هذا البحث أيضاً أنّ المسألة في غير الحدود ذاتُ صورتين لأنّ الرجوع إن كان قبل الحكم، طُرحت شهادتهما و إلّا فلا يُنقض الحكم، سواء كان قبل الاستيفاء أو بعده و على فرض الاستيفاء سواء كان الرجوع قبل التلف أو بعده و أمّا الحدود فينقض الحكم فيها حتى بعد الحكم.

المسألة الخامسة: فيما إذا كان المشهود به قتلًا أو جرحاً
اشارة

كانت المسألة السابقة تدور حول رجوع الشاهد و كان المشهود به مالًا و أمّا إذا كان المشهود به قتلًا أو جرحاً و قد رجع الشهود بعد الحكم و الاستيفاء فللمسألة ثلاثة صور:

أ:

أن يقول الجميع تعمّدنا الكذب.

ب: أن يقول الجميع أوهمنا.

ج: أن يقول بعضهم تعمّدنا و البعض الآخر أُوهمنا.

و قبل الدخول في بيان الصور و أحكامها نذكر أمرين:

1- إنّ حكم الشهود في المقام، حكم المشاركين في القتل بوجه المباشرة، فإنّ الشهود في المقام و إن لم يكن لهم دور فيه مباشرة، إلّا أنّه لمّا كان السبب فيه أقوى من المباشر عُومل معهم معاملة المباشر و صاروا محكومين بحكم المباشرين في القتل.

2- الضابطة الكلية في المقام هي أنّ الشهادة إن أوجبت قتلًا سواء كان ذلك بسبب الزنا، أو بسبب القصاص، أو الردّة فالبيّنة المتعمدة تقتل إن اختار

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 443

الولي القتل، و الخاطئة تحكم بدفع الدية، و لو كان بعض منها متعمداً و البعض الآخر خاطئاً فلكلّ حكمه فعلى المقرّ بالعمد القصاص، و على المقرّ بالخطإ نصيبه من الدية.

إذا علمت ذلك فلندرس أحكام الصور الثلاث:

أمّا الصورة الأُولى: فإذا قال الجميع تعمّدنا

كان لولي الدّم أن يختار أحد الأُمور:

1- قتل الجميع و ردّ ما فَضُل عن دية المقتول ظلماً إلى وارثهم.

2- قتل واحد منهم و يردّ الباقون تكملة ديته بالحصص بعد وضع نصيب المقتول قصاصاً.

3- قتل أكثر من واحد، و يردّ الوليّ ما فضل عن دية صاحبهم و أكمل الباقون من الشهود ما يعوز بعد وضع نصيب المقتولين.

________________________________________

تبريزى، جعفر سبحانى، نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، دو جلد، مؤسسه امام صادق عليه السلام، قم - ايران، اول، 1418 ه ق نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء؛ ج 2، ص: 443

مثلًا لو شهد أربعة على الزنا بالإحصان، و رُجِمَ المشهود عليه، ثمّ قالوا تعمّدنا الكذب، فقتل باختيار وليّ الدم الاثنان منهم و حُكِمَ على

الباقين بالدية، فالواجب على كلّ من الباقين ربع الدية، فعليهما جميعاً نصف الدية، و بما أنّ وليّ الدم قتل مكان الواحد، الاثنين فعليه الدية الكاملة فيكون المجموع ستة أرباع، يُقسم بين ورثة المقتولين، بالمناصفة.

و أمّا الصورة الثانية: فكما إذا قالا أخطأنا

، فعليهم الدية في أموالهم لأنّه شبه عمد لقصدهم الفعل المؤدّي إلى القتل و إن لم يقصدوا نفس القتل و لم يكن الفعل منجراً إلى القتل غالباً. و ليس خطأ محضاً حتى تكون الدية على العاقلة، مضافاً إلى أنّ ظاهر النصوص ككون الدية في أموالهم كمعتبر السكوني «1» أو عليه

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 444

كمعتبر مسمع. «1»

و أمّا الصورة الثالثة: فكما إذا اختلفوا بين قائل بالتعمد و قائل بالخطإ

، فعلى المقرّ بالعمد القصاص، و على المقرّ بالخطأ نصيبه من الدية.

ثمّ إنّ وليّ الدم مخيّر بين قتل المقرّين بالعمد أجمع و ردّ الفاضل عن دية صاحبه و قتل البعض و ردّ الباقين قدر جنايتهم، حسب ما قرر في كتاب القصاص في حكم المشتركين في القتل عمداً و خطأ و المقصود بالمشاركة هناك و إن كان هو المشاركة بالمباشرة، لكن التسبيب لما كان أقوى من المباشر في المقام يعامل معه معاملة المشاركة كما مرّ هذا حسب القاعدة.

و قد ورد في خصوص المقام مضافاً إلى مقتضى القاعدة نصوص:

منها صحيح ابن محبوب عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ثمّ رجع أحدهم بعد ما قُتل الرجل. قال: «إن قال الراجع أُوهمتُ، ضرب الحدّ و أُغرم الدية و إن قال تعمّدت، قتل» «2» إلى غير ذلك ممّا يوضح ما ذكرناه مثل صحيح ابن قيس «3» و معتبر السكوني. 4

و بما ذكر يعلم أنّه لو قال أحدهما أو أحدهم فيما إذا كان المشهود به زنا، تعمدتُ و لم يصدقه الآخر، لم يمض إقراره إلّا على نفسه فحسب لعدم مؤاخذة أحد بإقرار غيره.

و لو شهدا بما يوجب الجلد، فجلد

فمات صدفة، ثمّ قال أحدهم تعمدت الكذب يحكم بدفع الدية حسب شهادته، و الدية عليه لا على العاقلة لأنّه شبه العمد، لأنّه قصد السبب، لا المسبب أي الموت و لم يكن السبب منتهياً إلى الموت

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب الشهادات، الحديث 1. و لعلّ المراد من الحدّ، التعزير و يحتمل أن يراد حدّ القذف لعدم تمامية النصاب المعتبر فيه.

(3) 3- 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 14 من أبواب الشهادات، الحديث 1، 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 445

غالباً كما إذا كان المجلود سالماً و ليس الجلد، في مثله سبباً للموت لكن اتّفق.

نعم خالف الشيخ و جعل إقراره بتعمده للكذب، نافذاً في حقّ سائر الشهود الّذين بقوا على شهادتهم حيث قال في الزنا المحصن إذا رجع أحد الشهود و قال تعمدت: قتل و أدّى إلى ورثته الباقون ثلاثة أرباع الدية «1» و لعلّه اعتمد على ظاهر خبر إبراهيم بن نعيم الأزدي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السَّلام عن أربعة شهدوا على رجل بالزنا فلما قُتل رجع أحدهم عن شهادته قال: «يقتل الراجع و يؤدي الثلاثة إلى أهله ثلاثة أرباع الدية». «2» و يُحمل على صورة اعتراف الباقين بالخطإ، على أنّ إبراهيم الأزدي لم يعنون في كتب الرجال و إنّما المعنون هو إبراهيم ابن نعيم العبدي المعروف بأبي الصباح الكناني الثقة. نعم ذكر السيّد الخوئي في معجمه مواضع رواياته في الكتب الأربعة من دون أن يذكر شيئاً في حقّه من نفسه أو من جانب الغير.

المسألة السادسة: في شاهد الزور

المراد من شاهد الزور، من علم كذب شهادته بدليل خارج لا بإقراره

إذ يكون عندئذ رجوعاً، و لا بالبيّنة، لأنّه يدخل في تعارض البيّنات و لا ينقض الحكم بالبيّنة المعارضة المتأخرة و على كلّ تقدير أنّ المشهود عليه عندئذ إمّا أن يكون مالًا، أو قتلًا.

فعلى الأوّل، الأمر سهل ينقض الحكم للعلم بفساده و يستعاد المال. و لو تلف غُرِّم الشهود و يدل عليه الصحيحان «3» لمحمّد بن مسلم، و جميل بن درّاج.

و على الثاني لا موضوع للنقض فيثبت عليهم القصاص و كان حكمهم

______________________________

(1) النهاية: 335.

(2) الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

(3) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 1 و 3.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 446

حكم الشهود إذا رجعوا بل هنا أولى لأنّ شاهد الزور أسوأ حالًا ممّن شهد و رجع فإذا ثبت الحكم في الثاني ففي الأوّل بوجه أولى.

نعم لو باشر الوليّ القصاص و اعترف بالتزوير و أنّه كان عالماً بكذب شهادتهم، يقتص من الوليّ لأنّ المباشر في المقام أقوى من السبب بخلاف ما لو اعترف الولي بالخطإ، فكان عليه الدية، و القصاص على الشهود لكون السبب عندئذ أقوى من المباشر.

و لو اعترف الجميع بالتزوير ففيه وجهان:

1- إنّ القصاص عليه لأنّه المباشر، و الشهود كالممسك مع القاتل فإنّ القصاص على القاتل و على الشهود، التعزير و التشهير و النفير.

2- القصاص على الجميع لأنّه معهم كالشريك.

المسألة السابعة: إذا شهدا بالطلاق ثمّ رجعا

إذا شهدا بالطلاق ثمّ رجعا، فله صورتان:

الأُولى: أن تكون شهادتهما بالطلاق بعد دخول الزوج بها.

الثانية: أن تكون شهادتهما بالطلاق قبل دخول الزوج بها.

و مفروض الكلام في المقام ما إذا لم تتزوّج بعد الاعتداد.

قال الشيخ: و أمّا إن شهدا بالطلاق ثمّ رجعا، لم يخل من أحد أمرين إمّا أن

يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان بعد الدخول فعليهما مهر مثلها عند قوم و قال آخرون لا ضمان عليهما و هو الأقوى عندي لأنّ الأصل براءة ذمّتهما و إذا شهدا بالطلاق قبل الدخول ثمّ رجعا فإنّ الحكم لا ينقض و عليهما الضمان عند قوم و كم يضمنان؟ قال قوم: كمال المهر، مهر المثل و قال آخرون: نصف المهر و هو الأقوى و من قال بهذا، منهم من قال نصف مهر المثل، و منهم من قال

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 447

نصف المسمّى و هو الأقوى عندنا. «1»

و الظاهر من الشيخ و من كلام المحقّق، عدم نقض الحكم في الصورتين و إن صرح الشيخ به في الصورة الأُولى، لصدور الحكم وفق الميزان الشرعي و لم يعلم فساده برجوعهما. و لذلك ركّز الكلام على ضمان الشاهد للزوج الشرعي و فصّل بين الدخول و عدمه.

فعلى الأُولى، لا يضمن الشاهدان شيئاً، لأنّ المهر كلّه وجب بالدخول سواء طلّق أم لا، فشهادتهما على الطلاق، لم تؤثر في لزوم المهر عليه. نعم صارت سبباً لحرمان الزوج من الانتفاع بالبضع و لكن منافعها لا تضمن و إلّا فلو قتلها الغير أو حبسها يلزم ضمانه منافع البضع للزوج.

و على الثانية، ضمنا نصف المهر المسمّى لأنّهما لا يضمنان إلّا ما دفعه المشهود عليه بسبب الشهادة و هو النصف «2».

يلاحظ عليه: بأنّه لو صحّ ما ذكره في الصورة الأُولى يلزم عدم ضمانهما أيضاً شيئاً، لأنّ نصف المهر ثبت على الزوج بنفس العقد، و لم تؤثر الشهادة و الطلاق في ثبوت المهر عليه. و ذلك لأنّ الطلاق قبل الدخول موجب للتنصيف أي سقوط النصف الثاني و بقاء النصف الأوّل

على ذمّته. قال سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ) (البقرة/ 237). فالنصف كان ثابتاً عليه من أوّل الأمر، فلم تؤثر الشهادة في ثبوته عليه.

نعم إنّ هنا صورة أُخرى ذكرها الشيخ في النهاية و لم يتعرض لها المحقّق و ورود النصّ فيها و إليك البيان:

قال الشيخ: و إن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته فاعتدت و تزوّجت،

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 247، و لاحظ الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 77 و 78 و اقتصرنا بعبارة الأوّل لكونها أخصر.

(2) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 448

و دُخِل بها ثمّ رجعا، وجب عليهما الحدّ و ضمنا المهر للرجل الثاني و تُرْجَع المرأةُ إلى الأوّل بعد الاستبراء بعدة من الثاني «1» و يقرب منه تعبير القاضي في المهذّب. «2»

و قد جاء في كلام الشيخ رجوع الشاهدين أوّلًا، و وجوب الحدّ على الشاهدين ثانياً، و لعلّ المراد منه التعزير و يحتمل أن يكون مستند فتواه الحديثين التاليين:

1- صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السَّلام في رجلين شهدا على رجل غائب عن امرأته أنّه طلّقها، فاعتدّت المرأة و تزوّجت، ثمّ إنّ الزوج الغائب قدم فزعم أنّه لم يُطلّقها و أكذب نفسه أحدُ الشاهدين. فقال: «لا سبيل للأخير عليها، و يؤخذ الصداق من الذي شهد و رجع فيردّ على الأخير و يفرّق بينهما و تعتدّ من الأخير و لا يقربها الأوّل حتى تنقضي عدّتها». «3»

و الحديث خال من ضرب الشاهدين، و لو كان طلاقها بحكم الحاكم فمعنى الردّ إلى الأوّل أنّه ينقض

الحكم مع أنّ المعروف أنّ الحكم لا ينقض برجوع الشاهد لعدم العلم بالفساد.

2- صحيح إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شاهدين شهدا على امرأة بأنّ زوجها طلّقها، فتزوّجت، ثمّ جاء زوجها فأنكر الطلاق. قال «يُضرَبانِ الحدّ، و يُضمّنان الصداقَ للزوج ثمّ تعتد ثمّ ترجع إلى زوجها الأوّل». 4

و الحديث و إن كان مشتملًا على ضرب الشاهدين لكنّه خال عن تكذيب نفسهما و أمّا الضرب فيمكن أن يكون دليلًا على التكذيب فتكون دليلًا على المسألة كما يمكن أن يكون دليلًا على كشف الحاكم عن كون الشهادة، شهادة زور. فلا تكون دليلًا عليها لأنّ النقض بعد انكشاف حال الشاهد أمر قطعي، بخلاف

______________________________

(1) الطوسي: النهاية: 336.

(2) ابن البرّاج، المهذّب: 2/ 563.

(3) 3 و 4 الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب الشهادات، الحديث 3، 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 449

المقام أي الرجوع فإنّ فساد القضاء في الأوّل قطعي دون الثاني فلو قيل بالنقض في الأوّل فلا يكون دليلًا عليه في الثاني.

و في سنده «إبراهيم بن هاشم» الذي هو عندنا فوق الثقة و إن كان الأصحاب يعبرون عن أحاديثه بالحسن، لكنّه منهم من باب الجمود على عدم ورود لفظ الثقة في ترجمته، مع أنّه ورد فيها ما هو فوقها. و أمّا إبراهيم بن عبد الحميد فهو ثقة و من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السَّلام.

و على كلّ تقدير لا غبار في سند الروايتين إنّما الكلام في انطباقهما على مقتضى القواعد لأنّ هناك تساؤلات، اثنان منها يختصان بالرواية الثانية و الآخران يعمّان كلتا الروايتين و إليك البيان:

1- لما ذا يضرب الشاهدان الحدّ؟! حسب الرواية الثانية، مع أنّ إنكار

الزوج لا يوجب تبيّن كذب الشهود و لعلّ الزوج هو الكاذب.

و الجواب أنّه يحتمل أن يكون الضرب، لشهادته الكاذبة حيث أكذب نفسه كما في الرواية الأُولى و هي قرينة على التصرف في الثانية.

2- سلّمنا أصل الضرب لكن لما ذا يضرب الحدّ كما في الرواية الثانية مع أنّ من تسبّب للزنا لا يحدّ حدّ الزاني؟!

و الجواب أنّه من المحتمل أن يكون المراد منه التعزير و قد استعمل لفظ الحدّ فيه في الروايات بكثير.

3- لا وجه لضمان الشاهدين المهر للزوج الثاني، أمّا قبل الدخول، فليس عليه شي ء مع بطلان نكاحه، و أمّا بعده فقد استقرّ عليه المهر بالدخول.

و لقائل أن يقول أنّ مورد الرواية هو دخول الزوج الثاني بقرينة الاعتداد في صحيح محمّد بن مسلم و أمّا ضمان الشاهد المهرَ للزوج الثاني، مع استقرار المهر عليه بدخوله سواء أ كانت هناك شهادة أم لا، فهو أنّ الشاهدين لمّا شهدا على

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 450

طلاق الزوج الأوّل فعندئذ أقدم الزوج الثاني تعويلًا على شهادتهما بكون المهر عليه على أن يكون البضع له دائماً لا موقتاً، و قد تبيّن خلاف ما أقدم بكذب الشاهدين و إغرارهما إيّاه فيضمنان و إلى هذا يشير المحقّق الأردبيلي بقوله: إنّ المهر مقابل البضع دائماً لا مقابل دخول واحد و عدم ضمانه في بعض المواضع «1» لا يدل على العدم مطلقاً. «2»

فإن قلت: ما الفرق بين المسألة السابقة أعني: ما إذا شهدا على طلاق زوجته بعد الدخول بها، ثمّ رجعا حيث قلنا بعدم الضمان لأنّ ذمّته اشتغلت بالمهر قبل الشهادة على الطلاق و الرجوع عنه و بين هذه المسألة، أعني: ما إذا تزوّجت بعد الشهادة على

الطلاق برجل آخر ثمّ رجعا حيث قلنا بضمانهما مهرها، مع أنّ ذمّة الزوج الثاني اشتغلت بالدخول بمهر المثل، لكونه دخولًا عن شبهة قبل الرجوع، فليس لرجوعهما دور في الاشتغال بعد حصوله بالدخول، قبل الرجوع.

قلت: الفرق واضح و هو عدم الغرور في الصورة الأُولى في اشتغال ذمّة الزوج الأوّل بالمهر، و إنّما كان لهما دور في انقطاع الزوجية، في الأثناء و قد حصل الاشتغال قبل الانقطاع و هذا بخلاف الصورة الثانية فإنّ لهما دوراً في حصول أصل الاشتغال بالمهر من بدء الأمر، حيث شهدا بكونها مطلقة، و بذلك غرّرا الزوج الثاني في أصل التزويج و مهرها فهو و إن أقدم على نصف المهر قبل الدخول و تمامه عنده، لكن في مقابل كونها زوجة لها، لا في مقابل وطء الشبهة فما أقدم عليه لم يكن حاصلًا، و ما حصل لم يكن مُقْدِماً عليه و إنّما حصل من تغرير الشاهدين على أنّ المرأة مطلقة. فافهم.

______________________________

(1) لعلّ مراده منه، هو المسألة المتقدّمة: إذا شهد على الزوج بأنّه طلّق، ثمّ أكذبا نفسهما، و لم تتزوج المرأة بآخر، و سيتضح الفرق بما نذكره في المتن بصورة الاعتراض و الجواب.

(2) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 502.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 451

4 لما ذا ينقض الحكم بمجرّد إنكار الزوج على ما في رواية إبراهيم بن عبد الحميد أو بإكذاب الشاهد نفسه كما هو صريح صحيح محمّد بن مسلم، مع صدوره على وفق الموازين الشرعية و لم يعلم فساد القضاء و قد اشتهر أنّ الحكم لا ينقض برجوع الشاهد.

و هذه هي المشكلة المهمّة في الحديثين فقد حاول الأعلام تصحيحه بوجوه:

أ: حملهما على تزويجها بشهادتهما من دون حكم حاكم، ثمّ

لما جاء الزوج، رجعا عن الشهادة و اعترفا بأنّهما شهدا زوراً فتكون الرواية أجنبيّة عن مفروض الشيخ. قال العلّامة: إنّ المرأة لا تردّ إلى الأوّل و لا يُنقض الحكم بالطلاق إلى أن قال: فنحن في هذه المسألة من المتوقفين و لا بأس بحمل كلام الشيخ في النهاية بالردّ على الأوّل بعد العدة على أنّها تزوّجت بمجرد الشهادة من غير حكم حاكم بذلك. «1»

ب: حملهما على ما إذا ظهر فساد الحكم لفسق الشاهد أو خروجه عن الأهلية قال الفاضل الاصفهاني: يمكن حمل الخبرين على أنّ الزوج كان غائباً كما نُصّ عليه فيهما فلما حضر، أنكر، و أظهر فسق الشاهد أو ما يخرجه عن الأهلية. «2»

ج: حملهما على ما إذا لم يتم أركان الحكم، قال في الجواهر: إنّ الرجوع في الحكم على الغائب، يَنقض الحكم لعدم تمامية الحكم قبل حضور الخصم، فيحمل أحدهما حينئذ على الآخر و يكونان مستند الحكم في ذلك، مؤيداً بإمكان كون ذلك، من بقاء الغائب على حجّته، التي منها رجوع الشاهد عن شهادته كمعارضة البيّنة، بيّنة أُخرى إذ معناه أنّ كلّ ما هو حجّة له مع فرض عدم الحكم، فهو باق عليها، و منها ذلك، و السبب عدم الفصل التام قبل حضوره بل هو

______________________________

(1) ابن المطهر: مختلف الشيعة، كتاب القضاء: 174.

(2) الاصفهاني: كشف اللثام: 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 452

إجراء حكم الشهادتين و لا ينافي ذلك إطلاقهم عدم نقض الحكم برجوع الشاهد، المنصرِف إلى غير المفروض. «1»

إنّ ما ذكروه من الوجوه فروض مختلفة لكل حكمه:

أمّا الأوّل: فلا موضوع للنقض، لأنّه تزوج اعتماداً على الشهادة بلا حكم الحاكم. فتردّ إلى الزوج الأوّل حتى يثبت خلافه.

و أمّا الثاني:

فلزوم النقض واضح، لتبيّن فساد الحكم أو عدم صدوره عن ميزان شرعي. و كلا الحملين محتملان.

و أمّا الثالث: فهو مشكل لأنّه إذا كان أركان الحكم ناقصة و الغائب على حجّته، فكيف يرخص لها التزويج بالثاني؟ و هذا أشبه بما إذا حكم لأحد المترافعين حكماً باتاً من دون سماع دليل الطرف الآخر.

فلو صحّ التصرّف للمحكوم له مع غيبة المحكوم عليه فإنّما يصحّ في الأموال الّتي يتدارك بالمثل أو القيمة لو بان الخلاف بحضور الغائب و أمّا الأعراض أو النفوس، فلا يكون الحكم قطعياً، ما لم يحضر الغائب.

فلا محيص عن الأخذ بمفاد الرواية تعبّداً، و أنّه يعامل مع التكذيب، معاملة شاهد الزور، فكما أنّه ينقض هناك فكذا المقام قال المحقّق الأردبيلي: الرواية مخالفة لما تقرر عندهم من أنّ الرجوع بعد الحكم لا أثر له ثمّ قال: و من احتمال النقض بعد الحكم بالرجوع أيضاً. «2»

ثمّ إنّ هنا فرعين آخرين:

1- تلك الصورة و لكن تبيّن أنّ الشهادة كانت شهادة زور و هذه الصورة هي التي جاءت في الاحتمال الأوّل و لزوم النقض و الضمان واضحان.

2- إذا شهدا بموت الزوج فتزوّجت ثمّ جاء الزوج فيبطل التزويج الثاني و

______________________________

(1) النجفي: الجواهر: 41/ 233.

(2) الأردبيلي: مجمع الفائدة: 12/ 502.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 453

تحرم عليه مؤبداً و تدل على البطلان صحيحة أبي بصير. «1»

فروع
الفرع الأوّل: في حكم الرجوع في الأموال

إنّ المشهود به يثبت تارة برجلين، و أُخرى برجل و امرأتين، و ثالثة بشاهد و يمين، و رابعة بأكثر من العدد الذي يثبت به الحقّ، كثلاثة في المال و القصاص، و بستة في الزنا.

أمّا الأوّل: فإن رجعا معاً عن شهادتهما بعد الحكم، ضمنا بالسوية لتساويهما في التسبّب المقتضي لذلك. و

إن رجع أحدهما ضمن النصف بمقدار تسبّبه.

أمّا الثاني: أعني ما إذا ثبت بشاهد و امرأتين فلو رجعوا ضمن الرجل النصف و ضمنت كلّ واحدة الربعَ لأنّهما بمنزلة رجل واحد، و لو رجعتا دون الرجل تضمنان النصف.

فإن قلت: لازم ما ذكروه في مشاركة عدّة في القتل، هو التقسيط على وجه التساوي بين الراجعين سواء رجع الجميع، أو رجع الرجل، أو المرأتان ففي مسألة المشاركة، يساوي في الدية و القصاص، من جرح بواحد مع من جرح بأكثر منه فمثله المقام فإنّ كون الرجل معادلًا للمرأتين في مقام الشهادة، لا يكون دليلًا على كونه كذلك في مقام تقسيط الدية أو الغرامة.

قلت: ما ذكرته لا يعدو من كونه قياساً، مع أنّ معنى شهادته يعادل شهادة المرأتين أنّ شهادته تتلقى شهادتين فلو شهد الرجل الواحد فكأنّه شهدت المرأتان، ففي مثله يتحمّل الرجل، غرامة النصف و هاتان، النصف الآخر.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب الشهادات، الحديث 2.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 454

أمّا الثالث: أعني ما إذا ثبت بشاهد و يمين، فلو رجع الرجل، ضمن النصفَ سواء قلنا بثبوت الحقّ بهما على وجه الجزئية، أم قلنا بثبوت الحقّ بالشاهد و شرطية يمين المدّعي، إذ لا كلام في مدخلية كلّ في الثبوت، عندئذ و تتلقى يمين المدّعي بمنزلة شاهد مستقل فكيف لا تُقَسّط الديةُ أو الغرامة عليها.

نعم لو أكذب الحالف نفسه اختص بالضمان سواء رجع الشاهد أم لا و ذلك لأنّ العين لا تخلو إمّا أن تكونَ باقية، فتؤخذ بإقراره و يحكم بلزوم الرد على صاحبه أو تكون تالفة فيحكم عليه بالضمان لأنّه أتلف مال الغير و ضمان المتلف حكم وضعي يشترك فيه العالم و

الجاهل و القاصر و المقصر.

و أمّا الرابع: أعني ما إذا شهد الأكثر من العدد الذي يثبت به الحقّ كالثلاثة في المال و القصاص و الستة في الزنا فنقول:

أمّا الرجوع فلا يمنع عن الحكم، و الاستيفاء لكون العدد الباقي بيّنة تامة بعد رجوع الراجع.

إنّما الكلام في ضمان الراجع، فلو رجع قبل الحكم فلا ضمان عليه لعدم تسبّبه في الحكم بالرجوع نعم لو رجع بعد الحكم و كان المشهود به مالًا و الشهود رجالًا «1» سواء استوفى أو لا، ففيه قولان:

1- إنّه يضمن بقسطه قال الشيخ: و إن كان ثبوته بثلاثة رجال فإن رجعوا كلّهم فالضمان عليهم أثلاثاً، و إن رجع واحد منهم، قال قوم عليه الثلث كما لو رجع الكلّ فعلى كلّ واحد، الثلث.

2- لا ضمان عليه، و أشار إليه أيضاً بقوله: و قال آخرون لا ضمان عليه، لأنّه قد بقي بعد رجوعه من يثبت الحقّ بقوله. «2»

______________________________

(1) هذا الشق هو الذي يذكره المحقق في الفرع الثاني، و قد ذكرناه في المقام.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 248.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 455

و الأقوى هو الأوّل لتسبب كلّ احد في الحكم، بشهادة أنّه لو رجع الكلّ كان الضمان عليهم أثلاثاً و هذا يدل على كونه مؤثراً في الحكم، و ثبوت الحكم بدون الراجع، لا يكون دليلًا على عدم مدخليته عند وجوده في ثبوت الحكم، بل رجوعه بعد الحكم أشبه بموته بعده فلا يكون رافعاً للضمان.

و بالجملة بقاء البيّنة بعد رجوع أحدهم لا يكون دليلًا على اختصاص الضمان بالباقي بعد كون الحكم مستنداً إلى الثلاثة و الميزان هو التسبب حال الحكم و الكلّ في ذلك سواسية.

و يمكن استظهاره من صحيح محمّد بن مسلم

عن أبي عبد اللّه عليه السَّلام في شاهد الزور ما توبته؟ قال: «يؤدي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النصف أو الثلث إن كان شهد هذا و آخر معه»: «1» حيث إنّ مقتضى إطلاقه، كونه محكوماً بمقدار سببيّته سواء رجع الجميع أو رجع وحده.

و قد نسب في الجواهر القول الأوّل إلى المحكيّ عن الشيخ و ابن سعيد، و لكن الشيخ نقل القولين و لم يرجح أحدهما على الآخر «2» إلّا أنّه يستظهر رأيه من الفرع الآتي و أمّا ابن سعيد، فقد ذكر رجوع الجميع و لم يذكر رجوع البعض و قال: و لو شهد به ستة رجال و رجعوا كانت «3» أسداساً. و لا يكون الاشتراك في هذه الصورة دليلًا على الاشتراك فيما إذا رجع البعض و بقي ما يثبت به الموضوع.

هذا إذا كان الشهود، رجالًا و أمّا إذا كانوا مختلفين بأن شهدت، عشر نسوة مع شاهد، فرجع الرجل قال الشيخ: و إن كان ثبوته برجل و عشرة، فإن رجع الكل فعلى الرجل السدس، و على كلّ واحدة منهنّ نصف السدس، و قال قوم: على الرجل النصف، و عليهنّ النصف لأنّ الرجل نصف البيّنة فيضمن نصف

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 248.

(3) ابن سعيد الحلّي: الجامع للشرائع: 545.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 456

المال و الأوّل الأقوى. «1»

و قال في الخلاف: إذا شهد رجل و عشرة نسوة بمال على رجل و حُكِم بقولهم ثمّ رجع الكلّ عن الشهادة، كان على الرجل حدّ من المال و الباقي على النسوة، و به قال أبو حنيفة و الشافعي.

و قال أبو يوسف و محمّد: على الرجل النصف، و عليهنّ النصف لأنّ الرجل نصف البيّنة فضمن نصف المال دليلنا إنّ المال يثبت بشهادة الجميع فضمن الكلُّ غرامته، و الرجل سدس البيّنة، فيجب أن لا يلزمه أكثر من ذلك، و لأنّ كلّ امرأتين في مقابلة رجل، فكانت العشر نسوة بإزاء خمسة رجال، فصار الشاهد بالحقّ كأنّهم ستة رجال، و لو كانوا ستة رجال فرجعوا لم يلزمه أكثر من السدس و كذلك هاهنا، على الرجل، السدس، و على كلّ امرأتين، السدس. «2»

و تردد المحقق فيها و قال: و لو كان الشاهد عشر نسوة مع شاهد فرجع الرجل ضمن السدس، و فيه تردد. «3»

و لعلّ وجه التردد أنّه إذا كان المشهود به ما لا يثبت بنساء منفردات و إنّما يثبت برجل و امرأتين فالرجل يعدُّ في مثله نصف البيّنة، و ما عداه سواء كان اثنتين أو أزيد إلى أن تصل عشراً، النصف الأُخرى لها، و على ذلك يكون سهم الرجل من الغرامة، هو النصف مطلقاً سواء انضمت إليه المرأتان أو أزيد. و يؤيده ما ذكرناه فيما إذا شهد رجل و امرأتان، و رجع الرجل، أنّ عليه النصف. هذا من جانب.

و من جانب آخر و هو أنّ كلّ امرأتين بمنزلة رجل فكانت العشرة نسوة بإزاء خمسة، فالأقوى التقسيط و التصالح أولى.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 248.

(2) الطوسي: الخلاف: 3، كتاب الشهادات، المسألة 80.

(3) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 144.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 457

الفرع الثاني: فيما لو كان الشهود أزيد من النصاب و رجع واحد منهم

قال المحقّق: لو كان الشهود ثلاثة، ضمن كلّ واحد منهم الثلث، و لو رجع واحد منفرداً. و ربّما خطر أنّه لا يضمن لأنّ في الباقين ثبوت الحقّ، و لا

يضمن الشاهد، ما يحكم به بشهادة غيره للمشهود له. و الأوّل اختيار الشيخ رحمه اللّه.

قد عرفت الحقّ في الفرع السابق، و ما ذكر من الدليل إنّما يناسب إذا رجع قبل الحكم فيصحّ أن يقال: «و لا يضمن الشاهدُ ما يحكم به بشهادة غيره للمشهود له» و أمّا بعده فلم يحكم بشهادة الغير وحده و إنّما حكم بشهادته و شهادة الراجع و لم يكن القاضي عالماً برجوعه حتى يعتمد في حكمه قبل رجوعه على الباقين.

و قال أيضاً: و كذا لو شهد رجل و عشر نسوة فرجع ثمان منهنّ كان على كلّ واحدة نصف السدس لاشتراكهم في نقل المال، و الإشكال فيه كما في الأوّل.

و قد تبيّنت الحال في هذه المسألة و أنّ أحد النظرين يقتضي كون الرجل محكوماً بدفع ضعف ما على كلّ واحدة منهن و المرأة محكومة بدفع نصف ما عليه و النظر الآخر يقتضي كون الرجل محكوماً بدفع النصف، و المجموعة من الشاهدات بدفع النصف الآخر.

غير أنّ المحقق أبدى نظر ثالثاً، و هو براءة الراجعات من الغرامة بتاتاً لأنّ في الباقي أعني الرجل و المرأتين ثبوت الحقّ، و قد عرفت ضعفه.

الفرع الثالث: لو قامت البيّنة بالجَرْح بعد الحكم

لو قامت البيّنة بالجرح بعد الحكم، فله صور ثلاث:

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 458

1- إذا قامت بالجرح مطلقة من دون تعيين وقت فسقِهم.

2- إذا قامت مؤرّخة و كان فسقهم متقدماً على الشهادة.

3- إذا قامت مؤرّخة و كان فسقهم بعد الشهادة و قبل الحكم.

أمّا الصورة الأُولى، أعني: إذا قامت البيّنة بالجرح مطلقة من غير تاريخ، لم ينقض حكمه لأنّه يحتمل أن يكون الفسق بعد الحكم، و يحتمل أن يكون قبله، فلا ينقض حكمه بأمر محتمل. «1» و قد

تقدم مراراً، أنّ النقض فيما علم فساد نفس الحكم أو عدم صدوره عن ميزان شرعي و المفروض عدم العلم بهما.

أمّا الصورة الثانية، أعني: إذا كانت بيّنة الجرح مؤرخة و كان الفسق منهما قبل أداء الشهادة مثلًا قامت البيّنة أنّهما قذفا حرّاً قبل الأداء بيوم فينقض لأنّ الشرط هو العدالة الواقعية حين الأداء لا الظاهرية المعلوم انتفاؤها واقعاً.

أمّا الصورة الثالثة، أعني: إذا كانت بيّنة الجرح مؤرخة و كان الفسق بعد أداء الشهادة و قبل الحكم، فقد سبق أنّه لا يُنقض الحكم لما عرفت من أنّ المعيار، كون الشاهد عادلًا وقت الأداء و المفروض كونه كذلك.

فإذا جاز النقض فلا يخلو أنّ المستوفى به إمّا أن يكون حدّاً من قتل أو قطع أو مالًا.

فعلى الأوّل فلا مورد لأنّه صدر عن خطأ الحاكم. بل تتعين الدية و اختلفوا فيمن عليه الدية فهل هو على الحاكم، أو المزكّين أو على بيت المال قال الشيخ: أمّا الدية فإنّها على الحاكم، و قال قوم: الضمان على المزكّين، و روى أصحابنا أنّ ما أخطأت الحكام فعلى بيت المال. «2»، و لعلّ المراد من القول الأوّل أنّ الحاكم يؤدي من بيت المال فيتّحد مع القول الثالث و لم يذهب أحد من الأصحاب إلى القول الثاني.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 249.

(2) الطوسي: المبسوط: 8/ 249.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 459

روى الصدوق و الشيخ باسنادهما إلى الأصبغ بن نباتة قال: قضى أمير المؤمنين عليه السَّلام أنّ ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين. «1»

روى الكليني بسند صحيح عن ابن فضال الفطحي الثقة «2» عن يونس بن يعقوب الذي قال النجاشي في حقّه: كان موثقاً عند الأئمّة

عن أبي مريم أعني: عبد الغفار بن القاسم بن قيس الثقة عن أبي جعفر عليه السَّلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السَّلام أنّ ما أخطأت به القضاة في دم أو قطع فعلى بيت المال المسلمين». «3» فكلّ ما أخطأ القاضي في باب الحدود لا قود فيه، بل فيه الدية و يتحمّله بيت المال المعد لمصالح المسلمين.

و بما أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة، فالمتبادر من الرواية أنّ كلّ مورد، يكون خطأ القاضي سبباً لإراقة دم أو قطع عضو فالدية على بيت المال لئلا يبطل دم مسلم.

فإذا كان هذا مفاد الحديث فلا فرق بين ما باشر الحاكم القتلَ أو وكيلُه، أو الوليّ، فإنّ القتل أو القطع يستندان عرفاً إلى خطأ القاضي، لا إلى فعل المباشر لأقوائية السبب من المباشر، و يكون الرواية أخصّ ممّا دلّ على لزوم الدية على الخاطئ، لو لم نقل أنّه منصرف إلى ما لم يستند في عمله، إلى أمر الحاكم.

و بذلك يظهر ضعف التفصيل في الشرائع من كونه على الولي إذا باشر بعد حكم الحاكم و قبل إذنه، و على بيت المال إذا باشر بعد الحكم و الإذن.

و مقتضى إطلاق النصّ، كونه مطلقاً على بيت المال إذا كان لخطأ القاضي دور في القتل و القطع.

______________________________

(1) الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2) يطلق ابن فضال تارة على الولد و أُخرى على الوالد يعني: علي بن الحسن بن علي بن فضال و كلاهما فطحيان ثقتان.

(3) الوسائل: الجزء 19، الباب 7 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 460

و أمّا إذن القاضي فلو قيل باعتباره بعد صدور الحكم، فإنّما هو

أمر طريقي لحفظ الانضباط و دفع الفوضى و ليست له موضوعية في الضمان و عدمه، فالمباشرة، بعد الحكم و قبل الإذن، كالمباشرة بعدهما.

هذا كلّه إذا كان المشهود به حدّاً و أمّا إذا كان مالًا فلو كان موجوداً يُستعاد بلا كلام، لتبين فساد القضاء و إن كان تالفاً فهنا وجوه:

1- كونه على المشهود له لأنّه ضمن بالقبض، بخلاف القصاص سواء كان موسراً أو معسراً.

2- التفصيل بين كونه موسراً فعلى المشهود له، و كونه معسراً فعلى الإمام و لكن إذا أيسر يرجع إليه الإمام.

قال الشيخ: و إن كان المشهود له هو القابض و كان موسراً غرم ذلك، و إن كان معسراً ضمن الإمام حتى إذا أيسر رجع الإمام عليه و الفرق بين هذا و بين الدية أنّ الحكم إذا كان بالمال حصل في يد المشهود له ما يضمن باليد لأنّ ضمان الإتلاف ليس بضمان اليد. «1»

و أورد عليه المحقّق باستقرار الضمان على المحكوم له بتلف المال في يده فلا وجه لضمان الحاكم.

و قد اتفق القولان على أنّ الضمان على المشهود له إمّا ابتداءً أو استقراراً كما إذا كان معسراً ثمّ صار موسراً عند الشيخ، لكن يستقر الضمان على المشهود له لأنّ العين تلفت في يده.

و هناك وجه ثالث و هو أنّه لا شكّ في ضمان المشهود له لأنّه تلف بيده أو أتلفه إنّما الكلام في استقرار الضمان عليه، و في التأمّل فيه مجال لأنّه أقدم على الإتلاف اعتماداً على حكم القاضي بأنّه ماله، و أنّ له أن يتقلّب فيه بأي نحو شاء

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 250.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 461

و معنى ذلك انّ القاضي لأجل جهله غرّه، و المغرور

يرجع إلى من غرّه و لا تختصّ قاعدة الغرور بالغارّ العالم و هذا نظير ما إذ قال الرجل لمن يمرّ على باب داره، ادخل داري و كُلْ من غذائي فدخل و أكل ثمّ بان أنّ المأكول مستحق للغير فإنّ الضمان يستقر على الآمر لأنّه غرّه و لو لأجل جهله، فنسبة الإتلاف إلى السبب هنا أقوى.

بل يمكن استظهاره من الموثقة، بحمل ما جاء فيه من قتل أو قطع على أنّهما من باب المثال و أنّ الميزان هو خطأ القاضي من غير تقصير و بما أنّ عمل القضاء عمل غيرُ معصوم و مثله، لا ينفك عن الخطأ و الاشتباه، جعل الشارع الدية و الغرامة مطلقاً في بيت مال المسلمين لئلا يخسر القاضي و يترك ممارسة عمل القضاء فلاحظ.

مسائل
الأُولى: في قبول شهادة الورثة على الرجوع

إذا شهد شاهدان بالوصية لزيد، و شهد وارثان أنّه رجع عن ذلك و أوصى لخالد بعين ما أوصى به للأوّل فهل تقبل شهادة الرجوع أو لا؟ ذهب الشيخ إلى القبول. قال: فإن شهد أجنبيان أنّه أوصى لزيد بثلث ماله، و شهد وارثان أنّه أوصى بثلث ماله لعمرو، و رجع عن الوصية لزيد، و شهد آخران إلى أنّه رجع عن الوصية لعمرو، و أوصى بثلث ماله لخالد قبلناها كلّها و صحّ الرجوع في حقّ زيد و عمرو، و ثبت الثلث لخالد «1» و ما ذكره و إن لم يكن نفس مسألتنا، لأنّ الشاهدين الأخيرين غير وارثين لكنّه يعلم منه نظره فيهما، حيث إنّ البيّنة الأُولى، تردّ بالبيّنة الثانية المتشكلة من الوارث و لو لم تلاحقها البيّنة الثالثة لأنّهما لا تجرّان

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 253.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 462

نفعاً.

و أورد عليه المحقّق بأنّ

زيد المشهود له إنّما يأخذ المال من يد الوارثين الشاهدين فالمشهود له يكون مدّعياً و غيره منكراً فكيف تقبل شهادة المنكر على المدّعي.

الثانية: في شهادة الواحد على الرجوع

إذا شهد شاهدان لزيد بالوصية، و شهد شاهد بالرجوع و أنّه أوصى لعمرو.

قال المحقّق: كان لعمرو أن يحلف مع شاهده لأنّها شهادة منفردة لا تعارض الأُولى.

و حاصله: أنّ قول الشاهد العادل تارة يعارض مفاد البيّنة كما إذ قال الشاهد: رجع عن الوصية و قالت البيّنة: لم ترجع فتقدم البيّنة على قول الشاهد مع يمين المدّعي، و أُخرى لا يكون معارضاً كما في المقام، فإنّ الشاهد العادل، لا يُنكر صحّة الوصية الأُولى بل يدّعي رجوعه عن وصيته في ظرفها و يقول: إنّه عدل عنها في ظرف كذا ففي مثله بما أنّه لا يعارض البيّنة يقبل قوله مع يمين المدّعي.

الثالثة: الشهادة على الرجوع عن إحدى الوصيتين

لو أوصى بوصيّتين منفردتين فشهد آخران، أنّه رجع عن إحداهما فروى المحقّق عن الشيخ أنّه قال: لا يقبل لعدم التعيين. «1»

قال الشيخ: إذا شهد شاهدان أنّه أوصى بثلث ماله لزيد، و شهد وارثان أنّه

______________________________

(1) نجم الدين الحلي: الشرائع: 4/ 146.

نظام القضاء و الشهادة في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 463

رجع عنها و أوصى بثلث ماله لعمرو و شهد آخران أنّه رجع عن إحدى الوصيتين، سقطت الثالثة لما ذكرناه و قسمنا الثلث بين زيد و عمرو و يكون وجود الثالثة و عدمها سواء و عندنا يقرع بين الأوّلين. «1»

و مراده من قوله: «لما ذكرناه» ما ذكره في مثل هذا الفرع قال: «سقطت الثالثة لأنّها لم يعين بها».

و كما يحتمل الرجوع إلى القرعة التي هي لكلّ مشكل، إذ المستحق في نفس الأمر أحدهما و نسبته إليهما على السواء، يحتمل كون المرجع هو قاعدة العدل و الانصاف.

و هناك فروع مذكورة في الشرائع و الجواهر جديرة بالبحث تركنا البحث فيها للقارئ الكريم.

بلغ الكلام إلى هنا بيد مؤلفه الفقير جعفر

السبحاني

في سادس شهر شعبان المعظّم من شهور عام 1404،

و تمّ التبييض في الدورة الثانية صبيحة يوم الثاني و العشرين

من ذي الحجّة الحرام من شهور عام 1416

و أرجو من اللّه سبحانه أن ينتفع به

رُوّاد الفقه و بُغاته إنّه بذلك قدير

و بالإجابة جدير.

______________________________

(1) الطوسي: المبسوط: 8/ 253.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.